Horof

شارك على مواقع التواصل

فقدان الذاكرة ما هو إلا نوع من أنواع الاِنتحار ....... إلا أنّه انتحار شرعي .
يلزمني دهراً من النسيان، كي ألملم ما تبقى لي من ذاكرة أحيا بها.
في زمن الفوضى يُشرع لنا ما هو محرمُ علينا في غير زمن، عندها يكون كل شيء مُستباح، حتى مشاعرنا، وأحاسيسنا ببساطة ........ تُباح.
كنان الحسن، والذي عرفت فيما بعد بأنه يلقب بأبي العلا نسبةً إلى أمه عُلية، اسم لم ولن أنساه ما حييت، حتى ولو انتحرت شرعياً.
حقدي عليه وعلى مدار حوالي ثلاثين سنة يفوق عذابي لفقدان ابني على يده .
إنَّ أمثال هؤلاء وقادتهم قد صنعوا منا وحوشاً مفترسة، وأول فرائسنا هي... أنفسنا .
قُتل فينا الاحساس بالحياة.
مارسوا علينا سياسة التجويع.
كنا شعوبًا جائعة .
جائعون لكل شيء ..... كل شيء.
جوع خلف عندنا عقد بشعة.
أصبحنا بفضلهم شعبًا جائعًا وخائفًا إلا وأنه ومع ذلك فقد وُلد من رحم هذا التعقيد الكثير من المبدعين. نعم لا أستطيع أن أنكر ذلك
يقول أحد الشعراء:
ــ توابيت مرفوعة على عجل ، تُدفن على عجل، إذ لا وقت لإكمال الطقوس، فإن قتلى آخرين قادمون، مسرعين من غارات أخرى
قادمون فرادى أو جماعات.
ــ أتسائل .
هل كان هذا الشاعر حاضراً وقتها ليصف المشهد بهذه الدقة،
دقة في الاحساس العالي الذي عاشه أهالي وسكان مدينتي عام 1982 تحديداً في شهر شباط، شهر الحب والعناق .
شباط وقتذاك كان شهر الموت فأخذ منا كل شيء دون وداع أو عناق، دون اتمام مراسم الحياة مُتنا .
ما أصدق إحساس الشاعر عندما كتبت تلك الكلمات .
ويتابع بوصف السماء بأنها رصاصية، رمادية، ضبابية
نعم هكذا كانت سماء مدينة حماة السورية في ذلك الوقت، فقد وضعوا أيديهم الوسخة على روحنا، حطموا أرواحنا وهذا أكثر أذية .. من تمزيق أجسادنا .
في لحظة ما أصرخ وبكل ما أُتيت من صمت .يا الله امنحني نعمتك. نعمة النسيان.
وفي لحظة تليها أصرخ مستفسرة .
لا، النسيان أبداً ليس بنعمة .
النعمة الحقيقية هي فقدان الذاكرة ...
ذلك أن ذاكرتنا مليئة بالأحزان .
هناك مشكلة في هذا الشيء المحسوس واللامحدود المسمى بالذاكرة .
أبداً هي لا تغلقُ الأبواب .
ثمة دائماً باباً موارياً وربما يُمكن للنسيان أن يعبر من خلاله.
نحن لا ننسى اطلاقاً، نأبى إلا وأن نتذكر، حتى أفراحنا نتذكرها بصمت ونعلن حزننا على عدم نسيانها .
عار عليك ألّا تحزن حتى على فرحك .
نرتدي الحداد على ذكرى من فقدنا .
وما نفع الفقدان إذ أن الذاكرة متوفرة وبكثرة .
ـ سكوت هو اسمي .
وعلى سبيل المزاح ينادوني بـ " من غير كلام "
يا ليت اسمي كان نسيان لأُصبح " من غير ذاكرة "
أليس من الأفضل لنا أن ننسى على أن نسكت .
نسكت عن الظلم ولا ننساه .
نسكت عن الجهل ولا ننساه .
نسكت عن فساد كل شيء ......... ولا ننساه .
آآآآآآه لو كان اسمي نسيان، لاختصرت على نفسي حياة كاملة من الألم.
أثبتت الأيام على مرورها أن بعض الأمثال الشعبية لم تعد فعلياً مطابقة للواقع، وتكاد تكون أقرب إلى عكس ما تم تداوله تماماً كمشكلة السطور وما بينها، نحن دائماً نتجاهل ما بين السطور ونركز على قراءة السطور فقط، هذه بحد ذاتها جريمة، جريمة بحق اللغة .
ــ عندما يقال مثلاً بأن اللغة هي عبارة عن بحر، فإنه يتوجب عليك أن تقرأ ما بين سطور هذه العبارة، المعنى الخفي، الذي ومن الممكن أن يكون هو الحقيقي.
أبداً لا يقصد بذلك الكم الهائل من الكلمات والمفردات فقط. وإنّما أيضاً بحر من المعاني والمقاصد المستترة،
نفس الكلمة ولكن بلهجات مختلفة يمكن أن تقلب المعنى للعكس .
حتى بعض الحركات والاشارات يمكن أن تُكّون لغة قائمة بحد ذاتها
ــ بعيداً عن العين بعيدٌ عن القلب .
هذا برأيي بحد ذاته مجرد كلام على ورق، كلام في سطور. وإذا أمعنا النظر لما بين السطور نستنتج أن البعيد عن العين قريب أكثر من القلب، وأيضاً هناك أشخاصاً قريبين من العين ولكنهم بعيدون جداً عن القلب.
ــ كيف يكون بعيداً عن قلبي وهو في كل يوم يكبر حبه في ذلك القلب ويزداد احساسي به.
ابني الذي اُختطف من حضني وهو في بداية يومه الثالث، هو لا يزال بعيداً عن عيني وقد أصبح الآن في سن الثلاثين وعلى مر الأيام هو قريباً من قلبي أكثر وأكثر.
ــ كان ذلك في المشفى الوطني عندما هاجمت قوات النظام " سرايا الدفاع " الحي الذي يقع فيه المشفى حيث وضعت ابني.
كان المفروض أن أغادر المشفى ثاني يوم من الولادة ولكن لم يُسمح لي لأن الطريق لبيتنا غير آمن فاضطررت للبقاء في المشفى مع ابني الرضيع.
وفي صبيحة يوم 8 / 2 / 1982 وبينما كان البعض من عناصر النظام يقومون بحملة تفتيش على بعض الرجال من الأهالي استيقظت على صراخ اثنين من رجال الجيش، وهم يحاولون سحب الطفل من والدته التي كانت تمكث بجانبي، وهي تصرخ وتبكي، فلما انتصرا عليها، وصار الطفل بين يديه. سألته لماذا تأخذ الطفل.
كالصاعقة التي نسمع عنها دون أن نراها أجابها بكل حقد وكره ولكن بعد أن قام بمسك الطفل من قدميه ورأسه للأسفل وبحركة سريعة وغير متوقعة قام بفسخ الطفل حتى أصبح نصفين ملتصقين من جهة الرأس .
وردد قائلاً:
" لازم يموت، حتى لا يصبح اخونجي"
هذه كانت فلسفتهم.
وبعد أن قتل ذلك الطفل الرضيع بكل وحشية ورماه على الأرض كما يرمي قطعة قماش بالية، تقدم نحوي هو ورفيقه وأنا في حالة ذهول تام من هول الموقف الذي شهدته وابني الرضيع بين ذراعي، بكيت، صرخت، رجوته ألّا يكرر فعلته بابني، لكني عبثاً حاولت وعندما صار ابني هو الآخر بين يديه، هنا وكأن القدر قد تدخل، أوقفه زميله أبو العلا وقال له :
أرجوك لا تفعل ذلك به، أنا سوف آخذ هذا الطفل وأقوم برعايته وسوف يشب على مبادئنا .
رد عليه صارخاً بوجهه :
يا أبا العلا سوف يكبر ويصبح إرهابياً.
لا يا أبا حسين سوف أعتني به، وأنت تعرف أني لم أُرزق بأولاد، هذا الطفل سيكون ابني اعتباراً من اليوم .
ــ لم أصدق ما أسمعه ولكن القدر جعلني اسكت، ربما كي لا يلقى ابني نفس مصير الطفل الآخر .
ومع ذلك توسلت اليهم ألّا يفعلوا ولكن دون جدوى، أخذوا مني الطفل .
ــ أن يتصرف هكذا بوحشية يدل على تمتعه بقوى خارقة. قوى ضد الطبيعة البشرية .
فالوحشية عند بعض البشر هي نوع من أنواع تلك القوى الخارقة والتي تعجز كلمة عن وصفها، أو عقل عن استيعابها .
هو شيء أقل ما يمكن أن يقال عنه بأنه خارج حدود المنطق .
وأنه وبالمقابل وكما أن هناك قوى خارقة سلبية، يوجد أيضاً قوى خارقة إيجابية، كتمتع بعض البشر بحاسية زائدة وخارجة عن المألوف، (الإحساس بالشيء قبل وقوعه)
لطالما شعرت بأن شيئاً عظيماً، وغير طبيعي، سوف يحدث لي، ولا أستطيع أن أعبر عنه بالكلمات.
ــ بعد مكوثي في المشفى لمدة اسبوع تقريباً عدت إلى البيت، وقد وجدت أن زوجي توفي هو وأغلب شباب الحي جراء التعذيب الذي تعرضوا له من قوات سرايا الدفاع الوحشي، هذا بالإضافة إلى الدمار الكلي الذي لحق بالبيوت والمدارس والجوامع.
لَم يبق حجرٌ على حجر ..
لم يبق ذكرٌ يُذكر ..
لم يبق سوى نساء ثكلى ..
وأطفال يتامى ..
ــ هذا هو المعنى الحرفي لكلمة حوادث الـ 82
أهالي مدينة حماة وعلى بساطتهم وسجيتهم يقولون عن تلك الفترة أنها كانت عبارة عن حوادث، وهي فعلاً كانت كذلك .
هي لم تكن حرباً، فلا وجود لطرفين يتحاربان .
هي كانت أشبه بحرب إذعان إذن.
طرف ضعيف لا يملك إلا أن يسكت ويرضخ، وطرف يملك كل أسباب القوة، يملك كل شيء، وأهم شيء أن يُدمر ولا يتدمر. دمار شمل المعنى المادي والمعنوي للكلمة .
هي لم تكن أحداثًا لتُنشر في صحف، أو تُسمع من الراديو
هي كانت حوادث جمع كلمة حادث، وفعلاً كل يوم كان يقع حادث على مستوى تدمير جيل كامل.
كل يوم حادث تدمير .
كل يوم حادث تخريب .
وغداً حادث وفاة جماعية .
وبعد غد حادث أيتام بالجملة.
وكأن قدر هذه المدينة أن تُرمل نساءها، ويُيتم أطفالها. هكذا جملةً ودفعة واحدة.




مسافر أنت في هذه الدنيا .
رحلتك تدوم لحظات، حتمًا لم تنتبه إلى مراحل حياتك، ولن تنتبه إلا بعد فوات الأوان.
لا تكون مجرد عابر حياة.
اهتم حتى بالتفاصيل .
أنت الآن في مرحلة معينة من حياتك، فحاول أن تعيشها، لا تقتلها. وأنت تفكر بالمرحلة التي تليها. ثُمَّ بالتي تليها، وهكذا دواليك. بمجرد أن تقوم بذلك فإنك تعبر حياتك مجرد عبور.
دون التوقف عند كل تفصيل .
لماذا لا نتعلم من أخطاء الأخرين ؟
نحن هكذا .
لا نتعلم إلا من أخطائنا.
هذا إذا اعترفنا أصلاً بالخطأ .
من المؤكد أن نكون مجرد عابرين للحياة هو الهدف الأول والأساسي للحكومات العربية .
منذ البداية ونحن نعيش في المجتمع الأسدي وتحت شعار " الأسد للأبد "
لذلك جعلونا نفكر بالأبدية فقط.
قتلنا جميع مراحل حياتنا بالتفكير بالأبد لصالح ذلك الأسد.
ــ نحن لسنا سعداء، حتى لو حققنا بعض الإنجازات على الأصعدة الشخصية تعليمية كانت، أو مالية اقتصادية .
لنتعلم من غيرنا، فوسائل التعلم كثيرة.
لنقرأ ..... لنكتب.
لنضع خططًا .... خطط خمسية.
ولكن لخمس ساعات، أو خمس أيام، خمس أسابيع، وحتى لخمس شهور. ولكن ليس لخمس سنوات، هذه هي الخطط الخمسية هي التي تسببت في رجعية عقولنا.
عقول أمة كاملة .
لا تصلح الخطط الخمسية لتشكيل الحياة .
الحياة مشكلة سلفاً.
وعليك فقط أن تعيشها ( بتفاصيلها طبعاً ).
لا أن تعبرها شبه حياة.
ــ حتى مفهوم الغنى والفقر في مجتمعاتنا العربية مختلف
فالذي يملك المال لا يشعر بالسعادة، هو لا يريد أن تنقص ثروته لذلك يفتقد الكثير، هو يسعى لأن يملك السلطة أيضاً .
وباعتبار أنَّ أحد المسؤلين ممّن يملكون السلطة هو مثله الأعلى، وطبعاً بفساده لا بحكمته ( التي يفتقدها ) لذلك يحاول تقليده بصرف المال على شيء لا يجلب له السعادة
هو ينظر بفوقية على من لا يملك المال، وفي ذات الوقت ينظر عليه بعين الحاسد، ذلك بعض الفقراء وعلى الرغم من نقص المال لديهم إلا أنّك تجدهم يتمتعون بشيء من السعادة، وبجانب معين من جوانب الحياة الذي هو عبارة عن البساطة .
ــ معظم الفقراء لديهم قناعة معينة بمستوى معيشتهم وهم على رضا من ذلك، وإن لم يكن الرضا على درجة من التمام إلا أنه يُعتبر رغم ذلك رضا .
الشيء الذي لم ولن يفهمه من يملك المال، والذي يسمى بالغني.
لن يفهمها مع أنها معادلة سهلة جداً.
ــ أيضاً مفهوم السياسة .
فتجد السياسي وقبل أن يصبح سياسيًا يسعى لمنصبه بكل ما أُوتي من قوة ومن خلال منصبه يسعى أيضاً لتحقيق أكبر مكاسب مادية ممكنة، حتى تصبح لديه هذه العادة غاية بحد ذاتها .
هو دائماً في مرحلة السعي، بعيدًا كلّ البعد عن حل الهموم الإجتماعية التي نُصّب من الأساس لحلها .
وما ينطبق على ذلك ينطبق أيضاً على عدة مفاهيم: المجتمع، والعدالة، والتعليم، حتى أنظمة السير.

وأنا بعد اليوم .
لن أبكي حزناً على فقداني ابني، سوف أبكي أملاً بلقاءه .
لن أضعف، سوف استمد قوتي من قلة حيلتي .
لن أفرح أيضاً، سوف أجعل الحياة تفرح بي .
سوف أتعلم، أعيش، أعمل.
سوف أهتم بالتفاصيل .
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.