Horof

شارك على مواقع التواصل

في المدرسة.
من حسن حظي أني اجتزت مرحلة الدراسة الإعدادية قبل زواجي بفترة قصيرة، وأصبح بإمكاني الآن وبسهولة أن أتقدم للثانوية، وأكمل دراستي في الجامعة .
ــ النظام التعليمي عندنا مقسم إلى ثلاث مراحل، الإبتدائية، والإعدادية، والثانوية، ثُمَّ بعد ذلك تأتي مرحلة التعليم العالي وهو الجامعة .
شكرت ربي كثيراً على اجتيازي للمرحلتين الأولى والثانية، وبقي أمامي المرحلة الأخيرة للدخول إلى الجامعة، وعليّ أن أنتظر حتى سن الثامنة عشرة من عمري، ليُسمح لي بدراسة الجامعة.
وسوف أنتظر. سوف أهتم بنفسي كثيراً، وأدربها على الثبات، وسوف أثبت .
ــ كنت أفكرهكذا بعد أن أصبحت امرأة أرملة، وأم ثكلى، وأنا لم أتم السادسة عشرة من عمري .
ــ أفكار وأفكار تدور في رأسي في ظل أجواء الحوادث هذه. في ظل الحرمان من كل شيء بتلك الفترة الأسدية.
حرمان من الطعام. حرمان من الكهرباء. حرمان من الأمان.
وسوف تنتهي هذه المرحلة، وتتوقف الحوادث عاجلاً أم آجلاً. هكذا فكرت. وفعلاً نفذت ونجحت.
ــ الآن وبعد أن وجدت نفسي وحيدة مع أمي المسنة، وأب أنهكته أهوال شهر شباط حتى أنه بالكاد يتكلم معنا، هنا شعرت بالمسؤولية، وهذه كانت نقطة تحول كبيرة بشخصيتي، بأنني أصبحت أقوى .
المسؤولية تولد القوة .
معادلة فلسفية سهلة ممتنعة .
سهلة الحصول، عصية على التطبيق .
هذا الواقع حولني من النقيض إلى النقيض، هكذا فجأة وبغمضة عين.
تحولت من مسؤولة من إلى مسؤولة على.
أذكر أنه ذات يوم صباحاً استيقظنا على أصوات عالية جداً. آتية من حارة بيتنا، صراخ نساء، بكاء أطفال، شتائم من كل شكل ولون، صادرة من أفواه تتقن جيداً فن السب والشتم، صادرة من أفواه أفراد الجيش بحق الأهالي.
جلسنا خائفين، وتوقعنا الأسوأ الذي حصل فعلاً، وإذ بباب دارنا الحديدي يُطرق بقوة، وبدون توقف .
ذهبت لأفتح فلم يتركني أبي أن أفتح الباب، فركضت أمي، وفتحت. وما إن فُتح الباب حتى قام عناصر الجيش بدفشه بقوة وصرخ أحدهم بقولة: "تفتيش "
تفتيش عن السلاح والرجال، وسأل : هل يوجد هنا رجال
فظهر أبي وهو منهك وخائف. خائف علينا أنا وأمي أكثر من خوفه على نفسه من هؤلاء المجرمين الذين يُباح لهم حتى الاغتصاب، وفعلاً نظر إليّ أحدهم، وبدأ بملاطفتي، فتوسلت إليه أمي، وقالت له :
أرجوك يا ابني إنها في حالة نفاس وهذا لا يصح، فتركني ولكنه بالمقابل أخذ أبي للتحقيق على حسب قوله، وراحت بقية العناصر بتفتيش البيت، وقلبه رأساً على عقب بحثاً عن السلاح المزعوم تواجده في كل بيوت أهالي مدينة حماة. وما كان ذلك إلا ذريعة لنهب وسلب البيوت من ذهب ومال إن وجد واغتصاب أصحابها.
ــ طبعًا انهارت أمي بعدما أخذوا أبي، فلا نعرف إلى أين، ولا متى سيعود، هذا إن عاد .
هكذا كان مصير أغلب الرجال. القلة القليلة كانت تعود من التحقيق.
ذلك أن أغلب الرجال بعد أن يجمعوهم ويأمروهم بالاصطفاف جنباً إلى جنب على حائط مدرسة ما، أو جامع قريب. يقومون بالتصفية الجماعية، يطلقون الرصاص عليهم جميعاً رشاً دون توقف فيتساقطون بشبه كتلة واحدة بمشهد يصعب وصفه.
ــ أبي لم يرجع أبداً، ولم نعرف مصيره اطلاقاً.
وهنا بدأت رحلة عذاب أمي مع المرض والأمل والتأمل، أصابها مرض السكر من الخوف، وهي بالأساس يرتفع معها ضغط الدم
تأملت على مدار سنة أن يرجع أبي .
ولكنه لم يرجع.
ــ بمناسبة ذكر التصفية الجماعية أعرف قصة وقعت فعلاً أثناء هذه المرحلة قصة أبو جلال .
أبو جلال ابن ال 35 عاماً متزوج وله ابنة وابن وزوجته حامل في الشهر الخامس. مثقف جداً. وسيم جداً. يحمل شهادة في التجارة والاقتصاد من جامعة حلب في زمن كانت الدراسة في الجامعة صعبة.
وكانت تقريباً بمثابة استثناء لأبناء العائلات الراقية والغنية نوعاً ما.
وفي يوم 8 شباط من عام 1982 وبينما هو جالس مع زوجته وأولاده خائفين في منزله الكائن في حي الجلاء جانب مدرسة المرأة العربية، وإذ بباب بيته يُدق من قبل عناصر الجيش بحجة التفتيش، وأبو جلال حاله حال جميع جيرانه بعد انتهاء عملية التفتيش. أُذعن للأمر الصادر بخروجه للتجمع مع بقية رجال الحارة الذين يتجاوز عددهم الخمسين رجلاً، وذلك على حائط المدرسة المذكورة. بعد أن نظر إلى زوجته وأولاده نظرة دامعة وكأنه شعر بأن هذه النظرة الأبوية ستكون آخر نظرة لهم، نظرة روت رواية كاملة بكل عناصرها وأجزائها ولا ينقصها أي شيء.
نظرة بألف معنى ومعنى .
خمسين رجلاً اصطفوا عند حائط المدرسة ينتظرون سقوطهم المفاجئ، والغير متوقع.
وفعلاً تمت عملية التصفية الجماعية رشاً بالرصاص .
أبو جلال سقط على الأرض مع البقية، ولكن لحسن حظه، أوربّما لسوء حظه لم تصبه أية رصاصة. وسقوطه هذا جاء نتيجة هول الصوت والصورة ودماء جيرانه التي ملأت كل شيء موجود حولها .
أيضاً كان معه ممن لم يصبه الرصاص رجل اسمه أبو حيان هو الآخر سقط دون إصابة .
بقى الاثنان دون حراك، والجثث من حولهم ومن فوقهم وعلى أجنابهم .
بعد أن تأكد أبو حيان وأبو جلال بأنَّ عناصر الجيش ذهبوا لإحضار شاحنة لتنقل الجثث إلى المقبرة الجماعية حيث مثواهم الأول، لا الأخيرعند ربهم. قام الاثنان ليعودوا إلى بيوتهم بسرعة خوفاً من أن يراهم أحد .
وفعلاً كل واحد ذهب باتجاه بيته، والهدوء القاتل والرمادي يعم المكان .
أبو جلال وأثناء عودته مسرعاً إلى بيته تفاجأ بظهور بعض العناصر أمامه الذين لم يترددوا لحظة بإطلاق الرصاص عليه بمشهد تقشعر من هوله الأبدان .
كان مصير أبا جلال أن يسقط بمفرده، لتكون قصته شاهدة على وحشية هذا النظام التي رُويت على لسان أبي حيان
أبو حيان لم يراه وقتها وهو يسقط لأن بيته كان في زقاق أخر من نفس الحارة، ولكنه عندما سمع طلقات الرصاص تأكد أنها موجهة لصدر أبو جلال .
قتلوه منفرداً.
بعد أن نجا من القتل الجماعي .
قاموا بجره على الأرض حوالي عشرين أو ثلاثين متراً ملطخاً بدمائه، ليلتم شمله مع رفاقه .
ليتهم تركوه حياً ليلتم شمله مع عائلته، ولكنْ، لامكان للتمني هنا
مات أبو جلال في ريعان شبابه تاركاً ورائه زوجة شابة وولد وبنت وجنين لم يَرَ النور بعد.
هذه واحدة من آلاف القصص التي حصلت بالفعل في ذلك الشهر المشؤوم.
كل بيت في مدينة حماة له قصة مأساوية لا تشبه أخواتها في شهر شباط.
ـ الانتظار.
أسوأ إحساساً يعيشه المرء .
انتظار شيء ما سوف يحدث.
والأسوأ أنَّ هذا الشيء الذي تنتظره هو شيء سيء كانتظار مصيبة ما .
عادة المصائب تحدث فجأة دون توقع، مثل حادث السير مثلاً يكون دائماً مفاجئ .
أما أن تكون متأكداً بأنَّ هناك مصيبة ما سوف تحدث. وأن تنتظر فقط حدوثها. ذاك والله أسوأ ما يشعر به الإنسان.
شعور تكون فيه بحالة توقف تام .
توقف الزمن، توقف الدماغ عن العمل، توقف العين عن ذرف الدموع، العقل عن التفكير، والقلب عن الخفقان.
إن حالة تسرع دقات القلب هي حالة من التوقف أيضاً، ولكن من نوع آخر. حالة يقوم فيها القلب بذرف دموع غزيرة وعزيزة، تلك التي توقفت العين عن ذرفها .
هذا التسارع ما أخطره على النفس البشرية. أننتظر عودة أبي، أم ننتظر الموت، أم العار، أم الفرج .
هكذا كان حالي أنا وأمي بعدما أخذوا أبي.
ويراودك تفكير شيطاني بتمني وقوع المصيبة بسرعة، لتتخلص فقط من الانتظار، خاصة وأنك لا تعلم شيئًا ممّا سيحدث بالضبط، ولا يأتيك خبر من أحد عن مصير الذين أخذوهم .
كذب المثل الانكليزي هذه المرة عندما قال :
لا أخبار .
فالأخبار جيدة.
كانت حالتنا تمثل عكس ما قال هذا المثل، وكنا في حال:
لا أخبار،
فالأخبار سيئة،
لأنّ بكل بساطة أبي مات، ونحن لا نعلم شيئاً.
بداية الأمر تفائلت بالمثل الانكليزي، إلا أنه وبعد ثلاث عشر سنة أي في عام 1995 قام النظام بالافراج عن عدد من المعتقلين الذين اعتقلوا في عام 1982 بسجن تدمر، وكان من بينهم جارنا الشاب يوسف الذي أخبرنا بأن أبي قد مات بعد فترة قصيرة من اعتقالهم، ذلك أنه لم يتحمل التعذيب الذي كان يُمارس عليه يومياً .
إنَّ ما رواه يوسف عن الذي جرى لهم، وشاهده في سجن تدمر، تقشعر له الأبدان، وتشيب من هوله الرؤوس.
حمداً لله أن أبي مات فوراً، ولم يتذوق هذا العذاب كله، فالموت كان أفضل بكثير من الحالة التي رجع بها يوسف إلى أهله.
نعم كان خبراً جيداً موت أبي، ولو جاء بعد هذه المدة، عذراً أيُّها المثل الانكليزي فقد ظلمتك .
ويوسف هذا الشاب الذي سُحب من فراشه وهو بجانب زوجته، وابنه الرضيع الذي لم يتجاوز عمره السنة.
سحبوه بقوة كالنعجة المذبوحة وسط صراخ أهل بيته، بكاء ابنه، توسل ودعوات والدته، وذهول زوجته .
وعندما سألت والدته عن ذنب ابنها، جاء الجواب بأنه مطلوب
هذه الكلمة فقط ( مطلوب ).
ثم اختفى دون أي علم أو خبر.
ــ بعد مضي ثلاث سنوات على اختفاءه. كان أغلب الظن يدور على أنه مات ولكن دون خبر مؤكد. زوجته بقيت في بيت أهله هي وطفلها الذي أصبح عمره حوالي أربع سنوات. تقوم بتربية ابنها، وترعى حماتها ولأنها امراة جيدة. وكانت زوجة صالحة لم تدعها حماتها أن تتركهم، فما كان من الوالدة الكبيرة إلا وأن قامت بتزويجها من ابنها الثاني، وهكذا تصبح كنةً لها مرة أخرى وتحافظ بذلك على الطفل الصغير ابن يوسف الغالي بحيث يبقى في بيت والده، وتتبدد مخاوفها بأنه بأية لحظة ممكن أن تفقد الطفل وأمه، كما فقدت ابنها وأيضاً لربما يكون عمه للطفل مثل والده.
هذه الظاهرة كثرت جداً في تلك الحقبة من الزمن، لأنَّ معظم النساء ترملن وهن صغيرات في السن، وأغلبهن كان عندهن أطفال، فتقوم جدة الأطفال بتزويج هذه النساء من أحد أخوة المفقود، لتبقى العائلة ملتمةً مع بعضها البعض.
هناء زوجة يوسف كانت صديقتي إلى حد ما بحكم تقاربنا بالعمر ولكوننا جيران، فالجيران في ذلك الزمان يعتبروا بعضهم أهل بعض لشدة التقارب والاندماج فيما بينهم. كانت المسكينة سعيدة جداً مع يوسف، وكنا نقضي الليالي وهي تقص عليّ أخبارها السعيدة معه، وكم هو رجل محب ومحترم معها، ونتيجة لذلك كانت دائماً نشيطة، محبة للحياة، ضحوكة، وتقول بشكل دائم اسمي هناء وأنا هنية الحمد لله ( اسم على مسمى ) ولكن بعد أن رحل يوسف فقد تغير كل شيء .
لا السعادة بقيت، ولا حب الحياة استمر، حتى الضحكة رحلت، وهناء لم تعد هنية.
على مدار الثلاث سنوات عاشت هناء بصمت.
وحتى عند طرح موضوع زواجها من ابراهيم شقيق يوسف لم تبد أي ردة فعل تستحق العناء، لا بالمعارضة، ولا بالموافقة، ولكنها كانت أقرب إلى الموافقة عسى أن يكون إبراهيم شبيه ليوسف بمعاملته وطباعه مع زوجة ما ذلك لكونه شقيقه.
لكن كانت الصدمة كبيرة جداً، فهما مختلفان تماماً ممّا زاد من تعاسة وشقاء تلك المرأة هناء.
لم يكن إبراهيم سيئاً، ولكنه لا يشبه يوسف .
ما وصلت إليه الحالة كانت كارثية .
كلمة واحدة وهي كلمة ( مطلوب ).
غيرت كل شيء .
أخذوا يوسف، وتغيرت أقدار خمسة أشخاص .يوسف اختفى. الصغير تيتم.
الوالدة الكبيرة فوجعت بابنها، وارتدت الحداد المادي والمعنوي .
إبراهيم تزوج أرملة أخيه عن غير قناعة إرضاءً لأمه .هناء انكسرت وللأبد أصبحت مجرد امراة تمارس واجباتها الحياتية بصمت قاتل .
عندما كنت أزور هناء بعد زواجها من إبراهيم، وأراقب هؤلاء الاشخاص الخمسة. أتسائل بيني وبين نفسي: هل يدرك النظام السوري وأتباعه الذين قاموا بذلك مدى الدمار النفسي الذي خلفوه لمئات العائلات، بل لآلاف الأشخاص من جراء أعمالهم الوحشية ، فالدمار لم يشمل المادة والجسد، وإزهاق الروح فقط، وإنّما طال أيضاً النفس البشرية، بل ونالت الجزء الأكبر منه .
كيف تشعر هناء عندما يقترب إبراهيم منها لمضاجعتها، وهي تفكر في أخيه، بل كيف تستطيع؟
وكيف لهذا الأخ أن يضاجع امراة كانت زوجة لأخيه؟
هل يا ترى يصل إلى اللذة والنشوة الجنسية التي من المفترض أن يصل إليها كل متزوج، رجلٌ كان أم امراة. وهو يدرك تماماً أن هذه المرأة تفكر بأخيه؟
هل كره إبراهيم أخيه المسكين يوسف، وابن يوسف، وأرملة يوسف، وبعدها كره نفسه؟!

رباه رباه .
قصص مؤلمة... تعذبني .
تفاصيل صغيرة... تقتلني .
أشياء أخرى... تحاصرني .
أشخاص كثر... في ذاكرتي .
رباه رباه .
ابني يناديني.
رباه .
لابني أقول .
لا أراك، ولكني ألقاك.
فرؤيا العين رؤيا .
ورؤيا القلب لقاء .
هذه كلمات ذلك الشاعر أيضاً.
هو يكتب عني ويكتبني .
يصف شعوري بدقة عالية.
مرة أخرى أتسائل :
هل عاش هذا الشاعر فعلاً قصة حرمان مثل التي أعيشها أنا، بدقة مبالغ بها كتب هذه الكلمات، لتصف شعوري تجاه ابني، الذي لا أعرف مصيره، وما حل به .
هل سنلتقي غداً ؟
يجب أن نلتقي، نعم سوف نلتقي، ولكن متى!
اسعفني يا شاعر، وبشرني بأننا غداً سنلتقي.
كنت سأكتفي بصورة له.
ولكن حتى الصورة لا وجود لها، هو موجود فقط في مخيلتي
بين الحين والحين أضم لباسه الذي لا يحمل رائحته حتى.
اللباس الذي قد جهزته له مسبقاً قبل ولادته .
واحسرتاه .
أتخيل، أضمّ، أشم.
ويبكي القلب، وتخشع العين.

ــ لم يكن إبراهيم سيئاً، ولا حتى هناء، ولكن الظروف التي وجدوا أنفسهم أمامها هي التي كانت سيئة، لم ينجح الزواج رغم أنه استمر. والوالدة الكبيرة كانت تراقب كل شيء، وتعي كل شيء.
كانت حزينة على هذه الحال، لأنها أحست بطريقة ما أنها تسببت في تعاسة ابراهيم وهناء.
ومراراً حاولت التحدث معهم كل على حدة بانهاء هذا الزواج إذا كان يسبب لهم التعاسة والشقاء، ولكن دون جدوى. ولم يكن بيدها حيلة أخرى.
كان شيئاً أعمق بكثير يجبرهم على استمرار الزواج بعد أن حصل , شيء أكبر من أن يفترقوا.
وبعد ثلاثة عشر عام وبالتحديد في عام 1995 قام نظام حزب البعث بالافراج عن بعض المعتقلين ممن أثبت التحقيق أخيراً بأنهم لا علاقة لهم بأي تنظيم إرهابي.
بعد هذه المدة تم التحقيق مع يوسف وأُفرج عنه.
ففي يوم من الأيام عام 1995 ودون دراية بأن هذا اليوم كان نعمة أم نقمة على بعض الأهالي، ومنهم هناء وعائلتها .
في ذاك اليوم البارد، وعند الساعة الثانية عشرة ليلاً قرع باب بيتهم فجأة والمفاجئة أن الطارق هو يوسف.
عاد يوسف إلى بيته حاملاً اسمه فقط، وذكرياته المؤلمة.
صاعقة ضربت رأسه، ورأس كل فرد من أفراد عائلته، خاصة وأنه وجد زوجته سابقاً أصبحت زوجة شقيقه لاحقاً.
وأن ابنه الصغير فجأة أصبح ابن أخيه ويناديه بابا.
انتابته موجة من مشاعر الحزن والألم، وذلك في زحمة الانتظار والفرح، وبين مد وجزر تأرجحت مشاعره.
وسط ذهول الجميع وقف يوسف منتظراً ترحيب حار من عائلته، وأن يكون رد فعلهم إيجابيًا كما كان يحلم ويتوقع بهذه اللحظة بعد أن طالت كثيراً.
لحظة ترتمي فيها هناء بحضنه وهي تمسك ابنهما الصغير وتعرفهم على بعض، لحظة يحتضن ابنه بعنف تعوض عليه سنوات الفراق.
كم تخيل لحظة هجوم والده ووالدته واخوته عليه يعانقونه ويقبلوه، ولكنَّ أياً من هذا لم يحدث .
ذهول يوسف نتيجة حتمية لذهولهم، مصدوم، غير مدرك لما يحصل أمامه.
بمشهد مرعب وقف هو أمام الجميع وفي عينيه الكثير من الأسئلة إلا أنه لم يلق جواباً واحداً، أو تفسير منطقي لما يحصل. توسعت نظرة عيونه متعجباً، وإذ بوالدته تتدارك الموقف، وتركض عليه، وتحتضنه بعنف وقبلات ممزوجة بدموعها .
دموع فرح، ودموع أسى غير مصدقة. لا يعنيها شيء أكثر من أمومتها.
في تلك اللحظة عبرت عن أمومتها هذه غير مهتمة للصراع الذي سوف تواجهه والحيرة في ماذا ستفعل بعدها؟
لحظة شاهدته أمامها، هي توقعت ذلك الصراع وهو كان السبب في تأخرها عن الترحيب بابنها بعد هذا الغياب، ولكنها لم تكترث وبغمضة عين مارست طقوس أمومتها دون أن يعيقها شيء.
بعد هذا العناق والبكاء أخذت الأم ابنها إلى غرفة الجلوس، هناء ركضت إلى حيث ينام ابنها الصغير، وأجهشت بالبكاء.
إبراهيم كان مسافراً خارج المدينة بعمل ولن يعود إلا بعد يومين.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.