Horof

شارك على مواقع التواصل

45 سنة من البحث عن الذات كنت قاعدة على البيض عشان يفقس مَجد وثورة وأصحاب وحبايب ووطن للعدل والحرية وبعد الـ45 سنة فقَس تعابين، فضلت تبث سمومها في كل حِتَّه من جسمي، أول ماتسمم هو قلبي ، وقع مِن فرعه الهش المثالي اللي حلم بالحب طول الوقت، دفنته والتفت لقيت جسمي كمان اتسمم ، فقَد وظائفه الحيوية واحدة ورا التانية، اتملى أمراض وأوجاع وفقد رغباته وحركته اللي طول عمرهم في أوج النشاط والانفعال والتحرر، طول عمري مؤمنة إن جسدي مِلكي برغباته الجنسية وشوقه للأحضان والقبلات، والمَشي والجَري والتنطيط على طول الشوارع وعَرضها وعلى طول العلاقات وسطحيتها أو عُمقها، مات الجسد ودفنته ولَمْ أُبالي ، قُلت فاضل جزء صغير مِن العقل لَمْ يتأثر بالسموم، فلأستخدمه بشكل صحيح ، مُخالفٌ تمامَ المُخالفة ومُختلِفٌ تمامَ الاختلاف عما كنت أتوقعه قبل أن يفقس البيض، عصافير بتزقزق وحياة مشرقة وأمل دائِم وهيام وعشق للفكر والفلسفة والترتيب والتحليل والمَنْطَقَة، لقيته تشوش واهتزت الصورة قدامه كاهتزاز شاشة التليفزيون عند تشوش الريسيفر أو انقطاع الإرسال، أما الروح، فسوف أحدثكم عنها فيما بعد حديثًا مُنفصِلاً .
أما عن الروح التي كانت تُحلِّق بعيدًا في السماوات العُلى، تمرح وتلهو وتجرب المُشاكسة والابتسام والانغمار في لُجَّة الشعور بكل جديد بلا مبالاة وبسذاجة منقطعة النظير، تطير مِن غصن لغصن، تقفز على أفاريز السعادة البلهاء من غير ماتحس أبدًا بالقيود والقواعد والعيب والحرام، وكل ممنوعات تاء التأنيث، لا عيلة ولا مجتمع ولا أصحاب، ولا حتى الأحبة، فشلت؟ وماله نجرب تاني، حِتَّه منها وقعت في الطين؟ لو كانت تتغسل وتتلزق ماشي، لو أصرَّت على السقوط وماله؟ نسيبها ونمشي، دون السؤال عن أسبابٍ أو مُطالبةٍ بتعويض، تفسَّخت وتعفنت وتوارت خلف العديد مِن الطبقات الطينية التي تكلَّسَت بفعل الزمن والهموم .
الزمن؟ وما الزمن؟ هل هناك شيءٌ اسمه الزمن في المُطلق؟ هل توصل أينشتاين العبقري لتفسير الزمن؟ بيقولوا أن العلم توصل الأيام دي لمعرفة وقياس الزمن، لأ وكمان محاولة تجميع كل فترات التاريخ والصوت الذي لايضيع في الخلاء، يانهار مش فايت!! يعني كل كلمة تفوهت بها عبر هذه ال65 سنة هتلاقيها في وشك، تصدمك وتلطمك ومش هتعرف تحوَّر ولا تكدب قدام قاضي الزمن، قدام تاريخك وقلبك وعقلك وجسمك وروحك، هتقول إيه لما العلماء يجيبولك كام مرة قلت"بحبك" لكام شخص سرًا أو علانية، لما يجيبوا لك كل الكلمات الكاذبة اللي تفوهت بها في المواقف المختلفة، لما قلت نعم حينما أردت أن تقول لا، وقلت لا حينما كان مِن المفترض أن تقول نعم، لما يواجهوك بإن التعابين اللي فقَسِت مِن البيض دي بتاعتك مش بتاعة غيرك؟ وإنها كانت بس مدفونة في المقبرة العميقة جواك وطلعت في الوقت المناسب اللي انت بنفسك سمحت لها تخرج فيه، أو لما الكيل فاض بيك ومابقتش مستحمل إنك تخبيها أكتر مِن كده وقررت المواجهة .
مواجهة إيه بالظبط؟ مواجهة نفسك ولا اللي حواليك، مواجهة أفكارك وفلسفاتك اللي قعدت 45 سنة تتعذب بيهم وتقلبهم شِمال ويمين عشان تتوافق معاهم ويتوافقوا مع الواقع المُعاكِس تمامًا اللي انت عايش فيه؟ الأحلام الوردية المُبهجة والمثالية الفجَّة والرومانتيكية المُفزعة اللي كانت بتخليك تغمض عنيك وتنام مرتاح وانت عارف إن في إيدك حل مشاكل الكون ومعرفة كَمْ بيضة يضعها التنين في بطن الأرض؟
مواجهة مع جسدك اللي خانَك وتهاوى ومسكِته الأمراض واختلال الوظائف وفقَد كل رغبته في الرغبة والعشق والعِناق والقُبَل، وتحول لجسد آخر تمامًا لاتعرفه ولا يعرفك، جسدك اللي الكتير طمعوا فيه وهو في أوج توهجه اللي كتير ارتعش وفَرفَر وشَع من بوسة أو عناق أو.. جنس ناجِح (ودي قضية هنتكلم فيها لوحدها بعدين) ورموه وتجنبوه لما خارت قواه، جسدك اللي كان بيتميز بسرعته غير العادية في المشي مع حركة الذراعين صعودًا وهبوطًا، واللي دلوقتي بتطلب مِن المارة يسندوك عشان تطلع رصيف أو تعدي شارع؟
آآآه ولا مواجهة مع قلبك اللي انكسر عشرات المرات، ودفنت فيه عشرات الآمال والأحلام، وعشرات الأصدقاء والأحباب، اللي كان بيرقص لما تشوف حد بتحبه، ويرفرف من الفرحة لما تسمع كلمة حلوة أو مدح، لما عنيك كانت بتنقل له نظرة حب أو شوق أو رغبة أو حتى إعجاب؟
دلوقتي إيه؟ أصبح كالطين الجاف، كأرض دهستها الأقدام طويلاً وامتلأت بالحفر والأخاديد وتكلست وصارت صلبة ليس بها أي مكان للسير عليها، إحساسك بأي نظرة أو كلمة هي مجرد شفقة أو عطف، لأ أكثر من ذلك بكثير هي تثير فيك الإحساس بالنفور والاشمئزاز والانكماش إلى الداخل والتقوقع حول الذات التي كنت تبحث عنها متوهمًا إنك سوف تجدها في يومٍ ما .
مواجهة مع روحك اللي كنت تظنها شفافة وصافية ومُحِبَّة؟ بتمشي توزع الابتسامات على الكل، لاتهتم بما كنت تعتبره صغائر الأمور ويعتبره الكثيرون من أهم دعائم الحياة، السُّلطة والسَّطوة والثروة والسيطرة والعيب والحرام والممنوع والمرغوب، دعائم الحياة بشكلٍ عام، الأسرة وواجبات الزوجة، الأغاني والموسيقى والكتب والعلاقات الاجتماعية؟
كنت تظن إنها بسيطة وسهلة بلا ضغائن ولا أحقاد ولا غيرة ولا نَفسَنة، لاشيء أهم مِن العقل والقلب والروح، وهذا يكفي بنظرك أن يصنع الإنسان الكامل .
الإنسان الكامل؟ بتقولي حاجات غريبة جدًا مثيرة للضحك والسخرية، وللعلم كل واحد له مقاييسه لهذا الكمال، وكل واحد فاكر نفسه إنه الكامل الوحيد اللي مايخرش الميه وغيره أضغاث أحلام .
بمناسبة الأحلام، فيه أحلام النوم وأحلام اليقظة وأنا غرقانة في الاتنين، أحلام النوم مشكلتها أكبر عندي من أحلام اليقظة، على الأقل اليقظة معروف أنها يقظة، مجرد انعكاس للواقع وتداعيات مُجترَّة لمواقف معينة حدثت للتو أو من فترة، بتعيدها وتكرر الموقف وتضيف عليه من عندك الحاجات اللي ماقدرتش تقولها أو تعملها حين حدث ماحدث، غالبها خناقات وصراعات وذكريات مُتواتِرَة ومُتَوتِّرة، يمكن بعضها في أيام المراهقة بيتركز في الجنس والحب والغرام، ولحظات الوصول للذروة الجنسية أو تخيل أوضاع جنسية معينة تؤدي للإثارة وتساعد في ممارسة العادة السرية .
أما بقى في تلك السنوات ال45 حين ترقد على البيض في انتظار أن يفقس فالموضوعات بتختلف، بتكون إلى حدٍ ما قد أرضيت الغريزة، مُكتفيًا أومُنكَفِئ، فتخف عندك حدة تخيلها، وتبدأ أحلام اليقظة تاخد مَنحى آخر، مُتَمَثِّل بشكل كبير في مشاكل الحياة اليومية المُضطردة والمتراكمة والمنيلة بستين نيلة، لما رئيسك في الشغل يشخُط فيك كل يوم علشان اتأخرت، أو عشان دسيسة أسرَّها أحد الزملاء إليه إنك قاعد ع المكتب بتقرا الجورنال، أو بتشرب شاي أو مش بتشرح للولاد الدرس أو إن خطَّك وحش، ولما تتزنق في الأتوبيس والست - أو الراجل - يلزق فيك ويتخانق معاك لو اعترضت، لما تروح السوق وتلاقي الأسعار نار والبياع يحط لك فاكهة أو خضار بايظ في قعر الكيس، لما الولاد يرجعوا يشتكوا من الميس اللي شخطط فيهم عشان اتكلموا، لما مراتك - أو جوزك - ترفض تنام معاك .
لما تقعد لوحدك تجتر الأحداث دي كلها وتحلم ازاي أنا ماقولتش للمدير انت ابن كلب؟ وازاي ماضربتش زميلي المُخبِر لأ وتحلم إنك بتضربه فعلاً وتتف عليه، إزاي مامسكتش الراجل اللي لزق فيها في الأتوبيس وعطيته بالقلم على وشه؟ وطراااخ تقوم ضاربه على وشه، وتقوم تلاقيك ضربت مراتك اللي نايمة جنبك فتفتكر إنها قبل ما تنام رفضت عرضك للنوم معاها فتحلم إنك اتعاركت معاها وشدتها من شعرها وجرجرتها على السرير ونمت معاها فعلاً .
أما بقى أحلام النوم فدي قصة كبيرة جدًا، صحيح العلم بيحاول يفسر، بيجتهد يعني، وفرويد قال إنها انعكاس للواقع ولأحداثة، وترجمة له في اللاشعور، يعني عندنا حاجة اسمها العقل الباطن، العقل الباطن ده بيستغفلنا وبيصور لنا اللي مش قادرين نتخيله أو مُحرَّم علينا أو ممنوع عنا، ويقوم بقى في وقت النوم أو الاستسلام أو الغيبوبة أو الموت يطلع الحاجات دي للسطح بشكل محور وغامض وخفي في شكل الحلم .
لكن التفسير ده بيطرح إشكالية كبيرة جدًا لما تحلم بحاجة مالهاش أساس في الواقع وتتحقق في المستقل، زي مسألة موت شخص ما قريب أو بعيد عنك وقد يكون غير مريض أو انت لا تعلم إنه مريض أو إنه مريض ولكن لا يحتضر .
أنا عن نفسي عندي نبوءة في الموضوع ده، يوم موت أم كلثوم مثلاً كنت في سجن الحَضْرَة، ولاأعرف بمرضها، حلمت أن أماني ناشد - مذيعة تليفزيونية مُتوفاة - تذيع حفلة لأم كلثوم، تاني يوم سمعت خبر وفاتها.
وحلمت بخالتي وهي تقفز من شرفة منزلنا في الدور الرابع، ونحن نحاول منعها لكنها قفزت، وكان هناك جمعٌ غفير في الشارع ينتظر وينظر وماتت في اليوم التالي .
يوم وفاة أبي أصابني كرب مفاجيء دون أسباب مباشرة، فعلاً بالتعبير الشعبي زي اللي ميت لها ميت، ذهبت إلى أخي بالجوار أفضفض علَّني أعرف السبب المباشر للغم، فجاءنا نبأ وفاته .
شكت أمي من أوجاعٍ في سُرَّتِها، وكان ذلك بعد يوم حافل استقبلتنا فيه كعادتنا كل يوم خميس، طبخت لنا صينية سردين، وأكلنا ثم شكت، واكتشفنا فِتاء سري بارز، وطلب جميع الأخوة الذهاب بها فورًا للمستشفى، بينما أصريت أنا وبشكلٍ مُفاجيء وعناد شديد أذهل الجميع عدم الذهاب معهم، ذهبوا وأخذت أنظف البيت على غير العادة سرحانة في اللاشيء كأنما هناك توقع لحدث جلل سوف يقع ولا أريد حضوره اللحظي، وفعلاً جاء التليفون بأنها تحتضر فجأة .
وهاهو حدث جلل آخر وفاة أخي الذي أصريت بشكل هستيري مفاجيء أن يذهب أحدهم لإحضارة لبيتي فورًا، بلا مناسبة ولا معرفة لما وصلت إليه أحواله المرضية، وفعلاً حدث ماحدث بعدها بأسبوعين وقد انهارت كل وظائفه الحيوية فور وصوله عندي .
وهذا عن أحلام الموت والوفيات غير معروفة المصدر وغير المتوقعة والتي لا يوجد لها عندي تفسير .
قبل هذه ال45 سنة العِجاف بزمنٍ طويل، كنت أحلم دائمًا بالطيران، أحلق فوق البحور وعلى أجمات الأشجار بجناحين ورداءٍ أبيض حتى وقد لاتُصَدقون .. قد حلقت فوق الكعبة ذات مرة، عصفور صغير الحجم سابح في الملكوت، يبحث عن الحرية والتحرر والكون والفضاء، فوق الأرض لا تحتها، إلى عنان السماء لا خلفها، مع الطبيعة والشجر والخضرة، ولكن هذه الأحلام في زمانها - بالنسبة لي - كانت تعبر بالضبط عن اللي بدور عليه .. عن الحرية والانطلاق .
ولذلك ارتبطَت الأحلام بالسحر والفلك وحركة دوران الأرض، وانتشر الدجالون الذين يبيعون الوهم بتفسير الأحلام، وكُتِبَت الكتب والمراجع والتفاسير في تفسير مدلولات الأشياء التي يحلم بها البشر، فكل شيء له دلالة، يطرحها المفسرون ويؤمن بها الناس ويتفاءلون أو يتشاءمون، يفرحون أو يحزنون للدلالات المعينة في التفاسير .
وهذه السنوات العجاف بعد أن فقس البيض وخرجت الثعابين تنشر سمومها، شيئًا فشيئًا وبِبُطءٍ وهدوء الحكيم العاقل الذي يعرف بالتحديد اتجاهه وغرضه ومُرادَهُ، بعد أن تخشَّب القلب، وتهشم الجسد، وتآكل العقل، وضمَرت الروح، فقد تحولت الأحلام إلى كوابيس، يقظةٍ ومنام، كلها عراك وخناقات وبغضاء ومتاهات وسَرِقات وخوض في الوحل وظلمات، وأماكن غريبة لَمْ تطأها قدمي مِن قبل، سياحة في بلاد الله خلق الله، بين بشر لا أعرفهم ولا يعرفونني، محاكمات ومطارادات .
أيام الدراسة كثيرًا ماحلمنا - خاصة في وقت الامتحانات - إننا نزلنا الشارع بهدوم البيت، أو من غير الجزمة، أو بفردتين شراب مختلفتين، أو وصلنا اللجنة بعد الإمتحان ماخلص، أو إن ورقة الأسئلة بيضا وفاضية، وغيرها من الأحلام المزعجة اللي كانت بتدل على القلق والتوتر في انتظار الإمتحان .
وكلما زاد التوتر والقلق كلما زادت الأحلام المزعجة وتحولت إلى كوابيس، تحس بعدها لما تقوم مِن النوم إنك واخد علقة، وإنك مانمتش طول الليل ولا ارتحت، مع إن الحلم لا يستغرق أكثر من دقيقة على الأكثر، ومع إنك لاتتذكره في الغالب، أو تتذكر فقط لقطة معينة أو شخص ما كان معاك في الحلم، لكن لا تتذكر ماذا كان يفعل أو عن ماذا كان يدور الحلم، ومع ذلك مايظل عالقًا بذهنك هو الإنزعاج والتوتر والتشوش وقلة الراحة.
حتى الأحلام ياربي!! حتى النوم!! ألا تكفي اليقظة ومايدور بها؟ وياترى بِمَ يحلم السعداء؟ بِمَ يحلم مَن لَمْ يرقدوا على البيض 45 سنة؟ الذين لَمْ يفقسوا ثعابين؟

0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.