MiskBook

شارك على مواقع التواصل

كانت ابنتي قد غرقت في سباتها حين أرخيت جسدي على أريكة ناعمة بجوار زوجتي داخل غرفة أحد الفنادق الراقية وسط تبليسي. صببت من زجاجة النبيذ في كأسين لكلينا ثم رحت أتصفح هاتفي وأقلب في صور جبال القوقاز المكسوة بصفحات الثلج والتي سنزورها في اليوم التالي.
في ذلك الوقت، أوشك الشتاء على توديع جورجيا، لذا كنا في شوقٍ غريب لرؤية تلك القمة وقد غطتها كتل الثلج فأحالتها إلى لوحةٍ بيضاء ناصعة. لكن رغم ذلك، تذكرت رواية "أرواح كليمنجارو" وكأنني سأصعد جبال القوقاز على قدميّ.. ضحكت، ثم خلدنا إلى النوم بعدما أنهينا زجاجة النبيذ كاملة.
حين استيقظنا، كانت السماء قد تلونت بخيوط الشمس الأولى، ارتدينا ثيابًا صوفية ثقيلة، وتناولنا إفطارنا على عجل ثم بدأنا الرحلة المنتظرة. شقت السيارة شوارع المدينة الساكنة إلا من سيارات قليلة.. بدت شوارع تبليسي متعرجة وقديمة حتى أنني أحسست وكأن الزمن عاد إلى الوراء 30 عامًا حين كانت تلك البلاد ترزح تحت حكم الاتحاد السوفيتي.
بدت المباني قديمة وهرمة، لكنها بشوشة مثل وجوه أهلها.. وقفت القلاع التاريخية شامخة عالية لتحكي للغرباء فصولًا من تاريخ تلك البلاد التي استبدت بها الحروب وامتدت حتى وقت قريب.
بعد دقائق، نظرنا خلفنا فرأينا تبليسي وهي تتوارى صاغرة أمام الجبال الخضراء الشاهقة، تلفتٌّ وزوجتي والدهشة تحتل محيانا، وتساءلنا بأفواه فاغرة: هل تلك هي الجنة؟ كانت الجبال الخضراء تمتد على جانبي الطريق وأشجار الصنوبر تلوح بأوراقها وفروعها للمارة والمسافرين، فيما المزراعون قابعون في حقولهم وهم يراقبون الماشية والأغنام التي ترعى في سعادة بالغة.
كتم قائد السيارة ضحكاته وهو يراني وزوجتي وقد أسرعنا لإخراج كاميرات التصوير لالتقاط تلك المناظر الطبيعية الخلابة، لعلها تؤنسنا حين تستبد بنا الصحراء الجافة والحارة حيث نعيش. بدا من ضحكاته المكتومة أن رد فعلنا متوقع، وأننا لسنا أول زائرين يصابان بسكرة العشق الجورجي تلك.
مر الوقت سريعًا، حين لاحت لنا من بعيد جبال أخرى شاهقة، لا تغطيها الأشجار بل كتل الثلوج الناصعة التي تحيلها إلى قمر أبيض وسط كوكب أخضر نضر.
ورغم قوة الثلج وجبروت ندفاته المتلاحقة، نجت بضعة صخور من أن تندثر أسفله. تطلعت إليها من نافذة السيارة، بدت لي كرؤوس الآلهة الإغريقية، لكنها حزينة، وعبوسة الوجه، كأنها ترثي حال الجورجيين الذين قض الفقر مضجعهم طوال عقود.
لوحتُ إلى تلك الرؤس محييًا، سرحت في رسائلها حتى انتشلتني زوجتي من تلك الخيالات وهي تشير إلى فندق ضخم وقف كبرج بابل الواصل بين الأرض والسماء. هبطنا عنده، تناولنا مشروبًا ساخنًا ورحنا نراقب قائد سيارتنا المصري وهو يحاور - باللغة الجورجية - الباعة الذين افترشوا رصيف الطريق. بدا أنه فصال في الأسعار دار بينه وبينهم حول بعض القبعات الروسية التي رغبنا في شرائها.
في تلك الأثناء، رأيت الباعة العجائز وهم سعداء وكرماء إلى أبعد الحدود، حتى إنهم تطوعوا لالتقاط الصور التذكارية لنا... ابتعنا القبعات ورحلنا. لم يتبق على الوصول إلى القمة إلا القليل. مرت دقائق حين وصلنا ساحة واسعة ارتكنت فيها العربات، هبطنا من السيارة وأكملنا مسافة نصف ميل سيرًا على الأقدام.
راحت ابنتي تعدو وتصيح من السعادة، حتى إنها انكبت على كتل الثلج فصنعت "سنو مان" كذلك الذي شاهدته وأحبته في الفيلم الشهير "فروزين".. لفتت ابنتي بنشاطها وحيويتها انتباه السائحين الذين أقبلوا عليها لالتقاط الصور، فيما أنا وزوجتي انتهزنا الفرصة ورحنا نختلس قبلات حارة نقاوم بها ذلك الصقيع.. قبلات لايزال طيف مذاقها على شفتيّ.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.