Horof

شارك على مواقع التواصل

خُروجٌ أول عَن نَصِّ الرِّوايَة

المؤلف
كلمة لا بد منها


كما ترون، أجبرني الراوي على التدخل المباشر في ما أسندت إليه من مهمة؛ فأخذ يتبرم إليكم من توجيهي له، وقيادتي لمجرى ما يرويه، وكأنني لست المتحكم بكل ما يقوله، مثلما أنا المسؤول عن كل حرف ينطقه أمامكم، وهو أمر متوقع من الرواة؛ فلطالما سمعت عن رواةٍ انقلبوا على مؤلفيهم، و ألغوا وجودهم؛ فادعوا أن ما يروونه هو من تأليفهم، لكن ما هو غير المتوقع هنا: هو أن هذا الراوي يستهل بداية الرواية مُتَعجلاً ليعلن عدم مطاوعته، و إنني إذْ أوضح سبب هذا التدخل، لا بد لي مِن أن أُطلِعَكُم على حقيقةٍ مهمة مفادها؛ أن تدخلي هذا وإن كنتم قد وجدتموه في بداية الرواية، إلا أنه في الحقيقةِ أُضيف بعد إتمام الرواية .
وكي تكون الصورة واضحة عندكم، كان لابد لي من إخباركم بأمرٍ مهم يخص التخطيط لكتابة هذه الرواية، وهو أنني كنت أنوي كتابة رواية تكون ثيمتها، النفس البشرية، وما يطرأ عليها من تغييرات، تنتج عن المرض النفسي، أو العصبي، القلق، المرض العقلي، وكل ما يحول الشخصية البشرية، إلى شخصية أخرى، عن التغيير الذي يحصل لهذا المنجم العميق، السري، والعصي على الفهم، عن عقل الانسان الذي يُسَيِّرُه في الأغلب عقلٌ جمعي، وأعراف، وتقاليد، تسلبهُ أخطر خواصه في الرؤية الحادَّة والواضحة، في الإبداع، و في الوصول إلى الحقيقة الناصعة دون مؤثر، ودون مُكَبِّل يعيق هذه الرؤية، ولأن هذه الرؤية نادرةٌ وقليلة، وتحدث عند أشخاص قد لا يكتشفهم أحد، ولا تجد من يُجهِدُ نفسه لاكتشافهم، بسبب أن تصرفاتهم تتشابه في أحايينَ كثيرة مع المجانين، وأصحاب العاهات العقلية، والنفسية، وهم كُثر، يقابله ندرة لهؤلاء العباقرة، أو المتنورين؛ فيتوهون وسطهم ويصعب تمييزهم والكشف عنهم .
ولأن السيد نوح ـ الراوي ـ طبيبٌ متخصص في الأمراض النفسية، وهو مثل الكثير غيره، يرغب في كتابة رواية يقول فيها ما يقول، ولأنه بحاجة إلى من يرشده إلى الطريق الصحيح في إتمام مايرغب، ولأنه أيضًا زميلي في مراحل عديدة من دراستنا، وصديقي في أطوارٍ عمرية طويلة، وجدت فيه خيرَ وسيط، يُمَكِّنُني من استكشاف هذا الوسط ، علّني أجد فيه ضالتي، في ( خامة ) تنفع في ثيمة ما أخطط لكتابة روايتي، وهكذا جرى الاتفاق بيننا، أن أستخدمه راويًا لروايتي هذه، على أن نكتب روايته التي يريد، وقد وجدتها صفقةً مناسبة، نجحت حتى الآن في إثنائه عن فكرة الهجرة خارج البلاد، التي سيطرت عليه مؤخرًا .
أمرٌ آخر أريدكم أن تعرفوه، هو أنني سأعاود الظهور المباشر كلما وجدت حاجة لهذا، أو وجدت أن الراوي قد حاد عن ما خططت لكتابة هذه الرواية .انتهى.


سألتها وأنا أجهز سجلاً خاصًا بحالتها، ( اسمك...)، نظرت إليَّ وكأنها لَمْ تستمع لسؤالي، أعدت سؤالي لها: ( اسمك ... إعطيني اسمك).
دارت بنظراتها في أرجاء غرفة العيادة، كأنها تستجدي وقتًا لتنتقي خيارًا من عدة خيارات، قالت: ( شهرزاد ..خلي نقول شهرزاد) .
سألتها وأنا أدوِّن اسمها أعلى السجل، ودون أن أنظر إليها، (اسم مستعار يعني)؛ فقد تعودت أن يلجأ قسم من المرضى إلى اسماء مستعارة لهم في بداية علاجهم، ثم سرعان ما يبوحون بأسمائهم الحقيقية بعد جلستين أو ثلاثة معهم، ردت: (هكذا أفضل...).
- ما تحصيلك الدراسي ... و هل أنتِ موظفة.
- أستاذة في التاريخ ... في جامعة بغداد.
- ممتاز ... ما شاء الله.
أردتُ أن أُشعرها أنني أقف إلى جانبها، وأستشعر معاناتها، قلت لها: ( التعب واضح عليكِ ...)، نظرت إليَّ وهزَّت رأسها مؤكدةً كلامي، لكنها احتفظت بنظرتها الحادة دون انكسار، أحسست لحظتها بالندم لقولي هذا؛ فمن الممكن أن ينهار المريض عند سماعه مثل تلك الكلمات، ليرمي حمله كله، ويبدأ بالبكاء الهستيري، أردفت على عجل: ( لكنكِ امرأةٌ قوية ... تقدرين أن تتجاوزي الظروف الصعبة ..)، أومأت برأسها مؤيدةً .
حملت مفكرتي وانتقلت لأجلس قبالتها، سألتها: ( هاه ... من وين نبدي)، ( انت الطبيب ...)، ردت، ورفعت حاجبيها وفتحت ذراعيها وكأنها تدعوني للدخول إلى صالة عرض .
( من البداية ؟)، سألتها، أومأت برأسها، وقالت: ( من البداية ).


قُلت لها: ( تفضلي).
سرحت قليلاً تسترجع مخزون ذاكرتها العميق، ولتنتقي فاصلة البداية التي ستبدأ كلامها من عندها، أخذت نفسًا طويلاً، وكأنها تستعد لترفع أنقاضًا متكسرة، كثيرة، وكبيرة، كي تصل إلى القاع الذي ستبدأ من عنده، وقالت: ( من سنوات، جرت في حياتي أحداث صعبة، صعبة للغاية، وكثيرة، ظننت أنها ستنتهي، لكنها تفاقمت يومًا بعد آخر، صحيح أنني نَعِمتُ ببعض الأوقات الجميلة والمريحة، إلا أنها سرعان ماعادت لتنقلب إلى ماهو أسوأ، لَمْ أعد أستطيع التحمل، ترددت كثيرًا قبل أن آتي هنا ) .طأطأت رأسها، أردت منها أن تسترسل في كلامها؛ فتوقفها الآن سيصعب عليها أن تعاود الكلام، وسيُعرقِل عليَّ فهم مشكلتها بوضوح، ومعرفة ماتعاني منه بالضبط، ولن أتمكن من تكوين قناعة تامة عن مرضها، قلت لها: (ما نوعية هذه الأحداث الصعبة .
ردت دون تأخير: ( قصة طويلة، وأحداث كثيرة، فيها الكثير من الخوف، والألم ... تحتاج إلى وقتٍ طويل لشرحها ) .
قاطعتها: (وقتي كله لكِ، ثم أنني هنا لأجل سماعك، وكي أتمكن من تحديد مشكلتك بالضبط، وبعدها نرى كيف يتم علاجك ) .
ضَحِكَت؛ فتعجبت من ضحكتها، ويبدو أنها رأت علامة تعجب أو استغرابٍ ارتسمت على وجهي، قالت: ( علاجي !، انا أعرف أن علاجي صعب جدًا، خصوصًا بعدما تعقدت الأمور ووصلت إلى ما وصلت إليه، لكنني أحتاج إلى مَن أتكلم معه، إلى من يفهمني ، إلى من يستمع إليَّ دون أن تكون لديه أية أطماع ) .
قلت: ( تكلمي، ها أنا أستمع إليكِ، وسأحاول فهم ماتقولين، ولست أطمع بشيءٍ سوى تجاوزكِ لما تعانين منه ) .


حدقت في وجهي، وكأنها تستجمع نفسها لقول شيء ذي أهمية، ثم قالت: ( نعم، سأحكي لك كل شيء، لكن قبلها أود أن أطلب إليكَ طلبًا ) .
قلت: ( اطلبي ما تشائين).
أخذت نفسًا عميقًا، وقالت: ( حكايتي فيها الكثير من التفاصيل، وكي تكون واضحة لك، لابد من قولها كلها، لكنها قد تظهرني في صورة أنا لاأريدها، خصوصًا وأن فيها أحداثًا يصعب ذكرها، والكلام عنها، لكنني كما قلت لك سأبوح بها، ولَنْ أُخفي منها شيئًا، ولذا فإنني أطلب إليكَ أن تكون حكايتي محصورةً بيننا ) .
سادَ الصمت بيننا للحظات، استعدت في ذهني كلماتها الأخيرة، قلت لها: ( إنكِ تُسَهلين الأمر عليّ، كنت سأطلب إليكِ أن تقولي كل شيء، وهو أمرٌ مهم كي نعرف ونحدد المشكلة بالضبط، أما سرية ما تقولين، فهو جزء مهم من عملي، ولا يمكن لأحدٍ أن يطلع عليه، ثم إنكِ أعطيتني اسمًا مُستعارًا لن يستطيع أحد التعرف إليكِ من خلاله ) .
في هذه اللحظة بالذات خطرت في ذهني صورة المؤلف الذي يعرف كل ما يجري، لكن ذلك لَمْ يكن ذا أهمية بالنسبة لاتفاق السرية الذي قطعته لها، طالما أنه هو من يوجه الأحداث في الآخر .
كانت تنتظر مني إشارةً للبدء بسرد حكايتها، قلت لها: ( تفضلي، لكن قبل أن تبدأي، اسمحي لي بتسجيل ماتقولينه على آلة التسجيل هذه) ـ رفعت آلة التسجيل الصوتي المرمية أمامي على المكتب بيدي ـ كي أعاود الاستماع إليه وأحلله، وهي طريقة نستعملها مع جميع الحالات التي نعالجها .
أشارت بإيماءةٍ من رأسها على الموافقة، ضغطت على زر التسجيل ووضعته بالقرب منها .


قالت: ( منذ أكثر من سبع سنين، كنت أعيش حياةً عادية، مثل كل النساء الشرقيات، متزوجة، وعندي بيت، لَمْ تكن حياتي سعيدةً بمجملها، لكنها لَمْ تكن تعيسةً أيضًا، زوجي يشغل منصبًا رفيعًا في الدولة، وله نفوذ كبير، اليوم أعتقد أن جزءًا كبيرًا مما جرى لي، كان بسبب هذا المنصب وهذا النفوذ، صحيح أنه كان يعشقني بجنون، لكنني كنت أعرف أن عشقه لنفسه كان أكبر ، وكنت أعتقد أن هذا أمر طبيعي؛ فمَن مِنا لايعشق نفسه، تزوجني بطريقة تكاد تكون انتزاعًا، أجبر أهلي على الموافقة؛ فما أن رآني، جُنَّ جُنونه، وكأن لاهدف آخر له في الحياة سواي، كان جَسُورًا لا يهاب شيئًا، و له قدرة عجيبة على مواجهة الصعاب، والتحدي، يستخدم منطقًا خطيرًا في الوصول إلى ما يريد، هو منطقُ فرض الأمر الواقع مع من يواجهه؛ فتجده يختار أصعب الحلول، ويجبر الطرف الآخر على الرضا والرضوخ لإرادته، وأعتقد أن هذا المنطق كان سببًا آخر لِمَا آلَ إليه حالنا اليوم، فكما يقال: ( ليس في كل مرة تَسلمُ الجرة).
تزوجني، ورضيت بقسمتي؛ فلست ممن يدخل في قصص حب وغرام، لَمْ يكن يهمني ممن يريد الزواج مني، سوى أن يكون مُحِبًا لي، ويخاف عليّ، الكثير ممن يعرفوننا، وصفوا زواجنا على أنه زواجٌ قسري، وبعضهم ذهب أبعد من ذلك ، ووصفوه على أنه (نهيبة )، لكنني أقول اليوم أنه تزوجني مثلما يتزوج معظم الرجال الشرقيون، الاختلاف الوحيد أن هذا الرجل كان صلفا ، ولا يعبأ بالآخرين، مما زاد من نقمتهم عليه، وقد اكتشفت بعد زواجنا، أن رجالاً كُثر كانت أعينهم عليّ، وكانوا يخططون للاقتران بي ، وأنني إذ أقول هذا؛ فليس معناه غرورًا مني، إلا أنه كان أكثرهم إقدامًا وجرأة، لذا فَهُم، أو لنقل قِسمٌ منهم، اتهموا زواجنا بكل تلك التهم.
الأيام الأولى من زواجنا كانت جميلة، أستطيع الآن تذكرها، وكان هو في أوج سعادته، لكن المشاكل بدأت بالظهور مع مرور الأيام، هو كان يخبرني : " أعدائي كثر ويحاولون النيل مني " ، طلبت إليه أن يحاول التودد إليهم قليلاً، وأن يعمل على تحويلهم إلى أصدقاء، أو على الأقل يعمل على تحييدهم، إلا أنه كان، وهذا مااكتشفته لاحقًا، مع ما يُظهِرُه من برجوازية، كان لايزال يرضخ لتأثير الأعراف القبلية والعشائرية، ومفاهيمها وشعاراتها، في عدم التنازل، والتحدي،والعناد،وهي متغلغلة وراسية في تفكيره .
بدأت المشاكل تثار حوله، وبدأ خصومه يتآمرون للنيل منه، هذا ما كان يقوله لي كلما سألته عن سبب عصبيته الزائدة، وطبعه الذي يزداد حِدَّة .
عدت وطلبت إليه أن يحاول التوصل معهم إلى حلولٍ تكفيه شرهم، كان يقول لي أنهم لا يريدون حلاً، وأنهم مصرون على إلحاق الأذى بنا، وكان يزداد إصرارًا على مواجهتهم وتحديهم .
جاءني يومًا وكان مُثارًا، وعصبيته واضحة، سألته: " ما بالك، هل من شيء "، قال: " لقد وصل الأمر حده، لا بد من إيقافهم عند حدهم، لقد بدأوا بالضرب تحت الحزام، وسأجعلهم يندمون على فعلتهم، ولن أتركها تمر سُدى، وسأجعلهم يعرفون قدرهم "، قلت له: " ألا يمكن أن تطلب إليهم أن يتوقفوا "، قال: " طلبت إليهم، حتى أنني تنازلت لهم قليلاً، لكنهم يصرون على إلحاق الأذى بي، لَمْ يعد هناك من طريقةٍ سوى الرد عليهم، لابد لهم من أن يعرفوا حدودهم، وسأجعلهم يعرفونها " ) .
في هذه الأثناء، تناهى إلى سمعي عدة طرقات على باب العيادة الذي يفصلها عن قاعة انتظار المرضى، تلاها دخول المؤلف إلينا، أسرعت إلى جهاز التسجيل وأطفأته .

اقترب المؤلف مني وهمس في أذني: ( هنالك مريض في صالة الانتظار، وأريدك أن تراه على وجه السرعة )، حاولت أن أشرح له أنني في خضم معاينة لمريضة هو ألحَّ عليّ للنظر في حالتها، لكنه أصر على ضرورة ترك كل شيء، أو تأجيله لحين رؤية المريض الموجود في صالة الانتظار .
حاولت أن تأجيل الأمر قليلاً، إلا أنه ذكرني بالاتفاق المُبرم بيننا، وبموقعي مِن كل ما يجري ، قائلاً: (لا تنسى أن المؤلف هو أنا، وأنتَ تروي ماأكتبه، وهنا عند هذه النقطة؛ فإنني أريدك أن تنتقل لتُعاين، وتروي حالة المريض في صالة الانتظار).
قلت له: وهذه المريضة كيف سأتصرف معها .
قال : دعها تنتظر قليلاً، أطلب إليها أن تنتقل بكرسيها المتحرك لترتاح في طرف العيادة هناك عند سرير المعاينة ـ أشار بإصبعه نحو السريرفي زاوية العيادة من جهة الباب ـ ريثما تنظر في حالة مريض حرجة ولا تحتمل التأخير، ولا أعتقد أنها ستمانع .
وهكذا وجدت نفسي أعتذر من (شهرزاد)، وأطلب منها أن ترتاح قليلاً ريثما أُعاين حالة حرجة ومستعجلة لمريضٍ آخر؛ فما كان منها إلا أن ابتسمت بطيب خاطر، ودفعت عجلات كرسيها نحو سرير المعاينة .
وها أنتم ترون مرة أخرى ما للمؤلف من سلطة لا تعلو عليها سلطة أخرى في مجريات الأحداث التي نرويها، لكنني مع هذا، سأترك لي بصمةً هنا في هذه الرواية، ثم أن اتفاقا بيننا يلزمه على أن يترك لي هامشًا في قول ما أريد؛ فما جدوى ترديد كل ما يكتبه؛ فكل ما تقرأونه هنا يجري على لساني أنا، ولذلك فإنني أجد نفسي مجبرًا على إطلاعكم على ما جرى بيني وبين المؤلف بداية اتفاقنا، ولحسن الحظ أنني لازلت أحفظ كل تفاصيله عن ظهر قلب، وكنت أنوي أن تكون فاتحة الرواية وفصلها الأول، لكنني استبعدته بعد أن خمنت أن محور الرواية وأحداثها تدور حول شخصية أخرى، ليست شخصيتي، وقصة غير قصتي، فوضعتها جانبًا، وقررت أن لا أتطرق إليها، لكن إلحاح المؤلف، وكثرة تدخلاته، وتقلباته، تجرني لأسرد لكم ذلك الحديث الذي دار بيننا كما جرى، ولأعيد هذا الفصل المستبعد، وأدخله في النص من جديد .


0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.