Horof

شارك على مواقع التواصل

عبقري المستقبل

اليوم وأنا جالس في المقهى، أحتسي فنجان قهوة سوداء وأضع أمامي كتاباً أقرأ بعض سطوره من حين لآخر وأشاهد لقطات من التلفاز أمامي، أظنها مباراة كرة قدم في الدوري الإنجليزي لكن لم أنتبه أي الفرق تلك التي كانت تخوض المباراة.
كنت في غالب الأحيان أسهو بخيالي بعيدًا على كل ما حولي من ضجيج كؤوس القهوة وقنينات المشروبات الغازية التي تقرع من حين لآخر على طاولات الزبناء وأحيانًا تصفيقهم للخادم الذي كان يلبس بدلة باللون الأبيض والأسود كما اعتدت أن أراها في مقاهي النبلاء، والضجيج الذي يحدث من طرف محركات السيارات أمامي على الطريق. على أي، كانت هناك ضوضاء من هنا وهناك، كنت أنتبه إليها كلما عدت من سفر ذاكرتي الذي يطول أحياناً إلى أن أشعر بالملل.
في لحظة، جلس بجانبي رجل في متوسط العمر، شارب قصير ولحية سوداء، يرتدي جاكيت سوداء جلدية وسروالًا من الجين الأزرق، وكان يرافقه طفل صغير، كما يبدو أنه ابنه، كانت السعادة تغمر وجه هذا الطفل كأنه يرافق بطله. كنت أراقبهما بدون شعور وفي لحظة سهو رحبت بهما بابتسامة خفيفة، وأشرت لهما بحركة تدل على أنه ليس هناك مانع في الجلوس بجانبي. بعد أن طلب لنفسه فنجان قهوة خفيفة مع حبتين من السكر وطلب لابنه قنينة مشروب غازي صفراء، بدأ ذلك الشخص في الحديث معي، حيث قال لي: حرارة اليوم مرتفعة.
أجبته: نعم، مرتفعة جداً.
ثم صمت قليلاً واستأنف كلامه: لا نعلم كيف سيكون مناخ الأيام المقبلة؟
رددت عنه: في الحقيقة، لا فكرة لدي. كنت أجيبه باختصار واكتفي بتعزيز كلامه. بعد ذلك غيرت وجهتي للحديث مع الطفل الصغير، سألته عن اسمه وعن عمره ومستواه الدراسي، كان متحمسًا في الإجابة كأنه فرخ خرج للتو من غشاء البيضة ويريد الطيران من الوهلة الأولى. علمت من إجاباته أن اسمه علي، وعمره 11 ربيعًا وسيدرس الموسم المقبل في السادس ابتدائي. سألني هو كذلك عن اسمي وماذا أدرس، فأجبته عن أسئلته. أعجب بكوني سأدرس مادة الفيزياء، وأخبرني أنه يحب الفيزياء، سألته متعجبًا وماذا تعرف عن هذه المادة وأنت ما تزال في هذا العمر، أجباني أنه يعرف بعض الأمور من خلال اهتمامه بها عن طريق بعض القنوات التلفزية وكذلك هاتف أخيه الأكبر.
طيب، ماذا تعرف؟ جذب اهتمامي كثيرًا إليه وبدأت أطرح عنه أسئلة تخص الفيزياء، يبدو أنه يطمح لمعرفة المزيد عنها وبدأ يخبرني أنه لم يفهم بعد كيف يكتشف العلماء بعض الكواكب البعيدة وكذلك تحدث لي عن كروية الأرض والجدال القائم على صحة هذه "الحقيقة"، كما أنه ما أثار تعجبي أكثر حينما أخبرني عن إشكالية "الشق المزدوج" والتي لازال علماء الفيزياء يبحثون عن تفسير لها. في الحقيقة، انبهرت كثيراً لوجود طفل في هذا العمر ويعرف الكثير عن هذا العلم رغم أنه يفوق مستواه الدراسي بكثير في الوقت الذي يمكن أن نجد طلبة فيزياء أنفسهم لا يهتمون ببعض المواضيع العلمية والإشكالات القائمة في الفيزياء.
في الأخير، قدمت له عدة نصائح للاهتمام بدراسته في القسم أولاً وأن يزيد اهتمامه بهذا العلم، ولكن بشكل تدريجي، نصحته أيضاً بالاهتمام باللغة الانجليزية لكونها لا تدرس في المدارس العمومية هنا في أغلب المناطق بشمال المغرب.
في كل هذا الوقت، كان والده يمسك هاتفاً في يده ويتصفح الفايسبوك وما شبه ذلك من مواقع التواصل. تحدثت مع والده بخصوص هذا الكم الهائل من المعلومات وأخبرني هو أيضاً أن ابنه يقوم أحياناً بصناعة بعض الألعاب لنفسه عن طريق فتح ألعاب يشتريها له ويستعمل أيضاً في ذلك الكارتون وما إلى ذلك من الوسائل التي تساعده.
الشيء الذي جعلني أعجب بهذا الولد، كون أغلب الاطفال اليوم لا يهتمون سوى بالألعاب الالكترونية على هواتفهم أو هواتف آباءهم وبالأشياء التي لا قيمة لها في حياتهم.
علموا أبناءكم أن العلم هو مولد الحضارات.
وهكذا



استعداد للسفر الأخير

استيقظت صباح أحد الأيام الصيفية، كنت أعلم أنه آخر صباح لي فقررت أن أعد لنفسي فطورًا يليق بي، فطورًا أخيرًا ربما أتذكره في الحياة الأخرى. استمتعت بالأكل على موسيقى هادئة اعتدت على سماعها كثيرًا بدون أن أعرف من نظم حروفها، المهم أنها كانت تشبع روحي. نظفت أسناني واخترت أفضل الملابس التي أمتلكها. حلقت شعري وذهنته بقليل من الزيت كما كنت أفعل عندما يكون لي موعد مهم في العمل. خرجت لأطل على المدينة لآخر مرة.
ذهبت لبعض الأماكن التي كنت أعتبرها مساكن، مساكن الروح. دخلت مقهى في آخر الشارع وسط المدينة، في البداية ترددت في دخوله لخوفي من تذكرة فنجان القهوة فيه، طلبت عصيرًا بخليط من الفواكه وبعدها فنجان قهوة مر المذاق فربما لن يزول مذاقها في العالم الآخر. مر بعض الوقت وأنا أستمتع بشرب القهوة ومرور بعض السيارات أمامي كما أني كنت أحياناً ألقي بعض النظرات لهؤلاء الأغبياء على التلفاز في مستطيل أخضر.
لم أنتبه إن كان هناك شخص معي في المقهى فقد كنت أشعر أن المقهى في خدمتي أنا فقط. بعد أن أنهيت شرب القهوة، وضعت ورقة المائتي درهم على الطاولة وخرجت بدون أن ألتفت ورائي. سرت على الرصيف طوال الشارع، حتى وصلت لآخر نقطة كانت تؤدي مباشرة للشاطئ، أردت أن ألقي آخر نظرة على البحر. استمتعت برائحة البحر وصوت الأمواج وهي تلاطف الرمال الصفراء وبعدها اتجهت لأقرب حمام، أردت أن أسافر الى الحياة الأخرى دون أن أحمل معي وسخ هذه الحياة ولا رائحتها الكريهة.
لم يتبق لي سوى العودة إلى المنزل، الى غرفتي، بين الجدران الأربعة. كنت قد وضعت المشروب الذي سأسافر به على رف صنعته لأضع عليه أدوات النظافة.
علمت أنها الدقائق الأخيرة لي في هذه الحياة اللعينة، أردت أن أغمض عيناي حتى لا أرى معالم هذا العالم، لكن لم أستطع، بدأت أتذكر الماضي والأصدقاء وإنجازاتي في الدراسة والعمل، لم أستطع السيطرة على ذاكرتي، بدأت تخونني وتعود بي إلى اللحظات الجميلة التي عشتها.
أغمض عياني وأضع يداي على أذناي بدون جدوى، كم كانت الحياة جميلة، حتى تلك اللحظات التي كانت سيئة بدأت أتخيلها أنها هي من منحتني الشعور بالسعادة بعد اجتيازها، لا شيء يساعدني على حمل حقائبي، كل شيء يشدني لأبقى، يجذبني إلى الجلوس. بدأت أفقد السيطرة على حافلة السفر وبدأ الوقت يمر والقطار سيذهب دون أن يحملني ... إن الحياة حقاً جميلة ولا شيء سيدفعك للسفر منها إلا إذا وضعت نفسك على باب القطار ودفعت بها في لحظة من الثانية رغم ذلك ستندم في وقت أقل قبل الدخول الى عربة القطار.
لا أحد يشعر بجمالية الحياة حتى يبدأ بالاستعداد للسفر منها.
سنبقى، نعم، سنبقى حتى يريدنا الله أن نسافر إليه حينها سنكون سعداء ...
وهكذا




المرح كما كان

في مساحة خضراء متوسطة، بجوار سوق مغطى، تجلس العديد من الأجساد مختلفة القامة والجنس، نساء ورجال، أطفال وعجائز، عائلات والبعض يجلس منفرداً. أنا أجلس بجانب شجرة وحيدة الساق وتقبع فوقي أوراقها الخضراء، أضع سماعات في أذني، أستمتع بكتاب مقروء لمخائيل نعيمة.
هنا الكل يستمتع، الكل بدون استثناء، أمهات تستمتع بسعادة أطفالهم الذين يحاولون الوقوف بصعوبة ويسقطون على العشب الأخضر كلما استقاموا في الوقوف، وهم أنفسهم يستمتعون بضحكات أمهاتهم وبرطوبة العشب الأخضر. نساء تسترسل في الحديث بينهن حيث تحّذر أطفالهم من الابتعاد ويبدو أنهن يتحدثن عن مواضيع تحكي قصص عشنها في سفر عائلي أو زفاف ويستمتعن بذلك.
أطفال يركضون خلف كرة جلدية ويستمتعون بركلها لبعضهم. بعض الأشخاص يجلسون على كراسي اسمنتية ويشاهدون كلبًا يجري وراء كرة تنس يرميها له مرافقًا له، مرهق السن، والكلب يستمتع بالتقاط الكرة بين أنيابه الحادة ولعابه يسيل بدون توقف. بعض الأشخاص يجلسون بالقرب مني، يستمتعون بمشروبات غازية وبتدخين المخدّرات والدّخان يتصاعد من أفواههم إلى السماء يراقص الهواء ويعانق الحرية من سجن أفواههم كريهة الرائحة. بصوت مرتفع، يحاول كل منهم أن يظهر أنه المثقف من خلال المواضيع التي يتحدثون عنها، والتي تتغير بسرعة من حين لآخر، حيث أنهم تحدثوا عن لقاح كورونا وعن السياسة والهجرة السرية ونظرية المؤامرة وعن دوران الأرض وتغير المناخ والكوارث الطبيعية ... وكل هذا في بضع دقائق. كنت أستمع إليهم من حين لآخر وأستمتع بما أراه أمامي.
هنا لا مكان للهاتف إلا في جيبي، حاولت أن ألمح أحدهم يحمل الهاتف في يده، حتى كدت أستسلم، ورأيت شابًا واحدًا يضع الهاتف على أذنه، جالساً وحيداً بعيداً عن التجمعات العائلية، يظهر كأنه يحدث شخصاً مقربًا له، فهو يبتسم من حين لآخر ويبدو أن الحديث طويل بينهم.
الكل يستمتع بالأشياء التي حوله ولا أحد يشاهد فيديوهات اليوتيوب أو الفايسبوك، لا أحد يستعمل الهاتف من أجل الألعاب الإلكترونية. استغربت قليلاً لكن تذكرت أنها هي طبيعتنا، فالهاتف استعمرنا في كل أفكارنا وأكل كل وقتنا واحتل كل الأماكن التي نحن فيها. استغربت، لكن كيف لي أن أستغرب من طبيعتنا، بل يجب أن نعود لأنفسنا وأن نصنع وقتاً يخلو فيه الهاتف من تعاملنا وتصرفاتنا.
نستيقظ في الصباح وقبل غسل وجوهنا نفتح هواتفنا، نأكل وهوتفنا أمامنا، قبل ان نخرج من باب المنزل نفتح هواتفنا، نسير في الطرق ورؤوسنا منحنية للهاتف، أصبحنا نعبد الهاتف...
يجب أن نغير سلوكنا تجاه هذا الكائن الغامض الذي اجتاح كل شيء فينا، يجب أن نعود إلى أنفسنا ...



رمال الشاطئ


في عشية صيفية، كان يقلب جسده على الفراش، حيث لم يعد يستطيع الصبر على تحمّل الحرارة المفرطة التي تحتل الغرفة بأكملها، قرر أن يخرج وكان الشاطئ هو وجهته الأولى. خرج وانتظر الحافلة الزرقاء والقصيرة التي تحمل رقم 21، لم ينتظر كثيراً حتى رآها تشق طريقها بين الكثير من العربات كأنها أفعى مجلجلة وسط رمال الصحراء الحارة. ها هي وصلت، ركب فيها وكان محظوظًا هذه المرة، لم يكن هناك كثير من الركاب، حيث أحياناً لا يجد حتى مكانا ليضع فيه قدمه.
دفع ثمن التذكرة للسائق وأخذ التذكرة، مزقها ووضعها في جيبه. جلس على مقعد مكسور على غير عادته، لم يكن يجلس حين يتنقل في الحافلة الحضرية. وصلوا إلى محطة نزوله، أرسل إشارة للسائق حيث كان مستعداً بجانب الباب، فتح الباب وكان الوحيد الذي سينزل هناك. بعدها اتجه مباشرة للشاطئ، وبدأ يستمتع بالهواء البارد الذي يلامسه في وجهه آتياً من حقل موجات البحر، ويتجول بجانب تلك الموجات الرقيقة التي تلاعب الأطفال بالجوار.
كان المكان يعج وجوه مختلفة، أحدهم يلتقط الصور مع البحر وفتاة تكشف عن ساقيها "لا بل هي أعمدة آثار وليلي" تدخل الصرح أو عفوًا تدخل لتلاعب برودة المياه وشد انتباهه شخصًا يكتب على الرمال، أثار ذلك فضوله وأراد أن يعرف ماذا يكتب هنالك، اقترب قليلاً دون أن ينتبه أحد وقرأ هناك كلمة "أمي" وسط قلب والتقط لها صورة قبل أن تأتي عليها موجات البحر لتمسحها. أعجبت بذلك.
هنا أتته فكرة وبدأ يتجول ويقترب لكل من رآه يكتب على رمال الشاطئ، فهذا يكتب اسم حبيبته وأخرى تكتب اسم خليلها وربما بعضهم يكتبون أسماهم. وكلما كتبوا ذلك انتظروا أن تأتي عليها الأمواج كأنها لم تكن. أعجب بهذه المشاهد، ولكن بدأ يفكر: لماذا يفعلون هذا وأنا نفسي قد كنت أخذت صورة لاسمي مكتوب على تلك الرمال؟ لماذا كتابة تلك الأسماء بتلك الطريقة؟ فربما لأنهم يتمنون لو أن أصحاب هؤلاء الأسماء يتواجدون معهم على الشاطئ لأنهم يحبونهم ولكن هم الآن بعيدون عنهم أو ربما يريدون أن يرسلوا الصورة لهؤلاء كدليل أنهم كانوا بجانب البحر، أو كعربون على محبتهم لهم.
توالت الأسباب كثيرًا وكلها ممكنة. لكن لماذا الكتابة على الرمال ورمال الشاطئ بالتحديد؟ فالجواب الوحيد الذي يتبادر في أدمغتنا، هو أن تلك الكتابة لا تبقى هناك طويلاً، فهي تزول بسرعة. لن يبقى هناك اسمي ليطأ عليه المتجولون، ولن يبقى هناك اسم حبيبي ليعرفه المارون، ولن أترك هناك اسم أمي للعابرين.
هذه المشاهد تعبر كثيراً عن حياتنا، فالمدة التي يبقى هناك اسم من نحب هي المدة نفسها التي نشعر بها حين نفارقهم. نشعر أننا لم نحيا معهم سوى بضع ثواني، تمر كرمشة عين. تأخذهم منا الحياة كما تفعل الأمواج لتلك الأسماء، ولا يبقى لنا سوى الذكريات التي عشناها معهم الذكريات الجميلة فقط، تلك الذكريات تشبه الصور التي نأخذها للأسماء التي كتبناها على الرمال. صور جميلة لا تتحرك، تحمل الأسماء فقط، نبدأ في تغيير ألوانها على هواتفنا لتظهر جميلة أكثر، هكذا الذكريات مع أحبائنا، مهما كانت فهي تظهر جميلة حتى تلك اللحظات القاسية تظهر كشربة خمر مر يزيد جمالًا كلما زادت مرارته.
الأشخاص الذين نحب من أعماقنا لا يمكن أن نراهم أشخاصاً سيئون، دائماً نزين صورهم في خيالنا. فنحن نعتبرهم جزءًا منا فكيف لنا أن نكرههم يوماً ما ...
حافظوا على أحبائكم وعيشوا معهم كل الحياة واطلبوا الله أن تعيشوا معهم للأبد ...
وهكذا







0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.