Za7makotab

شارك على مواقع التواصل

الهدوء المعتاد في أركان الشقة، والجو شديد البرودة، واشتد هطول الأمطار الرعدية بالخارج، تسارعت أنفاسي فجأة وأنا أجلس منكمشة على نفسي في فراشي.
انقطع التيار الكهربائي ولكن ما زال الشمع بجواري منذ ليلة أمس، أضأت هاتفي حتى يتسنى لي إشعال الشموع وأمسكت بواحدة كبيرة ووضعتها بجواري، ولمحت المجلد القديم مرة أخرى فقلت بسخرية: "فلتقرأ العزيمة ليحضر خادم الألغاز"، ترهات وكلمات فارغة، نعم فهذا أنا وذاك حظي.......
قاطعني فجأة صوتٌ يأتي من أمامي في تلك العتمة قائلًا:
- أيتها البائسة التعيسة!
انتفضت من موضعي من شدة الفزع وأمسكت بالشمعة لتضيء تلك العتمة أمامي وهمست بصوت يرتجف:
- "من هنا؟"
شعرت بأنفاس ساخنة تقترب مني وشعرت بخطوات خفيفة على الأرض وبدأت الرؤية تتضح أمامي، تسمرت في مكاني وتساقطت الدموع من عيني بغزارة.



ما هذا الشيء؟
ليس بحيوان ولا بشر، داكن البشرة كالعبيد السود وله ذيل طويل يشبه ذيل النمور وله قرون صغيرة كالماعز، عيناه جاحظتان ولونهما أسود بالكامل.
كان يحدق بي ويقترب ثم يقترب.
"ما زلتِ تسخرين مني يا وصال؟"


وكانت تلك بداية رحلتي المرعبة مع
"خادم الألغاز".



وما دفعني لتلك المغامرة هو ما حدث لي في ذلك اليوم الذي لن أنساه أبدًا حين أتاني عز ووقف أمامي قائلًا:
- "أتيتكِ اليوم ليس مودعًا
لم آتِ إليكِ لأحدق في ملامحك للمرة الأخيرة
لم آتِ إليكِ لأُشبع عينيّ منكِ
لم آتِ إليكِ لأصف لكِ كم سأشتاق لتلك النظرات ولذاك الصوت الحنون الذي يُشبه خرير الماء المنهمر بين الأشجار والطيور
لم آتِ إليكِ قائلًا إنني لن أجد بديلًا لكِ ما حييت
ولن يسكن قلبي غيركِ مهما شقيت".

تنهدت وأنا أرتجف ثم قلت:
- ولماذا أتيت؟!
- أتيت لأرى شيئًا ما في تلك العيون. شيئًا سيحدد مصيري؛ إما أن أنساكِ للأبد وأفقد الأمل في عودتك، أو أعيش على حلم رؤيتكِ مجددًا.
صمتُّ للحظات وأنا أُمعن النظر به ثم قلت:
- وماذا رأيت؟!
ـــــ "رأيت عشقًا لن ينتهي مهما باعدت بيننا المسافات وطالت الأعوام.
خبئي دموعكِ، واهمسي لقلبكِ بأن تهدأ نبضاته قليلًا حتى لا أسمعها هكذا...
سلامٌ عليكِ وعلى قلبكِ يا حبي الأبدي".

(أيتها البائسة التعيسة).

غادر عز المكان الذي اعتدنا أن نلتقي به دائمًا، غادر بعد كلماتي القاسية حينما أخبرته أنني لن أستطيع الزواج منه ودون أن أُبدي أي أسباب، رغم أنني أعشقه حد الجنون، رغم أنني تجاوزت الثلاثين عامًا الآن وكلّ من هُن في مثل عمري لديهن أطفال ويعيشن حياةً سعيدةً مع أزواجهن.
لعلكم تتساءلون الآن لماذا تركته يغادر إلى بلاد لا أعرفها هكذا رغم عشقي له، حسنًا سأرضي فضولكم حتى وإن لم تقتنع عقولكم بما سأرويه..
أنا وصال في العقد الرابع من العمر، أعيش وحيدة في شقة فاخرة بمنطقة رشدي في الإسكندرية، تُوفي كلّ من أبي وأمي وأختي التي كانت تكبرني بخمسة أعوام في حادثٍ أليمٍ على الطريق الصحراوي في شتاء قارص البرودة منذ خمسة وعشرين عامًا، وكنا وقتها عائدين من رحلة زرنا بها الأهرامات والقلعة وخان الخليلي وغيرها أثناء إجازة نصف العام الدراسي.
كنت أنا الناجية الوحيدة من ذلك الحادث البشع، أصبت بجروح خطيرة وعدة كسور في يدي وقدمي ومكثت بالمشفى لشهر كامل لم أشعر فيه بما يدور حولي.
كان أبي من التجار الذين لديهم ثقل في تجارة الأخشاب وكان صاحب صيت وسمعة حسنة، وكان يشارك عمي في تلك التجارة حتى أصبحا من أكبر التجار ولديهم عدة مخازن وشهرتها (النونو) وذلك كان لقب العائلة، فأبي كان يدعى (إسماعيل النونو) وعمي (شهاب النونو).
حزن عمي كثيرًا على فراق أبي وتولى تربيتي من بعده وكان يحسن إليّ قدر المستطاع ولكن لم أشعر بالراحة في بيته، وبالأخص مع أبنائه الذين لم يكفوا يومًا عن مشاكستي والتنمر عليّ، وكانت زوجته على خلافٍ دائمٍ معه على أتفه الأسباب، مما جعلني أشعر دائمًا أن منزل عمي بمثابة حلبة مصارعة بيننا جميعًا، ولكن إحقاقًا للحق عمي حَافظَ على إرثي بما يرضي الله ولم يُنقص منه أي شيء وظل هو الوصي عليّ حتى أتممت الواحد وعشرين عامًا وكنت أنا ذاك في الفرقة الثانية بكلية الآداب قسم إعلام.
طوال فترة دراستي لم أستطع تكوين أي صداقات وكنت منطوية جدًّا على نفسي وكانت ابنة عمي معي في الجامعة نفسها ولكثرة الخلافات التي كانت تحدث بينها وبين الفتيات أو الفتيان قررت عدم الاختلاط بأي شخص وأصبحت كالمصابين بالتوحد حتى إنني عند عودتي للمنزل كنت أجلس بمفردي وأتناول طعامي بمفردي ولا أتحدث إلا بالقليل من الكلام.
كانت تصرفاتي تثير قلق عمي كثيرًا وكانت مادة غنية للتنمر عليّ من قبل أبنائه فقرر ذات يوم اصطحابي إلى أحد الأطباء النفسيين.
بعد عدة جلسات شخّص الطبيب حالتي بـ (الرّهاب الاجتماعي) ولذلك أتوجس خيفة من أي علاقة أو أي اختلاط حولي فهو حالة يصاب بها الشخص كنوع من القلق والخوف غير المبرر.
وأشار الطبيب أن السبب يعود إلى نشأتي وتربيتي منذ الطفولة، فكانت أمي حازمة جدًّا ومنعتني من التحدث مع الكبار أو أمامهم طوال الوقت وأيضًا أنني لم يكن لي رأي خاص بي طوال حياتي حتى دخولي الجامعة كان بتوجيه عمي وزوجته وهما من اختارا لي قسم الإعلام أيضًا.
ورجح الطبيب أن من أكبر الأسباب هو تلك الحادثة التي تعرضت لها مع عائلتي وظلت خالدة في ذاكرتي طوال سنين عمري.
وتأكد الطبيب من تشخيصه حين سألني عن بعض الأعراض فكنت أشعر دومًا بالجفاف الشديد في حلقي والتعرق رغم شدة البرد، والخفقان في القلب وعدم انتظام نبضاته وأحيانًا كنت أشعر بالتخدر في أطرافي أو الرعشة واحمرار الوجه.
طلب مني الطبيب محاولة الاختلاط بمن حولي وتكوين صداقات حتى يستطيع علاجي، وحث عمي على عدم تركي بمفردي لوقت طويل، ولكنني لم أستطع فعل ذلك فلقد تعودت وتأقلمت على الوحدة.
كنت مولعة بالقراءة وفي معظم أوقات فراغي كنت ألتهم صفحات الكتب وأنغمس بها وبالأخص تلك الكتب العتيقة والغريبة.
بعد تخرجي قررت البحث عن عمل يستهويني ولكن الرهاب الاجتماعي منعني من مزاولة أي مهنة، وتخصصي في الإعلام كان يحتاج الكثير من العلاقات الاجتماعية وكان ذلك شبه مستحيل بالنسبة لي.
كان هناك شيء آخر يستهويني وهو التصوير، طلبت من عمي كاميرا فوتوغرافية ذات دقة وجودة عالية وكنت أتجول كثيرًا على شواطئ الإسكندرية وبين المتنزهات وألتقط الصور النادرة وكنت أشعر بسعادة لا مثيل لها وأنا أفعل ذلك.
ولكن كان ينقصني شيء ما، رغم تمتعي بقدرٍ من الجمال، ورغم كل الإرث الذي تركه أبي لي لم أكن في أفضل حال، وداهمني الحزن مرة أخرى حين توفي عمي وكان عمري وقتها أربعة وعشرين عامًا، حزنت كثيرًا على فراقه فكان هو كل ما تبقى لي من عائلتي ومن بعد رحيله تبدلت معاملة زوجته لي وبدأت تقسو عليّ هي وأبناؤها، ولأتلاشى معاملتهم كنت أعود إلى المنزل دومًا في وقت متأخر لأنام دون أن يشعر بي أحدهم.

تزوجتْ ابنة عمي وأخوها الأكبر بعد وفاة عمي بعام، وذات يوم جلستْ معي زوجة عمي قائلة: "لا يمكنك المكوث معنا الآن؛ لأن ابني الصغير سيرتبط عما قريب هو أيضًا وقررت أن يتزوج هنا في بيت أبيه حتى لا أعيش وحيدة وأنا كبيرة في السن، ولذلك عليكِ البحث عن مكان آخر يأويكِ ولديكِ ما يكفيكِ من المال لتعيشي في راحة طوال حياتك".
لم يصِبني حديثها بالدهشة أو بالصدمة فكنت أتوقعه منها، وأيضًا فكرة أن أبحث عن منزل خاص بي أعيش فيه وحدي لم يكن عقبة في حياتي بل إنه شيء أفضله وبشدة، ولم أكن على علاقة طيبة بزوجة عمي وأبنائها منذ البداية، فتركت منزل عمي بهدوء وراحة، وقررت استئجار شقة مفروشة بشكل مؤقت حتى يتسنى لي الوقت لشراء شقة وتجهيزها على حسب رغبتي.

مرت الأيام والأعوام على نفس الحال وعلى روتين ثابت، أتنزه صباحًا لألتقط بعض الصور وأمرّ على أي مطعم لأتناول الغداء فيه ثم أتجول قليلًا في شارع النبي دانيال لأبحث عن الكتب النادرة وأعود بها إلى المنزل لقراءتها فلا أشعر بنفسي إلا في صباح اليوم التالي.
وفي يومٍ ما بينما كنت أتجول كعادتي على شواطئ البحر لأستنشق بعض اليود والهواء النقي وكانت الغيوم تزين السماء باللون الرمادي المحمل بقطرات الأمطار الخفيفة.
وقفت للحظة أدقق النظر في قوس قزح الذي ظهر فجأة وهو يحاوط البحر بكل أطرافه وكأنه يعانقه بلطف.
ابتسمتُ وحملت الكاميرا لألتقط تلك اللحظة الرومانسية المثالية ونظرت داخل عدسة التصوير وفجأة ظهر أمامها شخص ما وقف أمامي وحال بيني وبين قوس قزح، شعرت بالغضب وصحت به ليبتعد من أمامي.
التفت لي وارتبك بشدة حين لاحظ أنني كنت ألتقط صورة ما وأخذ يعتذر عن ذلك حتى تلاشى قوس قزح من أمامي في وهلة.
لا أدري لماذا تساقطت دموعي في تلك اللحظة وشعرت بضيق شديد وظل ذلك الشخص يصيح بي حتى أتوقف ليسألني عن سبب بكائي الذي لم أكن أدري أنا سببه.
وعدت في ذلك اليوم مبكرًا على غير عادتي وأول ما فعلته توجهت إلى الحمام لأغسل وجهي ونظرت إلى المرآة قائلة:
أيتها البائسة التعيسة.


في اليوم التالي قررت البحث عن شقة أخرى فلم أشعر بالراحة بالسكن في شقة بالإيجار، بحثت مطولًا ولكن لم يجذبني أي شيء وكلما دخلت واحدة شعرت بضيق شديد.
بعد عدة أيام من البحث وبينما كنت أتجول في طريق الحرية بمنطقة رشدي لفت نظري أحد الأبنية وتوجهت إليه مباشرة.
كان بناءً هادئًا وذا تصميم مختلف من الخارج، كان يبدو عتيقًا وقاتمًا رغم بنائه حديثًا فكانت الديكورات الخارجية تنقل الشعور بذلك.
توجهت بلهفة إلى الحارس وسألته عن توفر شقة تمليك في العقار، صمت الحارس قليلًا ثم طلب مني مرافقته إلى مكتب ما في الطابق الأرضي في العقار وقال إنه مكتب مدير التسويق الخاص بالعقار.
جلست معه وأخبرني بتوفر شقة واحدة في الطابق الثالث فقط وأن جميع الشقق تم تسكينها منذ تجديد العقار.
صعدت معه لمعاينتها وشعرت براحة شديدة عند دخولها فقد كانت هادئة جدًّا رغم ضجيج الشارع في الخارج، وكانت لا تحتاج إلى أي تشطيبات وهذا ما جعلني أتمسك بها، سيكون من الأسهل أن أشتري الأثاث فقط، وعقدت النية على شرائها برغم ثمنها المبالغ فيه.
وقعت العقد مع صاحب العقار بعدها بيومين وقررت السكن بها في أسرع وقت ووقفت أدقق النظر بأركانها من فرط سعادتي بها ثم خرجت من العقار لأذهب سريعا لشراء الأثاث.
عند خروجي قابلتني إحدى العاملات في شقة ما ونظرت إليّ بشكل حاد ومخيف ثم سألتني فجأة:
- " من أنتِ؟".
ترددت قليلًا ثم أجبتها:
- أنا ساكنة جديدة هنا.
فابتسمت بخبث وقالت:
- مرحبًا بكِ، أنا شادية وأعمل خادمة في إحدى الشقق هنا، سجّلي رقم الهاتف الخاص بي لأنك قد تحتاجين مساعدتي في ترتيب شقتكِ وبالأخص أن لا أحد يجازف بالدخول في ذلك العقار".
اندهشت من حديثها وسألتها عن السبب فقالت:
- ألم يخبركِ أحدهم قبل مجيئك هنا أن ذلك العقار هو ما يطلق عليه (عمارة العفاريت أو عمارة رشدي)؟!
تسمرت في مكاني للحظات محدثة نفسي "أيتها البائسة التعيسة" ثم نظرتُ إلى الخادمة شادية وابتسمتُ بسخرية قائلة:
- "بل أعلم ذلك، ولهذا أنا هنا الآن وأصرّ على السكن هنا".
ابتسمت شادية ورحبت بي مجددًا ورحلت وهي تؤكد عليّ ضرورة التواصل معها، لا تعلم أن أكره ما عليّ هو التواصل مع بقية البشر.
قررت الذهاب لمعارض الأثاث الفاخرة، لشراء ما يليق بتلك الشقة ويليق بتصميمها العتيق والأنيق ولم أفكر بالخرافات التي تثار حول ذلك العقار فقد نما لعلمي منذ أعوام أن كل يُقال عنها مجرد حكايات ليس لها دليل من الصحة.
دخلت أحد المعارض وجذب انتباهي الأثاث به، فكان هادئ الألوان ومتناسقًا وقيّمًا وقررت شراء كل ما يلزمني من هذا المعرض.
بعد التأكيد على كل الغرف والأنتيكات توجهت إلى صاحب المعرض لأتفق معه على الشراء والتوصيل وكافة التفاصيل، جلست أمامه وكان منهمكًا أمام جهاز اللاب توب خاصته وفجأة رفع عينيه ليرحب بي، ابتسم بدهشة ونظر مطولًا إليّ، وأنا كذلك تسمرت أمامه في صمت ثم تفوهنا في نفس اللحظة قائلين:
- "هل التقينا قبل ذلك؟".
ابتسم صاحب المعرض ووقف من على مقعده وتحرك ليجلس أمامي قائلًا:
- تذكرتك، منذ أيام قليلة التقينا على الشاطئ وكنتِ تلتقطين بعض الصور وبعدها بكيتِ بشدة ورحلتِ مسرعة.
استعدت شعور الغضب في تلك اللحظة وأصابني التوتر ولم أقوَ على الحديث، شعر هو بذلك وحاول أن يحثني على الحديث قائلًا:
- أعتذر عما صدر مني هذا اليوم رغم إنني لم أتعمد مضايقتك أو الوقوف أمام الكاميرا، دعيني أرحب بكِ لتشربي كوبًا من العصير معي إذا تكرمتِ، أنا عز صاحب المعرض وكل شيء تحت أمرك يا آنسة........
تلعثمت قليلًا وتفوهت بصوت ضعيف يكاد يختنق في حنجرتي وقلت:
- اسمي وصال.
- تشرفت بمقابلتك للمرة الثانية يا آنسة وصال وأتمنى أن يتكرر ذلك.
زاد توتري ووقفت فجأة أنظر إلى أركان المعرض للحظات ووقف هو الآخر أمامي وفجأة نظرت إليه قائلة:
- لقد اخترت عددًا من الغرف هنا وبعض الأنتيكات وسأترك لك شيكًا بحسابها ورجاءً أرسلها إلى منزلي في أسرع وقت ممكن.
لم أترك له مجالًا للحديث معي ومضيت الشيك وسجلت عنواني بشكل سريع وخرجت من المكان أسابق خطواتي.


وصلت إلى شقتي القديمة ثم جلست على فراشي أفكر فيما يصدر مني من أفعال ولمَ كل ذلك، فلم يستدعِ الأمر التصرف بتلك الفظاظة والغرابة مع عز، ولكن شخصيتي تغلب على تصرفاتي، ويلٌ لكِ أيتها البائسة التعيسة.

أرسل عز الأثاث في اليوم التالي ورتبت كل شيء بنفسي وقد خارت قواي تمامًا، فمساحة الشقة كبيرة جدًّا وتحتاج إلى عدة أشخاص لفرشها ولكن لا بأس.
لم أشعر بالخوف أبدًا وخاصةً أنني من هواة القراءة للروايات المرعبة ومشاهدة الأفلام المخيفة والخارقة للطبيعة منذ صغري ولكن ما لفت انتباهي رغم إشغال كافة الشقق في العقار أنني لم أسمع أي صوت يدل على وجود أحد الجيران هنا ولم أصادف مقابلة أحدهم أثناء صعودي وهبوطي من المبنى، ولكنها كانت لحظات عابرة في التفكير وابتسمت بعدها لأن هذا النوع من الهدوء يستهويني بشكل كبير.
وفجأة قطع صمتي جرس الباب وانتفضت في فزع من موضعي ثم التقطت أنفاسي وتوجهت إلى الباب وسألت مِن خلفه عمن هناك، ثم سمعت صوت شادية الخادمة ففتحت الباب بتأفف فابتسمت لي بوجه متجمد قائلة:
- أتيت لأعرض عليكِ المساعدة.
ـــــ أشكرك، لكن لا أحتاج إلى شيء.
دفعتِ الباب عنوة ودلفتْ بتطفل إلى الداخل وكانت تحمل في يديها لفافة ما.
أخذتْ تتجول في أرجاء الشقة وتتحسس الأثاث بيدها محدقة به وأنا في حالة من الاستياء من تصرفاتها العجيبة.
صحت بها فجأة قائلة:
- ماذا تفعلين؟ قلت لكِ لا أحتاج إلى شيء ولا تروقني تصرفاتك.
نظرتْ إليّ بحدة ثم قالت:
- تلك اللفافة لكِ.
قلتُ بدهشة:
- لي أنا! من الذي أرسلها وماذا بداخلها؟
ــــ لا أدري افتحيها بنفسك لقد تركها شخصٌ ما مع الحارس وأخبره أن يسلمها لكِ وطلبت منه أن أوصلها لأرى إذا كنتِ في حاجة للمساعدة ولكنكِ لا تقدّرين ذلك، حسنًا خذي لفافتك وسأرحل.
أمسكت باللفافة وبدأت في فتحها ووقفتْ شادية بجواري لترى ما بداخلها فنظرتُ إليها في غضب وطلبت منها المغادرة.
رحلتْ وهي تتمتم قائلة:
- حتى لم تشكرْني ولو كذبًا، فتاة متعجرفة.
لم أعِرها انتباهي وفتحت اللفافة فوجدت بداخلها علبة من الحلويات وورقةً مكتوب عليها بعض الكلمات.
"أتمنى أن تكوني بخير واقبلي مني تلك الهدية البسيطة لأبارك مسكنكِ الجديد وتعاملكِ معنا يا آنسة وصال.... تحياتي معرض عز للموبيليا".
اندهشتُ مما فعله عز ولاهتمامه بي ولكن لعله يفعل ذلك مع جميع عملائه.

انتهيتُ من فرش الشقة وأصبحتْ أكثر من رائعة ومتناغمة في ألوانها وهدوئها، وجلست أقرأ أحد الكتب الشيقة وأنا أحتسي كوبًا من الكاكاو الساخن وفجأة سمعت عدة أصوات غريبة تأتي من أعلى السقف كخطوات أشخاص وهمهمات غير واضحة فابتسمت محدثة نفسي: "وأخيرًا صدر صوت للجيران هنا".
في اليوم التالي بدأت ممارسة هوايتي المعتادة في التنزه وكنت أحتاج إلى شراء طعام لأضعه في المُبَرِّد لأتفنن في صنع الأكلات في غرفة طعامي الجديدة.
وبينما كنت أسير على الشاطئ كعادتي وجدت "عز" يقف أمامي مبتسمًا، سرت ببعض الخطوات إليه في ضيق ودهشة فألقى عليّ السلام ولكنّي لم أجبه وقلت بحدّة:
- ماذا تريد مني؟ أتراقبني أم ماذا؟ ولم يكن هناك داعٍ لتلك الحلوى التي أرسلتها إليّ.

أشار بكلتا يديه لأهدأ قليلًا ثم قال:
- أعتذر فلم أقصد إزعاجك وأنا لا أراقبكِ أبدًا ولم أكن أدري أنكِ تمرّين من هنا كثيرًا، أنا فقط آتي إلى هنا بشكل معتاد لأمارس رياضة السير وقابلتك بمحض الصدفة.
شعرتُ بالخجل الشديد واعتذرت إليه عن طريقتي الفظة وتسرعي في الحكم عليه وتحركت من أمامه لأرحل بعيدًا فاستوقفني قائلًا:
- انتظري لحظة، لماذا أنتِ هكذا؟ ولماذا يبدو عليكِ الحزن الشديد دائمًا؟
تبدلت ملامح وجهي في غضب مجددًا وصحت في وجهه قائلة:
- "حسنًا لتظهر حقيقتك الآن؛ لماذا يبدو الحزن على عينيكِ؟ وماذا بكِ؟ وتسترسل في الحديث كبقية الرجال، تشبهون بعضكم كثيرًا، انظر يا هذا لا تغرّك ملابسي الأنيقة وهيئتي التي توحي بأنني من تلك الفتيات من الطبقات العالية التي يمكنها التحدث مع أي شخص برقة ودلال فلست من هذا النوع إطلاقًا ولا أحب التحدث إلى أي شخص والآن دعني وشأني وإياك أن أراك مجددًا ولو بمحض الصدفة كما زعمت..... فهمت".
لم يتفوه بكلمة وكان فقط ينظر إليّ في حيرة ورحلت من أمامه في غضب شديد.

مر يومان ولم أخرج من الشقة، حتى شعرت بالملل الشديد وفكرت في زيارة زوجة عمي -رحمه الله- ولكن تراجعت عن تلك الفكرة فلم تحاول حتى التحدث معي عبر الهاتف بعد مرور تلك الأعوام وكأنها سعيدة بالتخلص مني.
تساءلت بيني وبين نفسي كيف يمكن لأحدهم أن يكون قاسيًا لهذه الدرجة مع شخص لم يسبب له أي ضرر وعاش معه في سلام لسنوات طويلة وترعرع يومًا بعد يوم في بيته وأمام عينه، لو كنت حيوانًا تربيه لكانت اشتاقت إليّ هي وأبناؤها ولو قليلًا، ولكن من الممكن أن أكون سببًا في تلك المعاملة الجافة فقد كنت دومًا منغلقة على نفسي وأعيش معهم ولكن في وحدة تامة.
خرجتُ من العقار في وقت متأخر لأتنزه في أحد المولات وكنت أسير بخطوات ثقيلة وشاردة تمامًا لأصعد في المول من طابق لآخر دون أن أشتري أي شيء.
فجأة في أحد محلات العطور لمحت شخصًا ما، وفي اللحظة نفسها وقعت عينه عليّ، إنه هو صاحب معرض الموبيليا؛ عز، شعرت بالخجل في تلك المرة فيبدو أن القدر يرتب لقاءنا بالصدفة في كل مرة ولم يتعمد أبدًا رؤيتي.
نظر إليّ في دهشة للحظات وعزم على الوقوف من مقعده ثم تراجع مرة أخرى وصرف نظره عني وعاد لحديثه مع الشخص الذي يجلس معه.
رد فعله كان طبيعيًّا بالنسبة لي بعد ما صدر مني تجاهه فبالتأكيد لن يحاول محادثتي مجددًا.
شعرت بالضيق ولا أدري لماذا، كان هناك شيء بداخلي يتمنى أن يحادثني وشيء آخر يقول لي ارحلي سريعًا، أتدرون ذاك الشعور حينما تقابلون شخصًا ما وتشعرون أن مصيركم مرتبط ببعضكم البعض، أو إنكم التقيتم من قبل في عالم آخر؟
هذا كان شعوري تجاه عز ولا أدري لماذا رغم خوفي الشديد من الاختلاط بأحدهم أو التقرب منه.
بالفعل خرجت من المول وعدت إلى شقتي التي يسودها الهدوء القاتل وبعض الهمهمات الغريبة التي تصدر من الأعلى.

في اليوم التالي خرجت لأتنزه ولكن قبل مغادرتي سألت الحارس:
- دائمًا ما ينشط الجيران ليلًا ويقومون بحركات عالية وكأنهم يسيرون بقوة ويحركون الأثاث رجاء أخبرهم أن يفعلوا ذلك في الصباح.
اندهش الحارس قائلًا:
- يا آنسة وصال الطابق الرابع لا يسكنه أحد، معظم الجيران اشتروا الشقق ولكن لم يسكنوا بها حتى الآن وهذا الطابق خالٍ تمامًا.
فتحت فمي بدهشة فابتسم قائلًا:
- بالتأكيد إنك تتوهمين ذلك أو يأتي ذلك الصوت من العقار المجاور لنا فلا تفكري كثيرًا.

رحلت وقد انتابني القليل من الخوف ولكن لعلني أتوهم ذلك، في ذلك اليوم تعمدت الذهاب إلى الشاطئ الذي يوجد به عز، ووقفت هناك لبعض الوقت ولكن لم يظهر، فتكرر ذهابي للمكان يومًا بعد يوم ولكن دون جدوى ووجدتني فجأة أقف أمام معرض الموبيليا الخاص به ولا أدري لماذا، أحيانًا يسوقنا القدر إلى حيث يريد القلب دون أن نفكر أو نشعر.
وجدت "عز" جالسًا على مكتبه من بعيد فلمحني، وما إن لمحني حتى هرولت لأختفي من أمامه وعدت أدراجي وأنا أعنف نفسي على فعلتي تلك.
وفجأة رن هاتفي برقم غريب، في الأساس لا يحادثني أحدهم إطلاقًا والهاتف ما هو إلا وسيلة لطلب أشياء أو متابعة مواقع التواصل الاجتماعي.
أجبت على المتصل لأجده هو على الخط الآخر وكان صوته شديد التوتر وكأنه لا يدري ما سيقوله.
حدثته قائلة:
- لقد مررت بالصدفة من أمام المعرض ولم..........
قاطعني قائلًا:
- لم أوجه لكِ أي سؤال ولكن أحيانًا نفهم الصدف بشكل خاطئ.
ارتبكت قليلًا ثم قلت:
- أعلم أنني تسرعت في الحكم عليك وأقدم اعتذاري ولكن لماذا تحادثني الآن.
ـــــ لا أدري ولكن شعرت أنني أحتاج لذلك.
استرسلنا في الحديث معًا ولا أدري لماذا وعن ماذا كنا نتحدث ولكنني لأول مرة أشعر بحاجتي لذلك رغم قلقي الشديد ولأول مرة أفعلها ولكن شعرت براحة غريبة وانجذاب شديد لعز.
لفت انتباهي طريقته المميزة والهادئة في الحديث وإنه مستمع جيد جدًّا وجاد وخفيف الظل في الوقت نفسه غير إنه وسيم وأنيق جدًّا، حقًّا لم أقوَ على مقاومته تلك المرة، وكانت تلك بداية النهاية فمن بعدها تكرر الحديث بيننا ثم تكررت لقاءاتنا ويومًا بعد يوم انجذبنا لبعضنا البعض وأخبرته عن قصتي من البداية والغريب أنه يعاني من الوحدة والفراغ مثلي تمامًا.
لم أفوت يومًا لم أقابله فيه، نحكي عن كل شيء يخصنا وعن أي شيء، ولكن كنت أشعر دائمًا أن هناك حزنًا غريبًا في عينيه وسألته ذات مرة عنه فأجاب:
- هناك سر صغير يخصني ويسبب لي الضيق، حادثة وقعت في حياتي منذ أعوام وأثرت كليًّا بي وجعلتني أخشى الاقتراب من أحدهم بعدها وفضلت العيش وحيدًا، لقد جعلتني أفكر أيضًا في الرحيل بعيدًا عن هنا لبلد آخر، وتجارتي لا تجدي نفعًا أيضًا هنا مع كل الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد، الناس تبحث عن كل ما هو قليل في سعره ويفي بالغرض، وتزداد تكلفة صنع الموبيليا يومًا بعد يوم ولا يوجد بيع بالشكل المرضي، وأنا لا أجيد سوى تلك التجارة ولهذا ومع كل تلك الأسباب فكرت مليًّا بتغيير حياتي بكل ما فيها والابتعاد عن الذكريات.
قلتُ له بدهشة:
- وما هي تلك الحادثة؟ وهل ستنوي الرحيل بالفعل؟

صمت عز للحظات ثم أردف قائلًا:
- لا أعلم ربما لو كان أحدهم معي سأبدل رأيي ولكن لا عليكِ الآن وسيأتي اليوم لتعرفي هذا السر ولكن المهم الآن أنكِ تخطيت ذاك الحاجز المنيع وعزفتُ عن المضي وحدي بسبب وجودك بجانبي، فلأول مرة أشعر بذاك النبض الذي يهاجم القلب من أجل شخص بعينه، شعور جميل ومخيف في الوقت نفسه.
ـــ وما المخيف فيه يا عز؟
ـــ أخاف من الفقد مرة أخرى، أخاف من الفراق والحرمان.
ـــ إذًا لقد أحببتَ من قبل.
ـــ لم يحدث، لم يكن هكذا فلم أشعر بما أشعر به معكِ الآن، إنه شيء جديد يقتحم فؤادي يا وصال رغم حرصي على أن أكون وحيدًا.
ـــ تشبهني كثيرًا يا عز.
ـــ كيف؟
ـــ شعورك بالوحدة، عدم الرضا عن شكل حياتك، تخوفك من القرب من أحدهم.
ـــ ولكن هذا الخوف تلاشى وأصبح خوفًا من نوع آخر، كما قلت؛ الخوف من الفراق، وصال عديني بألا نفترق مهما كان ومهما حدث.
ـــ ليس الآن يا عز.
ـــ ألا تحبينني؟
ـــ بلى ولكن......
حاول عز لمس يدي وقتها ولكن شعرت ببرودة تسير في جسدي ودوار، مرة أخرى "ذاك المرض اللعين متمسك بي" ولكني أريده في حياتي، فهو الوحيد الذي يملأها بهجة وسعادة وأمانًا الآن، فمن حيث لا ندري تحول الانجذاب إلى تعلق، والتعلق تحول إلى تعود، والتعود تحول إلى عشق وغرام من نوع فريد.
هو الوحيد الذي تقرب مني دون مصلحة، أحبني بكل عيوبي واضطرابي وتقلبي، أحبني دون شروط أو قيود، يهتم بأدق تفاصيلي، هو من يحادثني يوميًّا ليقول لي:
"كيف حالك؟
هل أنتِ بخير؟
بماذا تشعرين؟
هل تناولتِ طعامكِ؟
لا تجلسي بمفردك فأنا هنا؟
لا تذهبي للطبيب بمفردك فأنا هنا؟
أنا معكِ وبكِ ومنكِ ما دمت حيًّا"
هو من قاسمني كل شيء؛ سعادتي، حزني، غضبي، وحدتي، حتى لحظات مرضي، ولكن يظل هناك شيء بيني وبينه، هناك هذا الخوف الذي يجعلني أعزف عن تكوين أسرة.
تساءلت دومًا، هل سأكون زوجة صالحة مع كل تلك العقد بداخلي؟
هل سأكون أمًّا صالحة وأربي أبنائي ليكونوا أسوياء وغير مصابين بأي عقد؟
هل سأقوى على فعل ذلك؟!
هل يحبني حقًّا وسيكون مخلصًا ووفيًا لي؟!
كل هذا وأكثر كان يطاردني وأنا معه طوال الوقت، أضحك وبداخلي ألم، أهمس في حديثي معه وبداخلي صراخ، أتحدث بحساب وبحرص شديد وبداخلي حب ومشاعر فيّاضة أريد أن أبوح بها، تقف ساكنة في قلبي، تنبض برفق ورقة حتى أحب الحياة، جزء مني يريده هنا معي والآخر يريده أن يرحل. وهكذا كنت معه دائمًا طوال ستة أشهر، أهرب من الاعتراف بحبي بينما هو يبوح بكل ما بداخله بالكلام وبالأفعال، حقًّا عز شخص مثالي في حبه ورومانسيته ولكنني ما زلت مقيدة بهذا الخوف بداخلي، لقد كان طويل البال عليّ وعلى جنوني حتى جاء هذا اليوم.
فبعد مرور شهرين آخرين قرر عز فجأة التقرب مني أكثر وبات لا يقوى على الابتعاد عني لحظة وقرر أن يرافقني في كل لحظاتي وأن يحطم هذا الحاجز الموجود بيننا، في هذا اليوم قابلني كالعادة ولكن تحدث بشكل جدّي على غير العادة وعرض عليّ الزواج لنكون معًا إلى الأبد.
في تلك اللحظة انقبض صدري وشعرت بضيقٍ شديدٍ وتسارعت نبضاتي وكأنني حوصرت داخل خندق ما، أنهيت حديثي معه فجأة ورحلت مسرعة إلى شقتي.
حاول أن يحادثني مرارًا وتكرارًا ولكنني تعمدت الهروب منه، بكيت وبكيت كثيرًا على أفعالي تلك، مرضي اللعين يهاجمني مجددًا، ذاك الرهاب قرر أن يلازمني بقية عمري، أنا هكذا أعشق كوني وحيدة ولا أقوى على تكوين أسرة أو أن أكون فتاة مسؤولة عن أبناء ورجل وكل تلك الأمور....
"دعيه يا وصال فهو يستحق الأفضل"
هكذا حدثت نفسي
"تبًّا لكِ أيتها البائسة التعيسة".

بعد شهرين من محاولات عز المستميتة للحديث معي أرسل لي رسالة قائلًا:
"وصال.. لقد نويت الرحيل وقمت ببيع المعرض هنا وسأغير تجارتي في مجال آخر ومكان آخر، سأرحل بعيدًا عن مصر وعنكِ، كم كنت أتمنى أن تكوني معي ولكنكِ أبيتِ ذلك دون أن تخبريني عن السبب، حتى وإن كان هناك شخصٌ آخر يسكن قلبكِ، كل ما أتمناه الآن هو رؤيتكِ قبل مغادرتي، أراكِ للمرة الأخيرة، ورجاءً لا تردي طلبي".
بكيت بشدة وقررت مقابلته للمرة الأخيرة فكم سأشتاق إليه.
تركني عز بنظراته التي يملأها الحزن والأسى، تركني دون أن يعرف حقيقة ما أكنه له وسبب ابتعادي عنه، كنت أرجوه من داخلي بأن ينتظر أو يساعدني في تخطي هذا المرض اللعين ولكنني كعادتي أتصرف بغباء لأضيع حب عمري من بين يدي.

رحل عز، وسرتُ كالتائهة في الشوارع وحملتني خطواتي إلى شارع النبي دانيال لأمارس هوايتي المعتادة في البحث عن الكتب القديمة ولكن في تلك المرة قررت شراء رواية ما تتحدث عن الفراق والحب المستحيل والبحث عن كتاب يحتوي على تفاصيل مرض الرهاب وكيفية التخلص منه.

بينما كنت أواصل البحث بين الكتب عثرت على مجلد غريب الشكل ومطموس المعالم من الخارج، فسألت صاحب المكتبة عن ماهيته فقال:
- لا أعلم فقد أحضره لي صديق مع بعض الكتب لأبيعها، ولكنه كتابٌ قديمٌ جدًّا ومهترئ الصفحات ولا أعتقد أن ينجذب إليه أحد.
فتحت صفحاته وكانت شديدة الاصفرار وبعض الكلمات لا تظهر بوضوح، ولكن يبدو بوضوح أنه يحتوي على معلومات عن السحر والجنّ.
لمعت عيناي من الفضول وقررت شراءه وفوجئت أن صاحب المكتبة طلب مني ثمنًا بَخْسًا له وكأنه يريد التخلص منه.

عدت به إلى شقتي وجلست على فراشي وأنا أمسك برواية تتحدث عن الفراق وبدأت في قراءتها، كان وجه عز يطاردني في كل كلمة، وكل سطر، وكل صفحة، وغرقت عيناي بالدموع لتبلل صفحات الرواية.
استسلمتُ لإحساسي المؤلم وانهرت بقوة وصرخت عاليًا متمنية عودة عز، أمسكت بالهاتف لأرسل له حتى يحادثني وأخبره أنني لن أقوى على فراقه ولكنه لم يستقبل تلك الرسالة فحاولت الاتصال به ولكن الهاتف كان مغلقًا.... لقد رحل وفات موعد اللقاء ولا أدري أين ذهب فلم أسأله حتى قبل مغادرته عن ذلك.
شعرت بالندم الشديد وغفوت وأنا أحتضن تلك الرواية وهاتفي إلى أن استيقظت فجأة على صوت صراخٍ عالٍ يأتي من الأعلى.
وقفت بهلع وهرولت إلى الشرفة لأرى ماذا يحدث ولكن ساد الصمت تماما ثم خرجت بخطوات ثقيلة عند باب الشقة ولم أجد أي شيء.
بالتأكيد توهمت ذلك بسبب حالتي النفسية تلك.
كانت الثانية بعد منتصف الليل، عدت إلى فراشي وأنا أفكر في عز وأين هو الآن وفيم يفكر وبماذا يشعر، فبكيت مجددًا حتى وقع نظري على منضدة بجواري وضعت عليها ذاك المجلد القديم ووجدتني ألقفه دون أن أدري وبدأت في تصفحه.
الكثير من الطلاسم غير الواضحة وغير المفهومة، وأخذت أقلب في صفحاته بشكل عشوائي حتى لمعت عيناي فجأة عند عنوان ما "طلسم لجلب خادم الألغاز"
اندهشتُ من العنوان وبدأت في قراءة الصفحة ووجدت شيئًا عجيبًا وهو عن كيفية تحضير خادم الألغاز ووظيفته أن يلبي أي طلب مهما كانت صعوبته، ولكن لماذا سمي بهذا الاسم؟
حدثت نفسي قائلة: "لعله يأتيني بحبيب قلبي عز فلمَ لا أجرب ذلك؟!"، وبدأت في التركيز على خطوات تحضيره وكانت بسيطة إلى حد ما وهي كالآتي:
"أشعل بعض البخور في كل أركان الغرفة ثم أشعل عددًا من الشموع على هيئة دائرة حولي، ثم أقرأ آيات معينة من بعض سور القرآن الكريم وأردد بعدها عزيمة ما خاصة بذاك الخادم وأنتظر للحظات حتى يظهر أمامي ويحادثني"
ولكن كانت هناك بعض الشروط عند تحضيره وهي:
ألا أصرفه قبل تنفيذ ما يقوله
وإنه لن يحقق لي أي طلب إلا بمقابل معين ليس به ضرر
وإنه سيلازمني طوال الوقت
وإنه من الجن المسالم
ولكن إذا خالفت الشروط قد يأخذ روحي.
حسنًا لا بأس فقد أثار فضولي وأيضًا كل شيء يهون مقابل عودة عز حتى وإن كانت حياتي هي الثمن.
مرت ساعة وأنا أجلس في مكاني أرتجف قليلًا وفي انتظار ظهور هذا الخادم ولكن يهيمن الصمت على المكان ولم يظهر أي شيء.
راجعت شروط التحضير فلربما أخطأت في شيء ما ولكن لا يبدو ذلك فقد طبقت كل ما تم ذكره في العزيمة ولكن لم يظهر أي شيء.
مرت لحظات أخرى وشعرت بالملل والإرهاق الشديد وتأففت وأنا ألقي بالمجلد أمامي وأطفأت كل الشموع وقررت الذهاب لفراشي لأنام قليلًا، كان يومًا صعبًا ومؤلمًا وساعاته طويلة جدًّا، وغفوت دون أن أهتم بأي شيء حتى جاء اليوم التالي.
شعرت بضيقٍ شديدٍ أثناء جلوسي في شقتي وكادت الدموع تخنقني، وسخرت من نفسي لما فعلته في الأمس وبما توهمت وإني اعتقدت أن خادمًا من الجن قد يمكنه مساعدتي.
ولماذا لم أساعد نفسي من البداية؟
لماذا فرطت فيمن أحب بتلك السهولة؟
حقًّا لا نعرف قيمة ما بين أيدينا إلا وقت ضياعه أو تلاشيه.
خرجت لأستعيد ذكرياته معي، وتحدثت مع الأماكن الخالية من صوته قائلة: "ليتكِ تعودين به، ليتكِ تأتينني به، ليتك تخبريه أنني لا شيء من دونه".
كنت لا أريد العودة إلى المنزل وظللت أمشي طويلًا حتى تأخر الوقت واشتدت برودة الجو فعدت إلى المنزل وأنا أسحب خيبتي وضيق صدري من خلفي.

الهدوء المعتاد في أركان الشقة، والجو شديد البرودة، واشتد هطول الأمطار الرعدية بالخارج، تسارعت أنفاسي فجأة وأنا أجلس منكمشة على نفسي في فراشي.
انقطع التيار الكهربائي ولكن ما زال الشمع بجواري منذ ليلة أمس، أضأت هاتفي حتى يتسنى لي إشعال الشموع وأمسكت بواحدة كبيرة ووضعتها بجواري، ولمحت المجلد القديم مرة أخرى فقلت بسخرية: "فلتقرأ العزيمة ليحضر خادم الألغاز"، ترهات وكلمات فارغة، نعم فهذا أنا وذاك حظي.......
قاطعني فجأة صوتٌ يأتي من أمامي في تلك العتمة قائلًا: أيتها البائسة التعيسة!
انتفضت من موضعي من شدة الفزع وأمسكت بالشمعة لتضيء تلك العتمة أمامي وهمست بصوت يرتجف:
- "مَن هنا؟".
شعرت بأنفاسٍ ساخنة تقترب مني وشعرت بخطوات خفيفة على الأرض وبدأت الرؤية تتضح أمامي، تسمرت في مكاني وتساقطت الدموع من عيني بغزارة.
ما هذا الشيء؟
ليس بحيوان ولا بشر، داكن البشرة كالعبيد السود وله ذيل طويل يشبه ذيل النمور وله قرون صغيرة كالماعز، عيناه جاحظتان ولونهما أسود بالكامل. كان يحدق بي ويقترب ثم يقترب.
"ما زلتِ تسخرين مني يا وصال؟".
"قالها ذاك الكيان فارتجفت بشدة وأدركت في تلك اللحظة أنه هو خادم الألغاز، لقد حضر بالفعل، ولا أدري أأسعد بذلك أم أموت رعبًا.
ظل يحدق بي بخبث وحاولت جاهدة استجماع قواي وقلت له:
- أنت خادم الألغاز؟
ـــــ وهل تنتظرين غيره؟!
ـــــ ولماذا لم تأتِ ليلة أمس؟
ـــــ لأنني هكذا أعشق مفاجأة مَن أتعامل معه لأرى مدى قوته، ولكنكِ قوية بعض الشيء فمن فعلها قبلك توقف قلبه ما إن لمحني....
ارتجفتُ مكاني دون أن أسأله عن شيء آخر حتى صاح بي قائلًا:
- لماذا دعوتِني يا وصال، ماذا تريدين مني؟
ابتلعت ريقي وقلت بتلعثم:
- قرأت أنك يمكنك تحقيق بعض الأمنيات وأنا في حاجة أن تحقق لي أمنية واحدة.
ضحك بصوتٍ عالٍ وظل يقفز ويقفز حولي حتى جنّ جنوني فصحت به:
- "توقف".
وقف ساكنًا فجأة ثم صحت مرة أخرى وقد استجمعت كل طاقتي قائلة:
- "هل ستخدمني أم أحرقك الآن؟".
أمسكت بالمجلد فنظر إليّ الخادم في ذعر ورهبة ثم قال:
- "حسنًا سأساعدك".
ــــ ما اسمك يا هذا؟
ــــ اسمي شعضوض.
لم أتمالك نفسي من الضحك، وشعر الخادم بالغضب فصاح بي:
- " لا تسخري مني".
ــــ حسنًا يا شعضوض لقد أضعت حب عمري "عز"، وغادر منذ يومين ولا أدري إلى أين ذهب وأشعر بالندم كثيرًا وأريد أن يعود لي ونتزوج ونعيش معًا.
قاطعني شعضوض قائلًا:
- على مهلك يا وصال أنا لست بعفريت المصباح السحري لأنقلك من مكان لآخر في لمح البصر أو أجلب لكِ شخصًا ما في لمح البصر، أنا نوع من أنواع الجن ولكن بشكل مختلف، أساعدك ولكن من خلال لعبة صغيرة، فأنا أعشق الألعاب ويجب على مَن يحضرني أن يكون على علم بذلك.

اندهشت قائلة:
- لا أفهم قصدك!
ــــ حسنًا سأوضح لكِ؛ تريدين مني مساعدتك في العثور على حبيبك، سأفعل ولكن بطريقة مختلفة، واعلمي أنه لا يمكنكِ التراجع فما إن حضرت لن أتمكن من الانصراف إلا بعد انتهاء اللعبة وإذا رفضتِ أن تكمليها سألتهمك.
ضحك بسخرية ثم صمت فجأة وأنا في حالة من الذهول، اقترب من وجهي بأنفاسه الكريهة قائلًا:
- ستتعرضين لعدة ألغاز، كل لغز تجدين حله ينقلك إلى اللغز الذي يليه ومع حل كل لغز سأعطيكِ مفتاحًا يخص المكان الذي يعيش فيه حبيب قلبك.
صحت في وجهه بغضب:
- ولماذا لا تخبرني عن مكانه مباشرة ولمَ تلك اللعبة؟
ــــ لأنكِ أحضرتِ جني الألغاز وليس "زعزوع" المتخصص في جلب الحبيب.
ــــ حسنًا سأصرفك وأحضر "زعزوع".
ضحك شعضوض بصوت عالٍ قائلًا:
- لا يمكنكِ فعل ما يحلو لكِ وكيفما شئتِ، لا يمكنني الرحيل إلا بعد حل الألغاز أو تموتين........ لنرى ماذا ستختارين؟

ارتبكت بشدة وتشتت عقلي وبعد تفكيري للحظات قلت له:
- حسنًا حياتي مملة في الأساس فلمَ لا ألعب تلك اللعبة للتسلية على الأقل، إنها مجرد فوازير كتلك التي كنت أشاهدها في رمضان وكنت أحلها بسهولة.
ـــــ هاهاهاهاهاها... ولكنها ليست بفوازير يا عزيزتي، إنها ألغاز ستكونين بداخلها وأحد أفرادها وتخرجين عندما تنتهين من حلها، مستعدة لنبدأ أيتها البائسة التعيسة؟
ـــــ لا أفهم ولكن لا باس لنبدأ.

طلب مني شعضوض أن أغمض عيني للحظات ثم أفتحها.
أغمضت عيني وبعد لحظات فتحتها لأجدني كما أنا جالسة على فراشي.
نظرت حولي لأرى الخادم ولكنه قد اختفى، حدثت نفسي قائلة: "ما تلك السخافات، هل يستهزأ بي هذا الجنّ أم ماذا؟!".
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.