Za7makotab

شارك على مواقع التواصل

مرآتي




مرة أخرى أجدني تائِها في عينيكِ سابحا بلا إرادة، مستمتعا بلا نفور ولا تذمر ولا متعجل الوصول إلى مرفأ، ربما أفتقد هذه السباحة منذ التقينا آخر مرة!
حبيبتي، تتحير أفكاري عندما أنظر لنفسي في المرآة وأرى صورتي التي تعشقينها، ويراودني السؤال هل تعشق حبيبتي هذا الشعر الأبيض؟ وهذا الوجه المتعب؟ أم تلك الخطوط التي رسمتها الأيام على جبهتي؟! أم تلك الهالة الداكِنة أسفل عينيّ؟
أتأمل وجهي في المرآة لألاحظ أثر الفترة الماضية، من توغل الشيب في شعرى، ومن تباعد خصلات الشعر في رأسي وكأنما تزداد الفرقة بينهم، وأرى خطوط جبيني الثلاثة الرأسية والخطين الأفقيين يزداد عمقهم أكثر، فقديما لم تكن تلك الخطوط تظهر إلّا بسحب جبهتي لأعلي أو عندما كنت أقارب بين حاجبييّ ... نعم هكذا مثلما تفعل أنت الآن، أما الآن فأصبح ظهورهما لا يتطلب عناءً إضافيا فهي دائمة الظهور، هكذا تترك الأيام وما حَملتهُ من قلق وتوترآثارها نقشا ورسما على وجوهنا وعلى قلوبنا.
تواجهني مرآتي بحقيقتي التي أتجاهلها كثيرا، إني لست ذلك الشاب المتفجر حيوية ورجولة، بل النقيض تماما فأنا رجل كبير غطى الشيب رأسه بهالة بيضاء، وأبى الكرش إلّا أن يبرز رغم محاولاتي العديدة لإخفائه، يبدو لي أنه مثل سيجارتي فكلاهما يأبيان أن نفترق أو لعلهما الصديقان اللذان قررا ملازمتي.
تلك الصورة في مرآتي ترتسم الآن في مخيلتي وأنت معي تحاول عيناي أن تحيط بحدود ملامحك كى أرسم لك صورة، ما أجمل نور الفجر المشرق من جبينك بُعيد نهايات خصلات شعرك الليلي الهادئ، وما أطيب ثمرتا التفاح المستلقيتان على خديّكِ، أما شفتاك فدائما ما يتعثر قلمي حين أحاول وصفهما، تضيع كلماتي بين جمالهما وحسن حديثهما وبين لذة شهدهما واللهيب القاطن فيهما ... شفتاك تجتمع فيهما كل لغات الكون المنطوقة والمرسومة والمحسوسة وكل ملذات الدنيا وكل لهيب الحب المستعر شوقا في قلوب العذارى ... يجب ألّا يتعثر قلمي هذه المرة فلنؤجل الحديث عن شفتيك إلى وقت آخر. أعود لتلك العينين اللتين أتعجب من عشقهما لذلك الوجه القاطن في المرآة وذلك الجسد العشوائي المليء بأطلال القصور وبقايا الغابات، أما أنتِ ... حين أحاول ان أرسمك، أرسم قوس قزح يلف الأفق ويلون وجه السماء، أشمك نسمة حنون تداعب شعر الصبايا وتنشر عطر الرياحين والياسمين في فصل الربيع.
تقفز فكرة في رأسي الآن، لعلها تراني من خلال ثقافاتي المتعددة ومعارفي الواسعة التي عكفت أجمعها وأفككها ثم أعيد تركيبها وتفتيتها ثم دمجها لأوجد ما يربط وحدة العالم لابن عربي وميكانيكا الكم فكلاهما أثبتا أن العالم غير حقيقي وأن الكون المنظور ما هو إلّا انعكاسات لطيف الطاقة الصادرة من الكون الحقيقي والموجود الأوحد الذي هو نور السماوات والأرض. أو بما يوافق ويعارض السهروردي الرئيس ابن سينا، وكيف (تفلسف) أبو حامد الغزالي فكتب تهافت الفلاسفة، أو عندما أنكر ابن تيمية قِدَم الكون بإثبات القِدَم له عبر تسلسل الحوادث.
ولكنني عندما أكون معها، لا أتذكر ما حفظت من العلوم ولا أتذكر سنوات العمر التي مررت بها بل أكون طفلا يستقى منها الحنان ويتعلم الحبو في رحاب سهولها وعلى مرتفعات هضابها وأتعلم فنون الغوص في عيونها.
تزداد حيرتي وتتشتت أفكاري أكثر فأكثر، فلماذا تحبني؟!

فإذا بصوتها يهمس لي:
"هون علي نفسِكَ حبيبي، فإنني عندما أنظرإليكَ لا أرى ما تُبده لك مرآتُكَ وإنما أجدكَ جذرا يثبتني في الأرض وأستقى منه الحياة، فإني خلقتُ منك وتنساب حياتي من بين يديكَ، إني أجد فيكَ الشمس التي سبق وجودها وجود الضوء، إن وجودكَ معي وفي محيطي، يعزز من هالة الطاقة المحيطة بي، وأجد معك ما أصبو إليه من إحتواء.
اترك مرآتك حبيبي، وها هي عيناي لتبصر صورتَكَ الحقيقية، فماهيتكَ سَبقتْ وجودكَ وشمسُكَ سبقتْ ضوْءَكَ وروحكَ سبقتْ كونَكَ، انظر إلى عينيّ ودعني أرى فيك ما تخفي مرآتك".



تناقض

أجلسُ على شاطئ البحر أراقبُ أمواجه وهي تتراقص فرحًا مُداعبةً نسمات الهواء في فصل الربيع وأتخيلُ عينيكِ ترتسمُ أمامي في صفحةِ الماءِ المتلألئة تحت أشعةِ الشمس الذهبية وقت الشروق. مثلما كانت تبدو أمامي بين العيون وحيثُ كانت عيناكِ وحدهما قادرتين على أن تجذبا كل انتباهي، وأغوص داخلهما أعمق وأعمق وأشعر بجفنيكِ تتقاربان وكأنما تُغلقان المخرج كى أظلُ سابحًا في بحورهما هائِمًا في فضاءاتهما الشاسعة متحررًا من حدودِ الممكن ومتعديًا نهايات المتاح.
علينا ان نتقل أن البعدَ والاقتراب يكملانِ بعضهما البعض، على الرغم من قسوة البعد ومرارته. إن الكون تكوّن من الثنائيات المتناقضة التي أنتجت اتزانه وعبّر عن جماله وإتقانه في تماثله من دوران الإلكترونات حول النواة إلى دوران النجوم في المجرة. إن ثنائية الخير والشر وثنائيات الطاقة الكامنة والطاقة السوداء والمادة والمادة المضادة والوجود والعدم، كلها نقائض شكلت للوجودِ صورته التي نعرفها وتوازنه بين الاتساع والتمدد المتواصل وبين قوي الجاذبية وخاصة تلك المتولدة عن إنضغاط النجوم العملاقة بعد موتها فتصبح ثقباً أسوداً.
الثقب الأسود ...، نعم عيناكِ تمثلان لي ثقبًا أسود يجذبني مهما ابتعدتُ عنه، وأنا لا أحاول المقاومة، بل أُسرع إليه كى أدور في جاذبيته ويتوقف الشعور بالزمان والمكان وتتعطل الحدود بين الممكن والمحال، وما ألبث إلا ان انزلق داخله، فينقلني إلى عالم آخر تسكنه الملائكةُ بأجنحتها البيضاء وتملؤه ورود بكل الألوان وشذا الياسمين والريحان وأنهار فراتُ، هنالك في البعد الآخر تشعر بعد رحلة سفر مضنية، أنك وصلتَ أخيرا إلى المستقر، إلى المكان الذى تنتمى إليه خلاياكَ وذراتُك ومنتهى كل أحلامك.
يتناثر على وجهي بعض من رذاذ الماء، فترتسم على وجهي ابتسامة غابت عنه منذ سنوات، فلقد كان وعدنا ألّا نفترق وكنا اتفقنا أن يكون بيننا وصالٌ لا ينقطع وسعادة لا تنتهي وحب لا يضعفه دهر ولا يفُت منه همسات الصبايا في سهراتهم الليلية، إني أوفيتُ لعهدنا، فوفائي لعينيكِ جزءٌ من ذاتي ونبضة من نبضات قلبي الذي ما انفك ينبض بحبك، ولم يزل لم يفارقني دفء صدرك ورائحة عطرك ... ها هي قاطنة على كتف القميص.
أردتُك دائما وما زلتُ أريدُكِ روحًا تلجأ إليها روحي وفضاءً تسبح فيه مخيلتي وجمالا تستأنس فيه نفسي، فأنتِ في عيني امرأة جمعت في ثناياها كل الكون. أريدُكِ عاشقتي التي أمارس معها العزف؛ أداعب أوتارها متنقلا بين النغمات الغليظة والنغمات الرفيعة وبين الأصوات العالية والمنخفضة وأدق على طبولك إيقاعات بطيئة حالمة أتبعها بإيقاعات سريعة صاخبة، فعشيقتي هي لوحة الرسم التي أرسم عليها أجمل لوحاتي التعبيرية وهي الحروف التي أكوّن منها أجمل قصائدي الرومانسية. أنتِ قيثارتي التي أعزف عليها أروع مقطوعاتي الموسيقية.
أحيانا أراكِ الحلم الذي تهفو روحي إليه، وأحيانا أريدكِ الحقيقة التي أمارسها كل يوم. أنتِ، حبيبتي، معصيتي التي أصر على أن أرتكبها وأدعو الله ألّا يغفرها لي، وأنتِ إيماني وهدايتي وابتهالاتي التي أحافظ عليها. فبين الحقيقة والخيال أجدك أنتِ وبين الذنب والمغفرة أُريدك أيضا. فأنا يتجسد داخلي كما يتجسد داخل كل منّا الكون وأنا بكل متضاداتي أحبكِ وأعشق كل ثنائياتك. أعشقكِ حين يستسلم خصرك ليديّ وحين تشتاق شفتاك لشفتيَّ، وأحبك حين تتأجج نيران الغيرة في قلبكِ وحينما تمارسين عنادك المفضل وتبتعدين، أنتظرك وأراك متسللة تقتربين مخفيةً في حيائك شوقك لمأواكِ داخل صدري.
يتعالى ارتفاع الموج في البحر، يزداد صخبه وتتصارع الأمواج داخله، تتلاطم وكأنها في صراع وجودي تُفنى كل موجة نفسها في الموجة التالية في قفزات انتحارية، وتتسارع آخر أمواجه نحو الشاطئ، ترتفع لأعلى وتهبط كقذيفة فوق الصخر، وكأنما تقتص منه لأنه وضع حدًا لحريتها وقيد أحلامها. تتحمل الصخرة في صبر وهدوء مريب ... ألاحظ حبات الرمل تنفصل منها، أراها تتراقص، تستشعر حريتها تجري مسرعة إلى أحضان البحر تاركة الشاطئ والصخرة متحدةً مع من تحب ...!

إن حبيبها البحر، الهادئ الحنون والصاخب العنيف كعينيك. فعيناك بحر بكل ثنائياتِه وكل تناقضاته وأنا أزداد كل يوم شوقا إليك وبعدا عنك.





ذكرى لا تموت

أجلس على أريكتي محتضنا بيدي أجمل الورود التي جلبتها منذ ساعات قليلة من أشهر محلات الزهور في المدينة، إنها وردة حمراء قاني لونها من فرط الشوق المختزن فيها منذ كانت نبتة صغيرة، كأنّ أوراقها الندية ترسم كلمات الحب بكل لغات العالم وتنشر شذاها أشواقا تلف أرجاء المكان.
أجلس مرتديا سترتي الكُحّلية التي أحتفظ بها للمناسبات السعيدة مع رابطة العنق الحمراء التي أراها اليوم شاردة في حوار عميق مع وردتي الحمراء كأنما يتبادلان أساطير الحب القديم وأحوال قلوب العاشقين. أُخرج لفافة التبغ الكوبية التي أحتفظ بها من زمن وأشعلها كى تكتمل عناصر البهجة. فإن عيد الحب، والقلوب الحمراء والموسيقى الصادرة من أوتار القيثارة أشعلت في جوفي مشاعر الحب التي تجاهلتها أحيانا وأنكرتها أحيانا أخرى. ولكن قلبي يملأه الشعور بالضياع وكأن سفينتي قد ضاع طريقها واستسلمت لتقاذف الأمواج في متاهات بحور الحياة وأصبح الوصول الي مرفأ حلم بعيد المنال.
فتحت هاتفي أريد أن أطلب منها أن نلتقي على الفور لأمر مهم وأحمل إليها وردتي لتنقل لها ما لم تستطع كلماتي البوح به من حنين وشوق. أتساءل ... لِمَ لا أقول مباشرة أنى أحمل لكِ وردة عيد الحب؟! يا لها من لعبة سخيفة يلعبها كل العاشقين وتعرفها كل العاشقات وتدّعى كل مرة أنها تفاجأت، فكلاهما يعرف ما يخفي الآخر ولكن الجميع يستمر في نفس اللعبة التي بتكرارها أصبحت رتيبة كقصص جدتي التي لمْ تسأم تكرارها ولم أتوقف عن طلب إعادتها.
أبحث عن رقمها في هاتفي وأنوي أن ألعب أنا أيضا نفس اللعبة السخيفة، مؤكد هي هنالك تنتظر أن أتصل لتوهمني أنها تفاجأت وأن تصرخ فرحا حين أقدم لها الوردة. إنها تجيد آداء دور العاشقة المتيمة وتفرد جناحيها فرحا حين تسمع صوتي وحين أبثها بعض المشاعر، وترتمى في أحضاني كطفلة ينقصها الحنين. وأنا كذلك، أجعل من كلماتي أقراطا ذهبية وعقد من ياسمين فأنا أيضا أجيد أدوار العاشقين. وسط هذا الإتقان في قصة عشق تبدو مثالية ويؤدي كل منا دوره بحرفية أجد شعورًا ينتابني وكأني وسط مسرحية هزلية تتكرر كل يوم، لماذا لا أجد في حبي لها خرقا للناموس ولا يكسر حبها لي قوانين الطبيعة ولا يفسر شروق الشمس بعد المغيب. فرغم حبها لازالت تجول داخلي أسئلة كثيرة باحثة عن إجابات.
تتحرك أناملي ببطءٍ ورتابة فوق سجل الأرقام في هاتفي، تتراءى أمامي الذكريات كلما لمحت اسمًا مكتوبًا من بين الأسماء فبعضهم يترك ذكرى لا تنسى والبعض الآخر لا يترك حتى سراب. ثم، أتوقف كثيرا ويمر الوقت ببطءٍ أمام هذا الاسم القاطن دائما في هاتفي رغم تغير الهواتف وتبدل الأرقام إلّا أنه يأبى أن يفارق قائمة أرقامي المفضلة.
ترتسم ابتسامة خجلى على شفتي، نعم أنتِ. ها هو رقمك يقفز أمامي من جديد حاملا كل آمال الطفولة وكل الأحلام التي انتحرت على الأرصفة من زمن بعيد. أعلم أنك لا تنتظرين اتصالي ولا تتوقعين رسالة مني في عيد الحب فقد اعتدتِ ألّا أكون معكِ وقت يجتمع المحبون وألّا أمسح دمعك حين تبكين ... بينما أجدك جانبي حين أتعثر وحينما تضيع من قدمي الطريق. أقرأ الحزن في عينيكِ عندما نلتقي روايات مأساوية تتخفى خلف ابتسامتك العذبة المرسومة عقد نبيذ. أرى أشجار الحزن في عينيكِ تهجرها طيورها شيئًا فشيئًا ويجردها الخريف، فتتجمد الكلمات في فمي وأتجاهل صريخ الحزن الصادر من صدرك. أعلم أن حبي الذي أسكنته قلبك تحول خنجرًا ينخر فيه وأن شوقك إليّ أمسى طوقا يخنق أحلامك حين تستيقظين وحين تنامين. وأمام جبال حزنك أقف أنا متجاهلا بكل غباء وتعالي، أو ربما أشعر بالضعف ...! وأجبن على اختراق دروعك رغم أنى أعرف أنها تساقطت منذ حين.
لا... إنى لا أجبن أو أضعف ... إني فقط أحبك ...! وفروسيتي تجبرني أن أحافظ على سرك وألّا أفضح أمرك ولو بيني وبينك، لا يصح لي أن أشعل خجلك بكشفي السر الذي تصورتِ أنك عني تخفين. يؤلمني أن يشعل الخجل خدكِ الرقيق فتتوارى منه عيناك فأفقد لحظات لا أرى عينيكِ.
ما أعظم خجلها لو تدري أنى كنت أداعب حبي داخل صدرها طفلا صغيرا، وأني من علمه حروف الهجاء، وأني أحضرت له أقلام الألوان التي رسم بها داخل صدرها قمرًا بازغًا وشجرةَ زيتونٍ وقلبًا فوق الشاطئ المطرز بضوء القمر.
إني أعلم أنكِ أيضا تدركين حبي لك ولا أحتاج لوردة أو لكلمات تفسد حلمنا الجميل. تشعرين بحبي حين ألجأ إليك وحين تتفرق من حولي العاشقات وحين يتمرد عليّ قلمي فيأبى الكتابة. أعود إليك كطفلٍ ضل الطريق، فيأويني صدرك وتمسح يدك حزنا منقوشا على قلبي، فإذا اندمل الجرح وانقشع الغيم، أبتعد عنك بحماقتي المعهودة، أتركك "هاجر" مع وليدها القاطن في قلبها بلا بئر ولا رفيق. إني المتسلط على قلبك، أوهبه حزنا وأملا مكسور الجناح. ويرد قلبك همهمات تضيء دروب التائهين. أقص عليك قصص سهراتي ومغامراتي مع الأعين البنية والزرقاء متجاهلا صمتك الذي يصرخ مدويا "لِمَ لا تشاركني ضوء القمر ولألأة النجوم؟". أشعر أنك إيزيس تجمع أشلاءي وتنفخ فيَّ الروح وتبثني بقايا السعادة التي سلبتها منكِ النوائب وظلم المحبين.
فتعالي حبيبتي أمنحك وردة حبي، أن أجعلها تقطن يوما في كفك وأن تنبت فوق صدرك الذي أتعبه الأنين. تعالي أطفئ جمرًا في صدرك مشتعلا منذ سنين.
تصدر من صدري تنهيدة طويلة، أنظر ببطءٍ لوردتي التي لم تزل في يدي وكأنما أراها لأول مرة، أعود لهاتفي واسمها المنقوش فوق الشاشة، آخذ نفسا عميقا من لفافتي الكوبية وأغمض عيني فتصمت الكلمات داخلي ... ويسقط الهاتف من يدي وتذبل الوردة، وأعود لحزني القديم.



غدًا سنلتقي


قالت: "سنلتقي ... سأكون في انتظاركَ ... على شاطئ البحر... فوق الصخرةِ ... في ضوء القَمر"
انتفض قلبي كطفل تائه انتبه لنداء أمه. يريد أن يذهب إليها من الآن، يناشدني، يتودد إليّ، ويتوعد ... ويكرر مطالبته بجناحين كى يطير إليها. أما أنا فقد نقلتني كلماتها من حيث أكون ... إلى هناك، حيث تهفو روحي وحيث المستقر بل المأوى والمنتهى لأحلام العمر.
إن حبيبتي هي حُلمي الذي أسعى خلفه منذ الطوفان، وهو الذي شَكّلتُهُ رسومًا ونقوشًا على الجدران، وحبها جعل سفينتي تُبحر في دوامات العمر تأبى الغرق، تُحطم أمواج الحزن، وتُفِتتُ الصخر مواصلةً سعيها متمسكة بحلمها، إلى أن برقت من بعيد عيناها فعرِفتْ سفينتي مكان المرفأ.
ما أجمل أن تَحلُم بيوم اللقاء، وحبيبتي شمسٌ لا تُخلف الميعاد. عندما نلتقي، يكون الصباح! فيبدد ليل حياتي مُحيّاها وتطفئ بحنانها لهيب شوقي المرسوم في الأفق، فتعود ساعة عمري للحركة وتَرجع لأقدامي وقعها ولخطواتي أثرها فوق الطريق.
أشعر بفيضان سعادة يغمرني، نسيت كل ما لدي من مواعيد، وكل ما عَقَدَته من اتفاقات، احتلتْ هي بؤرة تفكيري. أنظر إلى ملابسي وكأنما تتراقص في موضعها فَرِحةً، كلٌ يريدُ أن يناله حظ لقيّاها، وأن يشعر بكفها الحنون يداعبه وأن يستقي بعضا من عطرها. حتى نظّارتي وعطري ولفافة تبغي. إنها لم تتملكني فقط بل سيطر حبها على كل الأشياء. أما أنا فأجدني كما كنت دائما ثملا بحبها غارقا في بحور عينيها.
قالت إنها تُحبني، وأني منتهى رحلة سفرها وأني بلسمُ لجراح عمرها، بل أن عمرها بدأ من يوم وجد قلبها المأوى في صدري. تساءلت كثيرا ... لِمَ أنا، من دون الرجال؟! ولماذا أصابها سهمي، دون السهام؟! وماذا وجدَتهُ في صدري! وحضني وما عندي من رضاب ؟! وما لبثت إلّا أن اكتشفت أنني أخطأتُ السؤال، لأن حبها لي هو ليس نتيجة إنما هو سبب لتغير حياتي وسعادتي، وعلة دوران الكون واخضرار الزرع في الحقول وألوان الزهر وزقزقة العصافير! إن حبها أرجع الابتسامة على الوجوه والرضا في القلوب وأنها هي من جعلت البنات أجمل وأنبتت الحمرة على خدودهن والشوق في قلوبهن، فألهبن قلوب الرجال. هل بالغت في وصفها؟! أم سيّطر شغفها على قلبي فأذهب بعضا من عقلي؟! أم لكونها تختلف عن النساء؟! ...
إن الحب والسعادة والجمال من الأسماء والحقائق العقلية التي نشعر بها ولا نُدركها بحواسنا ولذلك فإنه يتغير مدلولها ومعناها بحسب المضاف إليها من الأشياء العينية. إن تصورنا لجمال الشَّعْر والثغرِ وجمال البحرِ يختلف كل منهم عن الآخر، فاختلف معنى وتصور الجمال بإضافته إلى الحقيقة العينية. وتَرافق مع الحكم بالجمال للثغر والشَّعر والبحر، حُكم الثغر والبحر والشَّعر على الجمال بالتغير في مدلوله. لذلك فكل محكوم به من الأسماء والحقائق العقلية هو محكوم عليه من الأسماء والحقائق العينية.
فعندما أصف جمال عينيها بما لا يقارن مع غيره من جمال عيون النساء لأن وجودها في التصور أو الإشارة إليها في العبارة يغير مفهوم الصفات إلى ما يشبه المطلق ويغير حدود الخيال فيتمرد على التأطير ويتخطاه لفضاءات غير محدودة.
إن غدا الموعد، يملكني الشوق لابتسامتها، ولمعة الفرح في عينيها، ولضمة يدييّ لكفيها، هنالك سنلتقي على شاطئ البحر، فوق الرمال المذّهبة التي طرزها نور القمر، حيث سيرقص الموج فرحا، وستتجمع حمائم النورس مكونة سمفونية عشق تتهادي حولنا. سيكون القمر مضيئا محتفيا باللقاء وتتسابق الفناجين أيهم يلثم ثغرها وتسري الريح تداعب شعرها وتحمله حتى يغطي وجه الأرض فتسكن في ليل هادئ يروي القلوب الظمآى لصدر الحبيب.
إن نشوة اللقاء وأحلامه قد تفوق اللقاء جمالا، حيث نتصور اللقاء بأشكال كثيرة. نهدى الورود، ونتبادل الكلمات والنظرات وترقص قلوبنا فرحا وتهدأ نفوسنا في معية الحبيب وإن ظل اللقاء حُلمًا وفكرة تراودنا فإن السعادة باللقاء تظل عالقة في قلوبنا وأفكارنا، "غدا موعدنا" هكذا قلتْ، وها أنا أعيش غدي من الأن الي أن يأتِ.





0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.