tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

المنصورة 1966


بالات ذهبية مرصوصة بشكلٍ هرميٍّ، جُمِعت في الحقل بعد ضم محصول الأرز، الجميع يتولى نقلها على هذه العربة الخشبية المتهالكة عالقة بظهر أُنثى حمار، حيث وقفت مستسلمة في سكون وكأنها مدربة على التزام مكانها دون حراكٍ، لتجرها بشق الأنفس وتنتقل بها إلى حيث أراد مالكيها، صبيها يمرح حولها دون أن يُشدُّ حول رقبته حبال، لا يغدو بعيدًا ولا يروح إلا بالقرب منها عدة أمتار فحسب، يأخذ جولته ويعود ثانيةً، أتمت مهمتها في جرِّ عربة بالات القش ومن ثمَّ توقفت أمام البيت، لحق بها مَن كانوا يحملون عليها البالات ثم أخذوا ينقلونها إلى عُلية البيت حيث تصافت بعض الأفرع الخشبية بانتظام مثبتة من طرفيها على جدران أُقيمت من الطوب اللبن وجصصت بمعجونٍ من التراب الممزوج بالماء لتكوِّن معمارًا بسيط الطراز يصلح لاستقبال موسم الشتاء من وجهة نظرهم، مع كونه لا يصلح لمواجهة أمطاره ولا نفيح رياحه، إلا أنَّه كان يصمد في قدر تحمله حتى ينتهي،

"صبا" ذات الخمسة أعوام تحمل طرف البالة مصرة على معاونة أمها، فتقنعها الأخرى بأنها تعاونها لتحملها هي والبالة فوق رأسها وتصعد درجات من الخشب لا يدري أحد هل كانت الدرجات هي من تحملها، أم أنَّ الله عز وجل أرسل لها مَن يعاونها على الصعود بهذه الخفة،
بدا سطح المنزل للناظرين كفطيرةٍ مدهونةٍ بمكعبات الزبد اللامع، نسقه طاهٍ محترف صناعة المخبوزات، ومع ذلك الجهد لستر العُلية ومواراة المنزل عن أعين السحب المثقلة بالغيوم إلا أن مبيت ليلتهم لم يكن بدرجة الراحة المتوقعة، مع أنه أكثر راحة من ذي قبل!
إلا أنه كان ولا بد من وضع تلك الآنية في كل جوانب المنزل؛ لتلقف ما تُلقي السماء، فبالرغم من أنَّ تلك المصطبة المصنوعة من الطين في جانب بعيد وقد تعمَّدوا وضع الكثير من البالات بمحاذاتها من الأعلى إلا أنَّ نومتهم عليها لم تكن هانئة، فقد استطاعت قطرات المياه ذات القوة النافذة كسهامٍ رامقة عبر الفراغ، أن تخترق كل بالات القش وتنفذ إلى محل نومهم عليها، لم تكن لتلك البسط المصنوعة من فراء الخرفان والماعز لتقيهم من نفاذ الماء إلى أجسادهم لولا تلك الصحفية المعدنية التي وضعت فوقها لتقوم بمقام عازل عن وصول الماء إليهم، لم يكن من السهل بمكانٍ حصولهم على مفرشٍ بلاستيكيٍّ لتغطية العُلية به.
باكرًا وقبل الجميع استيقظت "سكينة" تحمل عجينها وتتوجه نحو موقد أعدَّ من الطين، ثم جُعِلت له فتحة كفمٍ شرسٍ يلتهم ما ينفذ إلى داخله ولكنه لم يكن شرسًا أبدًا، إنما كان عليهم رحمةً وسلامًا، بدأت بحشوهِ بالكثير من لفائف القش بعد أن أعدتها بطريقةِ متقنة وكومتها إلى جانبها، ثم أشعلت عودًا من القشِّ ودسته داخله فاشتعل القش بالداخل وبدأ الفرن في الإحماء، تركته يسيرًا ليسخن ثم توجهت نحو عشة للطيور في الفناء خارج المنزل بها كمية لا تُعدُّ من الدجاج والبط والإوز والرومي، ذكرت الله في رزانة وهي تلتقط بعض البيضات من هناك وتوجهت نحو حظيرة مجاورة بها بقرتان وجاموس واحدة، حلبت ألبانهم ودست يدها في إناءٍ من الفخار أخرجت منه مكعبان من الجبن المحاطة بسائل دبقٍ وبعض قرون الفلفل الأحمر، ثم عادت إلى فرنها وجلست ترح العجين على لوحٍ خشبيٍّ مستدير، وهي تنادي:
صبا، قومي لتذهبي مع أخيكِ لجلب بعض الخضروات من الحقل، فريدة، قومي ناوليني يا بُنيَّتي.
بنصف عينٍ وجسد يرتجف من البرودة؛ فبساط واحد لا يكفي لتغطية خمسة أطفال متراصون كالأقلام على سيفٍ واحدٍ، وكان النصيب الآسف لصبا في تزحزح الغطاء عنها نحو إخوانها وكأنه لم يجد بين خمستهم مضحية بجسدها الصغير سواها، انتفضت من رجفتها نحو الفرن مباشرةً تحاول الاستدفاء به، استوقفتها أمها بنفس الرزانة تملكها:
إياكِ والاقتراب أكثر ستلفحك ناره، لقد أحميته للتو، هيا أدركي أخيكِ لتمطاتي خلفه، ولا تنسي أن تحضري بعضًا من قرون الفول، اختاري الكبيرة من بينهم فهي أشهى وألذ.
بعينين تتضوران جوعًا -كأنها تترجم الصوت الصادر من أمعائها منذ برهة- تطلعت نحو البيض.

- عند عودتك ستنالين أكبرهما.

قالتها أمها وهي تدفع نحوها رغيفًا من الخبز الدافئ أخرجته للتو من الموقد:

- خذي هذا هدهدي به رمق جوعك لحين عودتك.
……………………………………
جلس الحائك على ماكينته، قدمه مثبتة على مكبس الماكينة يدعسها بقوةٍ، لتتحرك إبرة الماكينة في ترددٍ سريعٍ وبدوره يدفع القماش تحت سنها المشدود بداخله خيطًا؛ فتلتقي صفحتي القماش في لقاءٍ تناغميٍّ يعزفان لحن الحياة متفائلتان بفرحة يتيم أرهقه فقد أمه، كورقة شجر سقطت في مهب الريح تشعر بالفقد كلما عصفت بها يمنةً ويسرةً، تأن حنينا إلى الارتواء من قوة جذعها، والاحتضان بأحد أغصانها، والسكينة بقرب فروعها،
ظلَّ على حاله حتى اقترب منتصف الليل، لينهي حياكة جلباب حسن الصغير الذي يبلغ من عمره ثمان سنوات، لكنَّ الجميع يهاب تمرُّده فليس عنده أيُّ مانعٍ من هجمةٍ مرتدة والتي تعد الأكثر عنفًا من نوعها نحو مَن يثير غضبه، لم ينتهِ عم سعد من جمع الأحجار المترامية في أنحاء دكانه إلا بعد ساعة كاملة، الغضب في قلب حسن كغولٍ مرعبٍ يخيف الجميع ولا يرحم مَن أمامه صغيرًا كان أم كبيرًا، فقد دفعه انفعاله عندما سأل الحائك منذ بضع ساعات مضت عن جلبابه الذي أعطى قماشه له أول النهار هل أنهاه؟
كان جوابه بالنفي كفيلًا بتحول دكانه إلى بقايا زلزال خلَّف ركامًا في الأنحاء، ولولا أن تداركته رحمة الله لنتج عن إثره ضحايا، حيث جلس حسن على كومة من الصخور والأحجار قريبة من باب الدكان، وقذف منها ما يقارب الثلث داخله، وهو يهذي بعصبيةٍ كذئبٍ كشر عن أنيابه:

- لماذا لم تنهه لي يا عم سعد؟
رأيتك تعطي عادل جلبابه اليوم،
هل لكون له أمٌّ تأتي وتطلبه منك وأنا بلا أم؟
قالها غير مبالٍ بها أو بالأصح مصطنعًا اللامبالاة لكونه بلا أم أما في داخله فألف حوار يدور وألف سؤال يفرض نفسه وألف دمعة يحجبها، لا يقبل أن يعامله الناس ليتمه أو يكون في موضع الضعف فبالرغم من صغره إلا أنه يملك نفسًا أبيةً ترفض أن تلمح الشفقة في أعين مَن حولها.
عم سعد يتلاشى بيديه المقذوفات ويحاول أن يُخمد من ثورة حسن وهو يشير بإحدى يديه ضامم أصابعها:
سأفهمك يا حسن اهدأ يا بني، خذ تعال أعطيك!
ثم أخرج من جيبه قطعتان من الحلوى يدفعها تجاهه
حسن بنظرةٍ أكثر غضبًا يملأها تحدٍّ ممزوج بالتمرد على كل ما يحيط به من عالمٍ حتى الهواء المار من جواره لا يطيقه، اعتاد أن يدافع البكاء ولا يُري أحدًا دمعه أبدًا،
فمنذ ذلك اليوم الذي فقد فيه أمه وهو ابن خمس سنوات أخبره أباه أنَّ الرجال لا يبكون، ولا يخافون، ويستطيعون العيش في العالم حتى وإن كانوا وحدهم.
أخذها قاعدة ثابتة في حياته بطفولةٍ عفويَّةٍ، تَقبل المعلومات باستجابة كأنه ضابط رتبة عسكرية مأمورٌ بآداء الخدمة دون ترددٍ ولا رجوعٍ للنفس ولا تفكيرٍ فيما أوجب عليه.

لا أريد حلوى، أريد جلبابي.
قالها دون أن يلتفت للحلوى التي يغريه الحائك بها.
- غدًا أصنعه لك وأرسله إلى بيتك.
- لا غد ولا بعد ساعة الآن.. الآن.
- يا بني هداك الله! تجاوزت الساعة السادسة مساءً، ونظري لا يساعدني على العمل ليلًا!
بتحدٍّ رمقه وهو يتوسط خصره بإحدى يديه:
إذن لن أكف عن قذف الحجارة عليك!
باستسلام قابل كلامه عم سعد وهو يطأطأ رأسه ويردد بصوت خافت:
-يتيم الأم يرى الحياة سواد بدونها.
تعال... تعال يا "حسن" سأحيكها لك الآن.
أعطاه حبات الحلوى وأجلسه إلى جواره على أريكته العتيقة التي استعمل في حشو كسوتها تلك القصاصات الفائضة من بقايا الأقمشة التي يحيكها للناس، فتُلين ما أسفله ليتمكن من جلسته لعدة ساعات متواصلة بشكل يومي،
وأخذ يحيكها له، وهو يحدثه عن والدته وكم كانت كريمة عطاءة ذات قلب ودود تحنو على الصغير وترحم الكبير،
لمعت عينا حسن وهو يستمع للحديث عن أمه ثم ناوله العم سعد باقي القماش الفائض من قص جلبابه وهو يكمل حكاياته عنها، احتضن القماش بين يديه وهو يستمع بحرص وعاطفة يواريها خلف تصرفات شغبة، وردود أفعال مختلفة عما بداخله كما علمه أبوه «الرجل لا يبكي» حتى أخلد إلى النوم، انتظر العم سعد مَن يسأل عنه أو يرىٰ أحدًا من أقاربه مارًا فلم يجد، فحمله على كتفٍ ووضع جلبابه على الكتف الآخر وأوصله لبيته.
………………………………………
زالت الشمس في كبد السماء، افترش الأهالي مصاطب خارجية من الطين يستدفؤن بأشعة ذهبية تداعب أعينهم وتبث في قلوبهم مزيدًا من الرضى بالعيش، وإن كان في نظر الكثيرين بخيس، أصبح فيء كل المارين أسفل أقدامهم، جفت الملابس المطروحة على الأسطح فوق سعف النخل وكومات القش من بللها، انطفأت الأخشاب وأكواز الذرة التي استخدمت بعد تفريغها من صفوف حبات الذرة أسفل المواقد الطينية الصغيرة، تنبعث من تحتها سحب دخانية تصل للأنوف معبرة عن تمام نضج الطعام وما بقي إلا التهامه،
صبا منهكة الجسد خلف أخيها على حمارتهم ذات اللون الأبيض تسقط رأسها مرارًا على صدرها ومرات على كتف أخيها يصيح بها:
- صبا، استيقظي إن طاح جسدكِ لن أتمكن من إنقاذك.
- نعم... نعم... ها أنا مستيقظة. قالتها وهي تفز من غفوتها،
وأخذت تفرك عيناها بكلتا يديها الصغيرتين في محاولةٍ منها لإيقاظ نفسها،
فخروج طفلة بسن الخامسة قبل بزوغ الفجر مع أخيها كي تراقب حركة البقرة التي تدير الساقية حتى لا تقف وينقطع وصول الماء للأرض فيعرقل إكمال الري ويضطر أخيها يمشي أمتارًا ليرى ما سبب التوقف، كل هذا لم يكن بالعمل اليسير أبدًا!
رمقهم أبوهم المفترش لمصطبة بيته الخارجية بنظرةٍ حانية، عندما بدا له خيالهم في الأفق ثم ابتسم وهو يدعو لهم،
فمنذ أن زاره المرض وهو لا يقوى على أعمال الزراعة ورعاية أرضه وماشيته، تولى ابنه الأكبر إبراهيم ذا الثامنة عشر من العمر العمل نيابة عنه، وحيث أنه لم يكن يعيش لأمهم أولاد فكانت التالية فريدة في العاشرة وصبا ومن بعدها بنتان أُخريتان، وفريدة بالنسبة لأمها يدها الثالثة لا يدور البيت إلا بوجودها فلم يكن هناك مَن يعاون في الزراعة سوى صغيرتنا صبا وصبا نفسها منذ نعومة أظفارها وهي مثال للتضحية والعطاء.

على خوانٍ بسيطٍ تراصت أطباق أبسط منه، تحوي ما يطفئ رمق الجوع وزيادة،

تناولها أبيها ووضعها في حجره أمام الخوان ثم تحدث قائلًا:
- ابتدأ العمال في تشييد بناء المدرسة بطرف البلدة الشمالي .

سكينة وبعفوية:
- وما النفع لنا من وراء هذه المدرسة، سمعتهم يقولوا أنها لا تقبل أكبر من طفل في السابعة،
وإبراهيم قد كبر، ثم إن باقي ما عاش لنا من خلفتنا هن البنات
رمقها عليٌّ بعمقٍ ثم تحدث وهو يبتسم لصبا ويضمها لصدره:

- سألحقك بها بإذن الله، سأعلمك يا صبا.
- ما هذا الكلام الذي تقوله يا أبي؟ صبا تتعلم!
قالها إبراهيم معترضًا على كلام أبيه.
- نعم وما المانع من ذلك؟
- هي لا تعي شيئًا في هذه الدنيا، حتى إنَّ الخولي اشتكى لي الشتاء الماضي، أنها لا تجيد التقاط ورقة القطن المصابة بالدودة عن غيرها؟ أتظنها ستقدر على التعليم؟
- دعك من الخولي وكلامه.
ثم نظر إليها والأمل يشع من عينيه ويبث في قلبها روح الحياة، سترون في المستقبل أن الله لن يخيب رجائي فيها.

أسدل الليل ستائر كحلية تحجب كل ما في الكون حتى عن نفسه، تتهامس أوراق الشجر فيما بينها أن تماسكوا وتشبثوا جيدًا؛ فالرياح زائر غير مرحب به بينهم، وكأنه ملك غاضب لأرضٍ يمر على مملوكيه فيبتلعون ريقهم ويتظاهروا بالثبات والرضا به حاكمًا لهم وفي داخلهم ألف خاطرة عن كيفية التخلص منه، لم يكن صوت صفيرها أقل أخذاً للقلوب من عصفها دوامات تسري في زقاق ضيقٍ بين البيوت لولا ابتلال تراب الأرض بماء السماء لكانت هناك سحب رمادية تساعد حلكة الليل في زيادة العتمة، غارت النجوم في السماء، خفت ضوء القمر،
على الجدار علقت سكينة مصباح الكيروسين يبعث الظلال على الجدار من حوله، ومن ثم علّقت أعلى فوهته بقليل قِدرًا صغيرًا له رقبة في أعلاه، بعد أن ملأته ببعض حبات الفول المغطى بالماء، تتركه فوقها طوال الليل حتى يشقشق الصباح بعد أن تخفض إضاءة المصباح، فهذه طريقتها المعتادة في تسوية الفول لأولادها، فيصبح طبق من الفول معد بالصبر والرضى، يتناول الصغار هذه الخصال بين حبات الفول ويتمتعوا به ويذوقوا بين نواجذهم حلاوة العطاء المكسو بوشاح المحبة والمتعطر بعطر الأمان،
ساعدت سكينة عليًّا في إراقة ماء الوضوء على يديه، وقبل أن يتناول مفتاح المسجد المعلق على مسمارٍ بجدار غرفته وبجواره بردة يطرحها على أكتافه، فهو معتاد أن يذهب ليؤذن للفجر،
همس برفقٍ وهو يملس بيده على رأس إبراهيم:
- قم يا بُني! لقد هدأت الرياح واستقر الحال بالخارج، هيا لتكمل حصة أرضنا في الريِّ قبل أن تذهب لغيرنا، ولن نستطيع إعادة دورتنا قبل مرور شهر كامل بعد أن ينتهي كل أصحاب الأراضي المجاورة من ريِّ أراضيهم.
سكينة تحمل صبا على كتفها:
- هيا صبا! اجلسي خلف أخيكِ تمسكي به جيدًا ولا تفلتي حبل البقرة من يديك!
قالتها وهي تناولها ذاك الحبل المنعقد في رقبة البقرة الواقفة خلفهم
.......................................
بين القرية والقرية المجاورة لهم طريق أسفلتي سريع تمر من عليه الكثير من السيارات، تملؤه الأشجار من الطرفين وتظلل على الطريق بأكمله، وعلى غير ميعاد تراكمت سحب رمادية اللون فوق قرص الشمس فحجبته عن الأعين وحجبت الدفء المتسلل إلى أجساد الصغار، فراح الجميع يسرعون في خطواتهم وهم عائدون من مدرسة القرية المجاورة، بدأت قطرات رقيقة تداعب رؤوسهم ووجوههم فراحوا في مرحٍ يضعون أكياس كتبهم المصنوعة من القماش فوق رؤوسهم يتفادون بها قطرات المطر التي توالت من فوقهم.
أما عن حسن فاختلف الوضع قليلًا، حيث أخذ يحتضن الكيس ويدسه داخل زيه المدرسي كي لا تطاله يد المياه فيتندى الورق ويخرب ما نُسخ بداخله، أخذ وقتًا في مواراتها داخل ثيابه فانتبه أن الجميع قد رحلوا وسبقوه بمسافاتٍ فأخذ يصيح :انتظروني يا أولاد! وهو يجري...
لم يلحق بهم ولكنه قرر أن يسرع بخطواته ليصل إليهم.
على مداخل قريته لمحهم أمامه يخطون فأخذ يناديهم وهو يسرع أكثر: انتظروني.
فانزلقت قدماه من أسفله في منطقة منخفضة من الأرض أغرقها ماء المطر واخضلت، سقط جسده الصغير، مما أثمر عن تلطخ زيه بالكامل وتدحرجت كراسته من داخل الكيس حتى زارها البلل من كل جوانبها، أخذ يسب ويلعن في أصدقائه: أغبياء! حمقى! لقد تسببتم في ذلك!
وهو يدافع البكاء كعادته وبالفعل لم تنهمر دمعة واحدة ولم يسمح لها بإطلاق سراحها خارج مقلتيه، ثم أخذ يقاوم شعور الهوان الذي ارتابه ويواجه الحنين لأمه بكلمات أبيه السابقة ترن في داخله، وللأسف لم تفلح محاولة الموقف لاستفزاز دموعه وصرخاته حتى تصرح عن نفسها بل كانت كالضربة التي لا تصيبك ولكنها تزيدك في تماديك وتمردك!
........................................
عشية داكنة توارى القمر الذي استحال بدرًا عن الأعين خلف سحب مثقلة كلما انفرجت إحداهن عن الأخرى تطلع القمر من بينهن، كأنه يلقي سمعه وبصره ليرقب أهل الأرض من عليائه، تطلعت صبا الجالسة في فناء المنزل وبجوارها أخواتها إلى إيماءات ضوئه، كلما مرَّت عليه سحابة تخفيه ثم تنجلي عنه ليُسر لها بأحاديثٍ تنبؤها بأن الليلة ستكون أطول ليلة على أهل بيتكم، صوت أنينها يصل إلى آذانهم وهي تتشنَّج من شدة آلام المخاض التي تمر بها، وبالرغم من أنَّ هذه هي المرة السابعة أو تزيد على أم إبراهيم التي تجرب فيها تلك الآلام إلا أن طاقة تحملها لم تكن بنفس مقدار عهدها الذي ولَّى، كان صوت القابلةِ عالٍ وهي تصيح فيها قائلة:
اكتمي أنفاسك مع طلقات المخاض حتى تساعدي نفسك على نزول الطفل بسرعة، أجابتها بصوتها المبتور من آخر صيحة في آهاتها المترددة:
لا أقوى على ذلك لا طاقة بي الآن، أشعر بالموت!
بتهكمٍ متعمدة استفزاز صبرها أجابتها:
موت ماذا يا امرأة؟ أهي أول مرة لك تجربين تلك الآلام، كفي عن هذا الدلال المصطنع!
شهقات تتبعتها صرخة قوية ثم انقطع الصوت للحظات قبل أن يصل إلى مسامعهم صرخات الصغير المبنعث من أعماق ذاك الرحم العطوف.
في لفافة من القماش دثَّروه بها ثم ألقوه في حجر فريدة وصبا طالبين منهن الاعتناء به جيدًا، تبادلا النظرات قبل أن يرجعونها إلى ذاك الصغير في تعجب منهن كيف يعاملنه؟
بضعة أيام مرت على أمهم وهي تجاهد الآلام بداخلها تحاول البقاء وسط أبنائها تجاهد الدوار المظلم الذي يجذب جسدها نصف الحي، تتجاهل سريان الرعشة في عروقها، تزيل قطرات العرق التي تنبت على جبينها وشتى أنحاء وجهها موارية إياها عن عيون المحيطين بها، تلوك الطعام بفمها وتلفظ الكثير منه غير مستساغة طعمه راغمة نفسها عليه؛ علَّه يبعث في نهديها ما يسد به رمق جوع ذاك الصغير، تحمل صغيرها وتحاول أن تلقمه ثديها عله يكف عن بكائه، لم يقو جسدها على الصمود أكثر من بضعة أيامٍ!
- فقدت الوعي، وحرارة جسدها ارتفعت بشكلٍ مفاجئٍ!
كانت هذه الكلمات تسللت إلى مسامعهن عندما تحدثت خالتهم إلى عليّ لتخبره عن حال زوجه المسكينة!
- ما الحل؟ الساعة تجاوزت العاشرة، لا يمكننا أن نجد طبيبًا نأتي به من البندر الآن!
هكذا سألها عليٌّ وهو منزعج لأجل حال زوجه.
- طبيب ماذا؟ لا لا ستكون بخيرٍ بعض من الماء البارد ومشروب دافئ سيجعلونها تستعيد وعيها بسرعة.
لم يجدِ الماء البارد ولا المشروب الدافئ نفعًا معها، ومع ذلك ظل الجميع من حولها يكابر بأنها بخير ولا حاجة للذهاب إلى المشفى في المدينة المجاورة، مر اليوم وهي بلا حراكٍ ولا طعامٍ عيناها مفتوحتان تتحرك ولكن عقلها قد غاص في عالمٍ أخر، نصحه أحد الحلاقين بإعطائها حقن مغذية عن طريق الوريد، لم يكن من السهل الحصول على هذه الحقن أيضًا، فكانو يدسون لها الطعام في فمها ويحاولون جعله سائلًا كي ينزلق داخل جوفها بيسرٍ.
مرَّ أسبوع وهي بنفس الحالة التي كانت عليها لا جديد ولا تحسن، أخبرنه النساء أنها تعاني حمى النفاس أو حمى ما بعد الولادة.
أخذها أهلها إلى دارهم، لم تكفّ امرأة في المنازل المجاورة عن إعطاء سابق خبراتها في علاج تلك الحالة، وأجمعن على أنَّ تلك الحالة تعالَج بطريقة واحدةٍ ألا وهي أن يُزال شعر رأسها كاملًا باستخدام حلاوة السكر، وبعد تلك الإزالة يحضر دهن إلية خروفٍ مذبوحٍ ويُدهن به رأسها كل يومٍ، إلى جانب جزمهم بأنها ممسوسة من قِبَل الجن وقد تمكَّن منها؛ فيقومون بضربها ضربًا مبرحًا بالعصا ظنًّا منهم أنهم يضربون الشيطان المتلبس بها، لم يكن علاجًا بقدر ما كان عذابًا، ومن رحمة الله بها أنها كانت فاقدة للوعي وإلا لن يتحمل شخص هذه الأفاعيل والخرافات التي مرَّت بها، أما عن الصبي فلم يكن باستطاعة الصغيرتان في هذا السن أن يعتنوا به فكل ما كانوا يفعلونه أن يذيبوا له بعضًا من السكر في الماء ويسقونه أو بعضًا من لبن البقر مخففًا ببعض الماء، لكن إرادة الله كانت أسبق لذلك الصغير إذ انتشله من بين مجتمع يعمه الجهل وتتفشى فيه الخرافات التي تشي بحياة الجميع وتذهب بهم في مهلكٍ لا رجعة منه.
بعد شهرٍ كاملٍ، لجأ الحاج علي إلى قرآءة بعض الكتب عن المسِّ والسحر ونحوه فقد كان يعلم كيف يفك الخط ويقرأ من خلال دراسته في الكُتَّاب وهو صغير، فقرر علاجها بالقرآن، جلس يومًا كاملًا إلى جوارها يقرأ عليها آياتٍ من كتاب الله وبعض الأدعية والأذكار، كانت تبكي ولبكائها أزيزٌ يرتفع بصدرها ويهتز جسدها رجفةً كلما زاد في تلاوته للآيات زادت في البكاء ثم يتابعه صراخ هستيري، بعد انتهاء قرآءته غطت في نوم لساعاتٍ متواصلةٍ ربما ليومٍ أو يزيد،
ثم استيقظت من نومتها تلك لا تذكر شيئًا غير أنها كانت تلد ظلت تسأل عن وليدها الذي كان إلى جوارها، ظلَّ عقلها غير متقبل فكرة أنه رحل عن عالمها وأنها كانت فاقدة الوعي مدة شهر كامل، في كل يوم تستيقظ سائلة إياهم أين صغيري؟ مَن أخذه من جواري؟
لم يمر الموقف على ذهن صبا مرور الكرام، فربما يفطن الطفل لكثير من الأمور لم يفطن لها الكبار، لم تبح بما شرد به فكرها، ولم تساعدها الكلمات في ترجمتها ولكن كل ما تركز في يقينها أنَّ الجهل كاد يهلك أمها وما أنقذها من الموت إلا العلم.
.........................
فجرٌ معتم بسحائب رمادية، هوائه يضيق الأنفاس، الهدوء مريب في شتَّى أنحاء القرية، دوي الطائرات الحربية لم يسكن طوال الليل، لازال صدى صوته في الآذان، ليلة لم يذق فيها الجميع نومًا ولا غفوةَ جفن، كغيرها الكثير من الليالي، فمنذ تأميم قناة السويس عام ١٩٥٦إلى ذلك الوقت بعد حرب النكسة لم تستقر المناورات ولم تهدأ في أنحاء مصر وبالأخص على مُدن القناة، ترحيل وتدمير وأسر وتهجير للكثير من أهالي مدينة السويس وبورسعيد.
مشاهد دك البيوت بمَن فيها وتسويتها برماد الأرض كانت تنشع القلوب ثَبُتَ المواطنون في البداية ولكن ومع كثرة ما مروا به من مشاهد مروعة وفقد الكثير من الأحباب بصورةٍ وحشيةٍ انهزمت النفسيات وكادت أن تطيش بالعقول، خرج الأهالي من غير حولٍ منهم ولا قوة، تركوا الأموال والديار والمواريث، وتركوا الغالي والنفيس أملًا في الاكتفاء من بحور الدماء، أملًا في توقف النزف الدامي في القلوب، ولسان حالهم: يكفي مَن ذهب منا، أفئدتنا أصبحت كالهواء، توجَّه الكثير منهم نحو قرى مدينة المنصورة وغيرها من المدن، وحيث أنها تقع في دلتا النيل أهلها طيبين، راضين بالقليل، لن يمنعهم الخوف على الرزق من تقاسم لقمة العيش مع إخوانهم، ولكن البيوت مفتقرة إلى بيوت، لا إمكانيات للعيش بقدرٍ يسع الجميع، ومع ذلك أصرَّ أهل القرية على استقبال ضيوفهم وإخوانهم، ومع حداثة مبنى المدرسة إلا أنهم قرروا أن يجعلوه مقرًا سكنيًّا للمُهَجَّرين، فتحوا لهم المبنى على مصراعيه.
- صبا تعالي يا بُنيتي احملي معي هذا البساط وتلك القُلة الفخارية.
- إلى أين سنذهب بهم يا أبي؟ وما هذا الكيس في يديك تضع به خضارًا من حقلنا، وهذا الجبن أيضًا؟ وتحمل في يديك طبق الفول الذي دمسته أمي بالأمس، هل سنأكل في الخارج؟
- لا يا صغيرتي، هذا رزق إخواننا المُهجَّرين، تعالي انظري وتابعي، وإياكِ أن تنسي تصوير كل ما سيحدث أمامك في ذاكرتك.
بعيونٍ مترقِّبة تتبع تلك الوجوه الجديدة تنظر وتستمع إلى طريقة نطقهم للكلمات على غرار ما اعتادت عليه من أهل بلدتها، حاولت أن تترجم لعقلها ما يقوم به والدها ولكن في المجمل كان كل ما استوعبه عقلها، أنهم محتاجون تركو مدينتهم وبيوتهم ورحلوا لشدة ما لاقوه، لكنها لم تكن تعي ماهية الحرب ولا كم المرار الذي لاقوه على مدار سنين حياتهم، وقفت تتطلع المكان حولها رجالًا ونساءً وشيوخًا بل وأطفالًا أنهكهم التعب والجوع والرحلة الشاقة على أجسادهم، وغصة محشورة في الحلوق حسرةً على مَن فقدوا وما فقدوا، ودمعات غائرة في العيون لم يكن هناك متسع من الزمان ولا المكان لتطلق الجفون لها العنان وتتركها تنزلق على الوجنات راحلةً بالموجعات بل تركت في موضعها رغمًا عن نفس صاحبها.
- السلام عليكم يا أهل الفداء.
قالها الحاج علي عند دخوله على هؤلاء المنكسرة قلوبهم داخل ضلوعهم.
- وعليكم السلام ورحمة الله.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.