tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

قمر تستر خلف غيوم تنذر بذرف بكاء حزين، وسكون يلف نهر، صمته مخيف ورتيب، الصمت صديق مزعج اعتاد اصطحابها وإحاطتها في كل مكان تذهب إليه، اعتاد على الانصات لشكواها وبكاءها، هذيانها وهمساتها، ضيف مزعج يحضر في جميع أوقاتها...

الآن تشعر بتقطع أحبال وصالها بجميع من تعرف، لا أب ولا أم ولا إخوة ولا أصدقاء، خيوط الظلام تسحبها كدمية تقترب أكثر من سور الجسر، تتمنى أن تلج في ظلمة النيل، تتوارى بين طيات عتمته، تختبئ من نظراتهم، ولدغات همساتهم....
قفزة واحدة وتعطي للنيل أنفاسها ليمنحها راحة أبدية، وسكينة ترتاح من عذباتها....

تشبثت بسور الجسر تتعلق به، ترفع ساق تسندها بجانب ذراعها، وتستطيل بالأخرى،
توقفت تراقب سواد الماء برهبة.. قفزة واحدة وتنهي جميع آلامها، بيدها هي.. لن تنتظر الموت يقبض على روحها، بل ستمنحه إياها عن طيب خاطر، لن تقاوم، لكن ينقصها دفعة أخرى من الشجاعة لتمنح جسدها للنيل كعروسة..
هل ستُقدم على هذه الخطوة؟ هل ستنهي كل شيء بيدها ولن تنتظر أجلها؟....

ضوضاء شاعت حولها تجذب بصرها وأسماعها...
قوم التفوا يصيحون معًا، تتشابك كلماتهم كما تفعل أيديهم... نعم، كالعادة تصاعد شجار بين سائقي السيارات ولم ينتبه لها أحد..
لم يسمع شخصًا شهقة بكاءها، مثل من حولها يصنعون ضجة وصياح، فينشب الصراع بين والديها، صراخ وشجار عالي، تتركهما، تتابع ما يحدث ببرود وبلادة تراكمت داخلها بمرور الزمن، تقف وتنسحب إلى غرفتها، لا تشارك بكلمة تفض بها المشاحنات، بل تدفع باب غرفتها ليتسع حاجز الصمت ويبتلعها أكثر، تشاركه تنهداتها التي ملت من صراعات أبويها....

قفزت تجلس على السور، ثم أرسلت آخر نظراتها إلى العالم كأنها تودعه، اختلطت دموعها مع ماء المطر الذي بدأ بالهطول، أهدتهم ابتسامة غارقة في بحر الحزن، امتزجت بدموعها الساخنة تودعهم، لتنطلق إلى الراحة....

وبوثبة واحدة تهوى مع قطرات المطر، يبتلعها النهر معهم بصدره الرحب يحتويهم بظلمته، بذلك تسلم نفسها إلى راحة أبدية تنجو بها من العالم، ناسية أنها ظلمت نفسها بما فعلت، خسرت فرصة لإصلاح ما فُسد من حولها، وخسرت معها فرصة لحياة قد يتمناها الموتى للعمل صالحًا.....

تجمهر الناس حول السور الذي سقطت منه الفتاة، تعلو أصواتهم وشهقاتهم.
أمّا تلك الفتاة التي راقبت سقوط الأخيرة في النهر، قيدتها سلاسل الصدمة تشل جسدها عن الحركة وتسكت كلماتها، كل ما صدر منها اهتزازات مرتعبة، لم تشعر بدموعها تنساب على وجنتيها
تخلصت قدماها من قيودها، تسير ببطء شديد لوجهتها، وعقلها سجنه الحدث بداخله يكرر ما رآه عشرات المرات، فتزداد دمعاتها هطولًا...

***********
صور تناثرت على أرضية الغرفة، أحاطت بها من كل حدب وصوب، بل حاصرتها، وفجأة تطير حولها بسرعة هائلة كأن إعصار هب بها، لتتوقف إحداها أمامها في ثبات، ترى فيها طفلة صغيرة كملاك يرتدي فستان أبيض تزينه ورود حمراء، تعيد الزمن للوراء..
.....
صياح والدها، تقريعه لها، نعتها بفاشلة لا فائدة منها، اخترق مسامعها كسهام تنطلق تخترق قلبها الصغير، يزيد جروحها....

يريد درجات كاملة في جميع المواد، لا يرضى أبدًا بالأقل وإن كانت ناجحة، يريدها فتاة كاملة متفوقة دائمًا، والأولى في كل شيء....

لكنها ليست ابنة مثالية كما أراد، مهما حاولت إرضائه، لا يرضى عنها، قفزت دموعها من مقلتيها لتبكي كعادتها، مهما فعلت، واجتهدت، إنها ليست البنت التي تمناها كما يردد على أسماعها دائمًا، بل أختها أفضل منها دائمًا، وها هو يكرر ألقابها ينعتها ب "الباكية، الشاكية، الفاشلة"....

لكن والدتها دفنتها بأحضانها، تمسح دمعاتها بهدوء، تمدحها كثيرًا، وتمجد من نجاحها، تخبرها بأنها ستصير شيئًا كبيرًا في المستقبل، وسيكون لها اسم رنان في مجال ما...
أبعدتها تفتح هديتها، تبين لها فستان أبيض ملأته الزهور، لترتديه الطفلة في فرح تتناسى به حزنها من كلمات والدها، فتلتقط الأم صورة لها تسجن بها ابتساماتها القليلة، وتخرج مع أمها في نزهة....

تأرجح يدها الملتصقة بيد أمها يمينًا ويسارًا، وتقفز بسعادة هانئة، فاليوم حققت حلمها الصغير ولبست فستان أبيض كالعروس، أمها أهدته لها لاجتيازها الابتدائية....
تركت والدتها يدها، تتناول كأسي الآيس كريم من البائع، تعطيه النقود...
تتشبث بيد فتاتها الصغيرة وتسلمها كأسها، يجتازان الشارع معًا، وبسمة سعادة رسمت على الوجوه....
لكن في غمضة عين قتل الهلع البسمات، واجتاح الملامح والشفاة
دفعة صغيرة لها، وصراخ ثم ارتطام قوي، وكأسان يتهشمان على الطريق، سيارة تصدم جسد والدتها، يطيره في الهواء، يهوى في بركة من الدماء.....
كل شيء حدث بثواني معدودة، لم يستوعب عقلها الصغير ما حدث...
كمم الصمت فاهها، تقترب من والدتها، تلتمس الدماء، لون أحمر قاني يلوث يدها وفستانها الأبيض، ارتعشت أناملها، تدنو أكثر منها تتلمس رأسها تهزها....

تدحرجت عبراتها تنادي بهمس غير مسموع، ودموع احتالت لأنهار: "ماما ردي عليا.."
هزتها ثانية غير مصدقة ما تراه....
لم تسمع صرير عجلات سيارة الرجل الذي ارتكب جريمته الشنعاء تهرب من مسرح الجريمة، ولا التفافهم حولها..
.............
عادت من الذكرى تمسح دمعاتها، انتقلت روح والدتها لبارئها، أما هي تلك الطفلة بفستانها الملائكي، اعتنقت حالة من الصمت، حُبس صوتها لسنوات، تردد عليها أطباء كثر، وصفوا لها كميات من الأدوية والوصفات، حتى تعافت جزئيًا مما مرت به، لكن جسدها ما زال يرتعد من اللون الأحمر القاني، الصدمة تتلبثها فلا تستطيع النطق لثوانٍ...
وأباها ألقاها في مصحة تاركًا مسؤوليتها لعمتها رحمها الله، هي من كانت تزورها، وعندما تسأل عمتها عنه، تتعلل بسفره للعمل.....

دارت عجلة الصور حولها، تثبت واحدة قبالتها، تظهر فيها تعانق فتاة أخرى مقطوعة الوجه، يخص من كانت صديقتها، ترجعها لتلك اللحظة..
........

اعتدلت تركن ساق على الأخرى، تهز كرسيها، تعتلي غيمة الأحلام: "عارفة يا سهى لو أخدنا الصفقة دي هنسدد كل الديون، ومش بس كده شركتنا الصغيرة هتكبر.."
ابتسمت سهى: "أقدر أهنيكي من دلوقتي، كل ملفتنا مظبوطة، الصفقة دي لينا بإذن الله متقلقيش.."
اعتدلت تلتفت إليها، تنقر بأصابع متوترة على مكتبها: "أنتِ قولتي هيعلنوا نتيجة الصفقة امتى؟"
أدارت صديقتها وجهها، تنظر إلى الساعة: "المفروض يكونوا أعلنوها من دقيقتين..."

حل الصمت ضيفًا ثقيلًا، لا تقطعه سوى عقارب الوقت المملة، تعد ساعات الانتظار عليهم...
مرت ساعتان حتى رن الهاتف، التقطته قبل سهى، ترد بحماس ووجه بشوش يأمل بنتيجة ثابرت للوصول إليها، حسبت حسابها جيدًا، واصلت الليل بالنهار، واستدانت للبنك لأجلها...

لكن ملامحها تبدلت للحزن ثم للدهشة، أغلقت الهاتف دون كلمة، تفصح عن ما قاله المتصل بهمس: "نادر بيقول إن شركتنا مفزتش، واللي فاز في المناقصة دي، شركة الحسيني، والغريبة إنهم مقدمين، وإن الخطة اللي قدموها تشبه خطتنا بالظبط، إزاي؟ إزاي اتسربت المعلومات للشركة دي؟ إزاي؟"
اضطربت ملامح صديقتها تقول باهتزاز أصاب حروف جملتها: "يمكن حد من الشركة باعنا ليهم وسلمهم المعلومات.."

ارتخت ساقاي الأخيرة، ترتمي على المقعد، تشعر بأن الدنيا تدور بها: "الديون، هنسددها منين، الشركة هضيع مني.... هعمل إيه دلوقتي؟"
دنت منها سهى تضمها تطمئنها: "متقلقيش، كل شيء هيتحل، أنا مش هسيبك..."
لم تعي كلماتها بل ظلت تهمس بوهن، تتمسك برأسها الذي يكاد ينشق نصفين من صداع ألمّ به: "مين اللي سرب المعلومات مين؟"
...
مرت أيامًا ورن هاتفها، سارعت الخطى تلتقطه، تفتح تجيبه: "أيوا يا نادر.."
اتسعت عيناها مع ارتفاع حاجبيها، غير مصدقة لما يقول تنكره: "لا مش مصدقة، مستحيل سهى تعمل كده.."
أغلقت المكالمة، تصلها رسائل وصور من نادر، تفتحها، ترى صورًا لسهى في مكتب شركة الحسيني تسلم ملف خطتهم لهم...

شعرت بخنجر يطعن صدرها ويشق جرحًا آخر، بجانب ما تعاني، سهى صديقتها بل شقيقة لم تنجبها أمها، بل هي أخت دربها وحلمها، تشاركا الأهداف والطرق، ارتادا الكلية ذاتها، نجحا معًا وتخرجا، أقاما شركتهما الصغيرة سويًا، واختارا موظفينها بعناية...

كيف تخون عِشرة الأيام والسنين التي عاشاها سويًا؟ كيف تخن ذكرياتهما؟ كيف تبيعها لهم بالرخيص...؟
والآن تخلت عنها، تركتها تغرق في الديون، لتستلم المال وتهرب به خارجًا... كيف هانت صداقتهما عليها...؟
هي الآن فاشلة كما أخبرها والدها، فاشلة ضعيفة لا فائدة منها، لا تنجح في دراسة ولا في عمل، بل لا تفلح في أي شيء، حتى الصديقة لم تحسن اختيارها، فمن عدتها أختًا لها طعنتها بخنجر الخيانة وهربت......
*****
لفت الصور في مدارها تتوقف أخرى تجمعها بأختها اسمًا فقط، نعم اسم والدها تشاركه معها في البطاقة، أما الحقيقة فهي ليست بأخت...
لا تراها إلا القليل، حتى قبل عملها كمضيفة طيران، لم تشاركها اللعب، لم تجذب معها أطراف حديث دافئ، حوارتهما باردة يعصف الثليج بين جنباتها، مشاجرتهما أكثر، وأحضانهما واجب يُفعل..

الآن تركض خلف سفرها بكل طائرة، ولا تكلف نفسها ثمن مكالمة، ولا ترهق نفسها في إرسال رسالة تسألها حتى عن أحوالها...
أسرتها كقماش مهترئ بدأت خيوطه تتفلت من بعضها منذ وفاة أمها، فبعدها تفارقت الخيوط بل تمزقت كليًا، أبٌ منشغل بالعمل طوال الوقت، أخت كل يوم في أرض، وهي تغرق في ديونها وفشلها، لا تتلقى منهم سوى اللوم والتقريع، لم تعد تتحمل نظراتهم، طعنات كلماتهم، ولا طاقة لها بالمزيد...
ارتحلت عيناها إلى الصور الملقاة أرضًا التي لم تطر ولم تدر، بل قد بدأت تهزي من اكتئابها الذي تعاني منه..

دفعت الصور بعيدًا عنها، تنتقل مقلتيها لدوائها، تشبثت بعلبة تفتح غطاها، تسكب واحدة كي تتمكن من النوم، فمنذ فشلها وحجز البنك على شركتها تسديدًا لباقي ديونها من بيع ذهبها، وأجفانها لا تغلق بتراب النوم، فالنوم خاصمها وجافها، لم تتمكن من النعاس إلا بالحبوب المهدئة...

قلبت العلبة لتُسقط قرص في يدها، لكن قرصًا واحدًا يريحها ليلة واحدة، تسحبها فيها لعالم الظلام، بعيدًا عن واقع محطم...

أمالت العلبة قليلًا لتخرج أخرى وأخرى، ماذا ستفعل ثلاث حبات بها؟ أتطول مدة اختفائها عن الواقع...؟
سكبت كل ما بالعلبة، لتهوى الكثير والكثير من الحبوب تملئ كفها المرتعش...
ستبتلع الكثير لتحصل على راحة أبدية، تمنح روحها للظلام يسحبها معه للآخرة حيث الراحة، وكل من تحب، عمتها الغالية وأمها...
"حنين.."
سمعت اسمها ولعنتها تتكرر، يصدح في أرجاء الغرفة، لعنة حنين تلاحقها، كم تحن وتشتاق إلى أمها، حتى بات شبح والدتها يحاوطها بكل مكان، بشقة فارغة تركها والدها لها، وكل يوم يمر عليها تحن لأيامها معها، تحن للماضي وتشتاق إليه، وتكرهه في الوقت ذاته...

الصوت الحاني الدافئ يناديها ثانية، إنه صوت والدتها
"حنين.." تردد اسمها ثانية "حنين تعالي معايا يلا.."
ظهر الشبح، ترفع يدها لها تشير لها بالاقتراب، وهي تدنو منها: "حنين تعالي يا بنتي، تعالي، قربي تعالي معايا"
ها هي الهلوسات تعود إليها وأمها تريدها، تهز حنين رأسها بالموافقة..

ستأكلهم جميعًا مع شربة ماء وتنتقل جوارها، تتخلص مما تكره، تذهب إلى من تحب...
‏ارتجفت أصابعها أكثر تدنو من ثغرها، ستتخلص من آلامها كما فعلت فتاة الجسر، تخلصت من واقعها البائس وودعته بابتسامة حزينة، لتغرق بسلام في الظلام...

‏وقفت تغلق الأضواء، يلفها الظلام من كل مكان يغرقها بكأبته المعتمة فيتسلل لقلبها المزيد من الحزن، تدهس بأقدامها على صورهم ما عدا صورة والدتها تحتفظ بها في جيب جوار نبضات قلبها المضطربة، جلست على فراشها بقرب شبح والدتها تنام على قدمها الشبحية، تتلمس صورة أمها تربت عليها تهمس: "خلاص أنا جيالك يا أمي..."
‏قربت الحبوب من شفتيها، تستعد للموت بنفس مرحبة......
‏ناسية بأنها تظلم نفسها التي لها الحق في الحياة، ستقدم على فعلها، ستقتل معها حق روحها في المحاولة والمقاومة واجتياز العراقيل، كم أصبحت نفسها ضعيفة واهنة، لا تقوى على المقاتلة، ستقتلع روحها من بين جنبات جسدها ناسية أن الله وحده له الحق في ذلك.....
‏أغمضت عيناها بقوى تستعد لفعلها..
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.