tafrabooks

شارك على مواقع التواصل


في أربعينات القرن الماضي، وفي أحد شوارع الإسكندرية الهادئة في ذاك الحي الراقي (حي سان إستيفانو) حيث المنازل المتراصة التي زينت أبوابها بزخارف على الطراز الفرنسي، وفي ليالي الشتاء القارس التي ألزمت الناس منازلهم لتتساقط قطرات المطر التي تزداد مع اقتراب مطلع الفجر، فلا تسمع سوى صوت زخّات المطر المرتطمة بقوة بالأرض الصلبة، أطلقت السماء صرخات متتالية لرعد يبث الرعب في الوجدان، وميض من البرق يمر ويرجع في تلك الليلة التي انطلقت منها حكاية مليكة والرداء الأسود.
في الردهة يجلس المهندس "محسن" بشعره البني الذي طالما يحافظ عليه مبللاً ومسرحاً للخلف، كان طويل القامة وعريض المنكبين بملامح الرجل الشرقي الأصيل، بجانبه زوجته "ماريا" ذات الأصول الروسية، بشعرها الذهبي القصير الذي يصل بالكاد حتى كتفيها، وعيناها الزرقاوان بلون السماء، ووجهها البض الناعم، بينما هم في ذاك المنزل الراقي ذي الأثاث الفخم تنبعث منهم الضحكات الرنانة، وقد أخذ محسن بطريقته الساخرة يروي لها موقفاً طريفاً تعرّض له في عمله، وضعت ماريا يدها على بطنها، فقد كانت في شهرها الأخير من الحمل قائلة: "يكفي هذا القدر من الضحك، آلمتني بطني."
وفجأة سمعوا طرقات شديدة على باب المنزل، التفتت ماريا إلى زوجها وقد بدا على وجهها القلق، وأسرعت تخفض صوت الجرامافون الذى صدع بصوت "أم كلثوم" الرنان في إحدى حفلاتها.
قائلة لزوجها الذي شاركها في القلق والذعر: "ترى من بالباب في هذا الوقت المتأخر!!"
هز كتفيه في تعجب وأسرع نحو الباب، استوقفته تطالبه بمعرفة هوية الطارق أولاً، حاول حينها ألا يتأخر، ومازال الطرق مستمراً، ومازال محسن يردد: "من الطارق؟" ولكن دون إجابة..
حتى أتاه صوت طفل صغير يبكي ويصرخ: "أرجوك يا عمي، افتح لي الباب، البرد قارس وأنا وحدي لا مأوى لي."
لم يتوانَ محسن عن فتح الباب، فقد رقق بكاء الصغير قلبه.
فتح الباب، صدم لرؤية الطفل وأحدهم يصوب المسدس نحو رأسه، ومن خلفه رجلان أحدهما ضخم الجثة يلقب ب "هلفوت"، والآخر لا يختلف عنه كثيراً ويلقب ب "الأشول" وهى صفته، صعق من هذا المنظر وفهم أنه وقع في فخ، وهم بإغلاق الباب لكنهم نجحوا في التهجم على منزله ملقين بالطفل خارج المنزل .
صاح محسن الذي فقد توازنه، وسقط أرضاً: "من أنتم ؟ ما الذي جاء بكم إلى منزلي؟"
أجابه هلفوت بهيئته المخيفة، وجهه الذي رسم السلاح الأبيض خطوطاً مرعبة على سحنته: "نحن عملك الأسود"، وتعالت ضحكاته الساخرة.
في تلك اللحظة كانت ماريا التي أطلقت الشهقات القوية عندما سقط زوجها أرضاً، واقتحم المجرمون منزلهم، تقف متشبثة بالكرسي في وجل شديد والعرق يتصبب منها، وقدماها ملتصقتان بالأرض من شدة الخوف، التفت إليها زوجها وطلب منها أن تدخل إلى غرفتها؛ فهى لا تحتمل أي فزع مطلقاً، اعتدل وانتصب قائماً في تحدٍ لهم، وقد انصاعت لأمره وتحركت بظهرها في خطوات مهتزة؛ فقد أصابتها رعشة تملكت من جسدها كله، ونظرها شاخص تجاههم حتى دخلت غرفتها وأغلقت الباب بقوة، والتصقت به تحاول التقاط أنفاسها، شعرت وكأن قلبها على وشك أن يقفز من بين جنبات صدرها.
بعد هنيهة حاولت أن تتمالك نفسها، وأسرعت نحو الشباك لتفتحه لتلفحها تيارات الهواء الباردة، وتنثر على وجهها بعض قطرات المطر، وقد خطر في بالها أن تصرخ وتستنجد بالجيران، حتى سمعت أحدهم بالخارج يصرخ في زوجها قائلاً: "لو ارتفع صوتك مرة أخرى سأقتلك وزوجتك."
لترتد تلك الصرخة في داخلها، وتغلق فمها بكفها وتتلفت يميناً ويساراً، وقد أصابها إعياء شديد جعلها تتخبط في أرجاء الغرفة وصولاً إلى الباب، وضعت عيناها عند فتحته، تابعت ما يحدث في هلع.
رجل ملثم، مديد الطول، ذو طلعة مهيبة مخيفة، يرتدي معطفاً أسود وقبعة مستديرة يدعى "ناصر"، تقدم في خطوات بطيئة وأفسح له الرجلان مكاناً بينهما، أشار لهما أن يتراجعا للخلف، اتجه نحو محسن قائلاً: "لدي معلومات أنك حصلت على مبلغ عشرين ألف جنيه."
علت ملامح محسن الارتباك وهو يتساءل في داخله: "كيف عرف بالأمر!!"
صرف نظره عنه ليخفي ارتباكه قائلاً: "من أين لك بتلك الخرافات، أنا لا أمتلك هذا المبلغ إطلاقاً؟"
قهقه الرجل بصوت عالٍ قائلاً: "لقد رأيتك بأم عيني وأنت تحصل عليه، لا داعي للإنكار."
التفت إليه محسن عاقداً ما بين حاجبيه متفحصاً لملامح وجهه التي لا يظهر منها سوى عينيه وحاجبيه الكثيفين: "من أنت؟ هذا الصوت ليس بغريب علي!"
_ حسناً، إن كان هذا ما سيجعلك تعطيني المبلغ..
قالها وهو يحرك الشال من حول عنقه ووجهه؛ ليصاب محسن بصاعقة، أخذ يدقق النظر في ملامحه: فك عريض وشفاه غليظة وعينان مخيفتان محفورتان في وجهه.
صرخ فيه قائلاً: "أنت هو المقاول المختلس!!"
أجابه الآخر ببرود: "نعم هذا أنا."
_ اخرج حالاً، وإلا أبلغت الشرطة.
_ نعم سأخرج، ولكن ليس قبل أن أقتل زوجتك، وأحرمك إياها وطفلك قبل أن تراه..
قالها وهو يتجه نحو غرفتها، جحظت عينا ماريا وهى تتابع خطوات الرجل السريعة نحوها، وتسارعت معها ضربات قلبها الوجل؛ ليستوقفه زوجها بلكمة قوية في وجهه تسقطه أرضاً، حينها أسرع الرجلان نحو محسن وقيده أحدهما من الخلف، أما الآخر فقام بإشهار سلاحه في وجهه وكاد أن يفرغ فيه طلقاته، لكنه توقف حين صرخ فيهم زعيمهما؛ لتتزامن صرخته مع تلك التي ندت من ماريا في ضعف، وأسرع ناصر نحو محسن وأحكم قبضته على ملابسه قائلاً في صوت جهوري:
"سأمر عليك في الغد لأحصل على المال، أنا أحذرك من إبلاغ الشرطة، لن أترك لك المجال لتذهب إلى المخفر، روحك الآن بين يديّ تذكر جيداً أني أراقبك، وفي أي لحظة سأنقض عليك وزوجتك الحامل، كن حذراً فأنا لا أمزح مطلقاً.

ابتلع محسن ريقه في صعوبة، فقد جف حلقه من تهديد ناصر له، وقال له: "أعطني مهلة لبعد الغد كي أجمع المبلغ المطلوب."
نظر له محسن في تحدٍ قائلاً: "حسناً، ليكن الأمر كذلك."
أشار بعدها إلى هلفوت والأشول للخروج وتبعهما، ثم توقف لحظة ووجّه حديثه لمحسن قائلاً: "زوجتك جميلة كأمها كرستينا"، وأشار له بسبابته متوعداً: "لا تنس موعدنا بعد الغد."
أسرع محسن للتأكد من إغلاق الباب، وبعدها التفت إلى غرفة زوجته فوجدها تستند إلى الباب خائرة القوى، والعرق يتصبب منها بغزارة، لا تقوى على الحركة ولا تكف عن التأوه، اعتقد أنها ستلد، حملها بسرعة وخرج ليتفاجأ بعجلات سيارته الكاديلاك البيضاء موديل العام مثقوبة.
صاح في غضب: تباً لكم أيها اللصوص، سأريكم.
لم يجد مفراً من حملها وصولاً إلى عيادة طبيب النساء التي تبعد عن منزله قرابة مسيرة خمس دقائق، مع الأمطار الغزيرة والأرض الزلقة استغرق قرابة عشرة دقائق، فتارة ينزلق وتارة يتعثر حتى وصل بها، لكنه وجد العيادة مغلقة، فأسرع نحو منزل الطبيب في العمارة المقابلة للعيادة، فهو صديقه منذ الطفولة.
كان "دكتور جلال" يقطن في الطابق الثاني، وحينما وصل ظل يطرق الباب بشدة، ومن وراء الباب هناك من يسأل: "من الطارق ؟"
لكنه لم يتمكن من الرد؛ فقد أنهكه ما مر به وزوجته فجف حلقه وألجم لسانه.
اضطر "جلال" لفتح الباب في النهاية حينما أطلق محسن كلمة قالها سريعاً (أنا) بصوته المميز الذي يعرفه جلال جيداً، أصابه الذهول لرؤيته وزوجته في تلك الحالة: ملابسهم مبللة شربت الكثير من ماء المطر، علامات التعب والإرهاق تكسو ملامحهما، والوجهان مصفران فارقتهما الدموية، لم ينتظره محسن ليستفيق من صدمته فأسرع بوضع زوجته على الأريكة.
سأل جلال في قلق: ما بها؟
_لا أدري، أعتقد أنها ستلد.
أسرع جلال يتحسس نبضها وفعل ما يلزم لها، اكتشف حينها أنه أمامها يوم أو يومين على موعد ولادتها؛ نادى على زوجته نادية التي تملكها القلق هى الأخرى لرؤيتهم هكذا، ساعدت ماريا على النهوض، وأعطتها فستانها الخاص عوضاً عن ملابسها المبللة ، وفعل جلال نفس الشيء مع رفيقه، وجهز كوبين من الشاي، وقص عليه ما مر به.
صرخ جلال حينما انتهى رفيقه من السرد قائلاً: "لا بد من إبلاغ الشرطة حالاً"، والتقط سماعة الهاتف الأرضي.
لا يمكن أن أفعل ذلك، ولما لا!!
هم يراقبون منزلي، وتدرك جيداً أنني لو انتظرت الشرطة كي تقبض عليهم من الممكن أن أكون وزوجتي في عداد الموتى، وأنت ترى مدى سوء حالتها، واستطرد قائلاً: "هل تذكر ذاك المسدس الذي كان بحوزة والدك!"
انفعل جلال وقطب مابين حاجبيه قائلاً في غضب هادر: "ما الذي تنوي أن تفعله؟!"
_ سوف أهددهم به حتى لا يتجرأوا على المجيء لمنزلي مرة أخرى، لا بد أن أريهم أنني لست لقمة سائغة، ولبيتي حرمة من تسول له نفسه على تعديها سأقتله بيدي.

بعد قرابة النصف ساعة، خرج محسن وزوجته من منزل رفيقه، الذي أصر أن يقلهما إلى المنزل، عرضوا عليه أن يدخل ليحتسي معهم شراباً دافئاً لكنه رفض، رمق رفيقه بنظرة يعرف تماماً ما وراءها وغادر.
التفتت إليه زوجته في وهن وهى تسأله: "ماذا تنوي أن تفعل مع هؤلاء المجرمين؟"
حاول أن يرسم على وجهه ابتسامة كي يطمئن قلبها، وأخبرها أن كل ما في الأمر أن المدعو ناصر كان مقاولاً يعمل معه في المشروع السكني الأخير، وكل ما يفعله من باب التهديد بعد أن كشف غشه وسرقته للمؤن، وتسبب في طرده من العمل، ( لقد أخبرها نصف الحقيقة..)
أومأت برأسها ومازال بداخلها قلق خفي، دخلت كي تنال قسطاً من الراحة، أما هو فلم يتذوق للنوم طعماً، قام بتشغيل الراديو كي ينصرف عن التفكير، فلم يجد ما يسره، فالحرب قائمة على أشدها في البلاد، أغلقه وعاد يتطلع في قلق إلى باب المنزل، ويرهف السمع لأي حركة تدب في الخارج.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.