tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

إنها أجمل بقاع الأرض بعد الأراضى المقدسة ،قرية صغيرة نائية بسيطة هادئة بأخلاق أهلها الطيبين ، تحيطها الزراعات الخضراء ، ومن بعيد تطل الصحراء برأسها على استحياء ،ويسير النيل يترقب بجوار شفتيها حتى لاتظمأ أبدا ،بينما أصوات العصافير ، توقظ الناس فيها قبل أن تشرق الشمس ، وصوت الكروان يسبق أذان الفجر !
هنا عزبة ( المصراوية ) تجلس مسترخية على ضفة النهر فى منطقة بعيدة شبه منفية عند آخر حدود دلتا مصر المحروسة ، وتتمدد العزبة مثل فلاحة بسيطة مكتملة الأنوثة ـ تغفو على راحتها بلا استحياء ـ ساعة القيلولة .
أرضها الخصبة تحتضن النهر العذب بين ذراعيها من الضفتين الشرقية والغربية ،وطمى الأرض يفوح منه عطر الزمن ، وتستجيب تربتها العذراء لنداء النهر الفوار على الفور ، وتمنحه ذاتها ليجرى فى شرايينها ، عندئذ تصير حبلى بالخير ، وتمتلىء بطنها بالعطاء .
يشق الأخضر سوادها ، ويخرج منها مشرئبا كطائر الشوق ، متلهفا إلى الدنيا ،وتستمر تلك الحالة بين الأرض والنهر كأنها عشق أبدى أزلى بين مد وجزر ، عطاء وأخذ ..لاسيما والنهر فى حالة فيضان بعنفوان الحياة .
فى تلك اللحظات تكون أرض العزبة مثل نسائها خصوبة فياضة بلاحدود .. أرض ولود .. لها رحم طيب ودود ،ونساء صلاتهن عطاء من أجل الخلود ، والناس البسطاء فى تلك العزبة، ينظرون للمرأة التى لاتلد الإناث ، والذكور كأنها نخلة عاقر، لاجدوى من وجودها أصلا فى الوجود !
إن الله حباها بجغرافيا عجيبة .. النهر يسقيها ويحميها من الظمأ ،ويشفيها من عجز الشيخوخة ، وتصلب الشرايين ، ويمنحها الزرع والضرع ، والصحراء تمسها مسا من بعيد بيد حنون ، وتطل عليها من أعلى برأسها الشقراء الرملية الصفراء من وراء جبل صخرى شامخ ، يرونه بالعين المجردة من فوق أسطح ديارهم ،ويبدو للناظرين مهيبا رهيبا ، وقبله بقليل تستقر مقابر أهل العزبة ، وينام أمواتها مخلدون فى سلام أبدى حتى تقوم القيامة .
وإن كان بعض الناس الطيبين من أهل المصراوية يظنون ـ وليس كل الظن إثم ـ أن وراء هذا الجبل يختبىء عزرائيل فى مكان ما من الصحراء !
عندما تأتيه الأوامر من رب العالمين ، يلبى نداء الإله طوعا أوكرها ،وينزل العزبة ، ويلتقط الروح التى عليها العين ، ويرحل من حيث أتى ، تاركا الجسد الحزين جثة هامدة ، تصرخ النساء ، ويصلى عليه الرجال ثم يحملونه بعيدا عند الجبل فى أول الصحراء التى تزأر أحيانا ، وتعفر وجوه المشيعين برياح مغبرة برمال صفراء أحيانا أخرى، وكأنها تعلنهم بأن وراء الجبل ملك الموت ، ينتظر الأوامر بأسماء جديدة منهم ، عندئذ يعودون إلى الديار حزانى مكلومين من المصير المحتوم .
فى تلك الأثناء تنطلق شهقة امرأة بمخاض عسير أويسير ، ويقذف رحمها بمولود جديد ، وربما تكون خصوبتها عالية مثل نخيل العزبة ، فتجود بطنها بتوأم مثنى وثلاث ورباع ، وكله من طرح النهر، وفيض الأرض .. فى تلك الحالة تزداد العزبة بنسلها،ولاينقص عددها جراء مافعله عزرائيل .
ويتنهد حينئذ شيخ عجوز ـ أعطته الحياة خلاصة تجربتها ، ووهبته عصارة حكمتها ـ ثم يهمس لنفسه قائلا :
ـ سبحان الله .. له ما أعطى وله ما أخذ ، وما الحياة الدنيا إلا أرحام تدفع وأرض تبلع !
الناس هنا يتناسلون كالنمل ، ويتكاثرون كالجراد ، بالليل هم فى شأن ، وبالنهار هم فى شأن آخر ، لايحملون هم الرزق لأن الرزق ليس بيدهم ، بل بيد خالقهم ، والنهر أمامهم يصيدون منه سمكا مختلف أنواعه وأحجامه وألوانه بقوارب صغيرة من خشب ، وشباك من خيوط تبدو واهنة كخيوط العنكبوت ،لكنها تصمد طويلا فى الماء ، وتقبض على ثمار النهر مما لذ وطاب وتشتهى الأنفس .
لاتبخل الأرض بشىء من ذاتها حين يصب النهر فيها من عنفوانه ، ويجود عليها بشريانه فيرويها حتى الثمالة ،وبرغم أنه يشاركها أسراره السرمدية ،إلا أنها تعرف أنه مضطرب العقل ، متقلب المزاج ، وهو ليس استنثناء ، بل كل الأنهار التى تجرى بإرادة إلهية .
فى عزبة المصراوية .. الأرض هى الوطن ، والنهر هو المواطن ، والناس هم الزرع الأخضر .. هم حصاد تزاوج الماء والطين ، وحين ينتفض النيل الأزرق مندفعا فى شرايين الأرض السمراء ، مخصبا إياها بطمى الخلق الأول .. يهبط ويعلو ، ثم يعلو ويهبط ،كأنه ينفخ فيها من روحه كى تحيا ، ويحيا الناس جميعا فى العزبة .
لايتوقف النهر الخالد ولايهدأ ، يضخ من روحه فى مسارب الأرض وعروقها ، ولايبتسم إلا حين يرى الزرع يخرج من بين أضلعها مستنفرا بلونه الأخضر الزاهى ، يغمس رجليه ، ويمد جذوره الواهنة فى طينها ، وتمتد يد الفلاح الخشنة بفأسه ومحراثه ، تقلب فى بطنها بحثا عن مولود جديد .
كل ماعليه أن ينثر البذور فى رحمها ، فالأرض لاتختلف قليلا أوكثيرا عن أى امرأة خلقها الله منذ حواء حتى الآن ، مع شىء من البذور ، وشىء من الرعاية تهب صاحبها كل شىء ،وحين ترى العيون عطاء البطون ،وطرح الأرض ،ومداد الأرحام .. تشكر الله ، ويهتف الرجال :
ـ عاشت الأرض المرأة .. عاشت المرأة الأرض !
يدرك الفلاحون أن كلاهما خصوب تنتظر ـ ماء الحياة ـ حتى تعطى .. والعسل دائما مستقر فى قرار مكين من جوف النحل ـ فيه شفاء وغذاء لذة للشاربين ـ ولايخرج من مكمنه إلا بعد أن يرتوى برحيق الزهور المصفى ، والنحلة تجوب البساتين ،والحقول والمزارع ، وتقطع مئة ألف رحلة كى تنتج 300 جرام فقط من العسل الأبيض .
حين يجف الطمى ، ويمرح الفلاح فى رحابة حقله ، يشكر النهر أنه كان كريما معطاء فى موسم الفيضان ،ولاعجب إذا لعن هذا الفلاح ذات النهر ،ووصفه بالشح حين ينتابه المرض ، ويلزم الجفاف ، ويصفر الوجه ، ويضمر القاع من أثر القحط .. إنه النهر العظيم يمرض لكنه لايموت !
لاشك أن هناك قوة خارقة تحرك الأشياء ، ولايستطيع هذا الإنسان الضعيف المستضعف أن يفعل شيئا سوى التضرع إلى صاحب القوة العظمى ، ملتمسا العطاء بالدعاء .
وبنفحة من إيمان عميق تعلمها ابن النهر والأرض ـ فى تلك العزبة النائية شبه المنفية عن المدن والعمران ـ من هذا النهر الذى ينبع من الجنة .
عندما يلوم أحدهم النهر فى أيام الجفاف لاتتوقف الحياة ، فالأرض تزرع ، والنسل يكثر ، والنمل يزداد ، وهكذا الجراد .
لاشىء يوقف حركة النمو ، ولا أحد يستطيع عرقلة زحف الزمن ،وتعطيل قدرته على الصعود لأعلى .. ومهما كانت قسوة الأيام وبأسها عليهم ، وشظف العيش ،وشقاء الأهل إلا أن نفوسهم تشتاق للحرث .
إن الحرث يأتى بالنسل ، فالأرض حرث ،والنساء حرث ،ينتظرون الأرض أن تجود بسرها ، يؤجلون رغبتهم حتى يحين موعد الحرث ، الليل لهو وراحة ، والنهار بالكد ممطوط المساحة .
فى الليالى الشتوية الطويلة ، تثير الخصوبة فى النفوس كل الأمانى ،يحلم الجوعى بوجبة شهية دسمة ساخنة ، ويشتاق الأجراء ،والبسطاء من فلاحى عزبة المصراوية لقطعة أرض يتملكونها ، ويهمسون بتلك الأحلام بكلمات تسرى بالليل ،والناس نيام .. والكلام بالمجان ،ولاسعر للأحلام !
هنا فى المصراوية ، ومنذ ألاف السنين يعيش الناس ويتناسلون ، ولاأحد يدرى كم مضى من الزمن حين استوطن الجدود تلك البقعة ، وللأسف الشديد لامؤرخين هنا فى هذه العزبة المنسية المنفية بأمر الله .
لاأحد يعرف كم عدد القرون التى مضت ،وانقضت منذ وطأتها أول قدم ،لكن الذى يعرفه الجميع أنهم يحبون الإنجاب بغير حساب ،وإيمانهم راسخ لايتزحزح بأن عليهم الإنجاب ، وعلى الله الأرزاق ، كما يقذفون البذور فى جوف الأرض ، والله كفيل بالأمر كله من قبل ومن بعد .
فى تلك البقعة المنسية من على خريطة المحروسة ، يظن الناس أن الأولاد ثروة تمشى على قدمين ، ويرون أن إنجاب الذكور أمل ، وإنجاب الإناث خيبة أمل ، رغم أن أمل كل ذكر أنثى ، وخيبة كل أنثى ذكر !
يحبون الإنجاب كثيرا ، ويتهافتون عليه ، ويحبون الذكور حبا جما لأسباب متعددة ، لعل أهمها أن الذكر يحمل اسم أبيه ، ولايدركون أن الأنثى تحمل الأب نفسه فى السراء والضراء .
فى عرفهم منذ القدم .. أن الولد للحقل والنهر .. يزرع ويصطاد .. أما البنت فهى للطهى ،وشئون الدار .. لايدركون الكثير من الحقائق والأسرار ، وربما فى عقولهم بعضا من جاهلية قديمة ، ولايعلمون أن شهريار الملك المتوحش سفاح النساء ،وسافك الدماء ، روضته امرأة بالحكايات المسلية .. امرأة عادية ، لكنها استثنائية !
حين يندفع ماء النهر من ماكينات حديثة ، أوقواديس وسواقى عتيقة إلى القنوات التى تتفرع ، وتجرى فى عروق الأرض فتبدد سوادها ، وتلون سمرتها بألوان شتى ،حينئذ يتزاوج السواد الذى يشبه المسك ، بالأخضر الذى يشبه الياقوت ليخرج من بطونها سنابل قمح ذهبية ، طويلة الساق ، مرفوعة الهامة ، ممدوة نحو السماء !
تمتلىء الغيطان بصنوف شتى من الحبوب ،والغلال والخضروات والفواكه ، وأشجار عالية ضخمة متناثرة بفوضى منظمة على رؤوس الحقول ،هذه شجرة توت مثمرة ، توتها أسود من عسل مصفى ، وتلك شجرة أخرى توتها أبيض من عسل الجنة ، وتلك شجرة جميز عجوز شمطاء لاتضن بظلها ، وحبات ثمارها على فلاح منهك مكدود ، يأوى إليها هاربا من لهيب الشمس الحارقة .
والنخل يصعد إلى السماء ،رافعا يديه بتضرع خشوع كأذرع الآلهة القديمة .. ولاأحد يدرى ماذا يقول النخيل لله فى السماء السابعة ، ربما يشكره على أنه جعله أعلى الأشجار قامة ، وأطولها هامة ، وأكثرها حجما وعمرا .
والنهر يمضى فى سبيله ،حيث أراد له الله ،هادئا ساكنا ممتدا ،وسط صمت الوادى ، وصخب الناس فى تلك العزبة ، لكنهم يزعجون النهر بقواربهم الخشبية ، وبمجاديفهم التى تلطم وجهه الصافى المبتسم ، وشباكهم التى تقض مضاجع السمك ، وتسرق النوم من عينيه ، وتحرمه الطمأنينة فى المياه الزمردية .
هنا فى عزبة المصراوية لايعرف الناس شخصا ميسورا إلا سعد عبدالراضى ، وهم يحسدونه على ما أعطاه الله بغير حساب ، ومن أوسع الأبواب .
عرفوه أبا عن جد أغنى رجال الناحية كلها ، هو آخر سلالة آل عبدالراضى الذين عاشوا أثرياء فى نفس القصر الفخم على النهر ، وورث ثروة هائلة بفعل الزمن ،وتضاعفت مع الأيام .. ولم لا .. أليس المال يجلب المال ؟!
هذا الرجل بحرصه الشديد ، استطاع أن يجعل ثروته هرما مثل الجبل الشامخ القابع هناك آخر مرمى البصر ، والفاصل بين الصحارى والحضر ، والرابض كأسد جسور بعد المقابر بقليل .
وصار ماتملكه يداه لاتحده حدود ، فى حوزته معظم أراضى العزبة ،وحقولها ومواشيها ،وطيورها وأسماكها إلا قليلا .. حتى القوارب الخشبية التى تسبح فى النهر تطارد السمك ، هى ملكه أيضا ، ومن يمتطونها فى عرض النهر إما مستأجرون لها ، أوعمال عنده باليومية .
شىء غريب أن معظم أهالى العزبة فقراء بسطاء معوزين ، أغناهم فقير باستثناء سعد عبدالراضى الملياردير ، وله من اسمه نصيب ، فسبحان مقسم الأرزاق ،وواهب الأسماء ، ولاتذكر المصراوية إلا مقرونة بإسمه واسم عائلته .
ولأن الحياة لاتخلو من المنغصات ، والسماء لاتعطى كل شىء لحكمة لاتدركها عقول البشر ، لم يرزق سعد عبدالراضى بالأطفال ، وقد بلغ الرجل الخامسة والأربعين من عمره ،وعاش مع زوجته وداد عشرين عاما كاملة ،دون بارقة أمل فى أن يرى ذريته ، رغم أن كل الظروف مهيأة .
زوجته تصغره بخمس سنوات ، وفى كامل صحتها ، وتمام أنوثتها واستدارتها وجمالها ، وخلال عقدين من الزمان جرت مياه كثيرة من النهر إلى الأرض ، لكن الأرض لاتثمر ، وكل هذه السنوات لم تسفر عن شىء يذكر ، أوطفل يحبو ويمرح .
طاف بها على أشهر الأطباء دون جدوى ، وكلهم تعجبوا ،وقالوا لاموانع .. لكن ظلت الموانع علوية مجهولة ،بقوة قاهرة لايعلمها سوى ولى النعم ، الواهب الرزاق ، الذى يقول للشىء كن فيكون ، ولايكف الناس فى ثرثرتهم كلما تجمعوا فى حقل ،أوعلى ضفة النهر ،أوخلف جدار فى أى دار عن طرح هذا الأمر، وهم يتعجبون مدهوشين ، وعيونهم نحو السماء :
ـ حكمتك يارب .. لمن يترك سعد عبد الراضى كل هذا ؟!
يتساءلون ويتهامسون ، وتحيرهم التساؤلات بلا إجابات شافية ، ويدركون فى نهاية الأمر أن حكاية ملياردير عزبة المصراوية ، وزوجته وداد السيدة الجميلة تضيف إلى ألغازالحياة ، لغزا آخر لايمكن فهمه .
فى هذه العزبة المنسية النائية ، لايمل ولايكل الفقراء من أمرين متناقضين فى غاية الغرابة ..الأمر الأول :
ـ العوز والبؤس ، وشظف العيش .
أما الأمر الثانى :
ـ كثرة العيال ،ومشاكلهم فى ظل ضيق ذات اليد ،وشح الرزق .
ويود معظمهم أن تنزل صاعقة من السماء فتأخذ نصف أولاده حتى يستطيع أن يسد رمق النصف الآخر !
ومع ذلك لايتوقفون عن الإنجاب ، ولايكفون عن معاشرة النساء ، وإيمانهم راسخ بأن كل مافى الدنيا منزوع العدل ، وتم توزيعه بطريقة ظالمة ، وأن العدل ليس على الأرض ، بل فى السماء !
الحيرة تعذب الجميع ، ولاأحد يرضى بالمقسوم له .. من رزقهم الله الأولاد وحرمهم سعة الرزق ، ومن رزقهم الله سعة الرزق ، وحرمهم الأولاد .. كلاهما سواء .. أما سعد عبدالراضى صاحب الملايين ،والأطيان والبساتين مثله كالآخرين ، ومحنته تثير فى النفوس أشجانا وحسرة ،وتلقى بغلالة من العجب ،وتغشى العقول بسحابة تخفى كل المتناقضات .. الموت والحياة ، الغنى والفقر ، النجاح والفشل ، السعادة والتعاسة ، الجوع والشبع ، الرضا والسخط ، القحط والفيض، النعيم والجحيم !
القصر الكبير المهيب لايسكنه سوى الرجل وزوجته ، وحفنة من الخدم والحرس ، ويطل بشموخ من الأعلى على النهر ، والفراغ اللانهائى على مرمى البصر يسرح فى المزارع والحقول كالفرس الجامح ، وبرغم جماله المعمارى ، وزخارفه الحديثة ،ورخامه البديع إلا أنه يبدو كأحد القصور التى تطل من حكايا ألف ليلة وليلة الأسطورية .
لاشىء ينقص سعد عبدالراضى ،وزوجته سوى أمر السماء حتى يأتى الطفل الموعود ، والمعقود عليه كل الأمال ، لتكتمل دوائر السعادة فى القصر العظيم .. إن المال وحده لايكفى زينة الحياة الدنيا ، وإنما المال والبنون .
لم يأت الطفل المنتظر على مدى سنوات طويلة فائتة ، عاشا أحلاما وردية فى انتظار البشارة دون جدوى ، العمر يجرى ،والزوجة تقترب من سن الغروب ،لكن ظل الأمل يراودهما ،ولاينقطع عنهما خيطه الرفيع عسى أن تحدث المعجزة .
هاهى غرف القصر تتسع لكل أهل العزبة بأولادهم ،وزوجاتهم ودوابهم وطيورهم ، لكنها واأسفاه مازالت فارغة باردة تترقب الأطفال أن يملأوا فراغها ، ويبددوا برودتها بأنفاسهم الدافئة .. وحين يأتى الطفل الأول ربما تنحل العقدة ، ويأتى بعده أخوته .
مع مرور الأيام ، وتقافزها نحو الأمام على الدوام ،وانقضاء السنوات يخبو الأمل ، ولم يظهر للطفل الأول أثر .. كانا فى البداية ، وعلى مدى عشرين عاما ينامان فى غرفة واحدة فى فراش من حرير يشبه ريش النعام ، ولها شرفة سحرية تطل على النهر المستكين السابح فى ملكوته ، وديار العزبة ، والنخل العالى الصاعد نحو السماء .
وبفعل الزمن تلاشى الأمل ، وخفت صوته فى ضمير كل منهما ، وإن كان الأمر الأكثر غرابة أنهما اقتنعا بأن السماء لاتعطى كل شىء ، ربما لكى تظل سعادة الإنسان منقوصة لحكمة غامضة الله وحده سبحانه يعلمها .
ارتضيا بالحال دونما جدال ، وسلما للواقع بما هو واقع ،وتوقفا عن الإنخراط المتواصل فى طريق الأطباء ، والتحاليل والأشعات التى لاتؤتى ثمارها .
لقد صار لديهما مايشبه اليقين أن هناك مايفوق قدرة البشر ، وعلم العلماء ، وحكمة الأطباء يحول بينهما ، وبين الطفل الحلم .
لم تعد تجمعهما غرفة واحدة إلا نادرا ، فالقصر فسيح ،وغرفه لاتعد ولاتحصى ،وطوابقه متعددة رخامية باردة ، وصار مصير كل منهما فى غرفة بمفرده ،وعلى سرير خاص ، وفى الليالى الباردة العاصفة ،تهب الرياح من النهر القريب فتجدد الأمنية المحنطة فى العقل والقلب ، وتجدد الحزن الكبير الذى لاينمحى إلا بمولود جديد !
ويبقى فى هذا القصر الفخيم سر غامض ، وشىء ما مجهول لايدركه أحد ، وفى ردهاته الرخامية الممتدة ، وغرفه الواسعة المتعددة ،وسقوفه العالية اللامعة روح الحب تظللهما ، رغم كل شىء .. رغم الضجر ،وحضور الملل الذى يملأ النفوس ، ويعبء الغرف الشاغرة فى قصر الحب بالكامل ، إلا أن السعادة تظل موجودة ،وإن كانت منقوصة .
حين يداهمهما الليل الطويل ، فى الشتاء البارد المطير ، يحل الظلام فيكسو العزبة كلها برداء الستر والصمت ، وتنام كل العيون إلا سعد وزوجته وداد ، وقد هدأت وسكنت نار الحلم ، ولايبقى لهما منها سوى رماد الذكريات ، وبقايا أمنية مستعصية ، تبدو مستحيلة ، وكلمات حانية هامسة تنطق بها الشفاة ، ثم تنام العيون الساهرة ، تغفل مؤقتا عن الحلم الذى يظل مغروسا فى قلبين ، ومقسوما بالعدل بينهما ، ويتحول الليل الشتوى الطويل الموحش إلى حبل ممدود ، مابين اليأس والرجاء المضفر بخيوط من الصبر الجميل .
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.