tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

- الصين! مرة أخرى يا إياد؟
- نعم يا أبي ، وماذا في هذا ؟
- ألم ننتهي من هذا الأمر يا إياد ؟
- يا أبي إنها الحياة ولابد أن نعيشها ، وهذه فرصة كنت انتظرها منذ زمن وأسعى إليها.
- ولكنك لم تقل لنا هذا من قبل ، ولم تتحدث معنا أنا وأمك عن هذا السفر ؟
- نعم يا أبي هذه حقيقة ، والسبب أني لم أكن واثقا تماما من حصولي على تلك الفرصة التي سعيت إليها كثيرا.
- يا ولدي وهل تتركنا مرة أخرى وتسافر إلى تلك البلاد البعيدة التي تأخذك منا ولانستطيع حتى رؤيتك إلا بعد فترات متباعدة؟ يجب أن تفكر جيداً يا إياد قبل أن تُقدم على هذه الخطوة فالحياة ياولدي قصيرة وأنا وأمك بحاجة إلى وجودك بجوارنا ، دعك من هذا السفر ،ألا يكفيك أربع سنوات قضيتهم في تلك البلاد البعيدة الغريبة ، والحمد لله حصلت على الدكتوراه من هناك وأصبحت عضو هيئة تدريس في جامعة الإسكندرية ، والحياة والمستقبل كله أمامك .
- نعم يا أبي معك الحق ،ولكن ليس هذا طموحي ، ليست الوظيفة أو اللقب العلمي هو ما أطمح إليه ،هناك أشياء أخرى أود تحقيقها والوصول إليها .
- ياولدي ، هل يوجد بعد لقب دكتور في الجامعة! تلك الوظيفة المرموقة التي يجاهد الكثير للحصول عليها ولايصل إليها إلا القليل ، والراتب المميز الذي تتقاضاه ، والمستقبل الكبير الذي ينتظرك .. ماذا تريد بعد ذلك؟ أرضى بما أنت فيه ولاداعي لهذا الطموح الغير مبرر والطمع في الحياة أكثر من اللازم.
- ليس طمعاً في الحياة يا والدي ولكنه طمعاً في العلم ، وهو الطمع المحمود الذي يضيف لصاحبه وللبشرية كلها ، فهو الطمع المفيد وياليت الجميع يسعى إليه ويعمل جاهدا على نيله.
- وماذا ستعطي للبشرية يا إياد؟ ماذا يمكنك أن تضيفه؟ إن الغرب فعل كل شيء ولم يترك لنا ما نفعله .
- يا والدي أنا كما تعلم تخصصت في الذكاء الإصطناعي ، والدكتوراه التي حصلت عليها في هذا المجال ، وهنا لا أفعل شيئا سوى تدريس ماتعلمته دون أدنى إضافة ، وهذا ليس طوحي ، أنا لا أجد نفسي في هذا العمل ، إن ما أسعى إليه حقيقة هو مجال الاختراع وإضافة الجديد لهذا المجال الخصب ؛انه عالم المستقبل ، صراع الدول والحضارات، وعالم الروبوت والإنسان الآلي واستخدام الذكاء الإصطناعي في شتى مجالات الحياة هو اهتمام العالم أجمع في هذا العصر الحديث،وأنا أجد نفسي في هذا المجال وأحلم أن أكون من أبرز علماءه ،وهذا لن يتحقق لي هنا في مصر ، لذلك سعيت للسفر إلى الصين معقل تلك الصناعة وإحدى أعظم الدول المتقدمة في هذا المجال .
- نعم يا بني ولكن لماذا الصين ؟ البلاد المتقدمة كثيرة لماذا لم تختار سوى تلك البلد البعيدة الغريبة عنا في كل شيء؟
- يا والدي ، لقد قضيت في الصين أكثر من أربع سنين وأعرفها جيدا،واستطعت خلال فترة وجودي هناك أن أعمل بعض الصداقات ، وأيضا عرفت الكثير عن عالم الذكاء الإصطناعي في هذا البلد الكبير ومدى التقدم الكبير الذي وصل إليه علماؤها في هذا المجال ؛ الصين هى الأنسب لي يا والدي ، لاتقلق .
- وكم المدة التي سوف تقضيها هناك هذه المرة ؟
إياد يبدو مترددا في الإجابة ، يتبادل النظر مع والده ، ثم يوجه نظره إلى أرجاء الغرفة محاولا أن لاتقع عينيه في عين والده وهو يجيبه ، يجيب وهو متلعثم والكلمات تتساقط منها الحروف .
- انه يا والدي عقد عقل ، سوف أستمر هناك طوال حياتي .
والده ينظر إليه صامتا لعدة دقائق ، فقد أخذته الصدمة ، تترقرق الدموع في عينيه ،يحدثه وحشرجة البكاء في صوته .
- ماذا ؟ ماذا قلت ؟ عقد عمل ! طوال حياتك ! ماذا تعني بهذا القول ؟ تتركنا أنا وأمك في هذا العمر وتعيش بعيداً عنا ، تتركنا بعد أن أنتظرناك أربع سنوات حسبناها بالدقائق والثواني ، كل يوم منها كان يقتلنا انتظاراً ووحشة وتوجعاً ، وكان عندنا الأمل ، نحسب الأيام لتعود لنا بعدها حاملا درجة الدكتوراه لنفخر بك بين الأهل والأصدقاء ، تحمَلنا أربع سنوات طوال عجاف حتى أنقضوا، لاتعلم ما عنيناه طوال هذه المدة ، لقد مرت علينا دهراً طويلاً وعمراً مديداً ، أخذ من حياتنا ومن عمرنا ومن سعادتنا ومن صحتنا ،ولكننا حمدنا الله أخيراً أن تلك الأيام مضت وأنتهت وعُدت إلينا، ولم نتوقع أبدا أنك سوف تفاجئنا بهذا الخبر الغريب وتلك المفاجأة المريعة ؛ تسافر بعقد عمل لتقضي عمرك بعيداً عنا وتتركنا نجتر مرارة الأيام وجفاف الأحلام وقسوة العيش والأحزان ، لماذا يا ولدي ؟ ماذا ينقصك هنا ؟ ولماذا تلك المغامرة ؟ وماذا يمكنك أن تفعله هناك ولا تستطيع عمله هنا ؟ الكثير من العلماء والعظماء يعيشون على تراب هذا البلد ، وأستطاعوا أن ينجزوا ما يريدون ويحققوا أحلامهم هنا في بلدهم بين ناسهم وأهلهم ،لماذا لم يفكروا في السفر والهجرة مثلما فكرت أنت ؟ لماذا تلك القسوة يا إياد ، لماذا ؟
تَدخل أم إياد في تلك اللحظة تحمل صينية بها فناجين القهوة وتضعها على المنضدة وتتجه بحديثها إلى إياد قبل أن تنظر إلى والده وتري الدموع في عينيه .
- القهوة يا دكتور إياد ، مضبوطة كما تحبها ،وقهوتك السادة يا أبو إياد،..... مابك يا أبو إياد ؟ ماهذه الدموع التي في عينيك ؟ ماذا حدث ؟
- لاشيء يا أمي ، لاشيء.
- ماذا حدث يا إياد ، لماذا يبكي والدك ؟
- لاشيء يا أمي ، لاشيء.
- ماذا حدث ؟ أحدكما يجيبني ، هل حدث مكروه لأحد من العائلة ؟ هل حلت علينا مصيبة ؟ أجيبوني بسرعة ،ماذا حدث ؟
أبو إياد يجيبها بصوت تقطعه حشرجة البكاء .
- إياد سوف يتركنا ويسافر ؟
- يا أبو إياد ، وقعت قلبي يا شيخ ، وفيها إيه لما يسافر ، ما أحنا أتعودنا انه يسافر ، هو في شهر بيعدي مايسافرش فيه .. أهو كل يوم يسافر جامعة القاهرة وجامعة عين شمس وكتير من الجامعات والمؤتمرات في كل مكان .
- يا أم إياد ،إياد مسافر الصين .
- الصين؟ تاني ، طيب ليه؟ ماهو خلاص أتخرج من هناك وأخد الشهادة ، إيه اللي هايرجعه تاني الصين ؟
- مسافر شغل ، هايقعد طول عمره هناك .
أم إياد تضرب على صدرها في فزع .
- يا مصيبتي ، طول عمره ! يعني إيه ؟ هايسافر ويسبنا ؟ أزاي الكلام دا ؟ ومين قال كده ؟ صحيح الكلام دا يا إياد ؟
إياد يصمت ولايجد مايجيب به .
- أتكلم يا إياد ، صحيح ها تسافر وتسيبنا ؟ طيب ليه ؟ وإيه السبب ؟ الجامعة اللي هاتسفَرك ولا أنت هاتسافر مع نفسك ؟ وأزاي يابني قدرت تفكر أنك تسيبنا تاني وتسافر؟ وكمان شغل!يعني طول عمرك ، أزاي يعني ،أزاي ،فهمني ، أزاي تفكر في كده ؟ أزاي يطاوعك قلبك ، هو إيه اللي حصل في الدنيا ؟ إيه يا أبو إياد ماتقول حاجة ، أنا هاقعد أكلم في نفسي كتير ؟ ماينفعش يا إياد ، اللي بتقوله دا ما ينفعش ياحبيبي ، سيبك من الفكرة دي ، وإن شاء الله هاتحقق اللي أنت عاوزه هنا وهاتوصل لأعلى المناصب وبكرة تقول أمي قالت .
- أهدي يا أم إياد ، أهدي شويه ، إياد خلاص أخد القرار .
- معقولة ؟ معقولة يا إياد قررت ؟ يعني خلاص هاتنفذ إللي في دماغك ؟ بس أكيد في فرصة للتراجع ؟ مافيش حاجة أسمها قرار وأنتهى الأمر! لازم نتشاور مع بعض ، نتكلم ، نشوف الأمور رايحه فين ، وإيه الصح وإيه الغلط .
- ياماما أرجوكِ ، حاولي تهدي شويه ، أنا موش عاوز أزعلكم وعشان كده أخدت القرار وسعيت في الإجراءات من غير ما أقول لكم ، عشان عارف اللي هايحصل ، وعارف أنكم موش هاتوافقوا، لكن خلاص الأمور تقريبا شبه منتهيه .
- يعني إيه يا إياد شبه منتهيه ؟
- يعني يابابا أنا خلاص وقعت العقد مع معهد البحوث في الصين ، وأخليت طرفي من الجامعة ؟
يعني إيه أخليت طرفك ؟ أستقلت ؟
- لا يا والدي تقدمت بطلب إعارة وتم الموافقة عليه في مجلس الجامعة وعليه أخليت الطرف من الكلية والجامعة وتحدد موعد سفري خلال عدة أيام قليلة .
- يالهوي .
قالتها أم إياد وهي تضرب صدرها بيدها من المفاجأة وبعدها أنسابت دموعها غزيرة تجري على خديها بينما إياد يحاول أن يهديء من روعها .
- أرجوكِ يا أمي ،أرجوكِ، لاداعي لهذا ، الأمور أبسط من ذلك بكثير ؛السفر لم يعد مشكلة ، والإتصالات متاحة الآن في كل مكان ، ولاتوجد بلد بعيده ، الطيران قرب المسافات ، وبات العالم قرية صغيرة ، وسوف نكون معا دائماً ، سنتواصل دائماً ، وسأحاول أن أزوركم كل مدة ولن أتأخر عليكم ، أرجوكما لاداعي أن تشعراني بالذنب ، إنه المستقبل وفرصتي التي أسعى إليها ، لقد أتخذت قراري وها أنا استعد للسفر ولامجال للرجوع ، أرجوكما أن تتقبلا الوضع وتفكرا في القادم ، دعونا الأيام القادمة نعيش لحظاتها ونرتب أفكارنا ونرى مايجب فعله .
- هل تعني أن هذا القرار لامجال للعودة فيه ؟
- نعم يا أمي ؟
- يابني يجب أن تفكر وتعيد تفكيرك مرة أخرى ؛ إن هذا القرار لايخصك وحدك ،أنا وأبوك ، هل فكرت فينا؟ في حياتنا؟ في الأيام القادمة ونحن نعيش بمفردنا وأنت بعيدا عنا؟ قرارك خاطئ يابني .
- يا أمي ، أرجوكِ لاداعي لهذا الكلام ؛ فالأمور قد حسمت وأنتهى الأمر.
أم إياد تسرح قليلاً ثم تنفجر صارخة.
- ياللمصيبة التي حلت علينا ، الآن قد تأكدت من نبؤة ضاربة الودع .
- أي نبؤة يا أمي تتحدثين عنها ؟
- هل نسيت يا إياد يوم أن كنا معاُ على شاطئ البحر منذ عام أو أكثر عندما استدعيت ضاربة الودع وهى تسيير بين المصطافين تقرأ لهم الغيب وتنبئهم بما سوف يحدث لهم ، وقتها ضربت لك الودع وأخبرتك أنك على سفر طويل إلى بلاد بعيدة غريبة .
- يااااااه ، نعم يا أمي ، وهل لازلتِ تتذكرين ذلك اليوم وقول تلك المرأة ؟
- نعم يا إياد فما قالته المرأة لايمكن أن تنساه أي أم خاصة أنه يتعلق بإبنها وحيدها .
- ماذا قالت تلك المرأة يا أم إياد ؟
- نعم يا أبو إياد ، أتذكر تماماً هذا اليوم عندما نظرت ضاربه الودع إلى إياد نظرة فزعة وترددت في الحديث ،وعندها قال لها إياد تحدثي ماذا يقول لكِ الودع ، قالت وهى تنظر إلى الأرض ونظرة الفزع لاتزال تملئ عينيها : سوف تسافر إلى بلاد بعيدة ، حاذر ياولدي ، أحذر من هذا السفر ، ستلاقي فيه الأمرين ، وحاذر من رجل ليس من وطنك ولاجنسيتك، أحذره ياولدي ، ربما .. ربما يؤذيك أذية كبيرة .
- سألتها يومها ياإياد، هل تتذكر؟
- مانوع تلك الأذية ، أذية مادية أم جسدية أم ماذا ؟
ترددت ضاربة الودع كثيراً قبل أن تنطقها سريعا وتغادر المكان على عجل دون أن تنظر إلينا .
- لا أدري بالضبط ، لكن ما أستطيع قوله أحذر هذا السفر فإنه "ذهاب بلاعودة " .
- هل تتذكر ذلك اليوم يا إياد ؟
- نعم يا أمي تذكرت هذا اليوم وهذا الحديث الذي مر عليه فترة طويلة ، لقد نسيته تماماً ،لماذا تذكرتيه اليوم يا أمي ؟
- أنا لم أنساه يا إياد ولم يغادر فكري منذ أن قالته تلك المرأة ، يومها نَظرت لي وقلت هذه تخاريف لايجب أن نصدقها وأستخففت بحديث تلك المرأة وضحكت كثيراً على إنزعاجي من حديثها ولقنتني محاضرة عن الخرافات التي نعيش بها بينما العالم يتقدم ويجوب الفلك والبحار ، ودللت على حديثك بأن ماتقوله هذه المرأة خرافة لامجال له من الصدق بأنك لن تسافر ولن تبتعد عن الوطن فكيف يحدث لك هذا وكيف يؤذيك أحدهم وأنت هنا في وطنك ،يومها حاولت أن ابعد الشك عن نفسي وأصدق قولك ، ولكن حديث المرأة ظل في رأسي وقلبي يؤرقني ليلا نهارا ، وها أنت اليوم توقظه مرة أخرى ، بل وتؤكده ، فهاهو السفر البعيد يتحقق ، وأخشى أن تتحقق نبؤة تلك المرأة ، أرجوك ياولدي ، أرجوك يا إياد ، لاداعي لهذا السفر ، لأجل خاطري وخاطر والدك ، ألغي سفرك هذا وعش بيننا .
- لاداعي للبكاء ياأمي ، أرجوكِ ، ولاتصدقي تلك الخرافات ، فلا أحد يتنبأ بالمستقبل ولا يعلم الغيب إلا الله ، لاداعي أن تسيطر عليك تلك الخزعبلات وتتركيها تتحكم في مستقبلنا وأيامنا وحياتنا ، دعينا الآن من هذا الحديث ، فالأمر قد أنتهي ، هيا بنا نفكر في الأيام القليلة الباقية لي هنا قبل السفر ، دعوني أستعد وأجهز أحتياجاتي وأوراقي ، فالوقت يجري بسرعة ويجب أن أعد العدة وأستعد لهذا اليوم ، سوف أذهب الآن إلى الجامعة لإنهاء بعض الأمور وسأعود عصراً نكمل حديثنا .
غادر إياد المنزل متجهم الوجه ، بينما أخذت أم إياد تبكي ، واتجه أبو إياد إلى الشرفة وأخذ ينظر إلى البحر والدمع يترقرق في عينيه دون أن ينبس بكلمة .

*******


- أهلاَ دكتور أسامة .
- مرحباَ دكتور إياد .
- لماذا تأخرت يا أسامة؟ انتظرتك أكثر من نصف ساعة.
- أعذرني يا صديقي فأنت تعلم إزدحام الشوارع وكثرة السيارات في هذا الوقت ، ثم إنك طلبت أن نلتقي هنا أمام قلعة قايتباي وأنت تعلم أنها بعيدة عن بيتي .
- نعم ياعزيزي فهذا المكان أعشقه وألوذ به كلما ألم بي كرب .
- أعوذ بالله ،أي كرب تتحدث عنه يا إياد ؟
- سوف أحدثك بكل شيء.
- حسناَ ، هيا بنا إذا نجلس في "كافيه" نشرب قهوة ونتحدث.
- لا يا أسامة ، أريد أن أتمشى على الكورنيش ، فالموج اليوم مرتفع وهاهى مياه البحر تضرب الصخور ويتناثر الرذاذ على المشاة خارج السور، وأنت تعلم كم أحب هذه الأجواء وأستمتع بها ، فهي تأخذني إلى عالم حالم وتنعش روحي .
- نعم أعلم حبك للبحر وكل ما يتعلق به فأنت إنسان حالم منذ أن عرفتك ، هكذا هم أصحاب برج الحوت ،هذا البرج المائي المحب للحياة ولجميع البشر وصاحب الأحلام البعيدة والخيالات الخصبة .
- عظيم جدا ، من أجل هذا طلبت أن أقابلك اليوم يا أسامة ، أنت من أعز أصدقائي ، وتعرفني منذ أعوام كثيرة ، بالإضافة إلى أنك تعمل معي في نفس الكلية والجامعة ، فأنا كتاب مفتوح بالنسبة لك ، وأنت أيضا ، لذلك سوف أكون صريحا معك وأتحدث بكل مايدور بخلدي .
- ماذا بك يا إياد؟ لم أسمعك تتحدث بتلك النبرة من قبل ، ماذا هنالك ؟ هل حدث مكروه لأحد من عائلتك ، أم هناك مشكلة تقابلك في عملك وأبحاثك؟
- لا ياصديقي العزيز ، ليس الأمر كذلك .
- إذاً تحدث بماعندك .
- استمع لي يا أسامة جيدا ، أنا أعلم جيداً أنك مُغرم بالأبراج والغيبيات وعالم ماوراء الطبيعة ، وتقرأ كثيراً في هذه الأمور ، ولديك فيها خبرة واسعة ، لذلك سوف أسألك سؤالاً واضحا وأريد إجابة صريحة .
- أسأل ماشئت يا إياد.
- هل تؤمن بضرب الودع ؟
- ماذا تقصد بضرب الودع ؟
- هؤلاء السيدات اللاتي ينتشرن على شواطئ الإسكندرية يضربن الودع مقابل القليل من المال.
أسامة يضحك بصوت مرتفع ويضرب يده اليسرى بيده اليمنى علامة التعجب من سؤال صديقه .
- هل أتيت بي إلى هنا يا إياد لتسأل هذا السؤال ؟
- أرجوك يا أسامة أن تأخذ الأمر بجدية ؛ فإن ماحدث معي يزعجني حقيقة.
- ماذا حدث معك ياعزيزي ؟
- باختصار،إحداهن ضربت لي الودع منذ أكثر من عام وقالت لي بالحرف الواحد "أمامك سكة سفر بعيدة ، وحاذر فأنه ذهاب بلاعودة " يومها لم ألقِ بالاً لهذا الحديث فالأمور كانت مستتبة وكان السفر بعيداً عن تفكيري ، ولكن الآن وأنا أستعد للذهاب إلى الصين ذَكرتني والدتي بتلك النبؤة وأكدت أنها لم تذهب من تفكيرها منذ سمعتها وتخشى تلك السفرية ، وأصدقك القول لقد أنتابني بعض الخوف وسيطرت على أفكاري الكثير من الهواجس التي باتت تشغل بالي وتؤرق نومي .
- اسمع يا إياد ، أترك تلك الخزعبلات ولاتشغل بها بالك ؛ فهذا كله هراء ووسيلة نصب لكسب العيش من هؤلاء السيدات ، وإن افترضنا جدلاً ياعزيزي أن ضرب الودع نوعاً من العلم أو وسيلة إتصال روحي أو حتى شيطاني يستطيع صاحبه أن يتنبأ عن طريقه ببعض الأمور المستقبلية ، فما يدريك أن تكون تلك السيدة من هؤلاء المكشوف عنهم الحجاب في هذا الأمر وعلى دراية تامة ببواطن الأمور؟ وإن كانت كذلك ، لماذا لم تضرب الودع لنفسها وتعرف طريقها وحياتها وتجد الوسيلة الأجدى للحصول على المال وتترك هذا التسول على الشواطئ ، أنهن مثل الدجالين والمشعوذين الذين يدعون قدرتهم على شفاء الغير وجلب السعادة والأموال الكثيرة لهم، وتنظر إلى حياتهم تجدها ضنكا وفقراً ومطاردات من الشرطة ، لو كانوا حقا قادرين على فعل ما يقولوا لفعلوا ذلك لأنفسهم وتركوا تلك المهن الشاذة والغريبة .
- نعم يا أسامة ، أنا معك تماماً، ولا أؤمن بتلك الخزعبلات ، ولكن لانستطيع أن ننكر أن بعض قولهم يصدق ويتحقق ، وقد حدث ذلك مع الكثير من الأقارب والأصدقاء.
- ربما مصادفات ياعزيزي ، لاتشغل بالك بهذه الأمور .
- هل تعني أنك لاتؤمن بالغيبيات وماوراء الطبيعة وهذه الأمور التي تستحوذ على فكر الكثير من الناس ؟
- أنا لم أقل هذا ، أنت تعلم أني أهتم كثيراً بهذا العلم ، ويشغل بالي الكثير والكثير من الأحداث التي أحاول الربط بينها في هذا العالم المتسع .
- إذا لماذا تنكر نبؤة ضرب الودع ؟
- أنا لم أنكرها على أطلاقها ، ولم أصدقها أيضاً، ولكن لايجب أن تشغلنا مثل هذه الأمور عن حياتنا وتتحكم في مصائرنا ؛ فهي نبؤة ربما تتحقق وربما لاتتحقق .
- ماذا تقول ؟ ربما تتحقق! هل تعي ذلك ؛إن تحقيقها يعني موتي ، عدم عودتي من السفر هو موتي ،إذاً هناك نسبة مغامرة ؟ ربما تكون هذه المرأة صادقة.
- ياإياد ، وربما وهو الأرجح أن تكون كاذبة .
- الأمور غير واضحة ياصديقي ، وأنت لم تجب إيجابة قاطعة.
- لقد قلت لك يا إياد ، أترك هذه الأمور وراء ظهرك ، وتناسي ماقالته تلك المرأة .
- لا أدري ، لا استطيع أن أغفل مقولتها ، إنها تٌطبق على صدري وتشغل فكري وينتابني شعور قوي أنه ذهاب بلاعودة.
- أسمع يا أسامة ، إن ماتخشاه ليس نبؤة تلك المرأة ضاربة الودع ،خوفك الحقيقي هو السفر إلى الصين بعينها ؛ فهذا البلد بعيد ، بعيد جدا عن مصر ،وأهله ومناخه وطقوسه .. كل شيء هناك يختلف كثيراً عن حياتك التي أعتدتها ، وهذا هو السبب الحقيقي لخوفك من تلك الرحلة الطويلة .
- لا يا أسامة ليس هذا سبب إنزعاجي ، فقد عشت في الصين أربع سنين وأعرف الكثير عنها وعن أجوائها وطقوس سكانها .
- نعم يا إياد عشت هناك تلك الفترة ، ولكن لم تختار أن تعيشها ، رسالة الدكتوراه كانت تفرض عليك ذلك ، والبعثة التي رشحتك عليها الجامعة كانت أيضا تفرض عليك ذلك ، ربما ارتضيت بالأمر وتقبلته ، ولكن هذا لم يكن حباً في السفر إلى الصين أو طلباً له بل لإنجاز شيئاً هاماً بالنسبة لك ثم العودة سريعاً إلى وطنك ، مثل أى فترة إجبارية قاسية يعيشها الإنسان ، فالمسجون يقضي عقوبته وينتظر الإفراج ، هكذا أنت يا إياد عشت تلك الفترة حتى حصلت على الدكتوراه وعدت سريعاً إلى وطنك ، ولكنك الآن تستعد للذهاب إلى الصين في رحلة عمل طويلة ، باختيارك أنت وأرادتك لم يفرضها أحد عليك ، رحلة لا تعلم متى تعود منها وإلى متى ستظل هناك ، ودائماً الإختيار هو الأصعب يا صديقي ، فكما قلت لك الإجبار على الشيء يريح النفس ويكفيها حيرة الإختيارات والبدائل .
- ربما ما تقوله صحيح يا أسامة ، الأمور تداخلت بعضها في بعض وصرت كالبحر المضطرب تتلاطم أمواجه ويحطم بعضها البعض.
- قل لي يا إياد ، لماذا اخترت الصين؟ يمكنك أن تعدل عن قرارك ، الفرصة لا زالت مواتية ، أنت عالم عبقري بشهادة الجميع ، ويمكنك أن تحصل على فرصة عمل جيدة في إحدى الدول العربية أو حتى دولة أوربية ، لماذا الصين تحديدا تلك البلاد البعيدة الغريبة علينا .
إياد يصمت قليلاً وينظر طويلاً إلى أمواج البحر وهى تتكسر على صخور الشاطئ ليتناثر رذاذها على الوجوه
- أسوق إليك الكثير من الأسباب التي دعتني لاختيار الصين دون غيرها من البلاد وأول هذه الأسباب معرفتي بها خلال فترة البعثة ، وثانياً وهو الأهم أن الصين من أهم الدول في مجال تصنيع أجهزة الذكاء الإصطناعي "الروبوت "على وجه التحديد ،هل تعلم يا أسامة أنها تستحوذ على 10% من أنتاج الروبوت على مستوى العالم ،وأن هناك 4000 شركة تقوم بأعمال متعلقة بروبوتات القطاع الخدمي ،و تنتج الصين سنويا مايقرب من 2000 وحدة من الروبوت ، في حين أن العالم كله ينتج من 20000الى 30000 وحدة سنويا ؛ لذلك فإن الصين تحتل مكانة متميزة جدا في هذه الصناعة الواعدة والتي تعد الإنطلاقة الكبرى نحو المستقبل والعصر الحديث ،وأضف إلى ذلك أنه من المتوقع خلال فترة وجيزة أن تصل إنتاجية الصين 10000 وحدة سنويا، وتوقع متخصصون في القطاع أن يشهد سوق الذكاء الاصطناعي في الصين طفرة كبيرة في 2020 ليقفز معدل النمو السنوي إلى 50%.
- نعم يا إياد ،معك الحق ، ولكن مع هذا يوجد عدد من البلدان الأخرى على قدر كبير من الأهمية في هذا المجال .
- نعم نعم يا أسامة ، ولكن كما تعلم معرفتي بهؤلاء الناس ، بالإضافة إلى حصولي على الدكتوراه من هناك أتاح لي التواصل معهم ،وأحمد الله كثيرا أنني وفقت في الحصول على عقد للعمل في معهد بحوث الروبوت ، وهذا ليس بالقليل ، هل تعلم معنى أن أعمل في معهد لبحوث الروبوت ؟ إن هذا هو منتهى آمالي منذ أعوام ومنذ أن عملت في هذا المجال ، أنني لا أسعى للعمل في مصنع لتصنيع الروبوت أو شركة لبيع منتجاته ثم أحصل على راتبي في نهاية كل شهر، لا ياصديقي إن طموحي أبعد من ذلك بكثير، إهتماماتي تنصب على البحث والتنقيب وتطوير صناعة الروبوت ، الروبوتات ليست مجرد أجهزة تعيننا على متطلبات الحياة وتؤدي لنا الكثير من الخدمات بل هى أبعد من ذلك بكثير، أريد أن أنطلق بالروبوت إلى عوالم أخرى ومناطق أبعد ، لدي أفكاراً كثيرة وعندي خطط مكتملة وتصورات وخيالات تفوق مايفكر فيه الكثيرون ممن يعملون في هذه الصناعة ، طموحي لايقف عند نقطة معينة ولا يوجد حاجز يحد من إنطلاقه، سوف أغزو العالم وأكتشف عوالم أخرى باستخدام الذكاء الإصطناعي ، أحلامي كثيرة يا أسامة وهى مادفعتني لتلك المغامرة وهذا السفر البعيد الذي لم أفكر فيه يوماً إلا بعد أن تبلورت تلك الأفكار في رأسي وباتت معدة للتطبيق والإنطلاق بها إلى آفاق أوسع وأرحب وتحقيق ما أربو إليه وأسعى له منذ أن دخلت هذا العالم وعلمت آفاقه الرحبة ومجالاته الفسيحة ، ثم لاتنسى يا أسامة أن هذا المعهد الذي رشحت للعمل به لايعمل به سوى العباقرة في هذا المجال ؛ فهم علماء بحق ولهم رسالة يسعون لتحقيقها ، وأنا سعيد جداً بتوقيع العقد للعمل معهم والاطلاع على أحدث ماتوصل إليه العلم في هذا التخصص ، وأنا على يقين أنني سوف أنجز مشروعي بما يتيحه لي هذا المركز الهام من إمكانيات واستعدادات ، ولاتنسى أن نموذج الروبوت الذي أعمل عليه منذ فترة و ماتوصلت إليه من خلال البرمجيات التي أعددتها جعلت منه نموذجا فريدأ في هذه الصناعة ،و قد كان له أثر كبير في قبولي في المعهد ، فقد أرسلت إليهم السيرة الذاتية الخاصة بي وبها نبذة عن بعض ما توصلت إليه والبرمجيات التي أضفتها إلى الروبوت وهي ماجعلت منه نموذجاً فريداً ربما تلك البلاد لم تصل إليه بعد .
- نعم نعم يا إياد ، معك الحق ، إذاً ياصديقي توكل على الله واحزم أمرك ؛ فالأمور كلها منتهية ولا مجال للتراجع ،أطرد خزعبلات ضرب الودع من رأسك وانطلق إلى حيث مكانك الطبيعي ، العلم .. العلم ياصديقي هو الواقع والمستقبل والحلم والحقيقة ، ونحن نعلم جميعا مدى عبقريتك في هذا المجال وأن الكثير من الهيئات الدولية والشركات الهامة تسعى لجذبك إليها والعمل بها ولكنك أخترت المكان المناسب لك فانطلق ياصديقي ولا تنظر للوراء.

****



إياد يجلس في شرفة شقته وأمامه فنجاناً من القهوة يرشف منه ببطء شديد ويبدو عليه الشرود التام ، ينظر تارة إلى شارع الكورنيش المكتظ بالسيارات المسرعة ، وتارة أخرى ينقل نظرة بين أمواج البحر الهادرة ،ثم يعود ببصره إلى السماء حيث توارت شمس المغيب تحت سحابة سوداء كثيفة تمزقت إلى عدة قطع متناثرة تنذر بليلة مطيرة على غير العادة في تلك الفترة من السنة ، فمازلنا في شهر سبتمبر ومازالت الإسكندرية تعج بالمصطافين من كل أنحاء الجمهورية أتوا ليستمتعوا ببحرها وهوائها وعبقها التاريخي ، وبينما عيون إياد تتجول في أرجاء السماء والأرض ، وعقله يسبح في أفكار متلاطمة كتلاطم الأمواج الهائجة يدخل والده ويجلس على كرسي قبالته وينظر إليه طويلاً.
- مابك يا إياد ؟ في أي شيء تفكر ؟
ينتفض إياد في مكانه ، فقد فوجئ بأبيه ويبدو أنه لم يشعر بدخوله عليه في الشرفة ، وسرعان ما أن يستعيد هدوءه
- لاشيء يا أبي، لاعليك ، فقط أفكر في الأيام القادمة .
- أمازلت مصمم على هذا السفر ؟
- لقد انتهى الأمر يا والدي، فقد حجزت رحلتي بالطائرة ولم يتبقِ سوى ستة أيام ، فالحديث بات غير مجدياً في هذا الأمر، أرجوك يا أبي لاداعي أن تُحملوني فوق طاقتي ، لاتضغط على أعصابي أنت وأمي ، تعلمان مدى حبي وتقديري لكما ، ولكن ماذا افعل؟ إنها فرصة ولن أتركها تضيع من يدي فأعينوني بالله عليكم .
- فليكن يا ولدي ، فليوفقك الله ، أنت تعلم مدى حبنا لك . ولكن في النهاية هذا مستقبلك وحياتك وأنت أدرى منا به ، قدر الله وما شاء فعل ، هل أتممت تجهيز حاجاتك وأوراقك واستعديت لتك الرحلة ؟
- نعم يا والدي أتممت الإستعداد وخلال الأيام القليلة الباقية أكمل ماتبقى لي إن شاء الله .
- إذاً على بركة الله يابني .
بدأت السماء تمطر ،تصاعد صوت الرعد يصم الآذان ، هبت عاصفة هوجاء، أسرع والد إياد بالدخول إلى الشقة ، بينما إياد تسمر في مكانه وبدا وكأنه جزءً من لوحة كونية ناطقة هو بطلها والأجواء حوله تنطق بل تصرخ بما في داخله . ومع ومضات البرق تصاعدت دقات قلبه وشعر بانقباض يطبق على صدره ، تسارعت الأفكار تضرب عقله ورأسه ، فهاهى الأيام تجري سريعة وموعد الرحلة قد اقترب، ومازال قول المرأة يلح عليه "سفر بلاعودة " .. ماذا يفعل بعد أن أتم كل شيء وبات السفر يقينا وحقيقة واقعة؟ أشتعلت الأفكار في رأسه وتوهجت ولم يعد يشعر ببرودة الهواء أو مياه الأمطار التي بدأت تتخلل ملابسه وتجعله كالجرذ المبلول الهارب من خطر الموت بين مخالب قط جائع أو بومة متربصة له في ظلام الليل المدقع ، بعد حوالي ربع ساعة صرخ إياد صرخة انتصار كصرخة "نيوتن" عندما سقطت على رأسه التفاحة " وجدتها وجدتها"وبدأ يُحدث نفسه .
- لماذا لا أبحث عن تلك المرأة؟ من المؤكد أنها لازالت تجوب الشواطئ تضرب ودعها للمصطافين والرواد ، نعم هذا هو الحل سوف أبحث عنها ونحن الآن في نهاية الصيف والشواطئ أقل إزدحاما ومن المؤكد سوف أجدها وأعثر عليها وأضع حداً لتلك النبؤة التي باتت تؤرق مضجعي ، هذا هو الحل ، هذا هو الحل .
عند هذا الحد أدرك إياد حجم البلل الذي أصابه وأفاق على صفعات قطرات المطر التي تضرب وجهه وتأخذ طريقها إلى جسده وملابسه ؛ عندها شعر بالهواء البارد يقرص عظامه ، أخذ يرجف وتصطك أسنانه؛ قام على الفور ودخل إلى الشقة وأغلق باب الشرفة خلفه واتجه نحو الحمام لأخذ دشاً ساخناً يعيد له حيويته وطاقته .




أستيقظ إياد في الصباح الباكر ، حمد الله أن الشمس مشرقة والأجواء صافية ، يبدو أن أمطار الأمس كانت سحابة صيف ألقت مابها وذهبت إلى حالها وهاهي الشمس تعود من جديد ترسل أشعتها على الشواطئ وتبث حرارتها ودفئها في مياه البحر ، وهاهم المصطافون وقد اقبلوا على الشواطئ ، ولكن أين تلك المرأة؟ أين يمكنه أن يجد ضاربة الودع، جال بفكره أن يذهب إلى الشاطئ الذي قابلها فيه ،وقد كان، ذهب إلى هناك وانتظر، انتظر كثيراً وجاب الشاطئ من أوله إلى أخره عدة مرات ولكن دون جدوى ؛ أنتقل بعدها إلى عدة شواطئ قريبة ولكن باءت جميع محاولاته بالفشل ، لم يجد المرأة ولم يستدل عليها ، أعاد رحلة البحث في اليوم الثاني و الثالث ولكن بلا فائدة فقد اختفت المرأة ولم يظهر لها أثر ؛اجتاحت إياد حمى العثور على تلك المرأة حتى باتت همه الأوحد ، فالأيام تمضى ولم يتبقى على موعد الرحلة سوى أيام قليلة ومازال عنده الكثير يجب أن يفعله قبل السفر ولم يعد يمتلك من الوقت ليضيعه على الشواطئ بحثا عن تلك المرأة ، ماذا يفعل وقد باتت تلك المرأة تملك عقله وفكره وكأنها المنقذ من تلك الأفكار السوداوية التي تطارده ليلا ونهارا ؟ كاد اليأس يدب في قلبه ، الغد هو اليوم الأخير الذي يمتلك فيه وقتاً للبحث عنها ، كالعادة أستيقظ مبكرا وأخذ يجوب الشواطئ بحثا عن ضالته ، أسرع الخطى هنا وهناك وفي اللحظة التي قرر فيها أن يعود من حيث أتى ويترك هذا الأمر وراء ظهره ألقى نظرة بعيدة إلى آخر الشاطئ ليفاجأ بامرأة الودع ، لم يصدق عينيه ، أخذ يهرول إليها سريعاً وهو يخشى أن تختفي من أمامه أو أن يبتلعها الزحام وتضيع إلى الأبد ، أخيراً يصل إليها بعد جهد كبير ليفاجأ بما لم يكن في الحسبان ، إنها ليست هي ضاربة الودع المقصودة ، هذه شابة في ريعان الشباب ؛ يالا خيبة الأمل، ولكن لا بأس ربما تعرف هذه الشابة المرأة المطلوبة وربما دلته عليها ،هذا ما فكر فيه إياد ، وبالفعل أتجه إليها وأخذ يصف لها المرأة التي يبحث عنها ، والشابة تستمع إليه في اهتمام واضح ، وما أن انتهى وانتظر ليسمع الجواب حتى فوجئ بالشابة تضحك بصوت مرتفع وتطلب منه أن يوشوش الودع فهي أيضا ضاربة ودع ويمكنها أن تخبره بما يحمله له المستقبل وما يود أن يسمعه من الأخرى ، أعاد عليها إياد سؤاله عن المرأة التي يبحث عنها بنظرة حادة وكلمات موجزة فماكان من ضاربة الودع الشابة إلا أن أشاحت عنه بوجهها وتركته واقفاَ وانصرفت دون أن تجيبه على سؤاله ؛وهنا أدرك إياد أن محاولاته العثور على المرأة المنشودة باءت بالفشل وانه لاسبيل للعثور عليها ، نظر طويلاً للبحر وهَم بالخروج نهائيا من الشاطئ وعدم العودة مجددا إليه ،وبينما يسرع الخطى للخارج فإذا بقلبه يخفق بشدة وتتسارع أنفاسه من المفاجأة التي كانت تنتظره ؛ فهاهي ضاربة الودع صاحبة النبؤة التي أرقت حياته ؛ لم يصدق عينيه.. اتجه إليها مباشرة ، نظر إليها ، نظرت إليه في عينيه ، سألها وهو يلهث ...
- أين كنتِ الأيام الماضية؟ لقد تعبت في البحث عنك ، هل تتذكريني ؟
... نظرت إليه طويلاً وقالت..
- نعم أتذكرك جيدا ، أنت صاحب السفر.
خفق قلب إياد بشدة ، فلم يخطر بباله أنها مازالت تتذكره ، كيف ذلك وقد مضى أكثر من عام على لقائهما ، تردد إياد أن يسألها عما يشغل باله ، فقد خشي الإجابة ،ولكن لامفر من السؤال ،أليست إجابة سؤاله هى ما يبحث عنها ، أليست هي ماتؤرق مضجعه وتطير النوم من عينيه ، لابد إذا من السؤال ، نظر إليها وحالة من الإرتباك تبدو واضحة عليه ..سألها بصوت مبحوح يحمل حشرجة التردد والخوف ...
- هل تتذكرين قولك لي عن السفر منذ عام مضى ؟
- نعم أتذكر جيدا.
- أريدك أن تضربي لي الودع مرة أخري وتخبريني عن تنبؤك للأيام القادمة.
جلس إياد ينتظر ماتخبره به بعد أن قامت بعملها مع الودع الذي في جعبتها ، قلب إياد يكاد أن يتوقف وعيناه شاخصتان وأنفاسه متلاحقة كالمريض الذي ينتظر كلمة الطبيب التي تمنحه الحياة أو تُسلمه إلى الموت بعد أن شخص حالته ووقف على نتائج الفحوصات والتحاليل ، وهاهو ينتظر النتيجة ولاتكاد قدماه تحملانه ، وماهى الا دقائق معدودة حتى نظرت المرأة إليه طويلاً ،وسرعان ما لملمت ودعها وحاجاتها وقامت بالإنصراف من أمامه ، أسرع إياد خلفها يسألها عما رأته ، وقد كان ماتوقعه وخشى سماعه.
- كما سبق أن قلت لك " أحذر هذا السفر فهو "ذهاب بلاعودة ".
أسقط في يد إياد وأسرع الخطى وراءها يسألها ولكنها تركته وأسرعت وسرعان ما أن اختفت عن نظره وتركته هائماً على وجهه لايعلم أي الطرق يسلكها .
****



الطائرة تخترق السحاب ، يجول إياد بنظره من النافذة لايرى سوى ركام السحب البيضاء كالجبال ، اختفت البيوت تماما والشوارع والسيارات ، بل اختفت مصر كلها والأرض ومن عليها ؛ انقبض قلب إياد وضاق صدره ،وتعجب كثيرا عن حاله هذا وأخذ يُحدث نفسه ويجيب...
- لماذا هذا الخوف الجارف يا إياد؟ إنها ليست رحلتك الأولى إلى الصين ، فقد اعتدت على السفر فلماذا الخوف ؟
- ألاتعرف حقيقة يا إياد سبب خوفك أم أنك تود الهرب من النبؤة التي تطاردك؟
- أي نبؤة إنها مجرد خزعبلات وتنبؤات كاذبة على لسان امرأة أفاقة .
- هل تؤمن بكلامك هذا حقيقة يا إياد ؟
إياد يأخذ نفساً عميقاً وينظر حوله وقد ضاق صدره كثيراً وباتت حركاته عصبية بدرجة شديدة ، يحاول الهرب من نفسه ، ينادي على المضيفة .
- من فضلك ، فنجان من القهوة الساخنة.
- ثواني وسأوافيك بها .
- يعاود إياد النظر من نافذة الطائرة وتتدفق أفكاره كالسيل المنحدر من قمة الجبل ليجرف ماتبقى منه ويحاول القضاء عليه ، وتدور في رأسه أسئلة كثيرة تستعرض حياته ولاتجد لها ردا.
- ماذا دهاك يا إياد ؟ ولماذا هذا التصميم على تلك الرحلة ؟ هل حقا أنت بحاجة إليها تماماً وأن حياتك لن تستقيم بدونها ؟ ولكن ماذا لو لم تأتيك هذه السفرية ؟ هل حياتك كانت ستتوقف ؟
- على العكس ، كانت حياتي تسير سيرتها الطبيعية ، نعم كان يحدوني الأمل لفرصة كهذه ولكن لم يكن ذلك نهاية المطاف ، يبدو أني تسرعت ولم اترك لنفسي الوقت الكافي للتفكير ، بل لم أستمع إلى أحد وكأنني مساق إلى مصيري المحتوم ، حتى والدي ووالدتي لم أسمع لهما ولم أقدر حالهما بعد أن أتركهما بمفردهما وهما في هذه المرحلة العمرية المتأخرة ، بل لم أفكر لحظة أنني ربما لا أراهما مرة أخرى، إلى هذا الحد كنت قاسياً بل جاحدا! ولماذا كل هذا ؟ لسفر لا أعرف عواقبه ، أحلام وأمنيات ربما تتحقق وربما لايصادفها النجاح ، رباه .. ماذا فعلت بنفسي؟ ربما كنت بحاجة لمزيد من الوقت لدراسة الأمر وعواقبه؟ ربما تسرعت وأخذت القرار على عجالة خوفا من أن يؤثر أحدهما في تفكيري؟ ربما وربما وربما ...، ولكن ماهذا الهراء الذي أفعله؟ إنني الآن في الطائرة ، لقد قضي الأمر لاداعي لهذه الأفكار السوداوية ، ماذا دهاك وحل بك؟ لم يكن هذا حالك في الأيام الماضية ، لقد اندفعت بكامل طاقتك نحو تحقيق حلمك والوصول إلى هدفك وتملكتك الحماسة والشعور بالثقة وأنت تختار طريقك وتسعى إليه بكل قوتك ضارباً عرض الحائط بنصائح من حولك، عيش يومك يا إياد واطرد تلك الأفكار التي تنال منك ومن عزيمتك ، إنها مجرد بقايا مشاعر تجتاحك لإحساسك بالغربة التي تنتظرك والحياة الجديدة التي ربما لم تعتادها ،هى مشاعر طبيعية لاداعي أن تسيطر عليك وتأخذ من وقتك وفكرك الكثير .
نظر إياد إلى المضيقة وكان قد انتهى من فنجان القهوة ، وطلب منها فنجاناً آخر.
- نعم ياسيدي ، ولكن الآن موعد وجبة الغداء، بعده سوف ألبي طلبك.
- فليكن ، ولكن لا أريد غداء ، فقط فنجاناً من القهوة .
- نعم ياسيدي ، دقائق وسأوافيك به .
- التوتر واضح تماماً على إياد ، ينظر يمينا ويساراً ، ثم يتجه للنظر من النافذة ، يظل على هذا الحال قرابة ساعة من زمن الطيران ، يلقي برأسه للخلف قليلاً .. تهدأ حركته ، تبدأ أسئلة من نوع آخر تراوده وتضع حياته أمامه وكأنه في مراجعة شاملة لما مضى من عمرة وتقييم تلك الفترة التي مضت سريعة وربما زحمة الأحداث لم تترك له مجالاً لمراجعة مابها وتقييم تلك السنين التي مرت عليه ، نعم فهو شاب يبلغ من العمر ثلاثة وثلاثين عاماً قضى معظمها في طلب العلم منذ تعيينه معيداً بجامعة الإسكندرية حتى حصوله على الدكتوراه من الصين وقبلها الماجستير ، بالإضافة إلى أبحاثة العديدة التي أخذت من وقته الكثير في مجال الذكاء الإصطناعي وصناعة الروبوت بوجه خاص وهو ما أهله لهذه الرحلة.. وكان تفوقه في هذا المجال هو جواز السفر للعمل في أكبر مراكز البحوث في الصين والتي تعمل في هذا المجال ولا يطأها إلا العلماء والخبراء المتميزين ،لكن هذا كله لم يشفع له في تلك اللحظات من محاسبة نفسه والوقوف أمام بحر حياته المضطرب الأمواج لقراءة مابه وتقييم تجربته ،فقد أدرك انه في خضم الحياة لم يستطع الوقوف على حقيقة أمره وما صار إليه ، ولكنه الآن كمن ينسل عن نفسه ويقف بعيداً عنها ليستطيع قراءتها والوقوف على أبعادها ، أسترخى إياد تماماً واستسلم لتك الأسئلة الناعمة التي بدأت تراوده وتتسلل إليه خلسة لتنساب هادئة تارة ، وتارة أخرى تأتيه عاصفة تزلزل كيانه ..
- نعم .. قد بلغت الثالثة والثلاثين من عمري ، ماذا جنيت من الأبحاث والعلم ؟ حتى الآن لم أجنِ شيئا ، وحياتي تتسرب من بين يدي ، لم أتزوج حتى الآن ، بل لم ارتبط عاطفيا بأي فتاة ، أصدقائي وزملائي استقامت بهم الحياة في بيت ومع زوجة وأولاد وبدأت سفينتهم تسير سيرتها الطبيعية ، بينما أنا لازلت كما أنا لاجديد في حياتي والأعوام والأيام تمضي ، وها أنا مُقبل على رحلة طويلة لا أدري كم من السنين سوف تسرقها مني؟ بل ولا ادري هل سأعود منها أم لا؟ وهل ستتاح لي الفرصة للزواج وتكوين بيت كالإنسان الطبيعي أم سأظل أحرث في البحر ولا أجني الثمار أبدا؟ هل ما افعله هو الصواب ؟
- ربما لا ، ولكنه القدر والطريق الذي لم أرسمه لنفسي بل قدر لي ؟
- كيف هذا وأنا من اخترت هذا الطريق وسعيت إليه مهرولا .
- نعم هو كذلك ، ولكن لكل منا طريقه الذي قدر له ولايمكنه الهرب منه مهما أوتي من حكمة أو عقل ..
.. فليكن كذلك ، ولكن وجب المحاولة ، محاولة تطويع القدر والاستفادة من المعطيات التي أعطانا إياها ومحاولة إصلاح حياتنا أثناء سيرنا في الطريق الذي رسم لنا.
- ولكن كيف ذلك ؟
- نعم أرى الآن أن حياتي بها الكثير من السلبيات التي يجب معالجتها والوقوف على أسبابها
- كيف يا إياد ؟ إنك ذاهب إلى أرض ليست أرضك ، وحياة ليست كحياتك ، وقدرغريب عليك لم تعتاده ، قدر ربما يسوقك سوقا ولاتستطيع حتى أن تأخذ نفسا عميقاً لتستريح به وتلتقط أنفاسك .
- نعم هذا حقيقي ،ماذا دهاني اليوم ؟ لقد مضى من زمن الرحلة الكثير فلأترك كل شيء وأهرب من نفسي قليلا فإن أعصابي تكاد أن تتحطم قبل أن أبدأ حياة الغربة فلأخلد إلى النوم قليلا .
مضى من زمن الرحلة مايقارب خمس ساعات وبقى أقل من ساعتين لتصل الطائرة إلى بكين العاصمة الصينية ، وبينما إياد مستغرقاً في نوم عميق يستيقظ فجأة على هرج وصراخ الركاب ؛ الطائرة تتمايل يميناً ويساراً، الرعب يجتاح إياد ، يجول بنظره في مختلف الإتجاهات، ماذا يفعل وماذا يحدث بالضبط ؟ تمر دقائق عصيبة وسرعان ما أن تهدأ الأمور وتستعيد الطائرة توازنها ، يرتفع صوت كابتن الطائرة مهدئاً الركاب ويعتذر عن ما حدث مبيناً أنها صاعقة قوية ضربت الطائرة وهو ماجعلها تترنح ويطلب من الجميع الهدوء فالأمور تحت السيطرة ، تنتشر المضيفات بين الركاب لمحاولة التهدئة والوقوف على أثر تلك الهزة خاصة على كبار السن، والأطفال الذين تأثروا بشدة ومازال البعض منهم يبكي بصوت مرتفع بينما البعض الأخر يصرخ من الخوف ، وبينا الأمور تأخذ طريقها نحو استعادة الهدوء وانتظار السويعات الباقية للوصول إلى المطار تنطلق صرخة إحدى الراكبات وتصيح في صراخ متقطع ...
- الطائرة تحترق ، الطائرة تحترق .
هرج ومرج داخل الطائرة ، الصراخ والعويل في كل مكان ؛ دخان كثيف بالخارج يشاهده الركاب من النوافذ، إياد يفك حزام الأمان ؛ يدرك أن النبؤة قد تحققت قبل أن تحط قدمه أرض الصين ، اليقين يسيطر عليه انه ميت ، ميت لامحالة ، ماذا يفعل الآن؟ الذعر يسود الجميع .. يصرخ إياد بصوت مرتفع ...
- ماذا يحدث ؟ فليجيبنا أحد ،هل سنموت ؟ الطائرة ستقع ؟.
المضيفات تسرعن في كل اتجاه، البعض منهن متماسك وبعضهن الآخر يحاول السيطرة على حالة الانهيار التي تسيطر عليهن ، ينطلق صوت كابتن الطائرة مجدداً ويبدو عليه الإنزعاج الشديد.
- أرجو الجميع المحافظة على الهدوء ، أرجوكم حافظوا على هدوءكم واربطوا أحزمة الأمان جيداً ؛ يبدو أن الصاعقة أصابت الطائرة بعطب ،أحد المحركات قد احترق ونحاول السيطرة على الأمر ، رجاء الهدوء التام حتى نتبين مالحق بالطائرة من أضرار ، وعلى جميع المضيفات مساعدة الركاب على ارتداء بدلة الإنقاذ ، أسرعوا جميعا بارتداء بدلة الإنقاذ ، سنحاول الهبوط بالطائرة في أقرب مطار متاح .
كلمات الطيار لم تهدئ الأمور بل زادتها اشتعالا وأدرك الجميع أن الطائرة في طريقها للسقوط ، وكان الأكثر يقينا بذلك هو إياد ؛ نعم انه الوحيد الذي يعلم انه لن يعود من رحلته ، فماذا ينتظر إذا؟ إنها النهاية لامحال ، لاداعي لارتداء بدلة الإنقاذ ، ولا داعي لأخذ الحيطة ،النهاية محتومة ولا مفر ،جلس إياد بهدوء واخذ يقرأ الشهادتين بصوت مرتفع وقد استعد تماماً لتك النهاية التي أخبرته بها النبؤة .
تمر أكثر من خمس عشرة دقيقة بين الرعب والصراخ بعد أن أدرك الجميع أن الموت هو النهاية التي تنتظرهم ، ولكن كيف يكون؟ هل تحترق الطائرة وتنفجر بهم في الجو ؟ هل تسقط بهم في المياه ؟هل الإختناق والموت بالدخان هو النهاية؟ الموت الموت ، هو النهاية المؤكدة أيا كانت الطريقة .
الدخان تزداد كثافته خارج الطائرة ، تعلو صرخات البعض ، بينما البعض الآخر قد استسلم للأمر وجلس هادئا يتلو صلواته وينتظر النهاية ، فجأة تندفع الطائرة بميل شديد وتبطئ كثيراً من سرعتها ، تقفز القلوب من الصدور وتتعالى الصرخات ، وينطلق صوت الطيار ...
- لاداعي للإنزعاج ، حافظوا على هدوءكم ، سوف نحاول الهبوط الإضطراري في أحد المطارات الصغيرة ، نحن على بعد يسير من المطار وجاري حالياً عمل اللازم في المطار لاستقبال الطائرة وأخذ كل الإحتياطات اللازمة ،حافظوا على هدوئكم تماماً.

- الطائرة تخترق كتل السحاب المتراكمة متجهة نحو الأرض ، يلوح في الأفق مطار صغير على بعد كبير ، الطائرة تقترب أكثر فأكثر ، الحركة في المطار على قدم وساق ، سيارات الإسعاف تنتشر في كل مكان وكذلك سيارات الإطفاء ، الأمر ينذر بكارثة ، الجميع ينتظر ، الأنفاس تتلاحق وتلهث ، القلوب تكاد تتوقف ، الطائرة تقترب من المهبط ، تقترب أكثر فأكثر، الدخان كثيف جداً ، المضيفات تنتشرن في كل مكان والكثيرات منهن تقفن عند أبواب الطوارئ ، الكابتن بصوت صارم ...
-عند توقف الطائرة النزول سريع وبنظام من أبواب الطوارئ ، لاداعي للانزعاج كدنا نصل بسلام .
الطائرة تحلق فوق المهبط ، تحاول النزول ، محرك العجل أصابه العطب ،لايعمل، الطيار يحاول ويحاول ، لافائدة ؛ يرتفع بالطائرة مرة أخرى ، يتحدث إلى برج المراقبة ...
- محرك العجل لايستجيب ؛ سأرتفع بالطائرة وأدور بها مرة أخري ربما استجاب محرك العجل ، وفي حال عدم الإستجابة سأحاول النزول بجسم الطائرة ، رجاء عمل اللازم ،الأمر خطير؛ يحتمل انفجار الطائرة أو في أحسن الفروض اشتعال النيران بها.
- حاول إيجاد طريقة لإصلاح العطب وخذ وقتك في هذا ، أرتفع إلى أعلي وكرر المحاولة حتى يستجيب المحرك.
- الوقت ليس في صالحنا ؛ الطائرة تترنح وأخشي أن تسقط في أي لحظة ، المحرك الثاني أصابته النيران وبدأ في الإحتراق ، سأدور بسرعة وأحاول النزول بأي طريقة وأي وضع ؛ الطائرة تكاد تحترق هل تسمعوننا؟ الطائرة في سبيلها للسقوط لابد لي من النزول الآن على أي وضع .
يدرك الركاب أن الأمر خطير وأن حياتهم باتت مهددة تماماً ؛ الذعر يجتاح المضيفات بعد أن أدركن حجم الكارثة وخطورة الوضع، الرعب يسيطر على الجميع ، مشاعر متباينة ومتضاربة ، الطائرة تقترب من الأرض ، تمييل ميلاً خفيفا على أحد أجنحتها ، الجناح يلامس الأرض ، يتحطم وتتطاير أجزاءه ، يلامس جسم الطائرة أرضية المطار ، تنزلق الطائرة على المهبط ، يحاول الطيار السيطرة على السرعة ، تشتعل النيران في مقدمة الطائرة ، سيارات الإطفاء تسرع خلف الطائرة ، سيارات الإسعاف تحيط بها من كل مكان ، تزحف الطائرة على الأرض بسرعة كبيرة ، أخيرا تتوقف الطائرة تماماً ، تنفتح أبواب الطوارئ ، تسرع المضيفات لمساعدة الركاب لسرعة النزول ، يتحرك رجال الإنقاذ في سرعة وخفة لإنقاذ الركاب ، تزداد النيران اشتعالاً ، ينزل الركاب جميعاً ويبتعدوا عن الطائرة التي سرعان ما تشتعل النيران فيها تماماً قبل أن تنفجر بعد تسرب الوقود من الخزانات ، أخيراً تنتهي المأساة بانفجار الطائرة وسلامة جميع الركاب ، ولكن إياد لم يخرج سالما تماماً ؛ فقد أدرك وأيقن أن رحلته تلك رحلة بلاعودة وأن النبؤة صادقة لامحالة وتلك هي البداية ،وماكان يلاحقه من ظنون أصبح الآن يقيناً وبات يسكن روحه وعقله.




"وانغ تيان مياو" الرئيس الفخري لمعهد بحوث الروبوت يستقبل إياد بابتسامة مصطنعة وببشاشة بها نوعاً من الود
- مرحبا بروفيسور إياد ، أهلا بك في الصين .
- مرحبا سيدي.
- اعلم انك مررت بظروف صعبة في رحلتك إلى هنا و قد نجوت بأعجوبة من الموت المحقق في تلك الطائرة المنكوبة .
- نعم ياسيدي ، تلك حقيقة ، وأحمد الله على النجاة من تلك الرحلة ، فمازالت أحداثها لاتفارق عقلي وفكري حتى بعد مضي مايقرب من أربعة أيام على تلك الأحداث الرهيبة .
- اعلم أنك جلست يوما كاملاً في فندق المطار حتى جهزوا لكم طائرة ثانية أقلتكم إلى بكين.
- هذا حقيقي ، وقد تعاملوا معنا بأريحية وود كبير.
- يا أهلا بك بروفيسور إياد مرة أخرى ، ونحن سعداء بنجاتك وسعداء أكثر بوجودك معنا ضمن طاقم خبراء مركز البحوث وأتمنى أن تقضي معا أوقاتا سعيدة ونرى فيها إنجازات كثيرة تليق بك وبسمعتك التي تسبقك ؛فقد اطلعت على ملفك والسيرة الذاتية الخاصة بك وأيقنت إنك الرجل الذي نبحث عنه للمشاركة في عمليات التحديث المستمرة في مجال الذكاء الإصطناعي وعالم الروبوت ، وهو مجال كما تعلم متجدد دائماً ومتسع للمزيد من الإضافات التي نسعى دائما للوصول إليها وتحديثها يوما بعد يوم ،فكما تعلم أن السباق بين الدول في هذا المجال كبير ، وكل دولة تفاخر بما وصلت إليه ، فليس كل إستعمالات الروبوت في المجالات الصناعية والخدمية فقط ، كما تعلم الروبوت دخل منذ زمن بعيد في المجال العسكري وتسليح الجيوش وأصبح له مهام كثيرة هامة للغاية ولايمكن الإستغناء عنه ، و مجال التسليح لايحتمل اللهو ، قد تتكاسل الدول وتتغاضى عن الكثير ولكن مع الأسلحة والتفوق العسكري فلا ، الكل يسعى والكل يعمل والكل يحافظ على أسرار صناعته للوصول إلى أعلى درجة من التقدم ، وكما تعلم بروفيسور إياد أن الصين من الدول الكبرى وذات أهمية في مجال الذكاء الإصطناعي وتعمل دائماً على المحافظة على مكانتها وتقدمهما في هذه الصناعة وفي سبيل ذلك تستقدم العشرات من الخبراء الدوليين لإضافة المزيد من التكنولوجيا لهذا العلم ، وقد وصلت الصين إلى مراحل متقدمة جدا وأصبحت دولة كبرى ينظر إليها بعين الإعتبار في هذا المجال ، ومن أجل هذا تقيم الصين ممثلة في هيئاتها المعنية بهذا المجال الكثير من المسابقات الدولية وكان أخرها مؤتمر الروبوت العالمي الذي أقيم في بكين هذا العام 2019 والذي امتد في الفترة من 20-25 أغسطس وقد جذب المؤتمر نحو 300 ضيف من 22 دولة ، بالإضافة إلى 4500 مشارك أحترافي في 4 مسابقات خاصة بالذكاء الإصطناعي، وقد عُرض في المؤتمر العديد من الروبوتات العالمية بأحدث التكنولوجيا .
- نعم ياسيدي انا متابع جيد لهذه المؤتمرات ، وكم كنت أتوق لحضور هذا المؤتمر للتعرف على أحدث ماوصل إليه العلم في هذا المجال .
- التكنولوجيا تنقلنا كل يوم إلى منطقة جديدة بروفيسور إياد ؛فقد تمكنا من تقديم نشرة الأخبار على شاشة التليفزيون بروبوت أنثوي لايختلف كثيرا عن الحقيقة ، وظهرت مذيعة الروبوت المسماه "شين شياونغ"بقصة شعر قصيرة مرتدية ثوب وردي اللون وأقراط في أذنيها، وكان ذلك تجربة جيدة لمحاكاة الواقع والعمل على دخول الذكاء الإصطناعي إلى أفاق أوسع من مجرد الخدمة في البيوت والقيام بأعمال المنزل والكافتيريات والمستشفيات وغير ذلك من الأعمال التي اعتاد الناس عليها وأصبحت تمثل جزءً من حياتهم، ناهيك عن الشركات الكبرى التي تعمل في هذا المجال ويكفي أن تعلم أن إحدى هذه الشركات وهى شركة "سياسون " وهى رائدة في هذا المجال في مدينة "شنيانغ" شمال شرقي الصين وتضم نحو 2000 من العاملين في هذا المجال قد أفتتحت مجمعاً صناعياً يستهدف إنتاج عشرة آلاف روبوت سنويا، ولك أن تعلم أن الصين تمكنت من عمل بنك يديره بأكمله روبوتات دون أن يعمل به أحد من الموظفين ، وعلى هذا السياق هناك الكثير من المشاريع والأعمال التي باتت تعتمد على الذكاء الإصطناعي والروبوت في جميع أعمالها أو أجزاء كبيرة منها .. وسوف تتيح لك الأيام القادمة التعرف على الكثير من تلك المشاريع والوقوف على أحدث المستجدات في هذا العلم الذي يتطور يوما بعد يوم .
- نعم معك الحق ، الذكاء الإصطناعي أصبح الآن هو السباق الحقيقي للدول المتقدمة بعد سباق الفضاء والكواكب ، لما لا وهو السبيل للوصول بتلك الدول إلى آفاق جديدة وعوالم لم تكن تخطر على بال .
- نعم ياعزيزي ، والآن لن أطيل عليك كثيراً ، سوف أعرفك بالسيدة "يوي مينغ" نائبة المركز وهى عالمة كبيرة في مجالها وسوف تكون مسئولاً منها ويمكنك الإستعانة بها دائماً فهى تدير العمل بكفاءة عالية وإنضباط تام،وأنا أعتمد عليها في الكثير من الأمور هنا .
ينتقل الدكتور إياد إلى مكتب نائبة مدير مركز البحوث ويدور بينهما حديث ودي عن العمل في المركز يبعث الهدوء والراحة النفسية ويزيل الكثير مما علق في نفسه خلال رحلته إلى هنا ...
- مرحبا بروفيسور إياد ، من الآن أنت معنا ضمن فريق المركز للعمل معا لتطوير واستحداث أجهزة الذكاء الإصطناعي ، جميعنا هنا نعمل كأخوة ، قد لاتربطنا لغة واحدة أو بلد واحدة أو ثقافة واحدة ، ولكن يوحد بيننا عامل مشترك يتمثل في حبنا للعمل وتطلعنا دائما للمستقبل وبذل الجهد والوقت في سبيل تطوير تلك الصناعة التي تفوقنا فيها وأنجزنا من خلالها الكثير ، ولكن يبقى دائماً الأكثر والأفضل وهو مانسعى دائماً للوصول إليه ،وكلما وصلنا إلى مرحلة تجاوزناها إلى المرحلة التالية ، فهذا العلم ليس له نهاية كما تعلم .
- نعم سيدتي أعلم بذلك وسوف أكون متعاوناً مع فريق العمل وسأبذل قصارى جهدي في هذا المجال .
- لاشك عندي في ذلك ياعزيزى فنحن هنا لانقبل للعمل معنا إلا العلماء والخبراء الحقيقيين الذين يرغبون في إضافة الكثير إلى هذا العلم ،ونعلم أن لديهم الكثير،وقد اطلعت على السيرة الذاتية الخاصة بك وعلمت أنك تعمل في مجال البرمجيات والمعالج وأدوات الاتصال ، وهذه تخصصات دقيقة وعميقة ، فمجالك هو عقل الروبوت والتحكم في حركاته وقراراته وكذلك إتصاله بالعالم الخارجي ، وهى تخصصات مختلفة وإن كانت تكمل بعضها البعض ، ونحن في مركز البحوث قد أعتدنا على التخصص الواحد ، والأقسام الموجودة لدينا يعمل بها الخبراء كل في مجاله ، فالبعض يعمل بقسم المستشعرات ، والبعض الآخر في قسم المعالج، وآخر في قسم الشحن وهكذا ، وفي النهاية يوجد قسم التجميع الذي يجعل من الروبوت وحدة كاملة متكاملة بعد تجميع أجزاءه المختلفة ، والحقيقة لقد تسببت لي في حيرة فعملك يجمع بين ثلاثة أقسام مختلفة ، وأخشى أن أوظفك في أحدهم ويكون نبوغك وعطاءك أكثر في قسم آخر؛ لذلك سوف أتحايل على القواعد في هذه النقطة وهو أمر مسموح لي ولكن في الظروف الإستثنائية وسوف أتيح لك العمل في الأقسام الثلاثة ، دعنا نجرب الأمر ونرى النتيجة والتي أتمنى أن تكون ايجابية وتعطي النتائج المرجوة .
- إن شاء الله ، وأنا سعيد جدا بهذا القرار ، قد كان ينتابني بعض القلق من طبيعة العمل هنا وكيفية الجمع بين الأقسام التي أجيد العمل بها ، وقرارك هذا يسر الأمور وأتاح لي الظروف المناسبة للعمل بأريحية كاملة .
- أتمنى أن تستغل ذلك في بذل الجهد والوصول إلى أفضل النتائج ، ولكن أسمح لي بسؤال ، لماذا اخترت هذه الأقسام مجمعة ولم تختار قسم بعينه تستطيع أن تعطي فيه وتبدع أكثر؟ ولماذا هذه الأقسام بالذات ولم تعمل في قسم المستشعرات مثلا أو الشحن أو غيرها ؟.
- هو نفس السبب الذي جعلكم توافقون على توظيفي هنا.. هذه الأقسام هى بؤرة الذكاء الإصطناعي وهى الأساس في تقدم هذه الصناعة ، أنا لا أقلل من قيمة الأقسام الأخرى ولكن البرمجيات والمعالج هما المخ والعقل المحرك للروبوت وهذا هو ما أعمل عليه و أرغب في الوصول به إلى أقصى درجة .
- عموما أتمنى لك التوفيق ولننتظر الأيام القادمة لنرى نتيجة عملك ، هيا معى الآن سوف أخذك في جولة تفقدية للأقسام المختلفة ثم أتركك مع الآنسة ندى وهى المعاونة لك في عملك ،هى فتاة جزائرية تعمل هنا منذ عدة سنوات ولديها خبرة كبيرة في هذا المجال و تدرس الدكتوراه في نفس مجال عملها ،ندى فتاة نشيطة ومحبوبة من الجميع، وسوف أوكل إليها العمل معك لمساعدتك في الأبحاث التي تجريها والعمل على تيسير التعاون بينك وبين زملائك ،هيا بنا .

أنزاح تماماً الكابوس الذي كان يطبق على صدري عند مشاهدتي الأنسة ندى ؛ فقد تغلغل جمالها الهادئ وصوتها الرخيم إلى قلبي في أول جلسة جمعت بيننا ، علمت أنها جاءت من بلدها إلى الصين للحصول على درجة الدكتوراه في مجال الذكاء الإصطناعي وأحبت العمل في صناعة الروبوت ،عملت في هذا المركز منذ حوالي ثلاثة أعوام ، أهلها ذكائها وخبرتها في هذا المجال لتتبوأ مركزا هاما في عملها هنا ، سعدت كثيرا لتعيينها مساعدة لي ؛ فهذا يعني أنها ستكون بجانبي دائما وتُهون صعوبة الغربة خاصة في بلد كهذه تختلف كثيرا عنا في كل شيء ، من اليوم الأول أدركت أن ندى إنسانة تملك من جمال الروح مايماثل بل يفوق جمال الشكل ، فهى إنسانة لطيفة ودودة ومحبة للحياة والناس ، يضاف إلى ذلك ذكائها الحاد وخبرتها العالية في هذا المجال ، أستطعنا في خلال فترة وجيزة أن نرتب أفكارنا ونتعاون سويا في وضع النقاط الهامة وعمل برنامج لعملنا وطريقة السير فيه ، وكان لها الفضل الكبير في تيسير الأمور كما قالت نائبة المركز ، فهي على إتصال جيد بجميع الزملاء والجميع هنا يحبونها ويلبون طلباتها وقد كان لهذا أثر كبير في إندماجي مع فريق العمل والتواصل معهم والإستعانة بخبرات الكثير منهم كل في مجاله ،غير انه قد لفت نظري خاصة مع مرور الأيام وجود أحد العاملين بالمركز يدقق النظر دائماً كلما شاهدني ، وكنت أرى في عينيه نظرات حادة ، ربما نظرات حقد أو ماشابه ذلك خاصة عندما يشاهد ندى بجانبى ، وهو مادعاني للإستفسار والسؤال عن هذا الشخص ...
- ندي .. مابال هذا الشخص ينظر لي تلك النظرات الحادة الغاضبة ؟
- لاتأخذ في بالك مسيو إياد ، إنه يعمل في قسم الشحن والبطاريات.
- نعم أعلم هذا ، وأعلم أنه حاصل على درجة الأستاذية في هذا المجال.
- نعم هو عالم وخبير في مجاله ولكن طبعه حاد بعض الشيء ويحب الوحدة وعدم الإختلاط بالناس.
- من أي بلد هو ؟
تضحك ندى ضحكة عالية .
- لماذا تضحكين ياندى ؟
- لأنه من بلدي ، إنه جزائري .
- حقا .. تلك معلومة لم أكن أعرفها.
- نعم وأيضا كان أستاذاً لي في الجامعة التي درست بها في الجزائر ، وقد سبقني للعمل هنا وكان له الفضل في عملي بهذا المركز.
- نعم ..نعم ، أدركت الآن سبب تلك النظرات الحاقدة؟
تضحك ندى ضحكة ذات مغزى ، ينظر لها إياد نظرة متعجبة متسائلة ...
- ماذا تعني تلك الضحكة ياندى ؟
- لاشيء ، لاتشغل بالك مستر إياد.
- أستطيع أن أخمن بعد ربط الأمور بعضها ببعض ، هل توجد علاقة حب بينكما ؟
ندي بسرعة وبلا تفكير ...
- لا لا .. لاتربطني به أي علاقة .
- وماذا عنه هو ؟
تضحك ندى ثانية وتنسحب من أمام إياد وقد تركت علامة إستفهام كبيرة حول هذا الموضوع .
يدرك إياد من حديث ندي أن مستر مهدي فارس الجزائري شغوف بها وربما يكن لها حباً كبيراً فهذا يبدو عليه جلياً ولايستطيع أن يخفيه بل وربما يحاول أن يظهره بحجة أنها بنت بلده وهو مظلة حماية لها في تلك البلد البعيدة ، لم يفاجأ إياد كثيراً بهذا الأمر فالأنسة ندي تخطف القلوب وتأخذ العقول ولذلك فليس بغريب أن يحبها أستاذها الذي درست على يديه وتعمل معه الآن ، ولكن ماشَغل بال إياد تلك النظرات الحادة التي يلاقيه بها مستر مهدي فالعلاقة بينه وبين ندي علاقة عمل وعمل فقط فلماذا تلك النظرات العدائية ؛ هنا تتسع عين إياد وتزداد دقات قلبه ويرتفع الأدرينالين في دمه .
- ماذا يعني هذا ؟ ربما كان هذا الشخص هو المقصود الذي تحدثت عنه ضاربة الودع ، هل من المعقول أن تكون نهايتي على يديه ؟ لم لا ، إنه إنسان حاقد ونظرات الشر تملأ عينيه ، هذا بالإضافة لما قالته ندي من كونه حاد الطباع ويحب الوحدة ، فربما صور له خياله وجود قصة حب بيني وبين ندى أو شيء من هذا القبيل ، لما لا وهو يراها بجواري دائما ، وسوف تستمر في الفترة القادمة تعمل معي فهي المساعدة الخاصة بي ولابد أن تلازمني دائما ، نعم نعم إنه هذا الرجل ، ياللهول ، هل ستتحقق النبؤة هكذا سريعاً ؟
بينما إياد غارقاً في خيالاته وأفكاره يفيق على صوت ندي .
- دكتور إياد ، دكتور إياد ، أين ذهبت بأفكارك؟ لقد أبتعدت كثيراً عن هنا ، قل لي إلى أين ذهبت ؟ إلى مصر أم أبعد من ذلك ؟
- لا أبداً ياندى ، فقط في البروفيسور مهدي.
- حقا .. ولماذا؟
- ندي، حدثيني عن هذا الرجل ، أريد أن أعرفه أكثر.
- ولماذا هذا الإهتمام مستر إياد ، هل تَعرض لك بشيء أو لاحظت عليه شيئاً تجاهك ؟
- ماذا تقصدين بهذا الحديث ؟
- لا أبدا ، فقط مجرد تخمينات نظراً لإهتمامك الزائد به.
- هل تحدث معكِ بشأني ؟
ندي في تردد
- لا .. لا أبداً .
- كلا .. تحدث معكِ ، يبدو هذا في صوتكِ ، قولي ياندي ماحدث بينكما ؟
- الحقيقة أنه يغار منك ، ويبدو غير مرتاح لعملي معك.
- ثم ماذا ؟
- لاشيء أطلاقاً .
- لا بل هناك شيء.
- مسيو إياد ..أنه كما قلت لك حاد المزاج وغير سوي الطباع ، ويبدو أنه يهتم بي بطريقته الخاصة لذلك حاول أن تتحاشاه ولاتتعرض له حتى وإن تحدث معك بطريقة غير ودودة .
أرتفع الضغط عند إياد وزاد خفقان قلبه وأحمرت وجنتاه ؛ فقد أدرك أن حديثاً دار بين مهدي وندى وأن هذا الحديث ربما حمل تهديداً له ،عادت لإياد ذكرياته ومخاوفه القديمة من تحذير ضاربة الودع ، فقد أدرك بل تيقن الآن أن هذا الرجل هو المقصود بتلك النبؤة لذلك أسرع بسؤال ندى بطريقة عفوية .
- ندى .. هذا الرجل هل يمكنه القتل ؟
فوجئت ندى بهذا السؤال وبدا عليها التعجب.
- لماذا هذا السؤال الغريب يامستر إياد ؟
أدرك إياد أنه تسرع في سؤاله هذا فاصطنع إبتسامة على شفتيه ونظر إلى ندى نظرة ود محاولاً أمتصاص صدمة السؤال عليها .
- لا لا .. لم أقصد شيئا فقط كنت أمازحك ، فربما حاول أستاذك قتلي ، ربما أستشعر منى خطراً عليكِ ، أو ربما تخيل أن علاقة حب تجمعنا .
هنا نظرت إليه ندى نظرة رقيقة حانية وأحمرت وجنتاها ثم أطرقت برأسها إلى الأرض.. تلعثم إياد بعد هذا الحديث وأدرك أنه ربما تمادى أكثر من اللازم ؛ أراد أن يعتذر.
- ندى ..أنا ...
أدركت ندى ما يدور في خلد إياد فأسرعت تغير الموضوع وتعرج بالحديث إلى طريق أخر...
- مسيو إياد ، أريد أن أسألك سؤالاً يلح علي منذ أن قدمت للعمل هنا.
- نعم يا ندى أسألي ماشئتِ.
- هل كنت تعلم قبل حضورك للمركز أنه يعمل به خبير إسرائيلي ؟
نظر إياد إلى ندى نظرة تعجب في محاولة لإستقراء ماوراء السؤال.
- بالطبع لا ، ولكن لماذا هذا السؤال ؟
- هل تتذكر يومك الأول هنا عندما كانت نائبة المركز تُقدمك لبعض العاملين للتعارف وكنت تصافح الجميع ، وعندما جاء دور البروفيسور الإسرائيلي ديفيد دانيال رفضت مصافحته بعد أن أخبرتك بجنسيته وسحبت يدك بسرعة خاطفة بعد أن مددتها إليه وقبل أن تلمس يده الممدودة إليك .
- نعم أتذكر، ومازال هذا الموقف عالقاً بذهني.
- لماذا ؟هل ندمت على عدم مصافحته ؟
- لا لا .. بالعكس ، لم أندم قط ، ولن أندم أبداً ؛انه إسرائيلي هل تعلمين معنى هذا ياندى ؟
- نعم نعم ، لقد فوجئنا جميعا بتصرفك السريع وردة فعلك لذلك ظننت أن قرار عدم المصافحة ربما تكون قد اتخذته قبل حضورك للعمل هنا وليس بطريقة عفوية .
- لا ياندى ، قد كان رد الفعل عفوي ، إنها تراكمات السنين ، تراكمات كثيرة وذكريات حزينة ، إنها إسرائيل وإنهم إسرائيليون ، وهذا يكفي ، ولكن لماذا هذا السؤال الآن ياندى ؟
- لا أبدا فقط أردت أن أستفسر عن هذا الموقف خاصة أن نائبة المركز قد امتعضت وقتها من هذا التصرف ، وربما سمعتها وهى تقول إنها بداية غير موفقة ؟
- نعم سمعتها ، وتغافلت عن حديثها وكأني لم أسمعه وإن كان قد شغل بالي عدة أيام وخشيت أن يكون هذا الموقف قد ترك أثراً في نفسها ربما يؤثر على عملي هنا.
- لا ياعزيزى إن هؤلاء الناس لايهمهم سوى العمل .. العمل فقط هو مايشغل بالهم وهو المقياس الحقيقي الذي يتخذون عليه قرارهم ..
- ولكن بهذه المناسبة ماذا يعمل هذا الإسرائيلي هنا ؟
- أسمه ديفيد دانيال يامسيو إياد وهو يعمل في قسم المستشعرات ، وبالمناسبة هو يعمل بجِد وله خبرة واسعة في مجال الروبوت ويبدي أهتماما كبيراً بكل ماهو جديد .
- وكيف تتعاملين معه يا ندى ؟
- لاتقلق أنا عربية ومشاعري نحوه مثل مشاعرك تماماً ، والتعامل معه في حدود العمل فقط وفي أضيق الحدود ،وهذا ماتفرضه علينا قوانين العمل هنا فلايمكنا مقاطعته وعدم التعاون معه ، كما تعلم جميع الأقسام هنا تُكمل بعضها بعض ولابد من التعاون للوصول إلى الناتج النهائي ، وهو بحكم عمله في قسم المستشعرات يستشعر شعورنا نحوه لاتقلق من هذه الناحية .
تضحك ندى ويضحك إياد على هذا "الإفيه"، فجأة ينظر إياد إلى ندى نظرة جادة تخلو من كل العواطف ويبادرها بكلمات قاطعة متأنية.
- ندى .. أنت تعملين معي في نفس المجال ، وسوف يكون بيننا أعمالا كثيرة مشتركة ، وبالطبع سوف تَطلعين على كل أبحاثي وأعمالي ، لذا رجاء لا أحد يعلم عن هذه الأبحاث شيئاً ، خاصة هذا الإسرائيلي ،حتى إدارة المركز ، هم يريدون مني عمل وسوف أقوم لهم به ، ولكن هناك أبحاث خاصة بي يلزمني بعض الوقت والإمكانيات لعملها والوصول إلى نتائج فيها قبل أن أعلنها وتكون مفاجئة للجميع ، أنا لم أتِ هنا للعمل فحسب ، بل جئت لأحقق حلماً أسعى إليه وأعمل على تحقيقه وسوف تعلمين خلال الأيام القادمة ماذا أعني بقولي هذا .
- لاتقلق مسيو إياد ،أنا كاتمة أسرار ، وتأكد أنني أيضا صاحبة حلم ، وأحاول العمل على تحقيقه مثلك تماماً ، نحن متشابهان تماماً ، أنت لاتعلم كم أنا سعيدة بالعمل معك ، وأنا على يقين تام من أننا سوف نعمل سويا ويكون لعملنا نتائج عظيمة في هذا المجال ، وسوف أطلعك في الأيام القادمة عما يجول في خاطري والأبحاث التي قمت بها وما ابغي تحقيقه ، لاتخشى شيئاً ياعزيزى ودعنا نعمل في صمت ، وأعدك انه لا أحد سيعلم شيئا عما نقوم به وننجزه في مجال البحث الخاص بنا ، ومن ناحية البروفيسور ديفيد دانيال فيمكنك أن تسقطه تماماً من حساباتك فهو في عمله ونحن في عملنا ، ربما يكون متطفلاً بعض الشيء ويحاول التدخل في عمل الغير ولكن بدايتك معه رسالة من المؤكد سوف تؤتي ثمارها ويدرك تماماً أنك في طريق وهو في طريق آخر وهذا يكفيك تطفله ، ولكن بهذه المناسبة حاذر أن تبدي عداءك له فأصدقاءه كثيرين هنا ولاداعي أن نجلب لأنفسنا عداءات نحن في غنى عنها، خاصة ونحن بحاجة لمعاونه الجميع في عملنا وأبحاثنا القادمة .
- نعم نعم أدرك هذا يا ندى .
- سوف اذهب لأحضر فنجانين من القهوة وأتي سريعا حتى نبدأ البداية الحقيقية لعملنا سويا.
- أوك ندى .
خرجت ندى من المكتب ، بينما جلس إياد واضعاً رأسه بين يديه وقد غاص في أفكار كثيرة وتحديات بدت واضحة أمامه في بداية عمله وهو ماجعله واجفاً منقبض الصدر خاصة بعدما تداعت عليه ذكريات ضاربة الودع وظهر في الصورة البروفيسور مهدي الجزائري الذي يكن له الحقد والعداء ، وكذلك البروفيسورديفيد العدو الحقيقي الذي ينتمي إلى إسرائيل وما أدراك ما اسرائيل ، هذان رجلان يحملان له العداء قبل أن يحتك بهما أو يتعامل معهما ، وهاهو المستقبل بات غامضاً ولايدري ما تخبأه له الأيام في ظل تلك المستجدات .
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.