tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

تضيق بنا الدنيا ، وعندها تحطم أجزاء من نفوسنا الهشة ، لندرك بعد انتصارها علينا أننا لم نعد نحن ، بقايانا فقط ، قلب وجسد ، بل أشلاء إن صدق القول ، أما الروح فقد توارت ، أو ربما صعدت منذ الكثير .

تذكّر أنها لن تتوقف عن شن حروبها للفتك بك ، ما دمت على قيد الحياة و الأمل ، فإن لازالت تحمل ولو شبيه قوة في داخلك ، لا تستسلم يا صديقي مثلما استسلمت ، قاومها بجسارة وأنفة ، قاومها وإن كان صدرك وخافقه يهتزان إرتعاداً ، لآخر أنفاسك قاوم ، فإن المحارب لا يرحل حتى ينتصر أو يموت .

خطَّ قلمه آخر أحرفه في صفحة مفكرته الأخيرة ، التي تعهد بتنفيذ قراره الحتمي بلا رجعة حين الوصول إليها ، كيف استطاع قلمه أن يستمر في نثر الأحرف فوق الأسطر بهذه الجرأة دون تردد ، وهو على علم بمصير صاحبه الأليم ، بمجرد أن يبلغ الحبر الأزرق السطر الأخير ليعلن التتمة .

هل شجاعاً هو لهذه الدرجة ؟ ، أم وصل إلى أقصى مراحل اللامبالاة ، لتصبح حياته بهذا الزهد بحيث لا تشكل فارقاً من عدمه ، ومتى تهون علينا الحياة سوى بعد الخذلان القاسي ، والأذى السخي ، والتخلي حين الحاجة .

أغلق فارس مفكرته وقد وضع قلمه جانباً ، أطرق برأسه إلى الخلف مستنداً إلى ظهر المقعد وهو يأخذ نفساً عميقاً ، تعلو ملامحه البارزة وعينيه الواسعتين الخضراوين مسحة حزن لذع ، تتوسم في وجهه الحُرقة والكمد وكأنه كمن فاض به الكيل من هموم الدنيا ومآسيها ، ولكن كيف لمراهق في السادسة عشر من عمره أن يلحقه سواد الدنيا بهذا الشكل البائس وهو لازال في مقتبل العمر ، ومنذ متى وهو يتعايش مع مأتمه اللا منته ، وكيف وصلت به تلك الحال وقد أُضرمت نيران غضبه بلا خمود قط .

نهض بعد بضع دقائق من التجهم والشرود في كل ركن يقبع في الغرفة ، وكأنها نظرات وداع طويلة لإشباعه خلال رحلة الذهاب بلا عودة .

أمسك بقميصه الرمادي الذي وجده أمامه ثم ارتداه في الحال ، لم يعد هناك ما يهتم لأجله سوى الخطوة المقدم عليها الآن ، حمل حقيبته ولم ينسى أن يضع مفكرته بداخلها قبل أن يغادر المنزل متسللاً حتى لا يراه أحد .

وعلى رصيف محطة المترو ، وقف وقد تعسر شهيقه وزفيره وهو يبكي بدموع صامتة ، بكى بها قلبه و روحه قبل أن تبكي عيناه ، شريط من الذكريات التي تمر أمام ناظريه ولا يستطيع أن يتغاضى عنها ، تصيح وتبكي وتتشبث بقدميه متوسلة أن يتوقف ، بينما مشاعره الغاضبة المندثرة في خاطره تدفعها للرحيل عنه فورا .

كفكف دموعه في الحال ، لن يعيش ويموت جباناً ، ع الأقل يحفظ ماء وجهه أمام نفسه التي غلفها الخزيان .

أنزل فارس حقيبته من فوق ظهره ووضعها إلى جانب مفكرته على رصيف محطة مترو الأنفاق ، كان يقف مباشرة أمام خطوط السكة الحديد ، يحملق تحت قدميه بذهن تائه أيقظته صيحات المترو القادم بسرعة البرق ، بدأ يبصره وهو يبعد عنه عدة أمتار ، استجمع شتات نفسه وقد أضحى قلبه يدق بشدة حتى كاد يخرج عن محجره ، أحكم قبضة يديه مغلق العينين بينما يقترب المترو أكثر فأكثر حتى حانت اللحظة المناسبة .

0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.