" قبل عامين "
-آمل أن تكون هذه آخر مدرسة ترتاد إليها هذا العام ، ولا أريد سماع تذرعك الفارغ بعد شهر وأنك تريد الانتقال ، حاول أن تتأقلم وتتقبل كونك مختلفاً ، لن أتحمل تكاليف نقلك من مدرسة إلى أخرى كل عام ، بالكاد تغطي الورشة مصاريفنا ، وإلا فسأحرمك من التعليم للأبد ، هل سمعت ؟
احتقن وجهه حين أجاب محاولاً مداراة تلك الغصة التي بدت في صوته :
-أبي أنا بالفعل........
بنبرة حازمة قاطعه قاسم :
-لا أريد سماع المزيد ، سأمت من دلالك هذا ، اذهب إلى المدرسة الآن .
نهض بوجه عابس ، ثم حمل حقيبته وغادر المنزل في الحال دون أن يتفوه بأي كلمة ، أما والدته التي تجلس إلى جانب والده كانت تراقب المشهد في صمت ، فقد اعتادت أن تكون خارج حوارات فارس وأبيه ، فلم يكن زوجها قاسم يسمح لها بالتدخل في مناقشاتهما بالرغم من عدم رضاها أحيانا عن معاملته القاسية لابنهم الوحيد الذي لم ينجبا غيره ، حيث أخبراه أنه أصاب والدته عقماً بعد ولادته فلم تستطع إنجاب إخوة له ، كانت تفضل أن تكون بعيدة عن مناوشاتهما الدائمة ، اعتقاداً منها أنه بذلك يقوّمه ليستطيع مجاراة الحياة .
مر أمام ورشة أبيه التي لا تبعد عن المنزل ميلاً واحداً ، رمقه " أمين " حانقاً كما العادة ، الصبي الذي يعمل لدى أبيه في ورشة النجارة منذ سنوات ويعرف عنهم كل صغيرة وكبيرة .
حيّاه فارس مكتفياً بابتسامة وغادر في الحال ، لم يكن أمين الشخص المناسب ليخلق حواراً حميمياً معه ، لا يعرف لماذا لا يحبه هذا الفتى ويشعر في نظراته بكره بالغ له ، رغم محاولات فارس المستميتة أن يكونا صديقين ، ومعاملته الطيبة معه ، إلا أن أمين كان يصده ، ولنقاء سريرة هذا الآخر لم يدرك أن الغيرة غمرت قلبه ، كان يحقد عليه ويتحسر على حاله كلما رأى فارس يتعلم ويذهب إلى المدرسة ولا يلطخ يديه بالأعمال ، خاصة أنهما في عمر واحد تقريباً ، فكان لا يدخر جهداً في أن يشي بأخطاء فارس لأبيه حتى يعاقبه أو يلفق له أي كذبة ، فينفث بذلك عن هذا الغل الذي يكنه في قلبه .
توقفت أمامه حافلة المدرسة الجديدة ، صعد إليها وهو يطأطئ رأسه للأسفل وكأنه يتجنب نظراتهم التي تواثبت فوقه كَوابل الرصاص ، هو لم ينظر إلى أحد منهم حتى، لكنه يعلم حق العلم أن الجميع يحدق فيه ، يتمعنون فيه من رأسه حتى أخمص قدميه ، ثم يتهامسون فيما بينهم بكلمات لم تصل إلى مسامعه يوماً ، بل تخترق قلبه كالسهام وتدميه وتجرحه كل يوم وكل نهار وكل ليلة ، في المدرسة والشارع وحتى المنزل ، يصعب عليه أن يمارس حياته بشكل طبيعي فقط لأنه.........
لأنه أمهق ، الذنب ليس ذنبه وفي الحقيقة هو ليس بذنب أحدهم ، فلماذا يشعر في دائم الأحوال أنه يعاقَب من قِبل الجميع بأمرٍ لا دخل له فيه ، حين يتطلعون إليه ، حين ينفرون منه ، أو حتى حين يتعاطفون ، في جميع الأحوال يشعرونه بالإختلاف ، فقط هو لا يريد سوى معاملة عادلة سويّة من الجميع ، أحِبوه إن كان يستحق وامقتوه إن كان سيئا ، كافئوه وعاقبوه كسائر البشر ، وتحرروا من مشاعر البغض والشفقة حين تقفون قبالته وتنظرون في عينيه ، ثم تتسببون في أذية نفسية لن تمحى آثارها بسهولة .
شغل أحد المقاعد الفارغة في الحافلة التي انطلقت عقب ركوبه في الحال ، كان ينظر أمامه متجاهلاً نظراتهم المتطفلة ، وحديث والده الأخير لازال يتردد في صوان أذنيه ، " حاول أن تتأقلم وتقبل كونك مختلفا " .
كونه شديد بياض الشعر والبشرة ، أو عينيه التي لا تستطيع أن تتوقف عن الدوران في كل إتجاه ، جعلت منه إنساناً مختلفاً في داخله ، فاقداً للثقة في ذاته ، ضعيف اللسان ، إنطوائياً ولا يجيد التعامل .
رفع رأسه حين انتبه أن أحدهم يجلس إلى جانبه بينما يمد يده إليه بالمصافحة وهو يقول بابتسامة جذلى ملأت وجهه :
- مرحبا يا صديق ، أنا فريد
نظر إلى يده التي امتدت بامتعاض ، ثم بادله الصفح غير عابئاً وعاد ينظر أمامه مطرقا من جديد .
- يبدو أنك تلميذ جديد ، أليس كذلك ؟
أومأ فارس بالموافقة دون أن ينظر إليه ، بينما شرع فريد رغم ذلك يتحدث إليه ويقص عليه مغامراته الشهيرة في المدرسة ، حتى ملأ رأسه بثرثرة غير مجدية ، لكنه على الأقل صرفه عن التفكير في الأمور التي يكرهها مما جعله ممتناً له في داخله رغم إظهاره عكس ذلك .
توقف فريد عن التحدث فجأة بينما نظر إلى وجه فارس المتجهم ، ثم قال وقد ضاقت عيناه :
- يا إلهي ، لقد تحدثت كثيرا ولم تخبرني باسمك حتى الآن !!
أجاب باسمه وقدا بدأ يضيق ذرعاً بهذا الحديث الذي ظنه سينتهي بسخرية ، أو أسئلة تسترعى فضولهم حول شكله الغريب ، هكذا تكون أهدافهم إن جذب معه أحدهم أطراف الحديث ، لكن فريد أثبت له لاحقاً نقاء سريرته من هذه الاتهامات التي التصقت بالبشر الذين عرفهم في حياته .
فحينما دخل فارس الفصل ، أخذ يدور بعينيه بين الطلاب ليبحث عن مكاناً شاغراً يجلس فيه ، وكلما اتجه إلى أحد المقاعد حتى هم أن يجلس ، يتذرع الزملاء بأعذار واهية كأن يخبروه أن هذا المقعد يخص زميل آخر سيأتي ، فينهض ثم يعاود البحث من جديد وهو يستمع من الخلف لضحكات الفتيان والفتيات وكأنهم تآمروا جميعاً على ذلك .
هانت عليه نفسه حتى كاد يبكي وهو يقف في المنتصف لا يعرف إلى أين يذهب ، حتى وجد من يجذبه من يديه ويشق به الصفوف بين الطلاب ويجلسه في أحد المقاعد في المقدمة .
إنه فريد ، الفتى الذي قابله في الحافلة ، ها هو ذا ينقذه للمرة الثانية ، التفت إليه فارس وأراد أن يشكر صنيعه فقال له بصوت خافت ينم عن خجل شديد :
- شكراً لك
أجاب بإبتسامته المرحة :
-لا عليك ، في كل الأحوال لقد انتقل شريكي في المقعد إلى فصل آخر ، وكنت بحاجة لشريك جديد أستأنس به بجانبي ، إذن لا داعي للشكر فكلينا مستفيد .
أحس فارس بالراحة بعدما أزيح عنه شعور المن الذي صار يعرفه جيدا ، لكن راحة أخرى تسللت إلى قلبه بعدما تحدثا معاً في عدة أمور أخرى لم يكن يظن يوما أنه سيفتح قلبه لأحد ويفصح عنها .