tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

ما بين لحنِ النشيدِ الوطني،مزامير الحافلات،هرولة التجار،صراخ الطلاب،ونباح الكلاب،تختلط أصوات البشر في كل مدينة في اّنٍ واحد.تفرّقُ الأذان كل جرس ينادي عليها.ففي هذه البلاد،قصصٌ تتوارثها الألسن وقصص أخرى تخفيها القلوب. وفي هذا الحيّ المبعثرِ بناؤه،سكانٌ يتداولون الموت للبقاء على قيد الحياة .ومن هذا المنزل الصغير،تدونّ الاجندة قصة مرور الكرام .وما بين هذا و ذاك تنادي والدتها
بأن موعدَ استيقاظها لاستقبالِ روتين الصباح قد حان،ويكادُ المنبه ان يهبطَ كالصاروخِ أرضاً،بل ان العصافير قد بُحَتْ زقزقتها وهي تغردُ لها بأن تفيق.وهي ببرودةِ اعصاب تهطل ثلج الكسل للرد:
"باق خمس دقائق غفوة لتمام الساعة السابعة يا امي،فدعيني أنام"
لطالما كانت الخمس دقائق هي جنة الجحيم التي تحيا بها،فالثلاثمئة ثانيه تدور بها الدنيا بقارب خيالها كالمعتاد،تجدف بواقع مرير حياتها،وتصنع من الشراع طموحا يتصدى لهبوب ريح آلامها،وترسم فارس احلامها بذاك الربان الذي يحدد بوصلة عواطفها.فتارة،تكون دموعها شرقيه بالذكرى و غربية بالتساؤلات معتدلة السرعة. وتارة،يحدث زلزال الامل ويرج كيانها وتعود حيث لا تريد ان تكون.تبتسم الان وهي تستمتع بتلك الخمس دقائق التي تفصلها عن حياة لربما تسمى لها حياة .
هي لا تحب ذكر الارقام في حياتها.فتهرعُ مسرعةً لتكسر خط الاعداد.فبالنسبة لها،عمرها السبع والثلاثون عجوزاً تعيش في مراهقة هرمة،وبياض بعض شعراتها كفن يحتضن ُجثة جمالها.اجل،كم كرهت الارقام،فوزن جسدها يزيد هماً وشقاء.فالرياضة عندها ممارسه الروتين لتنال رشاقة الملل و الضجر في كل صباح.لربما احبت الرقم خمسة فذاك يعني الكثير و الكثير. فبالخمس اصابع ترفع يدها لتلعن حظها المشؤوم و بالمقابل عشقت الخمس دقائق التي اوشكت على الانتهاء.
هي لا تريد الاستيقاظ الان،تريد ان تكمل مسيرة غفوتها.تريد ان تهم مسرعه لتحلم بالمزيد والمزيد .هي ليست بكسولة او عاشقة للسبات،بل ان نشاط خمولها يبحث عن مفر بين ثقوب ايامها.وهي ليست بقبيحة،بل جمال عشب عيناها ترفرف عليه رموشها.وان كواكب خدودها تصطدم بأنفها الذي يستنشق أنفاسا من براءتها. حتى شفتاها زهور مطلية على قطن وجهها الابيض الشاحب.وهي،لا تريد ان تترك غطائها الاسود المرقع بأحرف غير مقروءة.تريد ان يطيل الوقت زمانه لكن صوت امها مجددا يقصف بنية افكارها.
"هيا يا ابنتي سهر،تعالي ...."
"حسنا،حسنا.ها انا قادمة"
كم هي تضعف حين تفارق سريرها عند مطار الاحلام.فتشغف للقائه مرة اخرى في المساء.وكم هو عزيز ان تترك تلك الوسادة اليتيمة عند ملجئ حكايتها.وكم يصعب عليها ان تترك أثر الدفء البارد خلفها.فقد حان ان تنتفض بقامتها القصيرة الثقيلة لتعد نفسها كواجب مدرسي تفتش عليه معلمة الحياة في قعر حصصها.تنزع الغطاء بكل صعوبة .فطقطقه ركبتيها لحن شجي تسمعه عند الاستيقاظ.تثاؤبها بئر عميق يتبجح بحلق مر.وتهز كتفيها كإعصار يتشاجر مع طقس الحيوية.وشعرها المتكتل ينتظر اسنان مشطها المعتق بتسريحة الكآبة.
لن ترتب سريرها اليوم.فتمتلك قناعه ان ترتيب السرير هو الاحتضار.تفرك عيناها من جديد على امل ان مائدة الافطار يضاف عليها طبقا اخر،لكن الاطباق بما تحتويه من كوبين للشاي وأواني للجبن والبيض حفظت درسها و ترتيبها على مائدة الطعام كجندي يصطف بتلك الزاوية بالتحديد.حتى ان ابريق الشاي برائحة النعناع كحارس خدم لهذه العائله البسيطة.ورغيف الخبز المصنوع بقمح ممجد قد ملئ معدتهم كالأكسجين.
ويغفو على مائدة الافطار حديثا لطالما اعتادت الام على فتح بوابته:
-كم تبدين جميلة اليوم يا دميتي.
-ها؟!
-أجل،بل انك تزدادين جمالا يوما تلو الاخر.
-أمي!
-دعوت الهي للتو ان يحفظك من حسد الحاسدين.
-هاهاها واين تلك العيون لتحسدني.بربك امي! دعيني أحضر الملح فقد سجل الغياب اليوم.
-أوه.نسيت احضاره.
-هاهاها قلت لي حاسدين!
-احب ان اراك مبتسمة يا سهر.
-اشكرك امي.سأفرش اسناني واعد نفسي للذهاب.
تضع معجون الاسنان المعبق بلقم منسية.وتحرك فرشاتها ببطء وهي تخاف لمس المياه الباردة في مثل هذا الجو الماطر.الصابون المحشي بحبة البركة السوداء هو مساحيقها التجميلي المفضل.فتغسل وجهها المتبلد برغوة ناشفة متراشقة بقطرات البؤس.وتجفف وجهها بمنديل يتنهد لها بان خيوطه تتمزق كلما لامست بشرتها الجافة.وتمشي كالثكلى الى قبو غرفتها بضوء اصفر خافت.وتسرح داخل خزانتها بما الذي ترتديه.فكلما تعددت خياراتها ترجع الى قرارها الصائب ان اللون الاسود هو المفضل لديها:
" كم تحفظ الناس تصاميم لباسي السوداء دون أن تفهم حبي لهذا اللون!"
فهذا اللون تبدو به نحيفة. تختار تنوره جلد باليه .و تسرق بلوزة صوفيه منسوجة بلون اسود المسلوخ بلمعة حمراء.ولتكون عارضه لأزياء الاسى تضيف قبعتها المدورة غطاء مستباحا للأذى.هي لا تصرف وقتها في كي ملابسها. فلا تهدر وقتها ببعض الرسميات.ترتدي ثيابها كطفل مجبور ينتظر حافلة المدرسة.تقف امام مرآتها تخاطب نفسها وتدندن أغنية من تأليفها المضحك.فلا تحب إلا سماع صوتها الثائر في الغناء.فتقف على مسرح اوبرا غرفتها ماسكة مشطها وتغني وتغني ويقطع مزاجها الفريد من نوعه نغمة هاتفها العتيق برسالة .لكنها تتجاهل قراءاتها .فتخمينها يصيب ان شركة الاتصالات تطلب منها معاوده شحن رصيد ثرثرتها.فكيف برسالة قصيرة تقطع هدوئها المزعج بالغناء.ولكن الرسائل القصيرة تتضارب على هاتفها كدقات قلبها الحنون.
بيدها اليمنى تفتح هاتفها الملعون.فشاشته مقسومة كفلقة الفول الذي تهواه.وبيدها اليسرى تسرح شعرها المجعد وتأسره كخيل في اسطبل عقلها.ويتشقلب بؤبؤها كالبهلوان من سرعة ما تقرأ.ويزداد معدل نبضها ان الرسالة لطالما انتظرت خبراً.هي،فرحتها بسيطة.فكم تدمع لكلمة طيبة تخدش فؤادها المسكين.وكم ضحكة أبكتها .فبكاؤها يحير المجنون بخلايا عقله.ها قد برزت اسنانها الراقصه المصطفة كلؤلؤ رخيص.وتقرأ تلك الرسالة من تؤام روحها في التعاسه_صديقتها خلود_التي تصغرها بضع اعوام من التجاعيد والترهل:
-صباحك معكر بقراءة اسمي.لك خبر سار يا صديقتي.
-هممم، اعلم ان صرف الرواتب قد حان!
-لا ،تلقيت منشورا لخصومات على الملابس الشتوية في متجر الحي.
-حقا؟ أجل،كنت للتو افكر بشراء ملابس فكما تعلمين اني عاشقه للموضة.
-اجل،والاجمل ان الثياب اوروبية حديثة الوصول.
-جميل جدا.اين هو ذاك المتجر؟
-سهر!ما بالك يا صديقتي. انه نفس المتجر الذي اعتدنا على الشراء منه.
-حسنا!اني فرحة بسماع اخبار كهذه.اراك في الارشيف.
-كم احسدك يا سهر على روحك الطيبة.
-تحسديني.هاهاها.الم يكفي امي.الى اللقاء.
-الى اللقاء.
تقف امام مرآتها وتغني بصوت اعلى واعلى وكأن أبله قد تاه.تتخيل فارس احلامها يرقص معها على موسيقى خيالها.ذاك فارس الاحلام الذي طال انتظاره.فكم حلم مرَّ و سلّمَ على جفن عيونها ولم يطرق باب قلبها بعد.كم عشقت ان تغني.فكيف بتلك الفتوى التي تحرم الموسيقى؟الم يلعموا ان قلبها يعزف قيثارة لفارس احلامها بالخيال: قيثارة وقت الغروب يختار ليلا تستدل الشمس ستارتها ليوم غد.اولم يعلموا انها تغني له كل صباح اغنية حب ووله وغرام فكيف يكون صوتها عورة؟حبها له اخترق نظام الكون،وثقب حدود البحار،بل فجر اجرام السماء وفاءاً واخلاصاً لقلبه الوهمي.لكن اين هو على واقعها؟
لطالما اشغلت نفسها بالحديث عنه ونسيت نفسها.فحبه قضية معقدة بحبال افكارها،وعتيق بغبار زمانها،ومقدس بتراب ارضها.فكيف لا تحبه وهو في خيالها وطن وانتمائها له وحده.كيف لا تحبه وهو عطر النرجس.وكيف لا تحبه وهو حقيبة طالما حملت عبء همومه.هي لا تريد ان يحدق بها،ولا ان يسرد لها شعرا و غزلا.تريد ان يترك يده عن كتفها المغوار دون ان تستمع الى حديثه البالي.كم سرق الخيال اموال ايامها من بنك عمرها.
تعلنُ هزيمتها امامَ المرآةِ وتسلم قلعة قلبها الى محكمة عقلها.فكما يبدو لها هناك خيارين:ربيع بشتاء ام خريف بصيف!كم ملت وملَّ من حولها تسريحة شعرها،احمر الشفاه وان تعددت الوانه،كرهت ملابسها السوداء ،وسطورها المتعرجة.يئست حذائها الذي يخطو بها الى طريق الضياع بل احتقرت مرآتها ككل مرة.وليتها تكسرها لتفرح وتشعر بالتغيير.
نسيتْ مضمون كلامها وانشغلت بحشو حروفها لتعبر عن حبها الوهمي له.تؤمنُ ان دموعها غيث يسقي صحراء فؤادها.تريد ان تنسى انها بخيال وأحلام .تتمنى ان تكون ذكرى محكية بين صفحات القلوب.عندها قانون نسيان الذكرى هو ذكرى جميله بذاكرة النسيان.تعجز اقدامها عن اكمال مسيرها على خارطة سيادتها لان تحتال قلوب الاخرين.فلا احد يصرف وقته ليفكر فيها.هي اشارة مرور حمراء:يرونها ويقفون حائرون عندها.لا احد يبالي بها .فهي لا تسرق او تغزو حياة احد بدبابات روحها المرصوصة على ارض قلبها الطاهر فتعلن من بعد احتلال افكارها:قيام دولة حرة مستقلة بين ثنايا ايامها بدستور بنوده: امل مزيف.
ها الان سهر انهت ترتيب كوكبها المعجق بألوان تعجز هي عن تفسيرها.فطبقات بطنها كصخور صامدة تعرضت للحت والتعرية من نقد الاخرين لها.تاخد هاتفها وترميه في حقيبتها المخملية السوداء .تغلقُ ازارَ معطفها الوفي في فصل الشتاء الذي شهد على اضرحة مخيلتها ساعات جميلة وحزينة تحت قطرات المطر . فتعلن ان حرب اليوم قادم ولا بد ان تتغلب عليه بملء المعاملات سريعا لترجع وتكرر وجبة غدائها وتخلد الى سريرها من جديد.
-ها انا ذاهبة يا امي.
-دعيني ارى دميتي الصغيرة تلك.
-لا انصحك برؤية شبح اسود.
-جميلة كالعادة.حفظك ربي من الحاسدين.
-أمي! دعواتك.الى اللقاء.
-الى اللقاء.
تضعُ نظارتها على عيونها كرشة فلفل على عجين مقرمش.وتزمُ يدها في جيبها معلنة ً أن شمس اليوم لا بد أن تغيب ليشرق القمر الذي تعشقهُ و تهواه.هي الان تفتحُ ازميل باب منزلها ويدها ترجفُ حيث لا تريد الخروج لرؤية نفس البشر بنفس الزمان والمكان.كم أحبت ان تمشي مسرعة ً لكن لم تلحق موعد القطار ذاك.فكان لا بد لها ان تشتري صحيفة بأخبارها العتيقة.فطالما خمنتْ حدوث الاخبار قبل وقوعها.كم ظنها صاحب المكتبة أنها تجمع الصحف كي تنفض الغبار.لكنهُ لم يعلم كل ما تحبهُ بالصحف العتيقة لعبة الكلمات المتقاطعة و ايجاد الفروق الخمسة ما بين الصورتين.
-كيف الحال يا عم؟هل لي بصحيفة أمس؟
-أجل،خبئتها لكِ كالعادة.ها هي ذي.
-أشكرك.تفضل....
-لا،لا داعي للنقود.
-تفضل يا عم.
هي تهوى كل شيئا ً عتيقا ً.أشياؤها معطرة ببخور من خيال الماضي ممزوج بنكهةٍ من طهو دماغها.تقلعُ طيارات ساقيها نحو المقعد في المحطة منتظرة وصول القطار اللاحق.يمرُ البشر من حولها كشريط نشرة أخبار: مرور الكرام.تهربُ من تعليقاتهم اللاذعة بفلفل لسانهم القاسي.كم اعتادتْ على همزهم و لمزهم.هي لم تعتاد بل تحاول ان تشتري الاعتياد من متجر اللامبالاة. تغمضُ كهف عيناها وتتخيل فارس أحلامها بقربها. فهي الان تجلسُ معه وتشكي له ما يدورُ في خاطرها.لقد اختارتْ له بذلة سوادء ككحل عينيها بقميص أبيض كشيب شعرها وربطة عنق حمراء كصفاء دمها.هي تحبهُ كما تريدُ هي ان يكون.لم ترسم ملامح وجهه بعد.فلربما نفد حبر وهمها وخيالها.بل لربما تخجلُ البوح عن ملامحه. جالسة معه مبتسمة على كرسي الغرام قرب نافورة الاشتياق:

-أولم تعلمِ إني لكِ أشتاق.
-يا إلهي! كل.....
-لا تتكلمِ يا حبيبتي.صمتكِ شعرا على وزن البحر الطويل.
-لكن....
-أخافُ على عيونكِ من الحاسدين.
-أي حاسدين؟أتمازحني؟بر....
-قلتُ اصمتِ.دعيني أتاملُ جمال عينيكِ.سامحيني،نسيتُ قافيتي و اضطربت أنغامي.
-أحبُ الشعر لاجلكَ و....
-قل.......
يذبحُ خيالها مع عشيقها صوت قطارها المسرع كسكين تقطع الحلوى في حفل عيد ميلاد.تقفُ مدمعة عيناها بأنها لم تمضي مع حبيبها سوى خمس دقائق وما أجملها من تلك اللحظات الشاردة.تعضُ مقبض يديها على الصحيفة كرضيع ينهش كسرة خبز لاول مرة.صكيك أسنانها أعلى من صفير القطار.فكم تمنت الجلوس طويلا خير من وقوفها بين طلاب المدارس والجامعات.فهمساتهم وضحكاتهم تدغدغ غيوم عيناها ان هطول دموع مطرها قد حان.محتارة هي في أمرها.فلا بدّ أن تتخذ قرار غضب بركانها الهادئ. هل تطلق نيزكا من كلام لاذع لتوبخ اؤلئك الصبية ام تهبط رايتها منهزمة معلنة السكوت؟ككل يوم من ايام سنينها تعلن ُ الصمت.فضمن قاموسها ان الصمت شعر من الغزل كما أوصاها حبيبها.
يتصببُ العرق جبينها من خيبة كلامهم عليها.موقفها يبدو للأسف ضعيفا لتدافع بها عن نفسها.تشعرُ باختناق صوتها لتصرخ عليهم تماماً مثل الجارة التي يزعجها الصبية في تكرارمي كرة القدم. تحتارُ سهر في أمرها.تنصدم من ارتباك لم يسبقها من قبل. اعتادت على سمنتها وملازمة الدهون معها.تسرقُ سهر نظرات من عيناها لتلقي الضوء على الشابات حولها. يخترق عطرهنَّ جدار فكرها.تغار من اجسادهنّ النحيفة الرشيقة:

" كم انتن محظوظات في اناقتكنّ ورشاقتكنّ. يا الهي! ما اجمل الفتاة ذات البنطال الجينز مع المعطف الجلديّ الاحمر.وتلك البيضاء ذات الفستان الاخضر.وتلك...ياه يا سهر! تباً لكِ "
تهبطُ من القطار كمظلية جيش على أرض معركة لتصل الى عملها الذي امتلأ بغبار الملل و الكسل.كم فكرت مرارا ً وتكرارا ً نفض غبار الاسى بمنفضة اليوم لتنال نظافة من تشوش قصصها.تمشي خطوة متلعثمة بخطوة.تضعُ قطنا ًمبلولاً من وشاح الطرش على طبلة أذنيها كي لا تسمع نفس العبارة التي يرددها لها ذاك الحارس العجوز:
-صباح الخير يا مدام سهر.قد تأخرتِ ككل يوم...
-ككل يوم أقول لكَ أني لست بمدام.انا الاّنسة سهر.
-اوه.اعذريني،فقد ابتليتُ بزهايمر.......
-ومن يبالي!
-أحسدكُ على ذاكراتك.
-هاهاها.تحسدني؟بربك!
رغم تأخيرها،تخطو واثقة القدمين بكعبي حذائها المتعرج.فتارة ترقص الرجل اليمنى رقصة الباليه.وتارة ترقص اليسرى رقصة شرقية دون منازع.تقيمُ سهر في مشيتها حفلة بأنغام الفوضى الملطخة بطين المطر.فكم سمعت كلمه "أف" من عاملة النظافة.رغم ذلك كله فهي لا تبالي.وحين تدخل مكتبها المعتق بخشب السنون المزين بكرسي يدور كما الدنيا تلف بها وتدور،تظنُ نفسها نجمة بوليوود وأن الملفات جمهورا ً يصفق لها ترحيبا ًوشوقاً.فهي نجمة مشهورة تصفع توقيعها المبجل على زاوية الاوراق السميكة .ولم تكنْ الازهار هي باقة الورود التي تجمعها في جرة المكتب.بل ان اقلام الحبر الفارغة تزين سطح مكتبها.ولم يكن اللاصق الصمغي سوى لعاب َ تقذف به طوابع المعاملات.حتى ان ريحانها الاصفر المصفوف على شباكها الرمادي لم يُسقى منذ الاونة الاخيرة.
تضعُ هاتفها النقال الخالِ من شبكة الانترنت لتنال بطاريتها نبضا أكثر فأكثر.فقد قررتْ أن تتزلجَ على جليد الملفات كي تهنأ ولو قليلا لتلقى فارس احلامها المنتظر:
-أجل،هيا يا سهر هلمِ مسرعة لتلقيه.فهو بانتظارك.
-سهر؟
-أجل..خ..خ..خلود؟
-هل كنتِ تتحدثين معي؟
-كلا.أحدث ُ نفسي لا أكثر.
ستلقاهُ لو بعد حين رغم انها لا تحبُ أن تعد أحدا.أخذتْ على نفسها ميثاق أن تراه.فقد نصّتْ بنودها المزروعة تحت جذع قلبها المرصع بجذور سكوتها أن تبدأ نهاراً جديداً مزخرفاً بفسيفساء كيدها و قهرها لتكبت ما يؤلمها.فهي لا تعبر عن مشاعرها الفياضة للأخريات. تحبُ أن تسمع كثيرا لتنصت َ أكثرفقط. تحبُ أن تكون ملكة على عرشِ الانوثة.ترّفُ لها العواطف نسيم الهوى بريشِ الصدق.تخدمها حاشية من جواري الماضي حيث لا مكان ليجرحها او يلعنها.تتخبطُ ُ بين واقعها كثيرا كطفلة تلعب ُ برمال الشط لتبنى قلعة طموحها.
تغفو عن نفسها كثيرا أنها ما زالت أنثى.نسيتْ كيف تكون أنثى.لكنها لم تغفل يوما أن قلبها الصبيُّ يدق خجلا من التصريح عن حبها وعشقها كباقي الفتايات.ألقت ْ نفسها في سلة مهملات الانسانية.تعيش يومها كما اليوم ينبغي أن يكون لا كما هي تحبْ.لا تتذمر في وجه القدر الذي رسم لها سكة القضاء من قضيب الحظ.أجل،داخلها صمت ٌ ثائر و سكونٌ حائر و عقل فاجرٌ بجسد ٍ ملون بدهونها البريئة.لا تمتلكْ أي فكرة او خطة لتنفيذ ما يدور في عقلها.فتمتلك عصا سحرية من العجز والرجوع الى الوراء.فبتلك العصا تغير ما تريدُ تغييره بتعويذة حماقتها الساذجة البريئة.زرعتْ سهر نبتة عمرها التي تنمو كلما اقتربْ عيد ميلادها.انها نبتة المودة بورق أخضر يانع يذبلُ مع روحها كلما ارادت الهزيمة.
تمرُ الساعات في العمل كزوار في المشفى.فتحضر لها تلك الساعات وقتاً مهدورا ًبنزيفِ دم برودتها وجمودها.تضحكُ حين ترى قطع سكاكر مجدها و عزتها من مديحِ مديرة العمل هناك.فكلما أنجزت أسرع،تشعرُ أن وسام التميز قد التصق على كتفها كجندي ضحى بجسده لينال شهادة الشرف.فالوسام لديها أن ينتفخ بطن رأسها بطعام كلمات مديرتها فتشعر حينئذ بالاطمئنان المتوتر.فتلتوي شفتاها جانبا ان نصرا ً لها قد تحقق.فتحتفل ُ مع نفسها بنفسها بكوبِ شاي يدفأ بردها الصاحي:
-أحضر لي كوبا ً من الشاي مع قطعة حلوى...بل قطعتين.
-قطعتين؟ اهذه حمية جديدة؟
-عفوا؟ لم أسمعك!
-قلتُ اني سأجلب الشاي مع الحلوى بالحال.
تضعُ يدها على منطاد خدّها لتتأمل قطعتي الحلوى.تنادي على حبيبها أن مرسم الاحتفال قد حان.قد البستهُ في هذه اللحظة قميصا ً ورديّا ًمع سروال قماش رمادي.هي معهُ الان عازمة على ان لا تجيب على مكالمات هاتفها.ولن تسقي زهر الريحان الاصفر الملطخ باوراق الذكرى.لن ترتدي ثوبها الاسود المثقب بجيوب احزانها،بل ولن تسلك ذاك الطريق الذي سطرت حجارتها القصة.فاليوم عندها بالاربع وعشرون ساعة سَتجلبُ لها لحظات غابت عن عقارب الزمن.ها،من جانبها نفس البقالة التي بمونتها تنمو عظام شيخوختها.ومن يسارها نفس المخبز بدقيق نامي بقمح السراب.لكن،من خلفها عاصفة من الاحاسيس تدفعها لتطير بها الى عشّها المدفون.
تطلبُ من الرياح ايقافها مع تلك الاوراق البنفسجية المسودة مكتوب على عروقها ان تصغي الى ذاك العزف الراقي.ما اجمل ذاك الكمان المحمول بين تجاعيد هذا العجوز صاحب المكتبة نفسه.فيسرقها الخيال الى ذاك العجوزالذي يعزف ويجمع قروشا ً قليلة بقبعة فنهِ وحبه للمارة.ياه!سبعون عاما ً يعزف وينتظر محبوبته للوصول او ان تمر من هنا.سبعون عاما ً ولم يمل او يكل من نداءه اليها.أين انتِ يا محبوبته؟افرقككِ التضاريس والحدود ؟أأخترتِ رجلا ً أغنى منه شبابا ويملك ثروة عواطف اكثر؟ما الذي منعكِ لان يملكَ قلبكِ المسود بنبضات اللؤم؟الم يهنْ بياضَ شعره الثلجي؟وضعف بصره النقي؟
وضعتْ سهر قرشا بتلك القبعة واكملتْ المسير مع عاصفة الذكريات.خشيتْ ان تكون مثل ذاك العجوز المنتظر لمحبوبته من وعد لربما تسميه وعد بلفور.فقد اعطت قلبها الذي لا تملكهُ لقلبهِ الغافي والناسي عنها فلم يعد يستحقه.عذرا،أخفقتْ سهر التعبير فاليوم هو ككل يوم.هي ستسهر الان مع حبيبها بقطعتي الحلوى وتخبرهُ عن نجاحها في العمل أثناء رقصها معه.هي الان في قاعة مكتبها تمسك ُ الادبارة لترقصَ معه.هناك فرقه موسيقى الليل تعزفُ لها النجوم فرحا ً.وتتلاطمُ الغيوم الثملى مشاركتهم بالرقص في سماء العشق.تضعُ سهر ابريق رأسها المثقل بالافكار على قلب حبيبها ليغلو بنار الشوق.ترقصُ فرحة ً وتعلن منتصرة انها ستخبرهُ بحبها له الان.ترقصُ وترقصُ حتى تدهس على اقدام خلود التي تسخرُ من جنون ما تراه منها:
-هاهاهاها هل أصابكِ جنون ام ماذا؟
-ك..ك..كلا.فقد كنتُ ....
-كنتِ تلعبين دور ساندريلا؟
-هيا لنتناول الحلوى .
-هممم هيا.لكن لم تجيبيني ماذ....
-هيا لنأكل الحلوى.
تقضمُ سهر قطعة الحلوى بأسنانها المخرومة.فيهطلُ الفتات َ منها كبذورِ العدس المجروش في بستانِ فكّها.ويأتي لسانها كموج ٍ غاضب يلحس َ لعاب َ شهوتها.في هذه اللحظة ِ، تريدُ الاعتذار لا من نفسها بل من ساندريلا. فكيفَ تجرأتْ سهر على أن تُدخِلَ الحسناء َ تلك في مستنقع وهمها:
-سامحيني يا سندريلا!لم أقصدْ ذلك.
تمنتْ أن تسمعها ساندريلا لتقبلَ منها الاعتذار.ترفعُ عيناها الى دورة المياه كي تغسل فوضى فرحتها.تفتحُ الصنبور كنواح أرملةٍ فقدتْ شريكها.وتغسلُ مساحيق وجهها المبعثر لتصففَ احباطها على رفوفها من جديد.تصفنُ على الارضية المنقوشة بشخصيات منسوجة من خيوط روحها المشتاقة. فكأنها ترى صورتهُ منبطحة َ بين قبورِ أحبائها.فتجهشُ بالضحكِ أسفا ً على أنها لم تنبشْ جثث الذكرى بعد.أجل،هي تفكرُ كثيرا ً وتعقدُ اجتماعا ً شرسا ً بين حيوانات خلاياها.فغراب الشوقِ ينعق ُ لها أن ترفرفَ بين أغصان عقلها .أما أسد أسطورتها يأمرها ان تفترس عواطفها في غابةِ دنيتها:
-سأحزمُ بضاعة أفكاري لتسافر الى أرض واقعي.سأستيقظُ ولو قليلا ً.لعليّ القى الحبيب الذي لم تلقاهُ عيناي...
تركضُ من دورة المياه الى مكتبها كحصان ٍأعور فقد اتجاهه.فكل ما تبحث ُ عنه هو أن تلقاه على أرض واقعها الخصب بين عشب صمتها.صهيل ُعزتها يذكرها أنها ما تزال ابنة حواء السابعة والثلاثين من عمرها.تقفُ برهة ً لتصرخ بداخلها أنها لا تريدُ ان تتذكر من هي تكون أصلا ً.فكلُّ ما تبحث ُ عنه هو اللجوء الى أمانٍ مفقود. تغلقُ عيناها لحظة ً لتراه ُ هو نفسهُ من ينادي عليها:
-تعالِ يا حبيبتي.كدتُ أن أموت خوفا ً...
-ألأنني دهستُ أقدام خلود بحافلةِ أفخاذي؟
-كلا،بل خوفا ًعليك ِ من عيون الحاسدين!
-مجددا ً يا حبيبي؟
-سئمتُ الانتظار.أريدُ أن أشتمَ عطركِ المجنون.
-قد أخجلتني.أين أراك؟
-هناك يا حبيبتي.فكل يوم أتي وأذهب كطيفٍ دون أن ألمح وجنة صباحك المدور.
-لكن أين؟ أني لا أراك.
-قلتُ لكِ هناك.
-أي....
-هناك يا حبيبتي.
تنهمرُ سهر بين أحضانِ الحائط لتبكي و لتظهر دموعا ً مكثتْ طويلا ً داخل كوخ ِ عيناها.تضرب ُ الجدار بقبضة ندمٍ انها لم تصطد طيفَ حبيبها بصنارةِ شقائها.تخدشُ الطلاءَ بأظافر قهرها.وتدقُ الزوايا بمسمار رأسها المدبب بهمومها.وتخفتُ ضوء مكتبها بظلامٍ الهوى الكادح.هي تبكي ليس لانها تريدُ ذلك بل لانها أوشكتْ على فتحِ قفل مرصود بجنيّ الحظ.تبكي كطفلةٍ هرمة لم تشتري لها أمها فستان العيد المترهل.وتبكي كالبوقِ على اعلان موتِ فرحتها.فتلقي على قلبها عفنة من تراب الوداع.ترفعُ رأسها وتخبئُ وجهها المحمر كرغيفِ قمحٍ محروق لترى طيفهُ أمامها مرة أخرى:
-لا تبكِ يا عزيزتي لأجلي.أعدكِ أن نلتقي.
-م...ماذا؟ حسنا لن ابكي.
تحملُ بضاعة حزنها لتبحث عن تاجر عواطف يشتري منها كل ما تملك.تنصرفُ الى منزلها لتقلع جذور كاّبتها بفأس براءة مسنّة.درب عودتها ليس ككل مرة.فاليوم تريدُ أن يطيل بها الطريق ليرى الشارع انها قادمة نحوه.فترحبُ الازقة لاصابع قدميها دبكة ً شرقيه ً تعزفها طبول المطر. وتنير لها الشاخصات المرورية نورا ً من برق الحرية حيث مسموح لها المرور دون توقف. وتنحني قبعة الرصيف لها خجلا ًأن يدوس كعبيه كل الحجارة ويمزقهم بطقطقته.هي الان ملكة في شوارع كرامتها.فتاجها رجل ثلجي مطرز بحبوب عطفها.يذوب ُأسفا ًمن شمس عمرها.وها هي الان،تشتري حبات الذرة الصفراء البيضاء المرصوصة كطقم أسنانها بورقه الاخضر الذابل كحلم طفولتها:
-هل تريدينها بملح؟
-أجل،ولمَ لا؟
-تفضلِ سيدتي.
-سيدتي!هاها..ش..شكرا ً يا بنيّ.
تتذوقُ طعم حبات الذرة مع رشق المطر الذي نفض بذور تراب الامل عن وجهها قبل أوانه.تضع ُ سهر يدها في جيبها حين تسددُ أصابعها هدفا ً في مرمى جيبها المثقب.تلتقط منديلا ًورقيا ً مقبوض الاذرع .فكم أصابه صداعا ً من شدة ُ الغسيل.تضعه ُ في يدها وتهز به ضاحكة ً:

"-أيّها المنديل الشقي.وجودكَ في قعر جيبتي يزيدني وزنا ً.
تقذفُ المنديل َفي بركة وحل وتسددُ هدفا ًنيزكا ًفي بركان طيبتها.ينتابها تأنيب الفضول لتنبش ما الذي يقرعُ أيضا في جيبها.تغرق ُ لاول مرة في بركة جيبتها لتدرك َ انها مهملة ً في حق معطفها المعثر.فلربما ظنتْ نفسها تشارلوك هولمز باحثة ً عن قضية ذكرى مفقودة.تأخذها مخالب أظافرها لتخدش مجموعه من اوراق الحلوى وبضعا من بقايا نقود حديدية:
-يا الهي! كل هذا في جيبي.
أجل،كل هذا في جيبها دون أن تعلم.فهي ترتدي وتقضي أمورها الروتينية على أكمل وجه.تسعدُ لاكتشافها انها وجدت بقايا من تلك النقود وتضعها في بنك محفظتها المفلس.شارفت ْ سهر على الوصول رغم حبها الشديد للمشي تحت سقف السماء الممطر:
-أمي! ها قد وصلت
-ها انا هنا.ما اجمل شعرك المبلل يا ابنتي.
-أتقصدين فيضان شعري.
-أشاهدكِ أحد يا دميتي؟
-ومن يجرؤ أن يضيع مشهد المطر ليراني أنا؟
-أقصد عيون الحاسدين.
-مرة ً أخرى.أرجوكِ.سأبدل ُ ثيابي.
-حسنا ً.انني أعد وجبتكِ المفضلة.
-فاصوليا؟
-أجل.
تذهبُ وتحمل حقيبة جثتها المتعبة لتدفنها في مقبرة غرفتها.تفتحُ بابها كستارة مسرح للعرض و تضربُ التحية العسكرية لسريرها المشتاق.تمرُ هاربة ًمن وحش مراّتها.وتبدل ُ ثيابها لترجع دبا ًقطبيا ًببيجامة سوداء.تزلجُ على جليد فرحتها.تضع تلك النقود في حصالتها التي تقرع كبئر ممتلئ بالحجارة.تنظرُ الى برواز صورة أبيها الميت الحي وتبتسم:
-كيف حالك اليوم يا أجمل الرجال؟
تنظرُ الى جبينه وتقبله منهمرة بالبكاء.فهي لم تشعر يوما ًأنها دمية او أنثى الا بحضن أبيها.تعتنقُ الصورة كرحم مأساتها رافضة ًأن يقطع الحبل السري وثاق حبها لوالدها.لربما تظنُ نفسها شابٌ بقلب أنثى .وكم تمنت ذلك!
-ها سهر؟ ما بالكِ تبكين يا بنيتي؟
-لا شيء أمي!فقط.....
-أباكِ!ل..لا عليكِ .هيا لتناول وجبة الغذاء.
-حسنا ً.
ترفعُ يدها مودعة ًصورة أبيها واعدة ً اياه ان تلتقي به ككل يوم.تشهق ُ نفسا ً كحمار أٌرهق َ نفسه بحرث أرض عمره و ذكرياته. وتمسح ُدموعها الغاليه على نفسها بطرف البيجامة ليمتص كثافة حزنها.فالمنديل سريع التمزق و التشقق بين جزيئات عبراتها.تضع ُ سهر قبعتها الصوفية المنسوجة من خيوط أفكارها المرهقة.وترتدي الجوارب الطويلة الملونة لتغطي جذع ساقيها المكسو بجذور الروماتيزم. تفرك ُ يديها لتوقد نار شوق ٍ أخمدهُ الزمان برياح حظها:
-لا تبكِ يا حبيبتي.فاليوم سنلتقي.
-أين؟أخبرني يا...
-قلت ُ لكِ هناك بين...
-أي...
-عليكِ أن تخمني بنفسكِ أن كنتِ تحبيني.ستجديني.
-أحب.....
-أراكِ هناك حينئذ.
تركض ُ كأرنبٍ نحو نبات جزر الحب.لا تدري ماذا تأكل ؟وكم ملعقة تلتهم جوف معدتها؟تسرعُ أكثر فأكثر لتنهي وجبة شوقها.تبعثر ُ المر بين أحضان شفتيها وكأنها مصاصة دماء للهوى.لم يضخ أنبوب فؤادها من قبل.فتسارع نبضاتها تتزاحم فيما بينها كمسابقة جري .فكم هي سعيدة ٌ نبضاتها ان تتراقص على ساحة شريانها الأبهر من بعد أن كانت ميتة بلا صوت يدق او يعلن استسلامه:
-أجل!أجل!سألقاه وأخيرا ً.
-من هو يا سهر؟
-ها؟ كنت أمازحك ِ أمي. أحبك ِ جدا ً.
تلتقط ُ سهر المواعين لتفلسهم من دسم كأبتها وتطير بهم الى مطبخ ذكرياتها.قررتْ هي التي من تغسل ما تبقى من وجبة الغذاء.فكم أحبت فقاعات الصابون المرغي على يديها. تداعب ُخدها بتلك الرغوة لترسم غيوما ملطخة ً بضحكتها.تغني بملعقة الخشب مايكروفونا ًبنوتات نشازية بريئة.لم تخجل لأول مرة بمراقبة والدتها لها دون أن تعلم:
-خشيتُ أن تحسدك العيون يا سهر.
-عيون من هذه المرة؟
-عيون الفرن تشتعل ُ غيظا ًمن سعادتكِ.
-هاهاها...أمي!
-أكملِ حفلتكِ الغنائية.
تنهي واجبها المطبخي كراقصة ملهى حزين.فلا تملك زبائن ليصفقوا لها.فارتطام الاكواب على رفوف المطبخ ضجّ من زئير صوتها.قد تمنتْ الطناجر أن تملك أيادي لتقفل فمها لكنها تكمل الغناء ولا تبالي لأحد أن ينتزع أزار فرحتها من قميص لحظتها.وتمر ُ لتجفف يداها المتشققة كشوكٍ ناعم. فهي الان تزرع في رأسها بذورا ً الامل لتحصد َ لقائه.فتخدش ُ الافكار خلايا عقلها بمخلب واسع الصدر.لا يملك دماغها حيزا ً الان لحجز مقعد بين حجراته.فقد ارتفعت لديها تذاكر الخواطر.كل ما يتجول في ساحة عقلها هو كيف تبدأ معركة السلام في حياتها.فتصرخ موجعة ًرأسها بقبضة يديها الصاروخية:
-اصطف ِ يا أفكار على طابورِ برنامج اذاعة مدرسة أشواقي.أريد ُأن أرى اجتهادك في بداية فصل الحظ.سأكون أنا مربية صف أحلامي.لا تخذليني.
-معلمتي انا لديّ فكرة سديدة.
-وما هي يا تلميذ قلبي العبقري؟
-اكتبِ شعرا ً،نثرا ً،او خاطرة ًعلى قوافي حبك.
-لكني لا أجيد ُ...
-لا عليكِ نحن معكِ.
-أحسنت َيا قلبي الغائب في مساق وحدتي .تصفيق حار له. ها؟ هل من مزيد يا طلابي الاحباء؟
- أجل معلمتي العزيزة.اقترح ُ أن تسدي ديون فجعكِ بجسد أرشق.فلتصبح ِ غزالا ًرشيقا ًيقفز ُ بين ثنايا أعشاب ربيع شبابك.
-همممم...وجهة نظر أيضا.وضعتها بعين الاعتبار.لكنك أحسنت َ صنعا ً. الان، أعزائي الطلبة فلتنصرفوا بحصة ٍ صفية ٍ قادمة.
تركض ُ كطفلة وراء سيارة المثلجات لتنال ورقة و قلم .أحسّت ان عليها دفع جزية لقائه كي تكتب له شعرا.كم تبدو معجبة بقوافيها الفاشلة في نحو خبرتها و بلاغة تجربتها في الحياة.لم تبالي لعروض احمد بن خليل الفراهيدي. فكل ما تريده ُ هو شوقي ّ بالمشاعر، ومتنبي بالصدق ،وقبانيّ بالحب.تشطب ورقة ا تلو ورقة،سطرا تلو زميله حتى يكاد الدفتر أن يقبل القلم توسلا ًبه ان يقف عن الكتابة.تحرث ُ الاسطر برأس قلمها و تسقيه بغيث الحبر المجفف. ها وقد أعدت وجبة الشعر الغنية ببروتينات حروفها و نشويات اخلاصها و فيتامينات قلبها المشتاق له دون أن تراه:
ولمَ أَغَارٌ عَلَيْكَ مِنْ الشِّتَاء.
فشقاوته غُرْزَتُ حَشْوُهُ السَّمَاء.
أَخْشَاكَ مِنْ زَهْرِ الرَّبِيع.
مِنْ خَصْلَةٍ قَمْحًا "ذَهَبِيٌّ.
مِنْ فَرَاشَاتٍ تُغَازِلُ صَبِّي.
مِنْ منجل عَبِقَةُ قُرَوِيٍّ.
وَمِنْ هَرْوَلَةٍ أُلْزِمْنَ السَّرِيع.
أَسْأَلُكَ مَتَى أَرَاكَ يَوْمًا؟
تِجِيبنِي قُفِيُّ ثَرْثَرَةِ الكَلَام.
أَسْأَلُكَ مَتَى أَقِفُ عَنْ الكَلَام ؟
فَتُصَرَّخُ وَتُهْتَفُ حِينَ أراكِ (شعر:أسماء أبو غوش)

أجل،ستبرق ُسماء انتظارها رعدا ً و ترعدُ غيوم حماستها برقا ًلتلقاه.تحضن ُرزنامة الذكرى لتوثق تاريخً رؤيته من الاّن.فقد أصبحت تعني لها الايام أنها سبعة باسبوعٍ واحد بباقة اربع وعشرون ساعة.في خيالها الان،تصعد ُ على سلم أمنياتها لتحقيق الوصول.تلهث ُ كجرو ٍ خلف عظمة عواطفها المرصعة بكالسيوم الضياع.فحليبها كامل الدسم بالاحزان وخال من الضحكات الصناعية.تريدُ سهر أن تكمش الايام بقبضة من طين لتصنع به تمثال حرية تعبيرها.بل تريد ُ أن تقضم َبأسنانها حجارة البؤس لتحطمَ نافذة الخيانة ببصقة ٍ وهمية.تتدحرج ُباخلاصها كدولاب يعثر على حقيقة فولاذه:
-حبيبتي!أدمعت ِ عيناي بشعرك المفتون.
-هل أحببته؟
-كلا!
-ها..حقا..انا لا أجيدُ الكتابة لكن قلبي جاري الكاّبة.
-لم احب شعرك ِ بل عشقته وحفظتُ حروفه.
-يا الهي؟!
-أخشاكِ من عيون السطور الحاسدة .
-هاهاها...مجددا ً؟أين ألقاك َ يا حبيبي؟
-يا زهرتي المتفتحة.سألقاك ِ هناك حيث تريني اليوم في منامك.
-لكن..اين..؟
-انتظرك
لا تشعر ُ هي بالنعاس لكنها تريدُ النوم كي تدرك َ عنوانه.تجبر عيناها بالفرار الى السرير عنوة بعقلها الضائع بين مقاهي حكاياتها.تفتح ُ شباك الامل لترى السماء المظلمه بمساحيق المطر الكئيب.تغوص ببحر عباراتها الفقيرة الى مال الاتيكيت.يدقُ السبات غفوة بوابتها فتسمح له بالمرور:
-أحلامك سعيدة .ها هو عنوان حبنا للقاء.
-اني قادمة كاعصار غاضب بهدوء.
تستيقظ ُسهر بمنتصف الليل الكادح.وتجفف هطول عرقها من غيوم جبينها.وتضع ُ يداها الباردتان لتنال الدفء من وجنتاها المحترقتان بنار الشوق.وتواسي وسادتها كطفل ٍ يجأش ُ بالبكاء.تخوضُ الاسئله بدماغها كقرعة تنتظر الاجابات.هل ستلقاه عند بتراء عشقها المنحوتة باصداف حياتها؟ام عند اهرامات حزنها المغرور كفرعون متجبر؟لربما تظن ان برج ايفل سذاجتها هو مكان لقاءه؟او ان حدائق بابل المعلقة ستتأرجح ُ لها كجناحي دجاجة؟ تعبت ْسهر من اسئلة استاذ عقلها.فقد خشيت ْ ان تفشل َ بالاجابات.لا تدري ما الذي تقوم ُ به الان؟ فقد وجدت ْ نفسها تتجول ُ بحديقة غرفتها المزروعة بشوك ايامها.تمسك ُمنبهها وتقف مؤشر التنبيه.فقد انتزع الكسل َ بيجامة عنفوانها.وقرر الخجل ان يسكن وجدانها.تشعر ُ سهر أن روحا ًوليدة ًتقنط ُبفندق جسدها المهجور من جديد. فلا من زوار او أصدقاء يمكثون به.تنتفض ُ بها غريزة شيء قادم لا تعلم حتفه.هناك شيئا ً يقبض روحها كي تبدأ من حيثُ ُ لم تبتدأ:
-أنا اريدُ تغيير أنا.سأغيرُ نفسي بنفسي.لن أكون أنا بالتي كانت.أريدُ أن أذوقَ طعم الحياة بلونٍ بهي ِّ برائحة ٍ تراب معبق بذرات حصى نشمية.ما هي وجبة الحياة؟من أي مطعم تُباع وجبتها؟
أريدُ غزو معركتها على أرض وجداني.أريدُ ان أكون إنسانة وأجدد عفش حياتي.سأغير َ نظام دقات قلبي المسن ّ وأخرجه من مأوى العجزة الى ملاهي ضحكتي.وسأجدد ميثاق الروحي المحطمة باسمنت جبروتي.وسيبقى عقلي هو المهندس المدني الذي يشرف ُ على اعمار حياتي لن اقوم بتغيير بنيانه.
تهرع ُ سهر الى حصالة البنك المفلسة لترى بما تحتويه من نقود.تقرقرعُ العملات الحديدية اجراسا ًبلحن خبيث يوسوس لها أن تقترض َ سلفة من عملها المشؤوم.ترسل لصديقتها خلود رسالة قصيرة بأنها تريد ُ الذهاب الى المتجر لتشتري معطفا ً اّخر يشارك قصة حياة ذاك المعطف الذي ترتديه كل يوم.شعرت أن معطفها يتيم وتريد أن تحضر له أخا ً يؤنس وحشته بهذا الفصل القارس.
تكمل ُ سهر ليلها بلا نوم او حاجة للغرق في كوابيسها.كم عشقت ْ الليل اليوم كي يطيل أكثر فأكثر.تحس ُ نفسها وزيرة تربية عواطفها وتعليم كرامتها لمناهج قلبها الدراسي لهذا العام.لكن مدرستها ليست مشيدة كأي أخرى.فهي الاستاذة والطالب والمنهج بحد ذاته.فلا جدوى لان يشاركها أحد بوضع خطة فصلية للدروس التي ستتلقاها.فهي التي ستتولى الامر:
-أخلدِ للنوم يا عزيزتي.فغدا ً موعد لقائنا .
-لكن....
-نامي واغمضِ عيناك ِ لاراهما بالبؤبؤ المدمع للشوق.فكم اخشى حاسدينكِ!
-حسنا ً!فالساعات القليله اوشكت الاندثار ليشق الليل صخور صباحي واراك.
تهب ُ على وسادتها نسيما ً من الخواطر والافكار المتشردة بين دار ايتام لغتها.لم َ يدق ُ جرس الاطفال المستهترون بها نوافذ تفكيرها؟ ولم َ يأن ُ نغمات صاحب الصحيفة وبائع الذرة وكل من حولها بقذائف تجلخ ُ صمتها؟ بهذه الليله ولاول حلقة من مسلسل حياتها تسترجع ُ شريط يومها معهم.اجل،لاول مرة تسدد هدفا ً في مرمى المبالاة:
-يبدو انهم على صواب.
غزى سهم كلامهم جحرة فؤادها.كأنها تريد ُ شكرهم على التعليق لأنها استيقظت بأن التغيير لاجل حبيبها سيكون غنيمة ً لها في معركة الحب.ستخوض ُ القتال لتلقاه بأجمل صورة تظهر ُ بها :
"- لم َ لا أحبُ نفسي كالبقية؟ كم سأدوم بشكلي هذا؟ لن تجوز الرحمة على جثتي حين افارق الحياة.فمن يرفع جثتي سيلعن وزني الباهظ.كلام الناس عني بات يبدو في عيني حقيقة. تجاهلتهُ ولم أبالي ولم تكن شجاعة مني بل هروب لأداري به كسلي وتسويفي...ولم...."
تغرقُ سهر بالنوم العميق المثكل بالاسئلة في داخلها.تغفو وتفكر عن اجابات تقنع نفسها.في هذه الليلة،تعيشُ سهر حلماً يطاردها من ايام مدرستها.كانت محبوبة بين صديقاتها.فكم ضحكن على ضيق المقعد الدراسي عليها.كانت سهر تخجل من الاجابة عن اسئلة معلماتها ولم تتجرأ يوماً بالهرولة الى اللوح للكتابة.وفي الطابور الصباحيّ،كانت اخر الضيوف قدوماً لكنها من اوائل المصطفات على طابور المقصف.فكل الهمسات التي تذكرها سهر بأنها التهمت جميع الطعام.
وتتراكضُ أيام سهر لتنجح من دعاء والدتها لها في الثانوية العامة.نجاحها صدم الجميع.درست الكيمياء ولم تيقن يوما ً ان تراكيب عقول البشر لا تتفاعل مع القلوب بتلك السهولة كما في الكيمياء الحيوية والعضوية.وما زالت دعوات والدتها تنهمر لتتخرج من الجامعة المنئية الى الحياة.لم تحب أحدا ً في جامعتها وبالأحرى لم يحبها أي شاب! وتتزلج سهر بعفويتها لتبحث عن عمل مهجور عن تخصصها. فعملها قتل حياتها وأخفاها عن بصيرة الناس وزادها خوفاً ان تبقى وحيدة.وها هي الان سهر تنهكم من حلم الى اخر لتقبض على ذكرياتها بممحاة هزيلة.لم تحبْ سهر مدح الناس اليها.فلم تصدق الى مرآتها الصماء التي تمتنع عن مصارحتها.فتاهتْ ما بين انعكاس مرآتها وما بين احاديث الناس عنها.
ينصبُ العرق اكثر فاكثر على ساحة جبينها.وتشتد عضلات اقدامها اثناء حلمها في هذة اللحظة.يزداد أنينها بازدياد شوقها لأن تفيق على الحال. تذوبُ ضياعا ً بتفكيرها بالغد بماذا سيكون؟ لاول مرة تبالي به.تمسك ُ حجر النرد لتلقيه مع الايام . لعلّ الحظ يزورها في الصباح الباكر.فلن تنسى مجدداً حقن الكلام الذي تلقته من حولها ابتداء من تاريخ اليوم.تعدُ سهر نفسها بأن تمتلك صباحا مميز وجديد!


0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.