tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

كان الطقس بارد جدًا في تلك الليلة من ديسمبر عام 2018 بالإسكندرية، وقد انطلقت سيارة وحيدة في هذا الطقس الرهيب، يجلس بداخلها شابين في نهاية العقد الثالث من عمرهم، وانطلق صوت المذيع متقطعًا عبر راديو السيارة محذرًا المواطنين من مغادرة منازلهم إلا للضرورة القصوى؛ لأن الليلة هي ليلة الثالث عشر من ديسمبر، وهي ذروة نوة الفيضة الصغرى، ومنسوب البحر قد أرتفع ستة أمتار، وسرعة الرياح قد بلغت ستين كيلو مترًا في الساعة، وسقوط الأمطار غزير، وقد أغلقت الموانئ، أغلق الشاب الجالس الراديو وهو يقول:
دائمًا ما يبالغون في الأخبار، إن الجو جميل، وأنا مستمتع جدًا يا لها من أجواء ونظر إلى قائد السيارة متسائلًا:
ما رأيك يا مروان؟
ولكن لم يصله رد منه، فقد كان رغم برودة الجو متعرقًا بشدة زائغ العينين، والسيارة تترنح يمينًا ويسارًا تحت تأثير الرياح الشديدة، والأرض الغارقة بمياه الامطار الغزيرة، وهو يتلفت يمينًا ويسارًا؛ وكأنما يتلقى أوامر من أشخاص خيالية؛ حتى وصل إلى كوبري ستانلي فأوقف السيارة فجأة بضغطة قوية على المكابح، لتترنح السيارة وتقف بعرض الطريق محدثة موجة كبيرة من مياه المطر، والتفت إلى صديقه الجالس إلى جواره قائلًا:
وداعاً يا لؤي، ثم انطلق إلى سور الكوبري، وصعد فوقه وهو ينظر إلى يمينه ويده تمتد؛ كأنما تمسك بيد رفيق خيالي وهو يتمتم بصوت غير مسموع؛ وكأنما يحفزه ثم يقفز إلى البحر، انطلق لؤي إلى سور الكوبري ينظر إلى الأمواج المتلاطمة وهو يصرخ: مروااااااان
وصلت سيارة النجدة إلى كوبري ستانلي، ونزل الضابط منها وهو يشتعل غضبًا من صاحب البلاغ المزعج في هذا التوقيت المتأخر، والطقس البشع؛ ليجد شابًا يجلس على الأرض وسط مياه الأمطار، وهو يتشبث بسور الكوبري وهو يضغط برأسه يكاد يخترق الفواصل محاولًا النظر إلى البحر، يجذبه الضابط برفق؛ ليدخلا أسفل إحدى الأبراج الصغيرة المنتشرة على جانبي الكوبري محاولًا الاحتماء من الأمطار، ويسأله عما حدث تفصيليًا؛ ليخبره أنه أتى من القاهرة بصحبة صديقه مروان رفعت حيث أقاما لعدة أيام بالإسكندرية، وأن الأخير كان يعاني من حالة نفسية سيئة انتهت بقفزه إلى البحر منذ قرابة الساعة، ولم يظهر له أثرًا من وقتها، اصطحبه الضابط إلى القسم لتحرير محضر بالواقعة، وأخبره إنه في الظروف العادية كان سيبدأ البحث مباشرة بسبب إقراره بانتحار الشاب؛ ولكن الظروف الجوية المحيطة لن تمكنه من ذلك؛ لذا فعليهم بالانتظار لحين تحسن الوضع قليلًا، يخرج لؤي وهو لا يدري ماذا عليه أن يفعل ليركب سيارة مروان ويذهب لمكان اختفاؤه، وينتظر حدوث جديد ليدخل في نوبة بكاء يفيق من بكائه على رنين هاتف مروان المتواصل؛ ليجد اثنتين من المتصلين يتبادلان الاتصال والدة مروان وأخرى تدعى ليلى عطوان.
كان لؤي يعرف هذا الاسم جيدًا، يقضي لؤي ليلته الثانية أمام البحر بلا جدوى، ورنين هاتف مروان لا يتوقف؛ فيجيب على اتصال أمه ويحاول جاهدًا إخفاء الخبر عنها، لكن دموعه تغالبه عندما تخبره الأم بأنها تشعر شعورًا سيئًا حيال مروان منذ ليلة الأمس، وعليه أن يخبرها بما حدث، فرضخ وأخبرها لتصرخ فيه طالبة أن يحضر أمامها في الحال. يضطر إلى العودة إلى القاهرة ليجد اجتماعًا رباعيًا في انتظاره ببيت مروان، فأبيه أحمد رفعت المنفصل عن أمه منذ زمن قد حضر، وأمه سمية قد حضرت بصحبة أخيها الأصغر جاسر لاشين، وكانت جاسمين طه زوجة مروان بانتظار الجميع وقد أرسلت ابنتها جومانة وابنها محمود إلى منزل والدتها بعد أن سمعت الخبر المشئوم.
أخبرهم لؤي باكيًا بكل ما حدث لهم، ليهيم الأب على وجهه خارجًا من الباب وهو يغمغم: لله الامر من قبل ومن بعد
وتنهار الأم بالبكاء لتنضم لها الزوجة ويقاطعهم جاسر قائلًا: إن قلبه يحدثه أن مروان بخير، وكيف سيبتلعه البحر وهو سباح ماهر لابد أنه بخير، ويطلب منهم البقاء سويًا بمنزل مروان؛ لأنه ذاهب من فوره إلى الإسكندرية، ولن يعود بدونه،
يرافقه لؤي في رحلته ليساعده إن لزم الأمر، وكان لؤي يعرف الكثير عن جاسر لكثرة حديث مروان عنه فقد كان أقرب الأهل إلى قلبه، كان جاسر على مشارف الخمسين من عمره يكبر مروان بثلاثة عشر عام فقط، كاتب وباحث تاريخي، واسع العلم والثقافة، قصير القامة ذو جسم رياضي، لم يترك الزمن بصمته على ملامحه فمن يراه لن يتخيل أنه قد تجاوز الثلاثين من عمره، انطلقا من توهم إلى الإسكندرية، فذهبا إلى موقع الحادث، وقام جاسر بسؤال الموجودين عن أية أخبار خاصة بالواقعة، فلم يجبه أحد، فاتجه إلى قسم الشرطة لمتابعة المحضر، ليخبره الضابط أنه بدأ بالفعل في إجراءات البحث فور تحسن الطقس في اليوم التالي؛ وحتى الأن لم يجد جديد، وإن هذا فأل حسن فطالما لم تظهر جثة فعلى الأغلب أنه قد استطاع أن ينجو بطريقة ما.
يذهب جاسر لموقع الحادث ويقوم باستحضار أحد أمهر الغواصين المتخصصين بالبحث عن الجثث، ويتفق مع غالبية الصيادين على البحث عن المفقود واعدًا إياهم بمكافأة كبيرة إذا قدموا له أية أخبار تساعده في رحلة بحثه، ويستأجر شقة مطلة على كوبري ستانلي؛ ليقيموا فيها سبعة أيام وهو يبحث بدقة وصبر شديدين؛ حتى يخبره الجميع أنه لو كان هناك جسد لظهر، وإن المفقود غالبًا على قيد الحياة، وقد خرج من البحر بطريقة أو بأخرى، وأيدت الشرطة كلامهم، أخبره لؤي عن تدهور حالة مروان النفسية في أيامه الأخيرة، وعن هلاوس كانت تطارده في الآونة الأخيرة، وعن علاقته بفتاة تدعى ليلى عطوان، وقصة حب عنيفة ضمتهما، وأدت لتدهور علاقته بزوجته، وأنه نصحه بضرورة العلاج النفسي؛ لكنه لم يستجب وأن مروان لم يكن يخبره بتفاصيل كثيرة مؤخرًا، قطع حديثهم رنين هاتف مروان الذي كان لا يزال بحوزة لؤي، وأخبره الأخير أن المتصلة هي ليلى، خطف جاسر الهاتف ليرد على الاتصال؛ لتخبره ليلى أنها رأت في منامها مروان يسقط في بئر سحيق، وأنها في حالة رعب فيخبرها أنه قادم إلى القاهرة فورًا للقائها، كان جاسر ينظر إلى النيل ومياهه تتحرك ببطء في هدوء منقطع النظير وهو جالس على مقعده في المطعم الهادئ المطل على النيل بالمعادي، وهو ينتظر حضور ليلى طبقًا للموعد المحدد بينهما بعد عودته من الإسكندرية خصيصًا للحصول على إجابة تشفي صدره، إلتفت فجأة إلى مدخل المطعم ليراها وهي تدخل من الباب بهدوء ونور وجهها يضيء المكان؛ وكأنما توقف الزمن وهو يطالع تلك الفتاة الجميلة، ولذهوله فقد تفقدت المكان بنظرة فاحصة ثم اتجهت إليه بهدوء ومدت يدها إليه مصافحة، وهي تقول:
كيف حالك يا أستاذ جاسر.
كانت ليلى عطوان فتاة في الخامسة والعشرين، بيضاء كالقمر في ليلة صافية، وقد أخذت منه استدارة وجهها أيضًا، عيناها واسعة كاحلة السواد، دقيقة الأنف، شعرها أسود كليلة مظلمة ينساب كالحرير فوق كتفيها، وصوتها كعندليب ينشد انشودته الأخيرة.
قال جاسر:
هل أنتِ ليلى؟
فأومأت برأسها في خجل فتابع قائلًا: وكيف لمروان أن يختفي تاركًا كل هذا الجمال؟!!
اندفعت الدماء إلى وجهها لتزيده جمالًا، جلست في خجل وهو لا يزال يتطلع بوجهها الجميل؛ وكأنما سحرته عينيها
ثم بدأ يتحدث قائلًا:
قلبي يحدثني أنه بخير.
فردت:
وأنا أيضًا.
ثم بدأت تحكي له كيف كان لقاؤهم الأول، والصدفة التي جمعت بينهما، وكيف أخبرها مروان بأنه يشعر أنه يعرفها جيدًا؛ كأنه رأها من قبل؛ بل وتحدث إليها كثيرًا أيضًا، وقصة الحب الجنونية التي جمعتهما وقد مرت خمسة أعوام على لقائهم الأول، وهو يقف حائلا بينها وبين استكمال حياتها، وهو لا يتقدم خطوة واحدة في اتجاهها، ولا يتراجع مفسحًا المجال لغيره، وكيف كان لطيفًا هادئًا في البدايات ثم بدأ كل شيء في التحول؛ ليصبح دائم الشرود كأنما يحارب طواحين الهواء، ويتحدث بكلمات غير مفهومة يوجهها لأشخاص خيالية، وكيف ظلت تحاول معه أن يلجأ لطبيب نفسي؛ حتى نجحت في إقناعه بالذهاب إلى دكتور ياسين الخليلي ليتابع معه العلاج النفسي بزيارات متقطعة، ويختفي أسابيع عديدة ثم يعود للظهور فجأة لأيام قليلة، ثم يعود لعزلته مجددًا.
سمع جاسر كل ما قالته باهتمام دون أن يقاطعها؛ حتى انهت كلامها بما راته في منامها وكيف سقط مروان في بئر سحيق أمام عينيها وهي لا تقوى على فعل شيء، وحاولت الاتصال به مرارًا دون رد؛ حتى أخبرها جاسر شخصيًا بما حدث في تلك الليلة، ومن وقتها وهي لا تعلم ماذا عليها أن تفعل؛ ولأن مروان كان كثير الحديث عنه؛ لذلك قررت أن تقص عليه كافة التفاصيل التي تعرفها؛ ربما تساعده في إيجاد حل للغز اختفائه، طلب جاسر منها أن ترافقه إلى الطبيب النفسي ياسين؛ ليحاول معرفة مما كان يعاني مروان تفصيليًا، اصطحبته إلى عيادة ياسين الخليلي الكائنة بمنطقة الكوربة، واعتذرت عن الصعود معه، واخبرته أنها سوف تنتظره في السيارة، بسبب كرهها لذلك الطبيب المتعجرف
وانتظر جاسر حتى أنهى ياسين مواعيده الكثيرة قبل أن يقابله طالبًا معرفة أسباب معاناة مروان؛ لكن ياسين رفض اطلاعه على أية تفاصيل عن حالة مروان مخبرًا إياه إن أسرار المريض النفسي غير مسموح بمشاركتها مع أي شخص آخر أيًا كانت صلة قرابته بالحالة، ومع محاولاته الحثيثة لمعرفة أي معلومة لتكون بمثابة طرف خيط يساعده في الوصول إلى حل لغز إختفاء الأخير، وسبب إقدامه على الانتحار، أخبره ياسين أن مروان كان يقوم بكتابة مذكراته، وأنه إذا توصل إلى مكانها قد يجد فيها ضالته المنشودة. عاد جاسر إلى ليلى ليجدها تنتظره باهتمام شديد فأخبرها بما جري.
إستأذنها جاسر في الانصراف إلى منزل مروان، وأنه مضطر لعدم اصطحابها معه؛ لأن وجودها سيثير الاف الأسئلة، وكان جاسر محتار كيف يخبرها أن زوجته قد تقتلها فور رؤيتها، وقد يكون مروان قد أغفل ذكر هذا الجانب لها؛ ولكنها اراحته قائلة كيف لي أن أذهب لمنزله في وجود زوجته وأطفاله، سأنصرف الأن، وإذا جد أي جديد أرجوك أن تخبرني به فورًا، ودعها متجهًا إلى منزل مروان وهو يعرف ما ينتظره هناك من عشرات الأسئلة من أخته وزوجة إبنها، وكيف سيواجههم وهو لا يملك أية معلومات؛ ولكن ذهابه إلى المنزل كان شرًا لابد منه، بمجرد وصوله إلى المنزل أيقن أنه لم يقدرهم حق قدرهم، فلم يواجهونه بعشرات الأسئلة كما كان متخوفًا؛ بل تجاوز عدد الأسئلة إلى المئات وهو لا يدري بماذا يخبرهم؛ لكنه حاول أن يطمئنهم قدر الامكان أن كل الدلائل تشير بأن مروان لم يصب بأي مكروه، وأنه فقط اختفي وعودته هي أمر منتهي وهي مسألة وقت لا أكثر؛ لكن رده لم يكن مقنعًا كفاية حتى يكفوا عن اسئلتهم؛ ولكنه انتهز لحظة من الصمت لكلتاهما ليبادر بسؤال جاسمين عما إذا كان لمروان غرفة مكتب أو ما شابه، فأخبرته أنه منذ سنوات يقيم بغرفة منفصلة ويغلقها خلفه حين يغادرها، وإن مفتاحها معه هو فقط، فأخذ جاسر ميدالية المفاتيح التي تركها لؤي بعدما أعاد سيارة مروان إلى منزله، وجرب العديد من المفاتيح حتى انفتحت الغرفة، فدخل وأغلق الباب خلفه هاربًا من حصارهن،
منذ دخوله إلى الغرفة شعر بأن حلول كل الالغاز تكمن داخل هذه الغرفة العامرة بالفوضى والأوراق والكتب الملقاة على الأرضية، وجهازين من أجهزة الحاسب الآلي، وقصاصات ورقية انتزعت من بعض الكتب، والصحف المتراصة على مكتب مغطى بالأتربة في طرف الغرفة، وحتى الفراش كان مغطى بالأوراق،
أمضى الكثير من الوقت يبحث في الغرفة إلى أن وجد مجموعة كبيرة من الأوراق جمعت بعناية فائقة داخل مظروف ورقي كبير، ولفت انتباهه أنه الشيء الوحيد الذي شمله النظام وسط الفوضى العارمة التي عصفت بغرفته المهجورة الغارقة في الأتربة، ورماد السجائر، فتح الباب وطلب كوبًا من القهوة ومنفضة سجائر خاوية ليست كحال العديد من منافض السجائر التي وجدها بالغرفة، وهي تأن تحت وطأة الآلاف من أعقاب السجائر، لم ينزعج من الفوضى المحيطة به فقد كان مروان نسخة مصغرة منه، وكان الخال فوضويًا تمامًا كإبن اخته بالرغم من دقته المتناهية، أحتضن كوب القهوة، وأخرج متعلقاته وجلس في وسط الفراش، وفتح المظروف المحتوي على مئات الأوراق، نظر إلى الأوراق ليجدها مرقمة؛ ولكن بدون ترتيب؛ فأعاد ترتيبها حسب الأرقام المدونة عليها، والتي تصدرتها ورقة كتب عليها بخط كبير رواية أسفار.
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.