tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

عام 1359 قبل الميلاد إقليم خمون كيمت عهد الملك اخناتون الأسرة الثامنة عشر

كان النحات (ازي سخم) يضع اللمسات الأخيرة على تمثاله الجديد محدثًا صديقه (برايب سن) قائلًا: ما رأيك؟!.
يرد برايب: جميل؛ ولكن ما الداعي لكل هذه الترهلات في جسم الرجل؟.
ازي: هذه هي حقيقته، لا أدري لماذا يعمل النحاتون الرسميون على إظهار عكس الحقيقة.
برايب: لأن هدفهم نحت تمثالًا جميلًا يعيش لآلاف السنين، وليس إظهار عيوبه.
ازي: الفن لم يخلق للكذب اللعنة عليهم.
برايب: لهذا ستظل نحاتًا شعبيًا فقيرًا مدى حياتك، ولن تصبح نحات رسمي أبدًا.
ازي: لا يهمني هذا. كل ما يهمني هو أن أحيا حياة هادئة، وأن أعمل ما أحب لحين انتقالي إلى حياة الخلود.
برايب: وكيف ستنتقل لحياة الخلود بدون أن تدفع للكهنة، وأنت فقير معدم
ازي: اللعنة على الكهنة. يومًا ما ستعرف أنهم حفنة من الأفاقين لا علاقة لهم بالبعث والخلود، يومًا ما سأعرف أنا الحقيقة حول حياة ما بعد الموت، أو سأموت وأنا أحاول المعرفة.
كان ازي شابًا في عامه الحادي والعشرين، طويل القامة، قوي البنية، يشبه المحاربين؛ ولكنه أحب الفن ونبغ فيه منذ نعومة أظافره، ولولا تمسكه بإظهار الحقيقة في منحوتاته؛ لكان له شأن آخر، نشأ وترعرع في إقليم خمون، وكان كلما رأى تمثال الإله تحوت المعبود الرسمي للإقليم والمتمثل بقرد بابون ضخم ينظر إليه بإستهزاء وهو غير مقتنع أبدًا بأن هذا القرد هو الإله؛ حتى نمى إلى علمه اعتناق أمنحتب الرابع لديانة جديدة تدعي بالاتونية التي تركزت على عبادة الاله اتون، وهي ديانة توحيدية تدعو لإله واحد لم يتمثل بصورة بشر وحيوان؛ بل رمز إليه بقرص الشمس، وهو يشع بأشعة تحمل الخير للناس؛ حتى أن أمنحتب قام بتغيير اسمه إلى أخناتون، وشرع في إنشاء مدينة جديدة تدعى أخيتاتون في الضفة المقابلة لإقليم خمون، وقرر نقل العاصمة من طيبة إليها بمجرد إنشائها، انطلق ازي إلى مري رع الكاهن الاكبر للإله آتون يرافقه كظله رغم كرهه السابق للكهنة؛ لكن الوضع قد تغير الأن، وعندما عرف الكاهن أن ازي يجيد فن النحت قام بضمه إلى المثالين القائمين بالعمل على إنشاء المدينة الجديدة أخيتاتون، يبدع ازي في تمثال لاخناتون الذي كان قد احتل مرتبة عالية عنده، ولم لا، وهو الوسيط بين الإله أتون والبشر؛ ليعجب الملك بالتمثال جدًا أثناء زيارته الرسمية لمتابعة أعمال بناء المدينة، ويطلب حضور صانعه بين يديه ليحضروا له ازي في الحال، أثنى الملك على ازي وأجزل له في العطاء، وأثناء زيارة الملك لرؤية آخر ما وصلت إليه الإنشاءات بالمدينة كان بصحبته العديد من رجالاته المقربين، وكان من بينهم حاكم خمون (عحا نخت) وأسرته، وأثناء انصراف الجميع يرفع ازي وجهه؛ ليرى أجمل وجه رأته عيناه، ليعرف بعدها إنها ميريت إبنة حاكم خمون، كانت الفتاة أجمل ما رأت عينه؛ وكأنها إمتلكت وجه القمر، شعرها ينساب كإنسياب النهر الخالد حاملًا الخير والنماء للناس جميعًا، وسط ذهوله فقد تعلقت عيناها به أيضًا؛ لتنتزع قلبه من بين ضلوعه، وتنصرف بهدوء كما حضرت بهدوء، أمضى أيامه التالية في البحث عن فرصة كي يراها مجددًا، وأصبحت جدران قصر أبيها مؤنسته في أيامه ولياليه، ينظر إليها من داخل مخبأه؛ عله يراها ذاهبة لأي مكان بعدما يأس من الانتظار، ولكن ها هو القدر يقدم له هدية جديدة، فبوابات القصر تنفتح ويخرج منها بعض الحراس، ثم تخرج هي ليضيء وجهها الكون، كان يتمنى أن يقفز خارج مخبأة ليعملها بوجوده؛ عله يحصل على نظرة من عيونها الكحيلة، أو كلمة واحدة من ثغرها الباسم؛ لكنه لم يفعل، كانت على فرس أشهب تنطلق بسرعة، ويحاول الحرس اللحاق بها، وما أن ابتعدوا؛ حتى رأى الموكب يتجه إلى السوق، أسرع الخطى متتبعًا ميريت وهو يلهث، ليجدها تعاين بعض الحلي.. تختار عقد كبير زاده جيدها جمالًا، وقف على مقربة يراقبها في صمت إلى أن التفتت فجأة لتراه، فتتقدم باتجاهه قائلة: ألست هذا النحات الموهوب؟.
يومئ برأسه في توتر
تخبره أنها تحب النحت كثيرًا، وتتمنى أن تتعلم فنونه يومًا
فيرد بفرحه:
أنا مستعد لنيل هذا الشرف
فتضحك قائلة:
إذن موعدنا هنا غدًا في ذات التوقيت.
وتعود إلى فرسها، وتنطلق مبتعدة يتبعها حراسها بعد أن سحقت ما تبقى منه بنظرة بطرف عينها، وابتسامه حانية، لم تذق عيناه النوم في ليلته هذه، وهو ينتظر الصباح بفارغ الصبر، وما أن أشرقت الشمس؛ حتى انطلق إلى مكان اللقاء ليجد الفتاة قادمة على عجل قائلة: اتبعني سريعًا.
يتبعها كالمجذوب لسحرها، وما أن يغادرا السوق؛ حتى تسأله عن وجهتهم لأنها قد غافلت حراسها، ولا تملك الكثير من الوقت قبل العودة لقصر أبيها، فيطلب منها أن تتبعه إلى كوخ مطل على النهر كان قد أعده مسبقًا لممارسة أعمال النحت، ولا يعرف أحدًا طريقه سوى صديقه برايب، يدخلا إلى الكوخ الصغير، وتنبهر ميريت بما رأت من منحوتاته البديعة، وتخبره أنها تريد أن تتعلم، وأن عليه أن ينتظرها هنا لثلاثة أيام أسبوعيًا؛ حتى تحضر إليه وتبدأ في تعلم فنون النحت وتغادر مسرعة، قبل انصرافها تلتفت إليه قائلة:
هل حولك حبك للنحت إلى تمثالًا صامتًا
فيرد متلعثمًا: أنا فقط منبهر بما يحدث لي
فتضحك قائلة: لقد بدأت قصة يبدو أنها لن تنتهي قريبًا، وانصرفت تاركة إياه وهو يغمغم:
أتمني ألا تنتهي تلك القصة أبدًا.
تعددت زياراتها للكوخ الصغير، وبدأت في تعلم أساسيات ومهارات النحت، وأدهشه كم كانت سريعة التعلم، وفي غضون شهور أصبحت تجيد فنون النحت، بدأت تعمل على تمثالها الأول وحدها في منتصف الكوخ، وإنزوى هو في ركن خاص ينظر إليها مفتونًا وهي منهمكة في عملها، وهو يعمل على تمثال جديد وعيناه لا تكاد تفارقها طوال فترة وجودها معه، وهي تختلس بعض النظرات إليه أثناء عملها؛ لتجده ينظر إليها بشغف، وتتلاقى أعينهم؛ فتشيح بوجهها وقد أحمرت وجنتيها خجلًا؛ لتزداد جمالًا على جمالها، وتتظاهر بأنها منهمكة في عملها؛ ولكن قلبها كان يرقص طربًا بداخلها وقد اصابتها سهام الحب في مقتل، كانت لمسات يده الرقيقة ليدها الجميلة في بعض الأوقات متعللًا بمساعدتها وتوجيهها تترك بركانًا ثائرًا من المشاعر بداخلها؛ فتتمنى أن تمسك بيده وتظل ممسكه بها هكذا إلى الابد، كم كانت تحبه رغم صمتها، واخفائها لسرها داخل أعماقها إلى أن انتهت من تمثالها الأول، والذي كان يمثل شابًا يشبه ازي كثيرًا، ويمسك بيد سيفه وبالأخرى أدوات النحت، كانت فرحته مضاعفة، فها هي تلميذته النجيبة تنهي تمثالها الأول جميلًا متقنًا، وقد كان نسخة منه أيضًا، ينظر إليها بإعجاب ويخبرها أنه قد حضر لها مفاجأة احتفالا بهذا اليوم الموعود، يذهب إلى ركن الكوخ وهي تكاد تطير وهي لا تطيق الانتظار لرؤية المفاجأة؛ فيزيح قطعه كبيرة من الكتان عن تمثالًا صغيرًا؛ ليريها إياه لترى وجهها الجميل وقد تم نحته بحرفية شديدة بيد محبة، فكان صورة طبق الأصل منها، قفزت في الهواء فرحة واخذت تتحسس التمثال؛ لتتأكد أن هذا الجمال حقيقيًا، والتفتت إليه تشكره وهي ممتنة ليقاطعها قائلًا:
أنا أحبك.
كان لوقع كلماته الأخيرة أثرًا عظيمًا عليها؛ فقفزت تحتضنه وهي تغمغم:
حبك هذا لن يكون ولو جزءًا صغيرًا من حبي لك.
كانت فرحتها عظيمة وأخيرًا، قد تصدع الصخر ونطق معترفًا بحبه لها، وهو الصامت دائمًا منذ أن عرفته تبوح عيونه بحب عظيم؛ ولكن شفتاه لا تتحرك لتعبر عن ذلك، اصطحبت تمثالها إلى قصر أبيها مثيرة آلاف التساؤلات عن مصدر هذا التمثال المصنوع بدقة، والذي يشبهها تمامًا؛ ولكنها لم تفصح لأحد بأي إجابة عن هذا، تعددت لقاءاتهما ليمارسوا النحت حينًا، وسباق الخيل حينًا، والسباحة أحيانًا كثيرة بعد أن ردت إليه معروف تعليمه لها النحت بتعليمها له السباحة، وأصول الفروسية، والحب يلفهم بأجنحته الجميلة لفترة تجاوزت العام، كان ازي حالمًا يتخيل بأن نهاية هذا الحب الجارف ستتحول إلى ارتباطًا أبديًا يومًا ما، لا يدري بما تخبئه لهم الأيام، وفي أحد الأيام بينما كانت ميريت متجهة إلى الكوخ تصادف ذلك مع انصراف صديقه برايب؛ ليراها الاخير وهي تصل إلى الكوخ؛ فيقف متلصصًا خلف إحدى الأشجار ليجدها تدخل إلى الكوخ؛ فيذهب إلى الباب ويسترق السمع ليعرف كل ما كان بينهما، يرحل برايب لا يلوي على شيء، ونيران الغيرة تحرق قلبه يسأل نفسه مئات الأسئلة.. كيف لصديقه الفقير أن يتحول فجأة إلى نحات رسمي يقوم بأعمال عظيمة في المدينة الجديدة ترتقي إلى إعجاب الفرعون شخصيًا؟! وكيف وصل إلى هذه الفتاة الجميلة ذات النسب العظيم والجمال الأعظم؟! وهل يعرف أبيها الحاكم بما يدور بينهما؟ وهل من الممكن أن يوافق الحاكم على هذه الزيجة؟ وإلى أين سيصل ازي إذا تمت هذه الزيجة؟ هل يخترق حينها السحاب واصلًا لحدود السماء؟ انتظر حتى المساء ثم عاد إلى صديقه ازي أملًا في الحصول على بعض الإجابات، وما أن وصل إليه وبدأ في سؤاله مدعيًا عدم معرفته بشخصية ميريت الحقيقية، فقال له برايب:
من هذه الفتاة الجميلة التي أتت إليك في الصباح؟.
ازي: إنها ميريت حب عمري ونور أيامي.
برايب: لماذا لم تخبرني عنها ابدًا؟.
ازي: لقد كنت أحلم ولا أتخيل أن يصبح حلمي حقيقة؛ لذلك لم أتحدث مع أحد عن حلمً سأستيقظ منه يومًا.
برايب: ولماذا عليك أن تستيقظ منه يومًا، أنت الأن نحات رسمي، وعلاقتك بالكاهن الأعلى ميري رع قد تفيدك في طلب وساطته ليتدخل لدى أبيها لإتمام زواجكم.
ازي: إن علاقتي بالكاهن لا ترتقي إلى هذا المستوى، كما أن معلوماتي عن الحاكم إنه لن يوافق بسهولة بأن تتزوج ابنته الوحيدة من شاب من العوام مثلي.
برايب: هل أخبرتك هي بذلك، وهل لازال أمر حبكما سرًا؟.
ازي: نعم، ولهذا أنا اقاسي عذاب عظيم وأنا لا اعرف كيف ستنتهي قصتنا؟، وإلى ماذا سيؤول هذا الحب الجارف؟.
التمعت عينا برايب وقد شعر بأن هذه الإجابات كافيه له، وأسر شيئًا في نفسه ثم ودع صديقه ازي وانصرف، كانت الغيرة تنهش قلبه ورأسه يشتعل غضبًا؛ فاتجه من فوره إلى قصر الحاكم وطلب من الحراس أن يقابله لأمر عاجل وخطير، رفض الحرس طلبه، وأوشكوا على الفتك به فانصرف بسرعة، واستمرت محاولاته في التلصص على قصر الحاكم؛ حتى رأى موكب الأخير يخرج من باب القصر؛ فاندفع مناديًا على الحاكم قائلًا بأن هناك خطر عظيم يحاك في الظلام يهدد ابنته، عندما سمع الحاكم هذا طلب من الحراس تقييد الفتى، وإحضاره إليه ففعلوا وطلب منه برايب ألا يستمع لحديثهم أحد؛ لأن الامر يتعلق بابنته، ولا يريد أن يعرفه أحد، فوافق الحاكم ليخبره برايب بشأن علاقة ابنته ميريت بنحات شاب من العوام، وتعدد لقاءاتهم في كوخ منعزل على ضفاف النهر يقضون ساعات بداخله، وإنه لإخلاصه الشديد للحاكم رأى أنه لابد أن يخبره، كان الحاكم يسمع حديث برايب وعيناه تكاد تغادر مقلتيهما غضبًا، وأمر الحراس بإحضار برايب معهم، وأمره بإخباره عن مكان ازي، كان ازي داخل كوخه الصغير حينما سمع صوت سنابك الخيل، وكان قد اعتاد الخروج لاستقبال محبوبته عند سماع صوت مشابه؛ ولكن حينما خرج كانت الأصوات تتعالى، ووجد العديد من الخيول، وبعدها جال ببصره بين الحرس وجد الحاكم بينهم وصديقه برايب أيضًا مقيدًا بينهم؛ فأدرك أن أمره قد انكشف قبل أن يصيبه أحد الحراس بطعنة من رمحه أسفل كتفه الأيمن بقليل، ويصيبه الآخر بضربة ساحقة على رأسه غاب عن الوعي على اثرها، آفاق ازي من إغماءته ليجد نفسه مقيدًا إلى عمود خشبي صغير، وصديقه برايب ملقى إلى جانبه وهو مقيد، وحاول ازي التحدث إليه إلا أن برايب لم يجبه، واشاح بوجهه بعيداً حتى لا يواجهه، ثم انفتح الباب ليدخل الحاكم وبصحبته عدد من الحراس يرمق ازي بنظرات نارية ثم يتجه إلى برايب الذي يحاول الوقوف فتعيقه قيوده؛ فيجلس على ايديه وارجله كالدواب، وهو لا يقوى على الوقوف؛ ليركله الحاكم بقدمه، ويأمر أحد رجاله بقتله، فيصرخ برايب قائلًا للحاكم:
لقد فعلت ما في وسعي لإنقاذ ابنتك يا سيدي.
الحاكم: لكن سر هذا الامر لابد أن يموت معك أنت وصديقك الأن.
برايب: لن أخبر أحدًا صدقني سيدي الحاكم.
الحاكم: وهل على أن أثق بوغد غادر مثلك قام ببيع صديقه الوحيد
برايب: لقد قمت بذلك من أجلك سيدي.
الحاكم: بل فعلت ذلك ظنًا منك انك تقتنص فرصة عظيمة بالتقرب لي طمعًا في الثمن، وها أنت تحصل على ثمن أفعالك التي تستحقها.
ثم سحب سيفه وضرب عنق برايب الذي سقط على وجهه وهو يحدق بوجه ازي الذي حاول التخلص من أغلاله مرارًا للوصول إلى صديقه بلا جدوي، وكم المه جرحه الغائر تحت كتفه الأيمن الذي تسبب فيه أحد الجنود أثناء القبض عليه، وبرايب ينزف بغزارة من جرح رقبته كالذبيحة إلى أن فارقته روحه؛ فدفعه أحد الجنود بقدمه ليفسح الطريق للحاكم للوصول إلى ازي الذي كان مصدوم بشدة مما يحدث، وبدأ الحاكم يوجه كلامه إليه قائلًا: هل جننت لتحلم بما ليس لك؟
ازي: سيدي الحاكم إني أحبها ولا يهمني إن كانت ابنتك أو ابنه أحدًا من العوام، لقد تلاقت أرواحنا فحسب، ولن نفترق أبدًا.
الحاكم: لا، بل ستفترق ارواحكم، والأن.
ازي: حتى وإن قتلتني ستعيش حياتك حاملًا لذنب برئ، وأنا لا أخشى الموت، ولن يؤلمني سوى فراقها؛ ولكن أرواحنا ستتلاقى في الأبدية، ولن تستطيع تفريقها، ولن يكون لك أي سلطة أو سطوة هناك.
الحاكم: ومن أخبرك أني سأتركك تصل للأبدية، وأشار بيده للكاهن المختفي خلف الحرس فتقدم إلى ازي المقيد بإحكام، وسحب نصلًا حادًا وأمسك برأسه وهو يغمغم بكلمات غير مفهومة، وشدد قبضته على جبهته ثم حرك النصل أمام وجهه، ثم بحركة خاطفة قام بجدع أنفه لتندفع الدماء من وجه ازي من موضع أنفه المفقود، ويعلو صراخه بصوت يصم الآذان، وتندفع ميريت إلى القبو وهي تصرخ بإسم ازي، وتطيح بالحراس وهي تندفع إليه؛ فيمسك أبيها بشعرها ويجذبها بعنف قائلًا:
لقد أحسنتي بمجيئك إلى هنا الأن؛ لتشاهدي نهاية هذا الوغد الطامح.
ميريت: أرجوك يا أبي، أتركه إنه لم يفعل شيئًا، أنا من قمت بكل شيء.
الحاكم: غير صحيح فقد غرر بك، وحان الوقت لكي يجني ثمار ما زرعت يداه
وأشار بيده للحراس فبدأوا في نشر كميات من قش الأرز حول ازي، وميريت تحاول التخلص من أبيها الممسك بشعرها بقوة، وهي تنظر إلى ازي والدموع تنساب بغزارة من عينيها، وازي مجدوع الأنف تندفع الدماء كشلال صغير من جرح وجهه العميق، وهو يحاول التخلص من قيوده وجذعه مائلًا للأمام تجاه ميريت، والقيد ينغرس بالجرح العميق أسفل كتفه؛ حتى أوشك على الوصول لعظامه، والكاهن يلقي بتعويذة غامضة وهو يشير باتجاه ازي بيده، ثم يمسك بشعلة نار كانت على الجدار، ويتجه إلى ازي قائلًا بصوت أعلى وأوضح:
فلتلعن روح هذا الجسد المحترق، ولا تجد الراحة في حياتها الأبدية، ثم يميل يده الممسكة بالشعلة؛ حتى وصلت إلى قش الأرز المحيط ب ازي؛ فاشتعلت به النيران، نظر ازي إلى النيران، ونظر بلهفة إلى عين ميريت يخطف نظرة أخيرة لعين محبوبته الجميلة لآخر مرة، وهو يرى انعكاس النار في عينيها، وهي تصرخ بإسمه، وقال ازي:
وداعًا ميريت الحبيبة إن كنا لم نستطع البقاء معًا هنا، فإنني سأجدك في حياتي التالية، ولن نفترق أبدًا، كم هو مؤلم هذا الموت الذي سيحرمني منك؛ ولكن عزائي الوحيد أنك آخر وجه ستراه عيناي، وداعًا يا حب العمر، وداعًا يا نور أيامي، اندفعت ميريت في اتجاه ازي بعد أن بدأت النيران تمسك بجسده، وهو يصرخ ويتلوى من الألم، وأباها لا يزال يمسك بشعرها إلى أن أقتلع خصلة شعرها مع جزء من جلد رأسها، وهي تجري تجاه النيران المرتفعة التي أخفت عنها وجه حبيبها، وقد كانت آلام جرح قلبها أقوى من ألم جرح راسها، واندفعت داخل النيران محتضنة جسد ازي الذي كان قد صمت وغادرته روحه المعذبة، والكاهن لا يزال يتلو تعاويذه الغامضة، والحاكم يصرخ بإسم ميريت مطالبا إياها بالعودة، ويصرخ في حراسه الملتصقين بالجدران ناظرين إلى الكاهن برعب وإجلال أن ينقذونها من النار بلا جدوى، فقد كان خوفهم من أن تصيبهم تعاويذ الكاهن أكبر كثيرا من خوفهم من الاحتراق، أو الموت، أو حتى من غضب الحاكم، صرخت ميريت صرختها الأخيرة وروحها تغادر جسدها بعدما خر الحاكم على ركبتيه وهو يبكي صامتًا ممسكًا بخصلة شعر ميريت الجميلة والتي كانت اخر ما تبقى له منها وقد إنهار تمامًا، وصوت الكاهن يختلط بصوت النيران وهو لا يزال يردد:
فلتلعن روح هذا الجسد المحترق، ولا تجد الراحة في حياتها التالية.
( نهاية الفصل الاول )

ترك جاسر الأوراق من يده وهو يمسح دمعة عابرة بأطراف أصابعه وهو يغمغم:
من أين لك يا مروان بهذه القصة الحزينة، وهذه المشاعر المتدفقة، وأعاد ترتيب الأوراق ووضع الفصل الأول في نهاية الورق، ثم أغلق المظروف مجددًا، وأخذه معه ثم أغلق باب الغرفة خلفه، وانتزع مفتاح الغرفة من ميدالية مروان التي أعطاها لجاسمين، واحتفظ بمفتاح الغرفة معه واستأذنهم في الانصراف، وسط إلحاح أخته سمية بأن يظل معهم ويبيت ليلته هنا خاصة وأنه يعيش وحيدًا بعد انفصاله عن زوجته منذ فترة؛ ولكنه طلب منها أن ينصرف ليرتاح قليلًا مما عاناه في ساعاته الأخيرة، وإنه لا يجد راحته إلا في فراشه، ثم انصرف بهدوء، عاد جاسر إلى منزله وهو لا يفكر سوى فيما قرأ في الفصل الأول من رواية مروان؛ حتى وجهه إزداد عبوسًا رغم أنه لم يكن يعرف من أين لمروان بهذا وهو الذي لم يكتب أي شيء مطلقًا، شعر بقشعريرة باردة في جسمه فدخل إلى سريره ونام من فوره، ولم تمر ليلته بهدوء أبدًا، فقد كانت مليئة بالكوابيس التي لم يتذكر منها شيئًا عندما أفاق؛ ولكنها تركت أثرًا كئيبًا عليه، ثم اتجه إلى مكتبه لمتابعة أعماله المهملة منذ اختفاء مروان، وما أن دخل إلى المكتب واستقبلته رانيا مديرة مكتبه؛ حتى بدأ هاتفه في الاهتزاز ونبهته الاخيرة للاتصال القادم فقد كان شاردًا فاستأذن منها أن تطلب له كوبًا من القهوة؛ ففعلت و قام بالرد على الاتصال القادم ليجدها ليلى تسأله عما حدث بالأمس فطلب منها الحضور إلى مكتبه فأخبرته أنها بالعمل الأن ومن الممكن مقابلته بعد انتهاء مواعيد العمل؛ فوافق وانهى الاتصال، ثم دخلت رانيا إليه لمناقشة بعض الاعمال غير المكتملة، والتي تأخر ميعاد تسلميها، فأخبرها أنه سيهتم بذلك، وشرع في مباشرة عمله وهي تساعده؛ حتى فوجئ أن الساعة قد اصبحت التاسعة مساء، فاعتذر لرانيا على تأخيره لها وطلب منها الانصراف واستكمال العمل بالغد، وانصرف مرهقًا شارد الفكر إلى منزله، وقد تحاشى الذهاب لبيت مروان هربًا من حصار أخته وجاسمين، وما أن عاد للمنزل ونظر إلى هاتفه الصامت وهو يهتز؛ قام بالرد سريعاً ليجدها ليلى التي نسى ميعاده معها تمامًا، لم يجب الاتصال وقد كان الخجل يتملكه، وبعدما انتهى الرنين نظر للهاتف ليجد عشرات الاتصالات من ليلى؛ ولكنه قرر عدم الرد عليها الأن؛ لأنه لم يكن يحتمل الحديث مع أحد؛ ولأن فضوله مشتعل لمتابعة قراءته لرواية أسفار التي كتبها مروان، حصل على دش ساخن، وصب كوب من القهوة، ودخل إلى فراشه حاملًا كل ما تحتاجه سهرة طويلة يتابع فيها القراءة وشرب قهوته، وأمسك أول ورقة؛ ولكنه نام فورًا من فرط المجهود المبذول، والنور مضاء حوله، وهاتفه لا يزال يهتز إلى جواره. آفاق جاسر منتفضًا والساعة تشير إلى الواحدة ظهرًا، وانطلق إلى عمله وهو مندهش مما حدث في ليلته السابقة، وهو يحاول الاتصال بليلى دون جدوى، وحينما وصل للبناية سأل أفراد الأمن هل حضرت زائرة طالبة الصعود لمكتبه بعد انصرافه فأجابوا بالنفي؛ فاستراح قليلا لعدم حضور ليلى إلى المبنى بعدما نسي ميعادها وانصرف، أمضى يومه في متابعة عمله، وعند الساعة السابعة طلب من رانيا الانصراف منتويًا استكمال بعض الأعمال البسيطة ثم الانصراف، وبعد أن غادرت رانيا بساعة كان قد أنهى ما أراد وهم بالمغادرة، أغلق الباب خلفه ثم وقف ينتظر المصعد حتى وصل، فتح باب المصعد ليجد ليلى بداخله؛ فرحب بها وهي تسأله بخجل شديد هل كان على وشك الانصراف فنفى قائلًا:
لا لقد كنت ذاهب لشراء السجائر فقد نفذت مني، وقد انصرف جميع العاملين
ثم دخلا إلى المكتب وأصر أن يقدم لها شيئًا؛ فرفضت بلطف وقد كانت تعلم بانصراف العاملين، ثم جلسا يتحدثان ورأته يشعل سيجارة؛ فكتمت ضحكاتها، وفهم جاسر أنه قد نسى مبرره الساذج الذي حاول إقناعها به منذ قليل، بدأت ليلى تسأله عما إذا كان قد عرف أي شيء عن مروان، أو عن ملابسات انتحاره، أو اختفاؤه، فأخبرها بما قد وجد في غرفته، وأنها ليست مذاكرات كما أخبره ياسين؛ ولكنها رواية تدعى أسفار تتحدث عن عصر الفراعنة في فصلها الأول، وعن قصة حب انتهت بمأساة، لاحظ دمعة تتكون في عينيها، فقام بتغيير دفة الحديث، وأخبرها أن عدم وجود أي دليل حتى الأن يجعله يشعر أن مروان لازال على قيد الحياة، فقالت له أنها مستعدة لقراءة جزء آخر من الرواية لمساعدته في الانتهاء في وقت أقل كي يتعرفوا على محتواها سريعًا؛ علها تفيدهم في رحلة البحث عن مروان، فشكرها معللًا أنه يريد أن يتعمق بنفسه في القراءة؛ عله يجد رسالة مخبأة بين السطور تفيده في فهم هدف مروان من كتابة هذه الرواية، وأنه على يقين تام أن هذه الاوراق كتبت بهدف هام أراد مروان إيصاله لمن يقرأها، وافقته في رأيه واستأذنت بالانصراف، حاول أن يقوم بتوصيلها فأخبرته أن لديها شيء تنهيه بالقرب من المكان، وشكرته وأنهت كلامها أن عليه إخبارها بأية مستجدات و انها قد تكون مفيدة جدًا له، فمروان كالكتاب المفتوح بالنسبة لها، انصرفت ليلى وبعدها بدقائق انصرف جاسر إلى منزله، وما أن دلف إلى داخل منزله انطلق إلى أوراق مروان المبعثرة على فراشه رتبها وبدأ يقرأ...
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.