tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

فاجأته دورية تفتيش في طريق جانبي اتخذه أساسًا من أجل الهروب من أي نقطة تفتيش مفاجئة في الطريق المعتاد.. توقَّف لحظات مرغمًا في صفّ السيارات الطويل ينتظر قدره المقدور، نظر في المرآة الأمامية ليجد خلفه سيارتين أو ثلاث، وفي لمحة من لمحات العبقرية الفجائية التي تنتابه أحيانًا، قرَّر المجازفة، وعدم الاستسلام لما ينتظره من مصير، فانحرف بالسيارة قليلا إلى اليمين، وبدأ يعود إلى الخلف متجاوزًا صفّ السيارات التي تصطفّ خلفه، معتقدًا في انشغال رجال الشرطة بمناقشة قائد السيارة الأولى التي يجري تفتيشها بدقّة، ظلّ يعود إلى الخلف حتى وصل إلى أول تقاطع، ومنه قام بحركة دوران متّخذًا الطريق المعاكس، ثمّ انحرف بسرعة إلى أوّل شارع جانبي جهة اليمين، مركّزًا نظره على المرآة، فالشارع خلفه بدا خاليًا، يحاول الاطمئنان أنّه غير متبوع بسيارة الشرطة، وفجأة ظهرت أمامه سيارة شرطة، لتؤكّد وهمه في النجاة، في لمح البصر وقبل أن تبرق في رأسه أيّة فكرة، توقّفت سيارة الشرطة أمامه مباشرة في عملية قرصنة مستحقّة، وهبط جنديّان ليتجها إليه بجدية وحزم.. لم يكن بدٌّ من التسليم.. لم تكن مغامرته الفجائية تقلّ بحال عن المطاردات التي تتمّ بين الشرطة ورجال العصابات في أوروبا وأمريكا كما تصوّرها أفلام (الأكشن)، لا سيّما أنّه قام بأدائها في وضح النهار وأمام مئات الشهود، وفي طرق لا تتّسع أبدًا لهذا النوع من المغامرات..
الجنديّان اللذان ترجّلا من سيارة الشرطة الحديثة أمريكية الصنع، أشهرا سلاحيهما وتقدّما في سرعة وحذر.. لم يكن يدور بخلديهما إلا أنّهما أمام إرهابيٍ خطير، أو أحد تجار المخدرات.. قلب المدينة الآمنة لم يكن يشهد أبدًا أيّ ملاحقات على هذه الدرجة من الخطورة، سيطر الرعب الكامل على المشهد.. هبط من سيارته مستسلمًا واضعًا كفيه فوق رأسه.. فتّش أحدهما ملابسه بسرعة، وتحفّظ على حافظة الأوراق والنقود، واقتاده إلى سيارة الشرطة، قيّد معصمه إلى باب السيارة من الداخل، وأغلق عليه الباب، ليكتشف أن باب السيارة محصن ومظلّل بحيث لا يمكنه رؤية الخارج!
كان الجندي الآخر منهمكًا في تفتيش المرسيدس التي كان يقودها الشقي تفتيشًا دقيقًا عندما انضمّ إليه زميله.. انتابهما العجب إذ لم يجدا أيّ شيء ذي بال.. لا مخالفات على الإطلاق.. عبر جهاز إرسال اللاسلكي، طلب أحدهما الونش لسحب المرسيدس.. واتّجها بالمتّهم المغامر صوب القسم، وهناك بدأ التحقيق!
*********
عاد حسن عاشور إلى بيته مهدود الجسد، متعبًا مكدودًا، لقد خرج من منزله قبل خمس ساعات، وترك عمله اليومي، حتى يلبي دعوة صديقه على وليمة عامرة بكميّة هائلة من الكراتين والأحمال والأثقال، ليقوما معًا بحملها وإنزالها من إحدى الشقق الفاخرة من الطابق الثالث إلى سيارة صديقه، وهي سيارة نصف نقل مخصّصة لنقل الأثاث والبضائع..
صعد هو وصديقه درج هذا المنزل وهبطا ما لا يقلّ عن ثماني أو تسع مرات، يصعد مهرولا خفيفًا، ويهبط حاملا فوق كتفه كرتونًا يتراوح وزنه بين الثلاثين والأربعين كيلو جرامًا وافية، لقد فضّل حسن عاشور اليوم عمل الحمَّال (الهلفوت) على عمله المسائي في مكتب الكمبيوتر، لأنّه طمع في الحصول على ضِعف ما يحصل عليه من أجر في المكتب، فهو في حاجة ماسّة إلى المال ليحلّ المشكلات الحياتية، ولو لمدّة يوم واحد أو يومين على أقصى تقدير!
كانت كميّة المنقولات التي أنزلوها من تلك الشقة الفاخرة لنقلها إلى مكان آخر، قد فاضت عن سعة السيارة نصف النقل، فطلب منه صديقه أن يحمل بعض الأمتعة التي ظلَّت مرصوصة على الرصيف أمام المنزل، في سيارته المرسيدس الصندوق (البوكس)، ويوصله بها إلى بيته..
نظر حسن قلقًا إلى مؤشّر الوقود في تابلو سيارته، فالوقود على وشك النفاد، وعندما أدار محرّك السيارة، وجد ضوء تحذير نفاد الوقود مضاءً، أراد أن يعتذر لصديقه عن إيصاله إلى منزله، لأنّ البنزين نفد وهو لا يملك في جيبه أيّة نقود، لكنّه استحى أوّلا، ثمّ أمّل ثانيًا أن يحصل في نهاية هذه الرحلة على مبلغ محترم، يعوّض كلّ هذه المتاعب والأزمات، ويعود بما يكفي لتعبئة الوقود، وإحضار عشاء لأولاده، الذين ينتظرونه في المنزل على أحرّ من الجمر، ويُحضر كذلك ما يصلح لغداء الغد..
مضى يقود سيارته وهو يفكِّر في أيّ أنواع الطعام سيشتري لأبنائه هذه الليلة، ويرسم صورة واضحة لأركان (السوبر ماركت) الذي يشتري منه لوازمه، ليحدّد خريطة مشترياته في حدود المبلغ الذي قدَّر أن يحصل عليه بعد دقائق معدودة..
ظلّ هكذا في أحلام يقظته، حتى وصل إلى منزل صديقه تابعًا سيارته نصف النقل، لكنّه فوجئ، بعدما أنزل الأمتعة الأخيرة من سيارته، بصديقه يمدّ كفّه إليه مصافحًا ومودِّعًا، كانت يد صديقه خاوية! فدلدل حسن أذنيه، وعاد يجرّ قدميه جرًّا في طريق عودته من عتبة منزل الصديق إلى سيارته، وهو يفكِّر هل يدور محرك السيارة أم يعاند هو الآخر لنفاد الوقود، لكنّ السيارة الأصيلة دارت وأوصلته إلى منزله بسلام..
لم يكن في المنزل طعام عشاء يناسب نظامه الغذائي، الذي يرغمه عليه الطبيب للحالة الصحية، والحقيقة أنّه لم يكن بالمنزل أيّ طعام للعشاء، وإنّما بقايا من طعام الغداء، فقرّر أن يتخلّى عن نظامه الغذائي الدقيق لمدّة يوم..
لم يكن يوجد بالمنزل أيضًا وجبة غداء الغد للأسرة، لكنّه سينهض الآن يفتّش في أدراج مطبخه القديمة، بحثًا عن كوب من العدس، ليضيفه إلى كوبين من الأرز (البسمتي) الفاخر، ليصنع وجبة الغداء من الكشري الذي تغدَّت عليه الأسرة قبل يومين على وجه التحديد، بينما تلت وجبة الكشري، وجبة مكرونة بالباشميل، ابتكر حسن حشوتها من سلطة الخضار (سوتيه) بدلا من اللحم المفروم، فهو مضطرّ إلى صنع كافّة الوجبات من داخل مخزن المنزل، دون اللجوء إلى الحلول الخارجية، فليست هناك أي عملة صعبة -ولا عملة سهلة- للتعامل مع المنافذ الخارجية عن المنزل!
لم يفكِّر في المكرونة بالباشميل من باب الرفاهية، أو تنويع الطعام، وبصرف النظر عن أنّه من عشاق الباشميل، فإنّه ينظر لتحضير وجبة الغداء نظرة أكثر واقعية من ذلك بكثير، فهو يحسب المواد الغذائية الموجودة بالمنزل، ومدى مناسبة خلطها ببعضها لصنع وجبة ما يمكن أن تؤكل!
وجد بالمطبخ بقايا مسحوق الحليب، وبقايا دقيق، وبصلة حمراء واحدة، لا يوجد لحم، لا مفروم ولا قطع، وإنّما توجد عبوّة خضار مشكّل مثلجة، أهداها له أحدهم منذ يومين، فأقرب وجبة يمكن صنعها من هذه المواد الأوّلية، هي صينية مكرونة بالباشميل محشوّة بالخضار السوتيه، باعتبارها تجديد وإبداع وتطوير لصينية المكرونة بالباشميل باللحم المفروم، التي أصبحت (موضة قديمة) كلاسيكية لا تطوير فيها ولا إبداع!
لا يشغله الآن التفكير فقط في ابتداع غداء للغد، وإنّما يفكر بهمٍّ أثقل، هو كيفيّة ذهابه لعمله غدًا، كيف سيذهب لعمله في الصباح أو بعد الظهر؟ ليس معه نقود لشراء وقود للسيارة، وليس معه ما يستقلّ به سيارة أجرة ليصل إلى عمله! إنّ حسن يقبض أجر عمله بالقطعة يومًا بيوم، وهو في حاجة ماسّة إلى نقود -أية نقود-، فكيف يحصل على نقود دون أن تكون لديه وسيلة للذهاب إلى العمل؟!
أعياه التفكير، فقرَّر أن يسلّم أمره لله -تعالى-، ربّما استطاع أن يسير نهارًا نحو عشرة كيلو مترات تحت وهج الشمس المحرقة، وفي درجة حرارة تبلغ نحو خمس وأربعين درجة مئوية! ربّما قدَّره الله على ذلك، أو ربّما قبض روحه قبل أن يصل إلى عمله، أو قبل أن يصل إلى المليون الأولى..
كان حسن في كلّ مرّة تصادفه معضلة كهذه، يتساءل أيّهما يجب أن يأتي أوّلا: المال الذي يُيسِّر له سُبل العمل، أم العمل الذي يُيسّر له الحصول على المال؟ لم يكن لسؤاله جواب أبدًا، فهو سؤال أزليّ، من نوع أيّهما أسبق: (البيضة أم الدجاجة)؟! ربّما مات حسن دون أن يعرف جواب سؤاله الأبدي!
لم يكن هذا هو الإرهاص الأوّل ولا الوحيد على قرب وصول حسن إلى المليون الأوّل، فعصر اليوم، خرج حسن عاشور كعادته إلى العمل، إلا أنّه قرّر تغيير خطّ سيره ليذهب لصديقه ذاك الذي سيُلحقه مؤقّتًا بوظيفة حمّال (هلفوت)، وما كاد يتحرك بالسيارة بضعة أمتار، حتى فوجئ بنقطة التفتيش أمامه.. ونظر حسن قلقًا إلى صفّ السيارات الواقفة أمامه، كانت حركة السير قد توقّفت، وكان من الواضح أنّ التفتيش يتمّ بشكل دقيق ومملّ، وكان حسن يعرف حجم المخالفات المرورية التي تستوجب توقيفه، فقام بمغامرته الجنونية..
في قسم الشرطة، ثبت أنّه يقود برخصة قيادة منتهية، إضافة إلى عدم نقل ملكية السيارة المرسيدس التي يقودها.. لا بدّ أنّ حاله كان يُرثى له، ممّا أدّى إلى تعاطف رجال الشرطة معه، فحصروا الأمر في إثبات عدم سرقته للسيارة بحضور مالكها الأصلي، وإقراره بذلك واستلامها نيابة عنه!
كانت عملية الفرار من نقطة التفتيش التي نفّذها حسن قبل قليل، وتسمّى في عرف الشرطة (شرود من الكمين)، تستوجب ترحيلا فوريًا ونهائيًّا من البلاد.. لعلّ مسؤولي الشرطة حمدوا الله أنّ العملية كلّها كانت (فشنك)، ومرّت بسلام، بعدما أثارت أعصابهم إلى أقصى درجة، فقرّروا لملمة الموضوع!
ولم يكن يعوق حسن عن نقل ملكية السيارة إلا أنّ إجراءات نقل الملكيّة في إدارة المرور تحتاج إلى فحص حالة السيارة، ونجاح السيارة في الفحص يحتاج إلى إصلاح كلّ عيب ظاهر فيها، وفي بعض الروايات عند فقهاء السيارات، أنّ نجاح السيارة في الفحص يحتاج أيضًا إلى إصلاح كل عيبٍ خفيّ فيها.. وإصلاح عيوب السيارة يحتاج إلى نقود، وهو لا يملك المال، آه.. ضرب جبينه براحة كفّه، فنقل الملكيّة يحتاج أكثر من ذلك إلى تجديد رخصة القيادة، وتجديد الرخصة يحتاج إلى مال..
وهكذا دواليك..
في التوقيف، تذكَّر وصيّة أوصته بها أُمّه في طفولته، وظلَّت تردّدها على مسامعه حتى شاب شعره -الذي وخطه الشيب قبل الأوان-:
(امشِ عِدل يحتار عدّوك فيك)
هو يريد أن يمشي عِدِلا، لكنّه دائمًا يصطدم بعقبة واحدة، أقلّ من حجم كفّ يده، صغيرة بصِغَر حجم ورقة العملة النقديّة، ولو كانت قيمتها ألفًا، أو شيكًا بمبلغ مائة ألف.. ستظلّ عقبة صغيرة..
ويظلّ السؤال الحائر حائرًا، وربّما تزداد حيرة السؤال مع كلّ موقف يجدّ!
تذكَّر كميّة الأوراق النقديّة التي صرفها بيده، والشيكات المصرفيّة التي سحب قيمتها أو أودعها في البنوك، وقد كان لسنوات عدّة على خزائن الشركات التي عمل بها.. وابتسم لنفسه وهو يذكر (نكتة) سمعها من صديقه (كامرول)، ابن بنجلاديش الذي أتقن اللهجة المصرية إتقانًا عجيبًا، وهو يراه يتعامل في كلّ هذه الأموال دون أن يكون له فيها نصيب يُذكر، فيداعبه قائلا:
أُمّك هي سبب ما أنت فيه.. كانت دائمًا تدعو لك (أن تلعب بالفلوس لعب)، ولم تكن -سامحها الله- تدعو لك أن تمتلك هذه (الفلوس)!
تملأ الابتسامة وجهه وهو يدعو بالسماح لأمّه، ولصديقه البنغالي معًا..
عندما عاد إلى منزله بعد منتصف الليل وبعد ساعات عمل طويلة في مكتب الكمبيوتر، وجد رسولا من عند مالكة البيت، طفلة هي في الحقيقة صديقة ابنته الوسطى، تقف على عتبة شقّته، في انتظار عودته بلهفة، لتحصّل منه مبلغ ثلاثة ريالات، هي باقي قيمة إيصال استهلاك الكهرباء، الذي اضطرّ هذا الشهر إلى أن يسدّده بالتقسيط!
ابتسم في نفسه وقد تذكَّر فيلم علي الكسّار (سلّفني ثلاثة جنيه)، أُنتج هذا الفيلم قبل نحو سبعين سنة من الآن، وكانت قيمة مبلغ ثلاث جنيهات في ذاك الزمن، توازي مبلغ ثلاثة آلاف ريال اليوم!
أمَّا أن يكون حسن عاشور عاجزًا عن دفع هذا المبلغ، أو إيجاده في جيبه من الأساس، فهذا ليس له بالنسبة إليه سوى معنى واحد، إنّه أحد الإرهاصات الأكيدة على قرب الوصول إلى المليون الأوّل!
المشكلة الحقيقيّة أنَّ مالكة المنزل أمرت الطفلة بأن تظلّ ترنّ الجرس مرارًا وتكرارًا على شقّتهم، حتى يملّ أطفاله فيدفعوا لها الثلاثة ريالات العزيزة الغالية.. الطفلة برَّرت إلحاحها في الطلب لابنته، وابنته نقلت له الأمر ببراءة متناهية..
لم يملك إلا أن يتعجَّب، فلقد استطاع في الأسبوع الماضي فقط، أن يدبّر لمالكة المنزل (أكثر من ثلاثة آلاف ريال)، قيمة الإيجار مقدّمًا للشقّة لمدّة نصف عام.. فما أخبثه! لقد دبَّر لها مبلغ ثلاثة آلاف ريال فقط من أجل أن يغافلها ويفلت بتلك الريالات الثلاث العجيبة!
لم يعلم أحد أنّه اضطرّ إلى رهن حُليّ بناته الذهبية، ليسدّد قيمة هذا الإيجار المقدَّم..
متى يسترجع تلك الحُليّ؟
لم يجد وسيلة يخمِّن بها الموعد بعد..
ما يؤرِّق ضميره حقًّا، أنّه رهن الحُليّ الذهبية بنصف قيمتها تقريبًا، ويخشى إن فات وقت السداد أن يضيع عليه استردادها، فلا هو باعها واستفاد من قيمتها كاملة، ولا هو استبقاها ذكرى لبناته.. إنَّها دائمًا قلّة حيلة المضطرّ، تجعله يأخذ ما يكفيه بالكاد، وليومٍ واحد..
أمس الأوّل لم يكن يملك ثلاثة ريال، في مجتمع قوت أفقر فرد فيه يوميًّا، لا يقلّ عن عشرة ريالات بحال، وهو يعول أسرة مكوّنة من خمسة أفراد، غير بقيّة أسرته التي سافرت وهو ملزم بإعالتها كذلك -ولكنه لا يفعل-، فهو مرفوع من الخدمة مؤقّتًا!
الليلة، لا يملك بجيبه سوى ريال ونصف.. يبتسم لنفسه وهو يتذكّر الوجه الغاضب لصديقه وهو يلومه بشدّة لأنّه عندما أرسله يشتري (حبلا) لربط المنقولات بالسيارة، لم يحضر معه ماءً وعصيرًا، كان صديقه قد أعطاه ثمن الحبل على وجه التحديد والدقّة، لم يكن يعلم وهو يلومه أنّه لا يملك سوى ريال ونصف، وهو لا يكفي لشراء قارورتين صغيرتين من الماء البارد!
في يومٍ سابق من هذا الأسبوع (السعيد) الحافل بالإرهاصات، جاءه ابنه الأصغر باكيًا متوجّعًا يشكو من جرح أصابه في باطن قدمه، كان الجرح ناتجًا عن دخول قطعة زجاج صغيرة في قدم الطفل، كان واضحًا أنّ الجرح تلوّث، لا يملك قيمة استشارة طبيب، وفق المعايير الواقعيّة، لا يمكنه أن يملك مثل هذه القيمة لاستشارة طبيب في المدى المنظور، ولم يكن يملك كذلك قيمة شراء دواء ولو مجرد أقراص (مُسكِّن)!
الأدهى من ذلك، أنَّ جرح قدم الصغير، بصَّره بما ظلّ يتعامى عنه أكثر من شهر، فحذاء ابنه الأصغر مثقوب من الأسفل ثقبًا للتهوية، يكشف نصف باطن القدم تقريبًا..
لا ينكر أنَّ هذا الموقف آذاه كثيرًا، وأشعره بكثير من العجز والضيق، وسرعان ما نظر إلى حذائه هو نفسه، ليتأكّد من أنّ حجم الثقب في كلّ فردة من فردتي حذائه شخصيًّا، يسمح بمرور قطعة زجاج أكبر من تلك التي أصابت باطن قدم طفله، لتخترق باطن قدمه هو..
الجرح ومنظر الثقب المتّسع في قعر حذاء ولده، والثقب الدائري المتساوي في كلّ فردة من فردتي حذائه، جعله يراجع جميع أحذية أفراد أسرته الكريمة، فاكتشف أن حذاء ابنه الآخر لم يكن مثقوبًا، وإنّما كان عبارة عن وجه (وش حذاء) بلا (نعل) تقريبًا، يضعه الولد فوق قدمه ليوهم مَن حوله أنّه ليس حافيًا.. لقد أصبح حسن وولديه كلاهما حافيًا، وإن حاول أن يبدو غير ذلك!
يستشعر لسع الأسفلت الملتهب بفعل حرارة الشمس الحارقة وقت الظهيرة الممتدّة، حين يدوس بقدميه عليه، فتحترق بقعة دائرية من جلد باطن قدميه كلّ نهار، حتى يصل إلى سيارته الرابضة في آخر الشارع الذي يقطنه، حيث لا مواقف سيارات أمام منزله مباشرة!
عينه اليمنى التي رمدت منذ أكثر من شهر ونصف، تضايقه وتزعجه بكلّ تأكيد، وعينه هي مصدر (أكل عيشه)، وهو مع ذلك لا يملك لها شيئًا رغم إلحاح الصغار أن يقتطع من مصروف البيت كلّ يوم شيئًا حتى يذهب لمراجعة الطبيب في أقرب فرصة..
يبتسم في وجوههم مشفقًا، هم لا يدركون أنّ مصروف المنزل الذي يطالبونه باقتطاع شيء منه، هو مقتطع أصلا، أو مقطوع أساسًا، فما تيسّر منه لا يكاد يفي بأقلّ القليل من الاحتياجات.. وحسن يدرك أنّ مراجعة الطبيب في ظلّ هذه الظروف رفاهية وسَرَف وتبذير لا طاقة له به.. فيهتف في أعماق نفسه: مراجعة طبيب العيون رفاهية، ولسنا في زمن البحث عن الرفاهية والكماليات!
هذه الإرهاصات التي تعاقبت عليه هذا الأسبوع، لم تكن الإرهاصات الأولى، بل لم تكن هي البدايات، تلك الإرهاصات لازمته منذ فترة طويلة، لكنّه الآن أصبح أكثر إيمانًا ويقينًا بأنّ المليون الأوّل قادم! وهو على يقين بأنّ تلك الإرهاصات وإن كانت قاسية، فإنّها لن تكون الأخيرة أيضًا، ربّما كان يتوقع الأسوأ والأكثر ضراوة من الإرهاصات، لأنّ ذلك الأسوأ سيكون الخطوة الحاسمة في طريقه المظفَّر إلى المليون!
لا يدري لماذا في هذه الليلة بالذات، تلّح عليه أحداث رواية (الرجل الذي باع رأسه)، للدكتور يوسف عزّ الدين عيسى، رواية رائعة قرأها في صباه، تحكي عن (رمزي) شابّ موسيقيّ موهوب ومغمور لا يجد من يعترف بموهبته، ولا يصلح لعمل آخر يكتسب منه قوت يومه، فلمّا ضاقت به أزمته، ربط في منتصف سقف غرفته حبلا، وارتقى كرسيًّا ليعلِّق رقبته بالحبل ثمّ... (كغ).
ولكنَّ الشاب الموهوب نسي أن يُغلق نافذة الغرفة، فرآه أحد الجيران، وهُرع إلى نجدته أو إثنائه عن محاولة الانتحار، واتّفق معه اتّفاقًا عجبًا، اشترى رأسه التي كانت ستُعلَّق بعد لحظات على الحبل المجدول، مقابل أن يسدّد عنه ديونه، ويمدّه بما يبدأ به إنتاج أوّل قطعة موسيقيّة من موسيقاه.. وتمَّ البيع وتوالت الأحداث!
وعاد حسن يبتسم سعيدًا، فهو لن يفكِّر في الانتحار ولو أكلته الظروف، وقتلته الصروف، فإن قتلته نوائب الدهر فهو شهيد، وشتَّان الفارق بين منتحرٍ وشهيد!
وهو لن يبيع رأسه بحال من الأحوال.. أمامه دائمًا فرص لبيع رأسه، في مقدوره أن يبيع رأسه لسلطة ما، فيسيل بحره مُنغَّمًا من بسمتها، ولكنّه أبى! في استطاعته أن يبيع رأسه لتيّار ينتمي إليه إجمالا، دون أن يكون منتميًا له تفصيلا، يستطيع أن يخادع نفسه لأنّه لم يبع للسلطان، وإنّما باع للمعارضة، وربما تبجَّح وانتفش وأعلن في اعتزاز، أنّه لم يبع، وإنّما هو مؤمن بأدقّ تلك التفاصيل.. لكنّه أيضًا لم يبع!
يستطيع كلّ يوم أن يبيع رأسه للبسطاء يخادعهم، يبيعهم أفيونًا مُدمِّرًا أو (بَنَدولا) مُسكِّنًا، ليغيِّب رؤوسهم وراء تسلية زائلة أو ملهاة مؤقّتة، لكنّه لن يبيع.. رأسه ليست للبيع، إنَّه يستطيع حتى اليوم أن يبيع ما يحبّه الناس، فيصفِّق مع المصفِّقين (ويطبِّل) مع (المطبّلين)، أو يصرخ مع الصارخين، في زمن الطبل والصراخ سلعًا رائجة!
لكنّه لن يبيع لا في أيّ سوق ولا بأيّ ثمن..
الفارق بينه وبين موسيقيّ عزّ الدين عيسى الموهوب، أنّه لن ينتحر ولن يبيع، ربّما.. ربّما هذا العناد وذاك التمنّع سببًا رئيسًا في أنَّ المُنقذ الذي أنقذ الموسيقي الموهوب لم يظهر في حياته بعد.. ربّما!
لكنّه لن ينتحر ولن يبيع، وهو مع ذلك يؤمن بأنّه على أوّل طريق المليون الأولى! لم يكن مجرّد حالم أو واهم أو مجنون، لقد كان عنده رصيد، أو بالأحرى لديه أمل في رصيد ماليّ ضخم، ربّما يأتيه قريبًا..
لا يمكن أن نفهم قصّة هذا الأمل، دون أن نعود إلى مراحل حياة حسن عاشور المليونير الحافي، لنعرف من هو حسن عاشور وما هي قصته؟ وكيف أصبح مليونيرًا؟ ولمَ ظلَّ حافيًا؟!
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.