tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

أخبرتني أمي أني جئت بعد أن قحل رحمها، إثر دعوة سيدة عجوز ، كانت تأتي لمنزلنا الريفي الكبير كل عام في ليلة الإسراء والمعراج تطلب طعامًا، وكانت أمي تتبارك بها، فتجلب لها أشهى أنواع الطعام الموجودة بمنزلنا العامر. طلبت أمي منها الدعاء حين يئست من الطب والأطباء ، فابتسمت قائلة: إن وصلتك هدية الرب في الإسراء والمعراج المقبل، فادعِ لي حينها بالمغفرة. ثم قامت تتكأ على عصاة قديمة وهى تتمتم أورادها.

وُلدت في ليلة الإسراء والمعراج التالية، وحين سمعت أمي بكائي ابتسمت وتذكرت العجوز فقالت وهي لا تزال تحت تأثير آلام الولادة: اللهم اغفر لها.
من يومها ونحن تحتفل بالإسراء والمعراج كل عام، ونطعم أهل القرية جميعهم، يحيى الحفل مجموعة من المنشدين وقراء القرآن الكريم المهرة .
مع مرور الوقت امتلأ الصّوان أمام البيت، حتى اضطر أبي لعمل توسعة، وقام بنصب صّوان آخر في قطعة أرض كبيرة يمتلكها خلفنا ، وبدأ الناس في القرى المجاورة يسمعون أخبارًا عن احتفالنا، فيفرغون أنفسهم خصيصًا لهذا اليوم. ومع ازدياد أعداد الناس عامًا بعد عام، أكثر أبي من الذبائح والطعام والحلوى. وأطلق عليه المريدون "مولد العجوز" وجاء الباعة الجائلين يبحثون عن أرزاقهم منهم بائعي البلية، والفول النابت والمشبك وغزل البنات، وصانعي الكنافة والفطائر وبلح الشام. وانتشرت عربات حب العزيز والحمص والسوداني، حتى أن أبي باع جزءًا كبيرًا من أملاكه من أرضٍ زراعية ومواشي لإطعام رواد المولد.
عام بعد عام عجز أبي عن إطعام الحضور، حينها كنتُ في العاشرة، أشار عليه أحد أصدقائه من التجار الكبار، ألا يفكر في إلغاء المولد، خشية أن يصيبنا أذى ، وأن يفرضَ مبلغًا من المال على كل بائع، ويعلن أن المولد المقبل ثلاثة أيام وليس يومًا واحدًا. وفعلًا كان هذا حلًا منطقيًا سليمًا عفانا الحرج.
عرف الكثيرون بالخبر، وجاء بائعو الملابس ولعب الأطفال ليستأجروا مساحة كبيرة من الأرض، ثم تبعهم صاحب ملاهي كبيرة من بلدة مجاورة. وتردد اسم المولد في الأماكن كلها، فجاءنا الزائرون من المحافظات كلها، وبدأ القادرون يُحضرون الطعام كصدقة و قربان لروح العجوز.
حين أكملت الخامسة عشر، كان الجميع يردد قصتي، يقولون إن أمي العاقر أنجبتني في ليلة مباركة، بعد أن بشرتها العجوز التي كانت تأكل طعامنا فتسُر به، ولأنها تبدو ملائكية تقبل الله منها حين دعته أن يكمل بروحها نقص أمي، وكان ميلادي يوم موتها.
فبعثت العجوز في الدنيا مرة أخرى لجلالها وقداستها في جسدي أنا، كان هذا تفسير أمي والناس لميلادي من رحم عقيم بعد دعوة عجوز، ظل الناس ينادوني "ستنا العجوز” حتى نسيت اسمى .
بعدها أصبح التجار الكبار مسؤولون عن المولد، يرتبون له ويشرفون عليه إشرافاً كاملا ً، صنعوا فيما صنعوا أمام البيت مقامًا كبيرًا يستوقف المارين بوجل وترقب .
كبر المولد حتى شمل القرية كلها وأصبح موسمًا كبيرًا للبيع والشراء، طُلب منى أن أجلس بالحلي والرداء الأخضر أمام المقام طوال الأيام الثلاثة، و أن أضيف عباءة بيضاء وطرحة من الكتان الأخضر لزيادة الوقار والهيبة، وأُكثر من الأحجار الكريمة.
وبدأتُ أحدثهم عن الغد والأمس، وأربت على ظهر المسكين فيتفاءل وينتشي، وأضع يدي على أرحام العواقر فينجبن، وأطبب المريض فيشفى، وأنفث في وجه العانس فتتزوج، وأقنع الأصم بعيبه وأدله على طبيب فيرضى ويتقبل، وأرشد المتعثرين عن شركاء، حتى سرت في الخامسة والعشرين أشهر شخصية في البلد وما حولها.
وأصبح مولد العجوز مصدر رزق للكثيرين، مولد تُذبح فيه الذبائح، ويطعم فيه الجائع، ويشفي فيه المريض، ويعطى كل صاحب حاجة حاجته.
لم أكن أشك فيما قيل لي، ولا فيما أفعل، كنت موقنة جدًا أني فريدة ومتفردة، وأنى بالفعل هدية من الله في الليلة المباركة للبشر، ولقد قمت بمعجزات فعلا ، جاءتني العاقر بطفلها تقبل قدمي، وأغدق عليّ المتعثرون بالهدايا، وأخبر الناس القاصي والداني عني، واستخدم الكبار اسمي لنيل المناصب والدرجات الرفيعة.
أعلنت الدولة الحظر ونحن نعد للمولد، وهذه المرة كان الراعي اسم سياسي كبير، دفع مبالغ ضخمة للإنفاق على دعايته الانتخابية ، قالوا إن فيروسًا لعينًا يدعى "كورونا" يُبعث في رئتي الإنسان ويتكاثر غير معتد بأحد.
تضايق المشرفون على المعرض من احتمالية إلغائه، خصوصًا أنه لم يتبق عليه إلا أسبوع، راهن رجال القرية أن مريدي المولد لن يلتزموا بالحظر، وسيقام في موعده ليلة الإسراء والمعراج.
في صباح الإسراء والمعراج ارتديت جلبابي وعباءتي البيضاء والأحجار الكريمة والحلي التي أهديت لي في الأعوام السابقة. أشعلوا البخور، وصنعت النساء عجينة الحنة ، وتجمعوا حول المقام ككل عام، وبدأنا بعد الفجر ننتظر وننتظر.
لا أحد يأتي، كل ساعة تمر ندرك أنه قد خاب ظننا في مريدينا، وكنت أتعجب! لمَ لمْ يلجؤوا لي لدرء الغمة! هل يتجاهلون قدرتي؟
حتى باغتتنا عربة "كارو" قديمة ومتهالكة يجرها حمار نحيل ويسوقها رجل عجوز، وتركبها عجوز تبدو جافة و مريضة، وقفت أمي مرتعدة حين رأتها وذهبت تدقق النظر في وجهها، والعجوز تفتح عينيها بصعوبة، نادت لأمي باسمها بعدما تلمست وجهها وقالت لها: دعيت لي يا وجدان؟
ردت أمي سريعًا: انت لسة عايشة يا حجة، انت طلبتي منى من خمسة وعشرين سنة أدعي لك بالمغفرة!
ردت العجوز ساخرة: وهو الحي مش محتاج مغفرة يا مرة، كدة تضحكوا ع الناس يا كفرة.
ارتعدت أمي وأنا نهضت مرتجفة
، تجمع التجار وتقدمهم أبي يدققون النظر في تلك العجوز. بعد لحظات طلبت منا أن نساعدها في النزول، فذهبت والدتي لمساعدتها ، فأشارت لي فأسرعت أساندها.
كانت حرارتها عالية. حين جلست عطست في وجوهنا، ثم قالت: عايزة أكل يصلب طولي، بس من مال حلال. ثم دخلت في نوبة سعال جاف.



0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.