tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

على رصيف السماء

صادفته على رصيف المحطة .. يمسك بهاتفه ضاحكا أحيانا..وأحيانا يلازم صمته في حزن...تابعته طويلا مندهشا .. حين لمحني أتابعه ابتسم لي قائلا: _ اقترب .. سأحكي لك كل مايدهشك ..
سألته وأنا أقترب منه :
_وهل تعرف مايدهشني؟
_ كل مابداخلنا تقوله عيوننا بوضوح..وبدأ يسرد لي :
_عشت سنواتي الأخيرة وحيدا .. كل أحبتي اختاروا فراقي ..آخرهم زهرة قلبي .. ابنتي .. كانت بثياب زفافها .. اختارت أن تقيم عرسها في السماء ..
...ولمحت لؤلؤات عينيه تلمعان ببعض الدموع..وسكت قليلا ملتفتا للجهة الأخرى.. وسكتت معه أنفاسي ودقات قلبي تعاطفا معه.. ودق هاتفه برسالة من وجه امرأة ..ابتسم وهو يقرؤها..قائلا :
_ دايما بتحس بي.. كلماحزنت جاءتني منها رسالة تعيد ابتسامتي .. ليس لها سواي .. أرملة حزينة .. سجنت نفسها في محراب ذكرياتها وأوجاعها .. منذ صادفتها بالحياة صرت لها كل الحياة .. وصرت أعيش بأوجاعها كأب يتوجع لابنته..
..ولمحت بالهاتف بعض الصور التي كان يتابعها قبل اقترابي... ضحك قائلا: _لكل صورة حكاية .. هذا الرضيع كان لقيطا صادفته يبكي فذهبت به إلى المستشفى .. في قلبه ثقب ويحتاج لعملية باهظة الثمن .. تسولت نفقاتها .. وبعد أيام من العملية اختار أن يلحق بعرس ابنتي ....
..وسكت لحظات مع أحزانه العميقة.. وقال :
_ وهذه الصورة لرجل بسيط معاق تعطل به السلم الكهربي ولم يلحق بقطاره المتواضع للصعيد .. بقيت معه حتى أوصلته لرصيف المحطة بعد أن حجزت له في أفخر قطار متجه لمدينته بالصعيد ..
.. وعاد لسكاته الحزين.. وعدت أتابع دموعه صامتا مثله... خرج من صمته الحزين على مكالمة جاءته :
_ أهلا أهلا بقمر الزمان ..ها.. طبعا أمورتي النهاردة أحسن ؟.. الحمدلله ..هجيبلك معايا هديتك أكيد ..
.. أغلق هاتفه مبتسما ..
_ هذه أجمل أحفادي . . في الثانية عشر من عمرها .. ترقد بالمستشفى .. تغسل كليتها ..
.. وسكت باكيا.. وبكيت معه.. وقطعت البكاء قائلا :
_ قطارك كده عدى أكيد..أجابني :
_ قطاري عدى من زمان ..لم أعد أنتظر شيئا.. ولاتندهش مجددا.. أناهنا أنتظر عودة كل من رحلوا عني !!


القتلى

.. وقفت ذات صباح أمام صورة لامرأتين .. كثيرا ما كنت أمر من أمامها دون أن ألحظها .. فقط كنت ألاحظ أنها تميل لليسار قليلا .. عندما وقفت لاحظت أننى مثلها أميل يسارا .. رغم ذلك كنت أضحك وكذلك هما .. عندما نزلت من عينى دمعتان حجريتان كانت الدموع تتساقط كأحجار الجبل منهما..
.. أنزلت الصورة .. أجلستهما أمامى .. كانت أحرف كلماتى تماما مثل أحرف كلماتهما .. قالت الأولى : قتلنى حين احتضنت كتابى ممسكة بكوبي الدافئ بجوار ضوء شمعتى وصوت موسيقاى ..
.. قالت الأخرى قتلنى حين انزويت بصمتي إلى نافذتي المطلة على شجرة الياسمين وأفرغت نظراتى وسردت لها حلمى الجديد..
.. قلت لهما قتلتنى حين أمسكت قلمى من جديد أوشوش الأوراق بحكاياتى، أفتش عن سيدة لقلبى وسألتها أن تكون هى
عندما تلاقت أحجارنا على أرض الغرفة المطلة على المساء كانت الصورة قد عادت إلى الحائط من جديد وعدت أنا لا ألاحظ من فيها .. فقط لاحظت أن الصور على الحائط قد زادت !!


هواء المدينة


تكومت فى ركن مظلم ، لفت ساقيها بذراعيها وأحزانها ، لا شيء حولها له قيمة ، الرجل الذى أحبته ، بهرها بماله وأفكاره وأناقته ، ارتبطت به فى حفل أسطورى ، لبت رغبته فى أن تكون له فقط ، قاطعت الدنيا من أجله .
بمرور الأيام أصبحت مجرد قطعة أثاث جميلة داخل هذا القصر الفخم ، لم تعد تلفت نظره ، فقط يستعملها ، كما يستعمل الأريكة أو يفتح المذياع ، أو يضع المفتاح فى الباب ، فقط تميزت بأن لها صورة على الحائط فى برواز أنيق ، آخر مرة تبادلت معه حديثاً كان منذ شهرين تقريباً ، كان آخر استعمال لها ، قذفها بنظرات ساخرة وكلمات حادة ، اتهمها بالبرود ، ألقت اللوم عليه ، لم يعد يشغل نار المدفأة ، انتشر الصمت فى المكان .. تجمدت الأشياء ..
سمعت صوت مفتاحه يخترق الباب ، اخترقت خطواته بقاياها وعينيها ، سنواتها العشر معه مرت كمائة عام ، تخاف من المرآة ، تكشف لها دائماً كيف صارت امرأة عجوز، عندما يمسك الجريدة تتابعه ، يجلس معها ساعات طويلة ، يصطحبها معه الى غرفته المستقلة ، تلاحظ بقاء الأنوار لوقت متأخر من الليل ، تسمع صوت ضحكات ووشوشات، فى الصباح عندما يغادر المكان يبقى عطره لساعات ، الهاتف بجوارها صامت مثلها ، حزين ، ملابسها الأنيقة التى تملأ دولابها لا عطر فيها ، ما قيمتها وقد صارت مجرد ديكور يمنع اتهامها له بالبخل
.. قررت أن تزيح عنها برودها ، أن تشعل هى المدفأة ، أن تتحول من جديد الى قطعة أثاث لم يقتنيها من قبل ، فتحت دولابها ، أخرجت أحد فساتينها الجديدة ، كلها جديدة ، تزينت .. منذ زمن لم تتزين، تعطرت.. منذ زمن لم تتعطر ، فتحت باب القصر .. لم تغادر قصرها العتيق منذ زمن، انطلقت حيث هواء المدينة ، حيث نظرات البحر لها ، احتكاك الأرض بقدميها ، اختلاط كلماتها بكلام الآخرين .لأول مرة ترى غيرها من النساء.
فى المساء .. عندما وضع مفتاحه فى الباب وجده مفتوحاً ، جذبه عطر جديد يعبق فى القصر، كانت كل الأنوار مضاءة ، صوت المذياع ينشر لمسات موسيقية هادئة ، جذبه الدفء القادم من المدفأة!!





0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.