دار همزة للنشر

شارك على مواقع التواصل

ندا أحمد
«أبي هو القاتل ليس أنا»
وقفت أمامه بكُلِّ قسوةٍ نبتت داخلي حين تساقطت عبَرَاتي بسببه، وقفت أمامه أبتلع حلقي وأخبره:
- لم تكن سندي، لم تكن حبيبي الأول، لم تكن أمني وأماني، لم تكن صديقي أو حتى ملجئي، لم تعانقني ولو بالخطأ، لم ترحم احتياجي إليك، لم تكن سببًا في ابتسامتي، جعلتني أمقتك، أمقت جميع الرجال، أمقتك لدرجة نسياني أنك والدي وأود قتلك، أمقتك وكأن العالم سينعم بالسلام إذا أخذتُ روحك منك وكأنك سبب عبوسي الوحيد -وأنت كذلك حقًا- وكأنك سبب دمار وخراب العالم، سبب موت الأطفال، بؤس الفتيات، سبب سلب فلسطين حريتها، كرهت كل أفعالك معي وكأنك الوحيد الذي يجب أن يُلام على كل شيء.
أيقظها صوت والدها من شرودها وهو يسألها:
- لماذا تقفين شاردة أمامي بلا حركة؟! اللعنة على وجهك!
- لا شيء يا أبي أنا فقط.. أنا فقط...
- كُفِّي عن التهتهة، حمقاء!
أود أن أرتاح منكِ
- حسنًا سأجعلك ترتاح للغاية.
ابتسمت ودبت السكين الذي كان على الطاولة في قلبه قائلة:
سأخبرهم أنك أردت أن ترتاح وأنني ابنةٌ مطيعة.
.............................
يخرجها من شرودها صوت الشرطي المتسائل عن سبب قتلها لوالدها.
بدأت بالتحدث وهي متماسكة، تخلو ملامحها من المشاعر أو الحزن:
- طوال عمري وأنا أهابه، لم يعانقني ولو مرة بالخطأ، حين يخسر في عمله فأنا المُلامَة، حين يغضب من أحد فأنا المُلامَة، حين تنسى أمي تحضير الطعام فأنا المُلامَة، كأنه يعاقبني لأني أصمت احترامًا لكونه أبي.
ما زلت أتذكر كلماته التي لوَّنت فؤادي بالأسود وقصت أجنحة طموحي:
"- لا تضيعي الوقت بالرسم إن قلَّت علاماتك سأخرجكِ من المدرسة.
-أتكتبين الشعر؟ حمقاء، من تظنين نفسك؟! كفي عن تلك البلاهة!
-إن لم تحصلي على مجموع يؤهلك لدخول كلية الطب فلن تكملي تعليمك.
-على أي حال ماذا سأفعل بشهادتك؟ سيأتي زوجك ويأخذك من وجهي."
لم أكن أعلم ما هو الخطأ في كوني ولدت فتاة وهو يريد ولد، ما ذنبي؟! ما هو خطئي، لم يعلم أنه يزرع الخوف داخلي يومًا بعد يومٍ، زرع الحقد والكره والخوف وعدم الثقة وقد حصد ثمار ما زرعه داخلي، كما كان يلومني على كل شيء، رميت كل اللوم عليه وقتلته، لو كان بجانبي لما شعرت بعدم الأمان، كنت سأثق بنفسي وموهبتي، لما كنت أمقت العالم وأمقته هو كثيرًا.
تحدَّثَ الشرطيُّ مُتعجِّبًا قسوة قلب ابنة على والدها:
- وهل تلك الأسباب كافية لقتل والدك الذي رباكِ؟!
- إذا كانت هذه نتيجة تربيته المليئة بالوجع، لماذا أُلام أنا على قسوة تربيته؟ لِمَ أضع الورود بين يديه في حين وضعه الشوك داخل قلبي؟
- لأنه والدك، والدك يا فتاة ألا تفهمين؟! وإن قَتَلَ كُلُّ ابنٍ والده لقسوته سيعم العالم بالفوضى.
- وهل قتلهم لنا على قيد الحياة سيملأ العالم بالسلام! ما ذنبي إن كان أبي يحمل قسوة العالم بين يديه ويزرعها كنبتة صبار في حلقي؟!
- لا يوجد للقتل مبرر، في الواقع لا أعلم إن كنتِ بعقلكِ أم لا!
أنهى حديثه وأمر أحدَ العساكرِ أن يزج بها في السجن لاكتمال التحقيقات.
..................................
حين رمى بها العسكري في أحد الزنزانات، اختارت ركن لا يصل الضوء إليه ورمت بجسدها على الأرض وأغمضت عينيها وكأنها ستنام بشعور راحة لم تشعر به من قبل، هذا ما أخبرت به نفسها، أغمضت عينيها لخمس دقائق ولم تستطع النوم فهمَّت بفتحهما لكنها وجدت نفسها في منزلها تقف أمام والدها وهو ينهرها لشرودها كلما وجدت نفسها أمامه سمعته يقول:
-لماذا تقفين شاردة أمامي بلا حراك؟! اللعنة على وجهك!
قالت في نفسها: ماذا الآن؟! ألم أقتله؟!
ألم أدب السكين في قلبه ليرتوي قلبي أنا بالسَكينة؟!
أفعلت ذلك أم لا؟! لماذا ما زلت هنا؟! يجب أن أكون بالسجن.
أيقظها صوت والدها مرة أخرى:
- ماذا بكِ يا حمقاء؟! لن تتخلصي مني مهما حدث.
- ماذا تقصد؟!
- لماذا تمسكين السكين وأنتِ شاردة؟! أتحلمين بقتل والدك يا عاهرة! حتى لو كنتِ تسعين لقتلي أنتِ أضعف من فعل ذلك.
أنهى كلماته وذهب من أمامها، وقعت على الأرض باكية تنهر أحلامها، واقعها، حياتها ونفسها.
ذهبت إلى غرفتها تجر خوفها من بطش ذلك الرجل، وقفت أمام المرآة تدعو أن يشعر بها ولو مرة، أن يخبرها سبب كل هذا الكره.
تُمرِّر يدها على جُرحٍ مستقر فوق حاجبها الأيمن، تغمض عينيها وتتذكر ما حدث حينها، فتاة بعمر العاشرة سعلت أمام والدها فرمى بالكأس من يديه إلى وجهها، كيف لها أن تسعل أمام والدها؟! كيف تُعكِّر صفوَه؟! فتاة صغيرة نشأت وهي ترتجف من فكرة أن تُعكِّر صوت أنفاسها مزاج والدها فآثرت على كتمانها خوفًا من جحود شره.
فتحت عينيها فإذا بانعكاس صورتها تتحدث لها:
- تحرري من آلامك.
- كيف؟!
- اقتليه.
- هو أبي!
- بل عدوك اللدود.
- مهما يحدث هو أبي، لا أستطيع فعل ذلك.
- لكنكِ فعلتِ بالفعل، ألا تذكرين حلمك منذ قليل؟ أنتِ تمنيتِ ذلك بشدة.
- إنه مجرد حلم، تراجعت عن ذلك حين عدت لوعيي.
- لن تتنفسي إلا بموته أو موتك.
- اصمتي!
- كيف أصمتُ وأنا صوتك؟ أنتِ تتمنين ذلك بشدة لذلك تسمعينني الآن، اقتليه، اقتليه ولتشعري بطعم حريتك.
- هو أبي، هو أبي!
- ماذا؟! أنتِ يتيمة، ذلك الرجل لا يستحق تلك الكلمة، اقتليه، هيا اذهبي.
ذهبت بخطوات مترددة نحو غرفة والدها، دلفت للداخل، وقفت تنظر إليه وهو نائم تحدثه بصوت منخفض:
-كيف تكون بكل هذا الهدوء وأنت نائم؟ لِمَ لا تكون هكذا إلى الأبد؟ بتلك الصورة الملائكية.
أمسكت بوسادة ووضعتها فوق وجهه، ظلت تكتم أنفاسه بكل قوتها وهي تبكي صارخةً:
- يا أبي ألا ترى عبوسي؟ ألا ترى انطفاء روحي بقربك؟ ألا ترى أني أهرب منك ومن أشباهك؟ ألا تراني؟! هناك صوت يصرخ داخلي، يثور، يجبرني على قتلك، صوت يقول: "اقتليه، اقتليه فهو يستحق، تحرري من آلامك أيتها اللعينة، تحرري من مخاوفكِ بقتله، هذا الصوت هو ما يدفعني يا أبي، لا تقاوم، فقط دعني أريحك، لا تقاومني فقط دعنا ننهي الأمر، الحياة لن تكتمل بوجودنا معًا وأنا لم أعش بعد، لم تتركني أشعر بأنفاسي قط، انتهت كل الحلول يا أبي، الأمر متروك لموتك.
في صباح اليوم التالي استيقظت لأول مرة وابتسامتها تزين ثغرها، ارتدت ملابسها المفضلة، خرجت من غرفتها وهي تفكر كيف تتخلص من جثته، لكن أولًا القهوة، اتجهت للمطبخ وفجأة سكنت بلا حراك حين أحتلت رائحة سجائره أنفاسها، خرج من المطبخ وهو يحمل بيده كوبَ شاي وفى الأخرى تلك السيجارة التي تقتل أنفاسها هي على مهل.
تحدق به في ذهول، تمر أحداث الليلة الماضية أمام عينيها، تقسم داخلها أنها تلك المرة قتلته، كتمت أنفاسه بيديها، تقسم أنها تأكدت قبل أن تنام من انقطاع أنفاسه، مر بجانبها وهو ينظر لها بازدراء قائلًا:
- هل رأيتِ شبحًا؟ لماذا تظلين شاردة كلما رأيتني؟ يبدو أنك فقدتِ عقلك، هيا حضِّري الفطور.
كانت تتابع خطواته وهو يبتعد وتصرخ داخلها:
- ماذا يحدث معي؟! هل أفقد عقلي؟ أكان حُلُمًا آخر؟! هل أنا يائسة لتلك الدرجة؟ هل سيملؤني البؤس حتى في أحلامي؟ لِمَ يا أبي؟ لِمَ جعلتني أصل لهذا الحد؟ لِمَ ملأتني بالآلام؟ فلتنهي بؤسي بضمة أو حتى موت، تعبت الانتظار، أنتظرك أن تَرِقَّ لي وأحيانًا أنتظر موتك، لكنك أنت من قتلني يا أبي، في كل مرة أنا من أموت ليس أنت، هذه المرة لن أخطئ، أنا مستيقظة وفي كامل وعيي، إنها النهاية، النهاية لبؤسي، وقسوته، اليوم هو يوم الحصاد.
طحنتُ مجموعةً من الحبوب ومزجتها مع الطعام وفي كل مرة تسمع صوته وهو ينهرها لتأخيرها وضع الطعام، تتأكد أنها مستيقظة، خرجت تحمل فطوره الأخير إليه، كما كان يحمل إليها كل قسوة العالم، مع كل خطوة تتخذها تجاهه، تتذكر الكثير من المواقف التي تدفعها لتسرع ولم تتذكر حتى ابتسامةً حنونة تنهيها عن فعلتها الآثمة في حق ذلك الرجل الآثم بدوره.
وضعت أمامه الطعام وجلست في الكرسي المقابل تراقبه وهو يلتهم موته، مع كل قضمة تشد على يديها فتتأكد أنها صاحية، أنها بالفعل أقدمت على قتله، أنها النهاية.
راقبته للنهاية وهو يسقط، كان يتألم وهي تبكي، يصرخ من شدة الألم وهي تضحك، يسألها بأنفاس متقطعة:
- ماذا وضعتِ بالطعام؟!
- وضعت كل حبك لي، وضعت حنانك، وضعت أحضانك كلها، وضعت ابتسامتك وتربيت يدك على كتفي، وضعت خوفك على قلبي من الكسر وتأنيب ضميرك حين تُبكيني، وضعت السعادة التي قدمتها لي يا أبي.
- ماذا فعلتِ يا ابنتي؟!
- ابنتك! من ابنتك؟! أنا؟ ياللسخرية! أتعرف فيما أفكر الآن؟ ماذا سأخبر العالم حين يتهمني بقتلك؟
أتعلم لِمَ قتلتُك؟ لأني أهابك، لأني أود إخبارك عمَّا سببته لي وأخاف البوح، لأني أحبك أحيانًا وأعطيك الكثير من الفرص لكنك تخسرها وتكسرني لأن القسوة لا تُنَبِّتُ إلا القسوة، لكن لا تقلق سأخبرهم الحقيقة، يا أيها الناس إليكم الحقيقة، لم تكن أنا، صدقوني أبي هو القاتل ليس أنا.
ندا أحمد
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.