أكوان للنشر والترجمة والتوزيع

شارك على مواقع التواصل

قارب حاتم على الانتهاء من تمرينه الصباحي في الركض حول مضمار النادي القريب من منزله، حينما رن جرس الهاتف المعلق في حزامه؛ مما اضطره إلى التوقف عن مواصلة الركض ليرد على المتصل.
كان المتصل هو اللواء رياض رئيسه المباشر:
- أين أنت ياحاتم؟ ولماذا كان هاتفك مغلقًا طوال الأمس؟
قال حاتم وهو يحاول التقاط أنفاسه:
- آسف يافندم، لقد أغلقته قبل النوم ونسيت أن أفتحه.
- لماذا تلهث هكذا؟
- كنت أمارس رياضة الجري حينما اتصلت بي.
- ألا تعرف أن التعليمات تقضي بعدم إغلاق الهاتف بالنسبة لمحققي البحث الجنائي، وأننا قد نحتاج للاتصال
بك في أي وقت إذا ما استدعت الضرورة ذلك؟
- أجل يافندم، لكنني في إجازة حاليًا.
- حتى لوكنت في إجازة فالأمر لا يخلو من قضية هامة قد تستدعي وجود محقق موهوب مثلك.
- أنا تحت أمرك يا فندم.
- تستطيع إكمال إجازتك لو أردت، ويمكنني تكليف أي زميل آخر بهذه القضية، وإن كان الأمر بحاجة إلى مواهبك بالفعل.
قال حاتم سريعًا:
- أشكرك على هذه الثقة يا فندم. تعرف أنني من محبي التحديات ولن أرفض بالطبع.
ضحك اللواء رياض قائلًا:
- كنت أعرف أنك ستقول ذلك، على أية حال فالمهمة التي ستكلف بها قد تنطوي على بعض الترويح أيضا وربما تعوضك قليلًا عن إنهاء إجازتك.
فالجريمة التي نحن بصددها وقعت في الساحل الشمالي وفي بقعة سياحية خلابة، والمجني عليه كان ضمن
فوج سياحي هناك.
- إذن فالأمر سيستدعي إعداد حقيبة سفر.
- ستسافر بالطائرة اختصارًا للوقت، وستجد الرائد رشدي في انتظارك بالمطار ليرافقك لمكان الجريمة ويزودك ببعض التفاصيل المتعلقه بها.
أريدك أن تضع الجاني داخل شباك الصيد في أسرع وقت.
00000000
غادر حاتم وزميله المطار ليستقلا السيارة في طريقهما إلى مكان الجريمة.
حيث وجدا النقيب حازم من المباحث الجنائية بالساحل الشمالي في انتظارهما.
وقد سأله حاتم قائلًا:
- متى وقعت الجريمة؟
- لقد عثرنا على الجثة منذ حوالي اثنتي عشرة ساعة تقريبًا، وقد أمرت بعدم نقلها إلى المعمل الجنائي قبل أن تلقي نظرة عليها أولا.
وأثناء الطريق استطرد حازم قائلًا:
- الجريمة وقعت في وقت غير مميز بالنسبة للموسم السياحي، فهو يعتبر منتهيًا تقريبًا.
سأله حاتم قائلًا:
- لقد علمت أن مسرح الجريمة في قرية سياحية كبيرة هنا اسمها لورين.
- أجل، وهي تطل على البحر مباشرة. منذ أسبوعين فقط كانت تكتظ بالسياح الأجانب من جنسيات مختلفة قبل أن يغادروها بعد قضاء إجازتهم، وكانت هناك صعوبة بالغة في الحصول على أية حجوزات إضافية في القرية والمكان يضج بالحركة والصخب.
لكنها أصبحت الآن أكثر هدوءًا وأقل حركة، ومناسبة للباحثين عن الهدوء والاستجمام.
تأمل حاتم الواجهة الفندقية الأنيقة للقرية قبل أن تعبر بهم السيارة بوابتها.
ومالبثوا أن وجدوا المدير المسئول في انتظارهم وقد استقبلهم مرحبًا وإن بدت عليه أمارات الحزن والضيق.
وقادهم إلى الداخل وهو يقول:
- لا أدري كيف حدث ذلك، قريتنا مشهود لها دائما بالتميز والرقي، وهي آمنة تماما حتى بالنسبة للأطفال والصغار.
وطوال فترة عملي هنا لم يشتكِ أحد من شيء ما سواء بالنسبة أو المعاملة.
فلا أعرف كيف ينتهي بنا الحال إلى وقوع جريمة كهذه ويقتل أحد في قريتنا المتميزة في كل شىء؟ إنها كارثة حقيقية.
- علينا أن نتوقع دائما وقوع أشياء مروعة كهذه في أفضل الأماكن.
واقتاده الرجل عبر ممر طويل يمتد من الواجهة الفندقية إلى مجموعة الشاليهات المتجاورة والمطلة على البحر مباشرة.
حيث وجدوا أحد الأشخاص في نهاية الممر بالقرب من درجات السلم الرخامي المؤدي إلى مجموعة الشاليهات.
ولاحظ حاتم أن ذلك الشخص يبدو شاردًا وزائغ النظرات.
وقد أشار اليه مدير القرية قائلًا:
- هذا هو السيد حلمي المشرف على المجموعة السياحية التى أقامت هنا الفترة الماضية، والتي ضمت القتيل من بين أفرادها.
انتبه الرجل لصوت مدير القرية وهم يقتربون منه مما جعله يعتدل في وقفته.
حيث عرَّفه المدير بحاتم ورفاقه قائلًا:
- سيادة المقدم حاتم جاء من القاهرة خصيصًا لتولي مسئولية التحقيق في الجريمة، وهذان زميلاه الرائد رشدي من المباحث الجنائية بالقاهرة والنقيب حازم تعرفه بالطبع من مباحث الساحل الشمالي.
صافحهم قائلًا:
- أهلًا وسهلًا، أنا حلمي هنداوي المشرف على الرحلات السياحية لشركة الأحلام للسياحة وأحد ثلاثة شركاء في ملكيتها.
سأله حاتم قائلًا:
- إذن فقد اعتدت على مرافقة الأفواج السياحية إلى هذا المكان؟

- بالظبط يا فندم، لقد كنت هنا السنة الماضية ويمكنني أن أؤكد أنها كانت من أمتع الرحلات بالنسبة لي شخصيًّا ولمن رافقوني في تلك الرحلة.
والأمر كان كذلك أيضًا بالنسبة لمن رافقوني في الزيارة الأخيرة لهذا المكان لولا هذه الجريمة الشنيعة.
تأمل حاتم الشاليهات الأنيقة الممتدة داخل المكان وقد أحاطت بها ظلال الأشجار والمسطحات الخضراء الممتدة حتى الشاطيء الرملي، قائلًا:
- الجريمة وقعت داخل أحد تلك الشاليهات، أليس كذلك؟
أجاب مدير القرية قائلًا:
- بلى.
- لكني لا أرى سوى سبعة شاليهات فقط، ولا أظن هذه هي كل طاقة القرية الكبيرة هذه.
- بالطبع، فلدينا 47 شاليه آخر، لكننا نفصل كل مجموعة من الشاليهات عن بعضها البعض لتحقيق أكبر قدر من الخصوصية والتقليل من الازدحام.
ولدينا أيضا عدد من الشاليهات المميزة ذات الأسعار العالية في الجانب الغربي من القرية، وهي أقرب لأن تكون فيلات.

تحرك حاتم قليلًا إلى الأمام عاقدًا يديه خلف ظهره وهو يتأمل الشاليهات قائلًا:
-إذن فالمجني عليه كان يقطن في أحد تلك الشاليهات؟
- أجل.
التفت حاتم إلى المشرف قائلًا:
- المجني عليه اسمه توفيق صبحي، أليس كذلك؟
- بلى.
- وماهي وظيفته؟
- كان على المعاش، ومن قبل كان عميدًا في القوات المسلحة قبل إحالته إلى التقاعد.
- هل كان بمفرده في تلك الرحلة السياحية؟
- كانت معه ابنة شقيقته.
دخل حاتم إلى الشاليه الذي أقام فيه المجني عليه ليجده مكونًا من طابق واحد فقط ويبتعد عن البحر بحوالي ثلاثة عشر مترًا تقريبًا.
وقد وجد به حجرتي نوم وحمامين بالإضافة لردهة
فسيحة وشرفة كبيرة تطل على البحر مباشرة.
راقب حاتم القائمين على جمع الأدلة الجنائية وهم يستعدون لمغادرة الشاليه بعد انتهاء عملهم.
حيث لفت انتباهه أن فراش المجني عليه كان مرتبًا بعناية وقد تمددت فوقه جثة الرجل الذي بدا قد تجاوز الستين من العمر.
ولم يكن بحاجة لبذل الكثير من الجهد لكي يتبين أنه مات مسمومًا.
فهذا الاحمرار حول الشفتين وتلك البقع الوردية الواضحة على الجثة تشير لتعرضه لحالة تسمم بحمض الهيدروسيانيك، وهو ما استطاع بحكم خبرته أن يحكم عليه من الوهلة الأولى.
وقام بفحص الجثة عن قرب ليتبين له وجود أثر واضح لضربة قوية أحدثت تجمعًا دمويًّا في الجزء الخلفي من الرأس، بالإضافة لآثار قيد حول الرسغين؛ مما يدل على أن القتيل تم تقييده لمنعه من المقاومة.
التفت إلى الرائد رشدي قائلًا:
- تلك الآثار حول الرسغين تدل على أن القتيل كان
مكبلًا قبل قتله.
سارع أحد معاوني المباحث وقد سمع ما قاله حاتم لزميله ليحدثه قائلًا:
- لقد وجدناه مكبلًا بهذا الحزام بالفعل.
وأظهر له كيسًا بلاستيكيًّا يحتوي على حزام جلدي.
- ولماذا لم تتركوا الحزام في مكانه قبل حفظه على هذا النحو؟
- احتجنا أن ننزع عنه البصمات. وقد وجدنا عليه بعضها بالفعل.
نظر المشرف على الفوج السياحي إلى الحزام وقد علت الدهشة وجهه وهو يقول:
- ما هذا؟ إنه حزامي!
التفت إليه حاتم قائلًا:
- وكيف أيقنت أنه حزامك؟ إن الأحزمة تتشابه.
قال الرجل وهو يتأمل الحزام:
- هذا الحزام بالذات مميز، إنه من جلد الثعبان الأصلي وقد اكتشفت اليوم اختفاءه من حجرتي.
سأله الرائد رشدي قائلًا:
- ولماذا لم تبلغ عن اختفائه؟
- لأنه في النهاية مجرد حزام لا يستحق الإبلاغ وإثارة الجدل بشأنه رغم ارتفاع ثمنه نسبيًّا ومكانته لدي، وقلت لنفسي قد أعثر عليه في مكان آخر أكون قد نسيته فيه.
أمسك حاتم الحزام بين يديه ليقربه منه قائلًا:
- هل أنت واثق أنه حزامك؟
قال الرجل وهو يشير إلى خدش صغير مجاور لأحد ثقوبه:
- هذا الخدش يؤكد أنه هو، فقد تعثرت قدمي فوق الأرض الرملية المجاورة للشاليهات وأحدثت به هذا الخدش.
- إذن يجب أن تعرف أن وجوده هنا في شاليه المجني عليه قد يثير الشبهات حولك.
قال الرجل منزعجًا:
-حولي أنا! لماذا؟
قال حاتم بهدوء:
- الأمر واضح ولا يحتاج لتفسير، الحزام عثر عليه هنا وهو نفس الحزام الذي كان مكبلًا به المجني عليه.
قال له معترضًا:
- لكني رجل مشهود له بالاستقامة والسمعة الطيبة، فضلا عن أنني الذي لفت انتباهك أن الحزام يخصني، فلا يعقل أن يكون لي علاقة بجريمة كهذه و...
قاطعه حاتم قائلًا:
- أنا قلت إنك مشتبه به، ولم أوجه لك اتهامًا بعد. حينما يبدأ التحقيق معك قل ما عندك.
اقترب النقيب حازم وفي يده زهرة بنفسج ليقدمها لحاتم وهو يقول:
- لقد عثر على هذه الزهرة فوق وسادة المجني عليه.
قلبها حاتم بين أصابعه وهو يتأملها قائلًا:
- ما معنى وجودها فوق وسادة المجني عليه؟ ترى هل هي مجرد مصادفة أم ذات صلة بالجريمة؟
وتحول إلى مدير القرية مردفًا:
- قلت إن المجني عليه كان بصحبة ابنة شقيقته، فأين هي؟
- مع الأسف اختفت فجأة، وعلمت أنها قضت الليلة خارج القرية ولم تخبر أحدًا بمكانها.
- هل سبق لها المبيت خارج الشاليه؟
- كلا، اعتادت أن تأتي مع خالها إلى المطعم الساعة التاسعة صباحًا ليتناولا إفطارهما، ثم يقضيا أغلب الوقت داخل القرية على الشاطيء أو بالقرب من حمام السباحة أو الكازينو.
اقترب أحدهم من حاتم ليسأله:
-هل يمكننا نقل الجثة إلى المعمل الجنائي الآن؟
قال له موافقًا:
- أجل، على ألا يبدأ تشريحها وكتابة تقرير الطبيب الشرعي قبل ظهور ابنة شقيقة الضحية لتلقي نظرة عليها أولا.
لكن وفي اللحظة التي استعد فيها رجال المعمل الجنائي لنقل الجثة اقتحمت المكان فجأة فتاة ممشوقة القوام وذات جمال فائق وهي مضطربة للغاية وقد بدت عيناها زائغتين لتقول بصوت مرتعش: هل ما سمعته صحيح؟
همس مدير المستشفى لحاتم قائلا:
- إنها الآنسة غدير ابنة شقيقة المتوفى.
وقبل أن تتلقى أي إجابة وقعت عيناها على الجثة المغطاة اندفعت لتكشف الغطاء عن وجه المجني عليه وقد بدا وقع الصدمة ظاهرًا على وجهها قبل أن تجهش بالبكاء وهي تصرخ قائلة:
-لا ، لا، مستحيل ، مستحيل .
ألقت بوجهها على جسد الضحية وهي تواصل البكاء والصراخ.
بينما أومأ حاتم لأعوانه لإبعادها والإسراع بنقل الجثة من المكان.
واستعد حاتم لمغادرة المكان بدوره وهو يتحدث مع مدير القرية قائلا:
- أريد كشفًا بأسماء النزلاء، خاصة أولئك الذين جاءوا ضمن فوج شركة الأحلام للسياحة الأخير.
وعليك أن تخصص لي مكانًا داخل القرية للتحقيق معهم وإطلاعي على هوياتهم.
جلس حاتم أمام منضدة صغيرة عليها بعض متعلقات المجني عليه ليتفحصها بدقة، لكنه لم يجد بينها ما يثير اهتمامه، عدا تلك المفكرة التي تضمنت بعض العبارات التي دونها قبل وفاته على مدى الأيام العشرة الماضية.
حيث لاحظ أنها يغلب عليها الاكتئاب والتشاؤم، خاصة في الأيام الثلاثة الأخيرة السابقة لموته، مثل: (لم يعد لحياتي معنى أو هدف يجعلني أتمسك بها)
و (أظن أنني أصبحت على حافة الموت)
و(ليتني أغادر الدنيا بسلام ودون ضجيج)
أما العبارتان الأخيرتان اللتان دونهما في اليوم السابق لمقتله وفقًا لتواريخهما فأتيتا كالآتي:
(ربما الموت ليس مخيفًا إلى هذه الدرجة التي نظنها وإن كان ما يحزنني هو فراقي لشقيقتي الوحيدة وابنتها)
(لقد أديت واجبي حتى النهاية على أية حال)
وبينما حاتم مستغرق في مراجعة تلك العبارات الغامضة والتفكير في مغزاها دخل عليه الرائد رشدي ومعه بعض المأكولات والمشروبات ليضعها أمامه قائلًا:
- ألا تشعر بشيء من الجوع؟ لقد انقضت ساعات طويلة دون أن تتناول شيئًا.
لكنه تجاهل ما قاله وهو يقدم له المفكرة الصغيرة قائلًا:
- اقرأ هذا وقل لي رأيك.
قرأ رشدي ما جاء بالمفكرة من عبارات، ثم التفت إليه قائلا:
- هذه كلمات شخص يتملكه اليأس ويشعر بإحباط شديد.

نهض حاتم قائلا:
- بالظبط، هذا ما كان يبدو عليه الرجل قبل وفاته.
- أتقصد أنه من الممكن أن يكون قد مات منتحرًا؟
- ربما.
- لكنه احتمال صعب؛ فلدينا تلك الإصابة في الرأس والحزام الذي وجد مقيدًا به، كل ذلك يتعارض مع فكرة الانتحار.
- وهناك سؤال آخر: لماذا لم يعثر على أي أثر للسم الذي توفي به داخل الحجرة؟
فخبراء البحث الجنائي أكدوا أنهم لم يجدوا أية آثار لهذا السم في زجاجة أو حتى كوب.
قال رشدي بعد برهة من التفكير:
- وهو ما يمكن أن يقودنا الى احتمال آخر، وهو أن يكون قد جبن عن التخلص من حياته بنفسه فاستعان بغيره لينوب عنه في فعل ذلك.
وفي تلك اللحظة حضر النقيب حازم ليحدثهما قائلًا:
- عرفت منذ قليل معلومة قد تفيد في الجريمة التي نحن بصددها.
*****
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.