tafrabooks

شارك على مواقع التواصل

"إبراهيم" بائع الفريسكا يجوب الشاطئ جيئة، وذهابًا.. يراه المصطافون كلّ يوم في الصيف، منظره عادي، يلبس الكاب الأبيض، والشورت والفانلة.. ملابسه بسيطة كبساطة تعامله مع الناس.. أريحيّته تأسرك، وأخلاقه العالية تجعلك تحترمه احترامًا يليق به...
ذلك الصغير ذو الأب المكافح "بائع الفريسكا". يبدأ يومه بأن "يلفح" صندوقًا أبيضَ زجاجيًّا مستطيلًا به رفَّان يضع عليهما نوعًا من الخبز المُسَكّر الرقيق الذي يشبه خبز "الكريب" السوري.. يبيع الرقاقة الواحدة منها بجنيهين، أو ثلاثة.. كما يخرج أحيانًا بتلك التفاحات المغطَّسة في مشروبٍ مُسَكّر أحمر، ويغرز فيها عصاةً خشبيّةً كتلك "العُصْيان" التي تُغْرزُ في الدجاج.. ويبيع الواحدة بخمسة جنيهات أثناء رواج الشاطئ بالمصطافين..
هذا الصبي الذي تفوَّق في المرحلة الابتدائية.. ودخل إلى المرحلة الإعدادية بخطًى ثابتة واضحة.. إنه يعرف طريقه، ويحدد هدفه.. لم يحمّل أباه عناء الدروس.. وآلى على نفسه أن ينحت في الصخر ويصل الليل بالنهار ليبني مستقبله، ويجعل هامة أبيه في السماء..
ها هو يقطع النهار بين الكتب والمدرسة.. ثم يعود للبيت ويلفح الصندوق الزجاجي... صديقه ومصدر رزقه... بسببه يأتي بالكتب الخارجية التي تعينه على التقدم في دراسته.. يأكل المعلومات بالكتب ليلًا.. لم يعتد على القراءة دون فهم واستيعاب.. رزقه المنّان عقلية تحليلية..
قطع الصفين الأول والثاني الثانوي في تفوق واضح وارتقى سلم العلم درجة تلو أخرى..
يثني عليه معلّموه.. ويحوز شهادات التقدير بالمدرسة ممهورة بتوقيع المدير نفسه.. وعليها خاتم الإدارة التعليمية..
كلما أغراه أبوه بشراء ملابس العيد.. كان يرفض في رحمة واضحة: يا أبي أنا سأجلب هذه الملابس لا عليك.. يكفيك ما تحمله من أعباء..
يطبع الرجل قبلة حانية على وجنته.. ماسحًا على شعره: أنت سندي يا ولدي.. الحمد لله الذي أكرمني بك..
فخورٌ هو بولده.. معجب بجهده وجهاده..
في السنة الحاسمة.. يصل الليل بالنهار.. ويتوقف عن الذهاب للشاطئ .. فلتمكث "الفرسيكا" شهرًا، أو حتى شهرين.. حالما أنتهي من هذه العقبة..
نعم إنها عقبة كأداء تقف حائلًا أمام حلمي.. سأكون طبيبًا بإذن الله..
لا بأس من أخذ بعض الدروس الخصوصية. علّها تسرع بي إلى محطة "كلية الطب"... لا ، لن أكلف أبي شيئًا فقد ادّخرت بضعة آلاف من أجل الدروس.. سأبحث عن أمهر المعلمين؛ كي أقترب من حلمي..
تكر الأيام.. ويقترب موعد الامتحان.. الرجل يشفق على ابنه.. لكنه يعلم أنه "سيبيِّض وجهه"..
كان يذهب إلى الامتحان غير هياب ولا وجل، فمعية الله ترعاه وتحفظه.. يبدأ يومه بصلاة الفجر.. ثم يجلس ليراجع ما ذاكره طوال العام.. لا بأس من التدريب على مسألة أو اثنتين في الفيزياء.. يخاف من الكيمياء.. لكنه بفضل الله راجعها مرتين.. وحفظ كل معادلة كيميائية بالكتاب المدرسي.. ثم تدرب على الأسئلة وقام بحل معظم ما وقعت عليه عيناه من "البوكليتس"..
يريح نفسه في النوم... ثماني ساعات كاملة.. لا تزيد ولا تنقص, يضبط منبه المحمول.. حتى إذا رنّ.. يجبر نفسه على القيام.. أمه تنادي عليه مرة واحدة فقط.. ولا تثنِّيها!
لا يتأخَّر عن موعد الامتحان... يذهب قبلها بربع الساعة؛ حتى لا يضيع وقته في الحديث مع زملائه.. هو يقابلهم بعد الامتحان... الدقيقة عنده لها ثمن.. ولا ينبغي له أن يستهلكها فيما لا يفيد..
الطعام لا يزيد فيه.. جسمه متناسق.. بلا دهون زائدة.. الوخم مع كثر الطعام يهلك الصحة... لن تنفعه زيادة الوزن مع الثانوية العامة..
اليوم الأخير من الامتحانات.. أداها كلها بفضل الله وكرمه ووضع كل جهده على الورق.. شاهد أمثلة كثيرة مما راجعه.. حمد الله وتوكل عليه.. أخذ "البوكليت" مبتسمًا من الملاحظ.. وشرع في الإجابة.. يا رب ليس لي سواك... أعنِّي يا رب..
اعتاد أن يصلي في السابعة قبل الامتحان ركعتي قضاء الحاجة... على الأرض ساجدًا سائلا مولاه عطاياه... اللهم أفرغ عليّ من جودك وبركاتك ورزقك ورحمتك وعونك.. فلا يملككها إلّا أنت...
ها هو الامتحان توشك دقائقه أن تنفلت.. وها هو سعيدٌ بما حقَّق.. لا ينظر لمن يشير إليه في اللجنة... يختلي بكراسة "البوكليت" ليفكَّ طلاسمها.. ويسبر أغوارها..
لا تستعصي عليه... يجيب عنها كلها.. لا يترك سؤالًا أو جزئية دون إجابة..
مع آخر دقيقة يسلِّم الكراسة منشرح الصدر.. مقبّلًا كفَّه ظهرًا وبطنًا... ناظرًا للسماء الزرقاء في فرح...
يتحدث إلى زملائه بعد الامتحان الأخير... يتوجهون جميعًا لأقرب "محل كشري"... يطلبون أطباقًا متوسطة الحجم... يصر على أن يدفع ثمن طبقه... يرضخون له في استسلام..
يدفع العشرة جنيهات في أريحية بالغة... يقضي معهم ساعة وبعض ساعة.. ثم يستأذن..
يعود للبيت ويقبل رأس أمه ويديها فرحًا مسرورًا.. يطلب منها أن توقظه بعد العصر..
يصحو ويصلي، ثم يقرر أن يحمل الصندوق الحبيب إلى نفسه..
تستعطفه أمه أن يستريح اليوم فقط..
يرفض رفضًا تامًّا...
يلفُّ على قدمَيْه حاملًا الصندوق، مناديًا بصوتٍ رخيمٍ:" الفريسكا... فريسكااااااااااااا".
يعود عند العاشرة حاملًا معه شنطة بلاستيكية فيها بعض الفاكهة.. وآيس كريم لأخته الصغرى... تحبه..
يوم النتيجة كان أسعد أيامه... ذلك اليوم الذي يحمل الإذن بدخول عالم الطب من أوسع الأبواب.. حصل على 99 بالمئة.. تمتم بصوت شاكر "الحمد لله".. سجد على الأرض شكرًا لخالقه...
يذهب للبيت وبشر والديه.. احتضنه الأب باكيًا.. وقبلت أمه وجنتيه.. وبكت..
زغاريد متتالية أطلقتها أمه فرحة... دعت ولدها، فأقبل... وضعت يدها على رأسه ونظرت للسماء، وتلت المُعَوِّذَتَيْن.. والإخلاص، وآيةَ الكرسيِّ...
قدَّم لكلية الطب في محافظته... وتم قبوله.. أرسلت له الموافقة على "النت"...
هو الآن الدكتور "إبراهيم" ... الطالب في كلية الطب...
يحمل الصندوق الزجاجي... يستدعيه أحد الشباب على الشاطئ.. ويقوم بالتعرف عليه.. ويستأذنه في تصويره.. وتنزيل الفيديو على "الفيس بوك" يسأله فيجيبه..
يقوم الشاب بتحميل "الفيديو" عن إبراهيم "بائع الفريسكا" طالب الثانوية العامة الذي حصل على 99 بالمئة، وتم قبوله طالبًا بكلية الطب...
أخبره بأنه فخورٌ بوالده "بائع الفريسكا" فخورٌ بما حقّق.. فخورٌ بأسرته المكافحة..
يرى الملايين "الفيديو"، فتنهال العروض، والمنح على الشاب ذي الثمانية عشر عامًا..
أحدهم ينفحه جوّالًا، وثانٍ ينفحه من الخليج مئة ألف جنيه.. وثالث ينفحه سيارة.. ورابع يعرض عليه أن يخطب ابنته!
لكل مجتهد نصيب....
حدثت بالفعل.. أغسطس 2020م

0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.