أكوان للنشر والترجمة والتوزيع

شارك على مواقع التواصل



فتحت عيناي ونظرت حولي أتطلع بهما لأول مرة إلى هذا الفضاء الفسيح.
تحاملت على جسدي الصغير؛ لأنهض به وأخطو أولى خطواتي، لأجده قد ظهر فجأة مفترشًا الطريق أمامي داعيًا إياي للاقتراب منه، ولا يعلم أن الاقتراب ليس خيارًا، إنما هي تلك القوة العجيبة التي تسوقني إليه منجذبًا له مفتونًا به وكأننا معًا نكتمل..
دُفعت إليه لأجد نفسي فجأة أقف عند بداية أول سطر به ليدور بي وأجدني قد تغيرت، نضجت فجأة وعلمت مهمتي ومكاني وفهمت أين أنا، وأحسست بصفحاته ترتفع من تحتي، وسالت الأخبار فوق رأسي وأنا في ذهول متأهب منتظر.. أريد أن أفعل، ولكن ماذا أفعل؟ إلى أن سمعته، هذا الصوت الذي اجتاحني، غمرني حتى ارتويت.. وشعرت فجأة أنني أخيرًا اهتديت، بعد ذلك أمرني أن أكتب..
وامتثلت..
بدأت أتحرك وأكتب، ومع كل حرف أسطره ترتسم حولي معالم هذا الفضاء الخاوي إلا من ظلمة كصفحة سوداء؛ لأكون أنا الشاهد الأول على خلق هذا الكون الفسيح.
أنا البداية والنهاية
أنا الحكاية...
حكاية الخالق والمخلوق
حكاية الظلام والنور
حكاية المعركة الأولى
والسقوط الأول
وما تبعه من خراب
حكاية كانت بدايتها حب وتفرد متوج بالعلم والانتصارات
وانتهت بكبر، وضلال، ووعيد، وانهيار ودماء.
لتبدأ بعدها ملحمة أبدية؛ معركة دارت في الظلال لم يعلم بها أحد غيري.
أنا العالم
أنا الشاهد على كل شيء
أنا المأمور الذي سطر المكنون على اللوح المحفوظ
أنا القلم
وأنا الذي سأحكي لكم اليوم وأبوح بالمجهول
ولكن أولاً يجب أن أقص عليكم بداية الحكاية
البداية التي نعلم جميعًا نصف حقيقتها
وها أنا جئت اليوم لأقص عليكم كل شيء..
بعدما خلقت السبع سموات، ودحرت تحتها سبع أرضين، وتزينت السماوات بالنجوم والأفلاك والأجرام.
وبعدما خرج النور من كبد الظلام
وخُلقت الجِنان والنيران
وغُرست الرواسي لتثبت الطباق فوق ظهر النون
وسبحت بحار الأرضين في مساراتها، تحرك تياراتها الأسماك، لتنحسر بعدها لتكوين اليابسة، ويتشقق التراب لتولد من بواطنه النباتات، وأعلاها امتدت بحور السماوات يسبح بها الطير ومخاليق أخرى من سكنة السماء
وكل في فلكه يسبح ويُسبح الخالق في نظام
موكل بمهمته ورحلته وسط هذا الخلق البديع
ولكن خالق الأكوان والأفلاك والعقل المستنير مبدع هذا الخلق البديع أراد خلق آخرين ينعمون بحرية الاختيار والتفضيل؛ خلق مؤمنون صديقون مصدقون يعمرون ذلك الكون الكبير
وكان أول المخلوقات هم الملائكة؛ خلقوا من نور عرش الرحمن الملك خالق كل شيء..
وهم عمار السماوات السبع ومنهم حملة العرش المقربون؛ فقد خُلقوا في درجات مثلهم كباقي الخلائق، كل له درجة، وكلما ارتفعت الدرجة زادت العبادات والتسبيح وشكر الخالق على ما أبدع، وكان لكل سماء صلاة وتسبيح مختلف عن غيرها من السماوات، وكل ملك من الملائكة موكل بمهمة يؤديها بحب وخشوع؛ ابتغاء مرضاة الله الواحد سبحانه..

ومن بعدهم خلق الجان من نار السموم؛ وهي نار لا دخان لها، تكون بين السماء والحجاب، نار من نور الملائكة؛ فالجن قبائل ينتمي أصلها للملائكة إنما أقل في المنزلة.. وقد سموا بالجن؛ لأن منهم خزنة الجنة، والجن من الاجتنان عن البصر؛ أي الاختفاء وقتما شاءوا.. ومنهم أيضًا من هبطوا إلى الأرض وعمروها قبل الإنسان، وكان أبوهم يسمى سوميا؛ وهو أول من خلق من الجان، وعاش الجن على الأرض آلاف السنين يتناكحون ويتناسلون فيها حتى صاروا قبائل عديدة، وكانوا في بدايتهم مؤمنين يعبدون الله حتى ضلوا وكثرت الحروب فيما بينهم وسفكوا الدماء وفسدوا حتى غضبت من أفعالهم السماء بعدما عاثوا في الأرض فسادًا وخرابًا؛ وهنا صدر الأمر بالمعركة الأولى..
ولكن قبل أن أقص عليكم ما حدث في المعركة الأولى دعوني أعرفكم على هذا الساكن هناك أمام بوابة الجنة بأجنحته الأربعة، وجسده المنير البهي المفتول، صاحب العيون البرتقالية المتوهجة كوهج الشمس، والشعر الأشقر المسدول على كتفيه، والساقين الطويلتين والساعدين القويين، ها هو جالس بكامل هيبته وحسنه يتعبد ويذكر الله، ويتعلم أسرار الكون، وقد فاق غيره من الملائكة تعبدًا وقربًا وعلمًا وخشوعًا، حتى كرمه الخالق وجعله في منزلة أعلى من جميع بني جنسه من الجان، وحتى من بعض الملائكة..
أعلمتم من هو الآن أم لا؟

حسنًا سأخبركم أنا؛ إنه عزازيل، كبير خزنة الجنة، وقائد الجيش الذي أمره الخالق أن يهبط إلى الأرض؛ ليضع حدًا لما أفسده قومه فيها، ويحاربهم وينفيهم إلى أقاصي الأرض وأطراف الجبال وجزائر البحور، إنه العابد الناسك المنتصر الذي لم يجرؤ أحد على هزيمته سوى نفسه..
حينما غضب الله على الجن إثر ما عاثوا من فساد في الأرض أمر عزازيل أن يترأس جيشًا من الجن سكنة السماء المؤتمرين بأمره، وينزل بهم إلى الأرض؛ ليحارب سكانها ويقهرهم، وامتثل عزازيل لأمر ربه ونزل ومعه الجيش؛ وانتصر انتصارًا ساحقًا، ومن تبقى منهم نفاه إلى أقاصي الأرض وأطراف الجبال وجزائر البحور، ثم عاد بعدها إلى السماء منتصرًا، ونفسه مختالة تقول له انظر حولك من منهم يستطيع فعل ما فعلت؟
من منهم أكرم منك؟
من منهم أعتى منك؟
لينظر حوله في خيلاء ويجيبها "لا يوجد".
فتسأله من جديد في إلحاح..
أمن مخلوق أكرم منك عند الخالق؟
فيقول "لا".
فتسأله من أحق منك بملك الأرض؟
فيرد عليها وقد امتلأ قلبه بالكبر والغرور "ليس هناك أحق مني، ولا أكرم مني، ولا أعلم مني؛ أنا عزازيل المنتصر، العالم المتربع فوق جميع المخلوقات".
وهنا فقط سكنت نفسه وتملكه الكبر والغرور..
وأسر ذلك بداخله وغفل عن أن الله لا يغفل ولا ينام، ويعلم السر وخبايا النفوس..
وقد علم ربه بما أسر بنفسه.. إلى أن جاء يوم وأبصر عزازيل ما لم يبصره غيره؛ وهو ما كان مكتوبًا في الرفيع عند الله تعالى بأنه سيخلق خليفة يسكن الأرض ويعمرها، ولم يكن يعلم أن ما استطاع أن يبصره استطاعه فقط بإذن الله..
فحقد عزازيل وامتلأ قلبه بالكراهية لهذا المخلوق الذي اختاره الله دونًا عنه ليكون خليفة له في الأرض ويعمرها، وراح يوسوس للملائكة بأن هذا الخليفة سيفسد في الأرض من جديد، وسيفعل كما فعل الجان من قبله وربما أشد، حتى جاءت الساعة التي عرض فيها الله الأمر على الملائكة؛ فكان ردهم سؤالاً.. "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟"؛ ليظن عزازيل أنه انتصر، وأن الملائكة سيخالفون أمر الله،
ولكن الملائكة لم يسألوا الله مخالفة لأمره، إنما خوف من المجهول؛ وابتغاء الطمأنينة من ربهم الأعلى، وعلى الرغم من أن هذا فيه شيء من الشك؛ فالله عالم الغيب، ولكنه كان اختبارًا للملائكة أيضًا هل سيسوقهم القلق، ويشككون في رؤية ربهم للغيب، ويظنون أنه لم يكن يعلم بما سيفعله الجن في الأرض، وأن كل ما يحدث يخبئ خلفه حكمة ما.. أم أنهم سيهتدون ويمتثلون لأمر ربهم مؤمنون بعلمه مصدقين لقوله: "إني أعلم ما لا تعلمون.."
وهنا كانت أول هزيمة لعزازيل؛ حينما أمتثل الملائكة لأمر ربهم مؤمنين بعلمه، مطمئنين، مسبحين، مستغفرين شاكرين الله كثيرًا...
ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد، ولم يعقل أمره ويحارب نفسه الأمارة بالسوء، بل سولت له نفسه أن يعلن عصيانه حينما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم؛ فسجدوا إلا هو لم يسجد وعصى؛ وكانت حجته أقبح من عصيانه حينما قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين.
وهنا كانت ثاني هزائمه؛ بسبب كبره الذي أعماه عن أن النار طائشة؛ تفسد وتتلف ما تقربه، بخلاف الطين، وأن عنصر الطين أو التراب أقوى وأكثر ثباتًا من عنصر النار، وأن من طين الأرض تولد الحياة، وتنتشر الزروع والأرزاق على خلاف النار التي تأكل كل حي..
لكن غضبه وكبره وحسده أغفله عن ذلك، وأجهله عن الواضح والمعلوم..
ونتيجة لغروره؛ لعنه الله، وأبلسه من رحمته؛ فهبط إلى أسفل الأرض مذمومًا مدحورًا، ومسخت هيئته؛ فأصبح مسخًا شيطانيًا رجيمًا، ومن يومها سمي بإبليس (المطرود من رحمة الله)..
وقتها كان قد اكتمل خلق آدم، وكرمه الله؛ فنفخ فيه من روحه، وعلمه الأسماء كلها، وعرضهم على الملائكة، وحين أبلس إبليس وسقط استعان بربه على آدم ونسله؛ وسلط عليهم..
فما كان من آدم إلا أن رفع رأسه داعيًا المولى سبحانه وتعالى القادر على كل شيء..
-"يا رب قد أنظرته وسلطته عليَّ، وإنني لا أستعيذ منه إلا بك".
فقال الله سبحانه:
-لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من قرناء السوء
قال آدم:
-"رب زدني".
قال الخالق:
-الحسنة بعشرة أمثالها وأزيدها، والسيئة بواحدة وأمحوها.
قال آدم :
-"رب زدني".
قال سبحانه:
-التوبة لا نمنعها من نسلك ما كانت فيهم الروح.

قال آدم:
-"رب زدني".
قال الرحمن:
-أغفر ولا أبالي.
قال آدم:
-" اللهم أنت حسبي ووكيلي".
وسكن بعدها عدن جنة الله في الأرض العليا فلا يجوع فيها ولا يظمأ ولا يحتر..
0 تصويتات

اترك تعليق

التعليقات

اكتب وانشر كتبك ورواياتك الأصلية الأن ، من هنا.