(إنسان العصر الحجري الحديث)
العشرون من أكتوبر ٢٠٢٣م
من المعروف للمارّة بعلم الإنسان الاجتماعي-أو المعروف بـ الأنثربولوجيا الاجتماعية- أن الإنسان قد تنقل في عصور مختلفة حتى وصل إلى الصورة المعاصرة لإنسان العصر الحديث؛ فرد يعيش مع أسرة، وَسَط إحدى المجتمعات داخل حدود دولة، تنتمي إلى إحدى قارات العالم السبع.
وعلى الرغم من أن المسافة الجغرافية بين قارات العالم السبع كبيرة جدا؛ إلا أن العالم أصبح قرية صغيرة بفضل وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، حيث إن عملية التواصل مع أي شخص في أي مكان في هذا العالم أصبحت أسهل وأيسر حتى من عملية شرب الماء، ولا شك عندي بأن إيمان الإنسان بأهمية التواصل المجتمعي ودوره المثمر في تقدم العالم هي من أنارت بصيرته وألهمته تسخير التكنولوجيا الحديثة لتيسير عملية التواصل، للحد الذي جعل العالم أكثر انفتاحًا عما كانت عليه من قبل.
فلم تعد الأمور كـ سابقة عهدها عندما كان لكل مجتمع عادات و تقاليد خاصة به، يجسدها أفراده فحسب؛ الآن أصبحت تلك العادات والتقاليد تنتقل بسرعة انتقال البيانات، فوصفات الأكل وصيحات الموضة والاحتفالات والأفكار والآراء وغيرهم من الأشياء التي يمكن أن تكون معروضة الأن على منصات التواصل الاجتماعي أصبحت متبادلة بين المجتمعات المختلفة للدرجة التي يمكن أن تذهب بنا إلى جهل حقيقة منشأها.
هذا يبين أن الإنسان أصبح يعيش أزهى عصوره اجتماعيًا، وهذا التقدم الاجتماعي المهول لا بد وأن يترتب عليه إحراز العديد من المكاسب على المستوى الشخصي للأفراد؛ كالإحساس بالأمان والاستقرار، وحدوث نشوة على مستوى الوعي والثقافة، والثقة بالنفس إلخ... فحياة الإنسان منذ فجر التاريخ لم تنعم بالاسقرار ولم يُحرز فيها أي تقدم إلا عندما تعلّم العيش في جماعة، فماذا إذا أصبح العالم كله جماعته؟
بالتأكيد إحساس لا متناهي بالأمان و الاستقرار، وطفرة على صعيد الثقة بالنفس؛ لوجود من يؤيد أرائك ويؤمن بمعتقداتك، وانفتاحا على الثقافات الأخرى، أمورٌ من شأنها جمعيا أن تطور حياة الإنسان، ولكن ماذا إذا خُدّع بكل تلك المشاعر، وظل حبيساً في المجتمع الإلكتروني، منعزلا عن الواقع؟.
الأمر بالنسبة للبعض ممن يعاصر هذا التقدم قد أخذ منعطفًا خطيرًا؛ قضاء ساعات عدّة على الهاتف المحمول أو أمام شاشات الكمبيوتر، منغمسًا في عالم-قد لا يكون حقيقيًا- ولكنه يروق لك، لأنك تجد فيه من حياة الناس ما تلمع عيناك لرؤياه، وتتلهف لامتلاكه، وما يجعلك تتمنى لو كانت حياتك كـ حياتهم، بصرف النظر أكان ما تراه صادقًا أم غير ذلك، لأنك ترى فقط ما يريدونك أن تراه، لا الصورة الكاملة لتلك الحيوات، وترى فيه ما يجعلك تزهو بحياتك، لكثرة ما تلقاه من تأييد على أرائك، و تمجيدًا وتفخيمًا على تقدماتك المعلنة -بصرف النظر عن قيمتها الحقيقية-، وبصرف النظر عن مدى صدق ذلك التأييد وتلك التعليقات، فإن هذا راق للبعض، فُعزل دون أن يشعر داخل المجتمع الإلكتروني.
تخيل! أنك عُزِلتَ عن عالمك الواضح؟ وظللت حبيسًا خلف الشاشات؟ واكتشفت أن كل تلك المشاعر زائفة! كيف تتصور حياتك حينئذ؟ وكيف هو الحال بالنسبة لهؤلاء المساكين الذين ضل بهم الطريق؟، لا أعلم-حقيقة- هل هم جُناة أم مجني عليهم! لكني أعلم يقينًا أن المشاعر كـ الأشجار، الصادقة كـ ذوات الجذور الراسخة، والزائفة تقتلعها الرياح العاتية، فماذا عن مشاعرهم؟ أثابته؟ أم تسلك مع الريح مجراها؟ .
هؤلاء الذين سلموا أنفسهم للطريق المنحدر، قد تجد أحدهم يُحمل له مشاعر حب وامتنان لو وزُعت على مدينة كاملة، لعاش سكانها يفعلون كل شئ بحب ولفاضت تلك المشاعر برغم جُمَّ أفعالهم، ومع ذلك لا يشعر بها لأنها لم تظهر له في عالمه المنعزل، فتحولت الوسائل من سُبل لجمع الناس من شتى بقاع الأرض، إلى و سائل عزل-خلف الشاشات- عن واقعهم المحيط، وبدلا من أن يكون التطور سببا في تقدمهم، يصبح سبب سقوطهم إلى الهاوية.
وبالعودة إلي عصور تطور الإنسان وتحديدًا في العصر الحجري القديم، كان نهار الإنسان قائمًا على البحث عن أدوات يستخدمها في صيد الحيوانات واقتلاع النباتات ليؤمن طعامه فتستمر حياته، و من ثم يبدأ في البحث عن كهف آمن يهرب فيه من مخاوفه، من المجهول الذي يمكن أن يسلب منه حياته إذا لقاه، كذلك أصبح أولئك الذين ارتبطت حياتهم بتلك الشاشات؛ يعيش الفرد منهم نهاره باحثًا عن منشور أو تعليق أو رسالة يكتسب منها ثقة زائفة فتكون بمثابة القوت الذي يعينه على استمرار حياته، ويظل طيلة الوقت يهرب من الواقع-الذي يمثل المجهول- الذي يخيل له أنه لن يلقى فيه ما يلقاه خلف الشاشات، فيحاول الهرب منه حتى لا يسلب حياته-الزائفة-، فيظل قابعًا في كهفه الآمن طيلة يومه، وكأن وسائل التواصل الاجتماعي قد عادت به إلى العصر الحجري في ثوبه الحديث، و هذا جديرًا بأن نطلق على أي من هؤلاء الذين جرى بهم الطريق الهاوية، وبجدارة؛ لقب (إنسان العصر الحجري الحديث).
كن حذرًا عزيزي! من أن تسقط في فخ المشاعر الزائفة؛ فتتخلى عن الواقع الصادق، وكن على يقين بأن شخص واحد يحمل لك مشاعر واضحة خيرٌ من اَلاف يظاهرونك بمشاعر تُكسبك ثقة زائفة وهم يكنون لك غير ما أبدوه. بقلم: أحمد عادل