نقلت وكالات الأنباء خبـرا عاجلا، مفاده أن بعـثة من الأثريين في روضة القائد (تضم عـدة ولايات)، عـثرت عـلى أثر نادر، لم يسبق لأي بعـثة للآثار أن وجدت مثله. ولم تحـدد مكـان وجوده، ربّما خوفا من الاتّهام بالتوجيه العـمد للسيّاح، ما قد يُكرّس الجهويّة السياحيّة، باستغـلال أثر وطني لأغـراض جهويّة.
نقلت وكالات الأنباء هـذا الخبر باقتـضاب، وحتّى وكالات الأسفار نقلت ذلك، كما نقلت وفود السيّاح أرتالا إلى ذلـك المكان، بعـد أن زاروا-والحقّ يقال-الأماكن الأخرى، وعُـلم فيما بعد أنّها كانت تعرف مكان وجود الأثـر بالتّحديد، دون الإفصاح عن مصدرها.
وقد بعثت وكالات الأنباء مراسليها لتغـطية الحدث، كما أرسلت الدّول والمنظّمات الدوليّة مبعـوثيها، للاحتفال بهذا الحدث، الذّي لا يجـود التّاريخ ولا الطّبيعة بمثله، فهيئة المدابـغ العالميّة -ومقرّها الجمهوريّة العظمى-أرسلت ممثّلها الثقـافي، لإنابة مديرها العام، الذّي شغـلته عـن الحضور الأزمة الماليّة العالميّة، وتدهور أسعار الجلود، وسارعت لجنة الآثار إلـى التّرحيب بمبعوث الهيئة المبجّل، فعقدت قمّة وحفلا، واستهلّ الاحتفال رئيس اللّجنة، الذّي سلّـم، ورحّـب، وأطـنب في التّرحيب، و شكـر رئيس الهيئة عـلى حُـسن الضّيافة، وعـند ملاحظته استغـراب الحاضرين لشكره رئيس الهيئة، شرح فقال:
-لو وقع الحدث في بلدهم لحظينا بالتّكريم والتّبجـيل والاحتفالات، أقـلّها استدعاء مادونا ذلك الغزال الشّارد.
وعـدّد محاسنها ومفاتنها، ـوردّد بعـض أغـانيها، وقيل إنه بدأ ينزع ملابسه، لولا تدخّل بعـض زملائه لمنعه.
في الغـد عـرضت الصّحف (صباحكم سعيد، الأصيل …) مضمون هذا الأثر، وأعـلنت أنّه في رقعـة من الجلـد الآدمـي الموشوم دون إضافة. وقد فـتح هـذا الغـموض البـاب لتخيُّلات متعـدّدة، فـمن النّاس من فسّر الحدث، على أنّه علامة من علامات السّاعة الـكبرى، لأن توقيت هذه الأحداث آخر الزّمان، كما تردّد في الأوساط المتديّنة. وقـد ذكرت بعـض الصّحف، أنّه يمكن أن يكون "جلد السّامري"، ولكنّها في الغـد نشرت تكذيبا، معتذرة عن الخطأ المطبعي، وذمـّت صناعة من ورَّدها الماكينات (دون الإفصاح عنه)، التّي تسبّبت فـي الخطأ، وأثنت عـلى الصّناعة الألمانيّة، وقالت إنّها أبدلت ماكينات الطّباعة عـندها. وقيل إنـها خافت من سوء الفهم، واستغلال الصّهاينة لجلد جدّهم؛ لاحتلال المكان بأسره.
وأقامت هيئة الآثار ندوة صحفيّة احتفالا بهـذا الحدث، ولاجلاء بعـض الغـموض، فاستـهلّ الرئيس الجلسة بكـلمة افتتاحية، فبسمل وقـال:
-الحمد لله الـذي خلق من الجـلود أحذية وطبولا ودفوفا، وبعـد أن هُـمس في أذنه، سكت قليلا، ثمّ استأنف الحديث حامدا الله مبيّنا بديـع صُنعه، متـطـرّقا إلى غـرابة هذه القطـعة من الجلد، دون الحديـث عـن الطّبول والأحذية والدّفوف. وقد عـلّل فـي جلسة لاحقة، إصلاحه لخطئـه في الإبّان، على أنّه حسن تنظـيم وانتباه دائم لـما يُقال، ومراجعة الأخطاء في حينها؛ حتّى تـكون هيئة الأثريّين متميّزة ومسؤولة، تعلم ما تقول وما تفـعل، ليس كمثل الهيئات الأخرى، مشيرا دون تصريح لهيئة البياطرة، التّي كان بينها وبين هيئة المدابغ العالميّة خلاف حاد، فانحاز إلى هيئة المدابغ، لامزا هيئة البياطرة، دون أن يكون له دخل في الخلاف. ثم واصل الخطاب، واصفا ما تجشّمته هيئته من صعوبات، وما حداها من إصرار لبلوغ الهدف، وقد تمّ النجاح بحمد الله وعـونه، وتوجيهات أولي الأمر.
وأضاف إن هـذا الأثر، يتمثّل في قطعة من الجلد الآدمي الموشوم، مقاييسها 90/80 صم، حُفر هذا الوشْم داخلها، وكأنه حفـر بـأزميل فنّان حاذق للصّنعة، وهذا الوشْم عـبارة عـن خطوط دقيقة، تـتخلّلها خطوط حمـراء قانية الحمرة، عـلى شكل منمنمات وتعـرّجات وأشجار تخـلب الأنظار، لجمالها وروعة أشكالها، وقـد خُطّت بماء الذّهب. وظـنّ بعـض العـلماء في البـداية، أن هـذه الحمرة، هي الصّدأ علا صُفرة الذّهب، ولكـنّهم أعيـدوا إلى رشدهم، عـندما قيـل لهم "عُمْركش سمعـت بالذّهب ايصدي، لو يبقى في التّراب سنين".
وتـمّ استدعاء العـديد من المختصّين في المعـادن والكيميائيّين؛ لمعـرفة حقيقة هـذه الحمرة، ولكـن لم يجـدوا لـها شبيها في المعـادن، ولا تفسيرا في عـلومهم، وساد الغـموض، وضُربت الأخـماس في الأسداس دون نتيجة، وكثرت التخمينات والنظريات والنظريّات المضادّة، فكلّ تفسير يوجد ما يفنّده، وتناطحت الآراء كلّ حسب زاوية نظره واختصاصه العلمي. ذهب بعض علماء الآثار إلى أن قطعة الجلد، ربّما تكون خريطة لكنز ثمين، رسمت على الجلد بماء الذهب لقيمة الكنز الكبيرة، فاذا تمّ فكّ شفرة الخريطة، تتخلّص الدّولة من مديونيّتها الأزليّة، وتحقّق مزيدا من الرّفاه لمترفيها، كما ذهب الخبراء العسكريّون إلى أن هذا الرسم يمكن أن يكون خطّة عسكريّة لحرب كبيرة، وأن هذه الخطّة قُـدّمت على هذه القطعة الجلديّة، مرسومة بماء الذّهب للملك، نظرا لقيمته وعظمته، ولو لم يكن عظيما، لقُدّمت له مرسومة على عجل، ولما رُسمت على جلد آدمي بماء الذّهب، وبهذه الرّوعة. وأضاف أحد الخبراء العسكريّين المختصّين في التّاريخ الحربي، والتخطيط العسكري، والمتحمّسين لهذه النظريّة، أن هذا الملك لا يخرج عن ثلاثة: إما أن يكون ذا القرنين أو حامورابي أو كسرى عظيم الفرس.
ساهمت الصدفة وحدها في إجلاء الغموض، ومعـرفة الحقيقة، عندما شاهدت إحدى السّائحات هذا العـجب العجاب، صاحـت من الدّهشة قائلة:
- وَيْ كأنّه الدم.
وفي الحال استـدعى رئيس الهيئة فريقا من الأطبّاء والبيولوجيّيـن، وأُجـريت الأبحاث، وكانت النّتيجـة مذهـلة، إنّه دم بالفعل، تلك الخطوط الحمراء، هي شراييـن يجري الـدم داخلها، وقد كتمت اللّجنة الخبر لغرابته، ولمزيد التثبت والتّشاور؛ فـتمّت الاستعانة بالدّول العـظـمى؛ فأرسلت هذه الأخيرة أساطيلها العـلميّة، كما أرسلت أساطـين عـلمائها؛ لإجراء الأبحـاث اللّازمة، فوصلوا إلى نفـس النتيجة..... إنّه الـدم، دم حار يجري داخل هـذه الشّرايين الحمراء حمرة قانية، كما لاحظـوا أيضا أن شكل الوشْم يتبـدّل يوميّا، محافظا على نفس اللّون، ونفس الخطوط الحمراء؛ فتمّت الاستعانة بخـبراء في الفنون الجميلة، ولكنّهم صُدموا، وبقـوا مشدوهين، يتفرّجون عـلى روعة هـذه الأشكال، وعـلى هـذا العجب العجاب.
اتّخذت المـنظّـمات الـنِسوية في العالم هـذا اليوم عـيدا، أضـيف إلى أعياد المـرأة وإنجازاتها، فسُمّي أولا "عـيد العـطـر" ولكن هـذا الاسم لا يشير إلى المرأة، ولذلك شجبـته كـلّ هـذه المنظـمات بغالـبيّة الأصوات (وخاصةّ المنظـّمات العربيّة)، فـأُبـدل بعـد اتفاق باسم "عيد المرأة العطرة" أو عـيد المرأة المعـطّـرة، كـما يحـلو لبعـض الرّجال تسميته.
المرأة التي اكتشفت الحقيقة ألمانيّة الجنسيّة، زرقاء العـينين، ممشوقة القوام، ميساء القـدّ، سوداء الشّعـر، كتبت الصّحف تعـريفا بسيرتها، وتنويها بالجنس الآري عموما، وإبداعاته عـبر الـتاريخ، مُغْـفلة تاريخ النازيّة، ودون معاداة للساميّة. كما لم يفتها التّعليق، عـلى زرقة العـينين، وسواد الشّعـر، فهما صفتان قـلّما تتصادفان في الطّبيعة، خاصّة للجنس الآري، وعـزوا هـذا التّصادف، إلى تميّز شكل هذه المرأة، تـبعا لتميّز دورها، باكتشاف هـذه الآية. وتميّز الدّور يفـرض بالضّرورة، تميّز القائم به شكلا ومضمونا، وحتّى يستقيم الاكتشاف، فقد كانت المكتشفة"فلتة" فجمعت هذه المرأة "المعجزة" بين خاصيّة العرق، وخاصيّة أهل الأثر المبارك؛ فالتقت الزّرقة بالسّواد. وأمعنت بعـض الصّحف الأخرى الأكثر جرأة وإثارة، إلى وصف بقيّة محاسنها، ولكن عـلى استحياء، رهبة منها وإجلالا لها، لأنّ مجرّد استحضارها يشيع ذلك، وهذا من دلائل عـظمتها لمن يبحث عـن دليل، وهم قـلّة نادرة تعـوّدت الشكّ في كلّ شيء، إلّا أنّهم لانت شكيمتهم مع هـذه الآية، وسلّموا أخيرا تسليم العجائز، والحقيقة أنّهم لم يسلّموا إلّا بعد تسليم "المتفلسف العـنيد"، وهو متكلّم ادّعى عـلما بالفلسفة، وأسّس منهجه عـلى المحسوس فقط، فلا يؤمن بغـير ذلك، وما الغـيب حسب نظره إلّا نتاج للمخيال الجمعي، هروبا من المحسوس الملموس، إلى الخفّي المدْسوس كما يقول. كان يبني منهجه على قانون الجدل، أي قانون التّناقض، والصّراع بين ضدّين، يفرز في النّهاية نتاجا ثالثا مغايرا لهما، ولكنّه يحمل خاصيّاتهما، وسمّى قانونه بقانون تزاوج الأضداد، وهو صراع المفقود والمنشود. وأورد في تعـريفاته، أن المفقود هو ما كان عليه الواقع، والمنشود هـو ما صار عليه، وكلا النقيضين ظاهر ومكشوف، فلا وجود للغيب في الصّراع، ويلتجئ إليه العاجزون عـن التّفسير، والقاصرون عـن استكناه الأسباب العلميّة.
في لحظة من لحظات صفائه، وقد لعبت الخمرة برأسه، فانشرح صدره، وانطلق لسانه حين سأله أحد ندمائه قائلا: " ما معنى منهجك الجدلي؟"
ردّ عليه شارحا في تؤدة وتأنّ، وقد علت البسمة شفتيه، بعد أن مسح بعض قطرات العصير المسكر على لحيته: " هو اندثار الموصوف، واستمرار الصفات ".
اتّسعت عينا محدّثه من التعجّب، وأشكـل عليه الفهم، فلاحظ المتفلسف العنيد سهومه واستغرابه؛ فأردف حديثه شارحا:
" يعني جدليّة الموت والحياة، فالكائن يحمل صفات الخلود، وهو الفاني، ويُورّث الصفات للخلف، كما ورثها من السّلف؛ فتبقى الصّفات، ويموت حاملها، وتُـتوارث من جيل إلى جيل".
ثمّ قال: "يا صديقي أنت تزرع القمح والشعير والبرسيم، تزرعها حبوبا، وتلك الحبوب تخزّن صفات النّوع داخلها؛ فيخرج الخلف، بنفس صفات السّلف، وكـلّ شيء يحكمه قانون، فـلا مجال للغيب، ولا لترّهاتكم".