غادرت روحي هذا البيت بلا وداع أما جسدي فلم أرضى بأن يغادره كذلك. ستعود روحي وتتجول في الأرجاء لكن مصير جسدي هو الفناء، سيختفي تماما من هذا العالم ولن يكون له وجود إلا تحت التراب.
هذه رسالة وداع لكنها أيضا رسالة شكر وأعتذار.... شكرا أمي، شكرا أبي على كل تلك الأيام الجميلة التي عشتها معكم وعلى كل تلك المحبة التي وهبتماني إياها، لطالما كنت فخورة بأنكما والداي.
أعتذر، أعتذر بشدة على هذه الفترة الأخيرة، على هذه الفترة الصعبة التي إحترقت فيها قلوبكم وإحتارت فيها عقولكم... ما الذي دهاني؟ لماذا تعكرت حالتي فجأة بعد أن كانت ضحكتي تملأ الدار، ماذا حدث لي ولما صرت أرفض الذهاب إلى المعهد أو حتى مغادرة غرفتي وما سبب تلك النوبات، نوبات البكاء التي تأتني فجأة ليلا ونهارا.
لم ينجح أطباء النفس ولا الراقين ولا العرافين ولا الدجالين من تشخيص حالتي ولم يتمكن أحدهم من معرفة ما الذي جعلني هكذا. اليوم قررت بيع جسدي من أجل ما هو أغلى فلكل شيئ ثمن ولكل ثمن تضحية الوداع ... الوداع أمي، الوداع أبي .
كانت هذه كلمات الرسالة التي وجدتتها السيدة سهام معلقة على المرآة بجانب جثة إبنتها المتدلية من السقف منذ عشر سنوات تقريبا. كان مشهدا مريعا حين فتحت باب الغرفة ورأت نورة تتدلى من السقف والحبل ملفوف على رقبتها.
عشر سنوات مرت على الحادثة ولا أحد يعلم إلى حد الآن معنى الكلمات التي كتبت بالدم على المرآة بجانب الرسالة، وكأنها كتبت بلغة لم يكتب بها بشر من قبل. الليلة هي ليلة من ليالي الشتاء، ليلة يسودها الرعد والبرق، غيوم داكنة ورياح قوية، شوارع خالية وإنارة منعدمة، سكون رهيب ولا صوت يعلو على صوت الأمطار الغزيرة .
لا أحد يجرأ على المرور من هذا المكان في النهار فما بالك في هذا الطقس، إنها مقبرة الأشباح، لا يجرأ أحد على المرور أمامها ولو كان ذو قلب من حديد... باب مكسور، جدار مكتوب عليه كلام غير مفهوم، يسمع من داخلها أحيانا أصوات ضحك وكلام فسق وفجور، يقال بأن الأموات هناك يلعبون ويمرحون وأرواحهم في محيط المقبرة تدور... مقبرة مخيفة غامضة، كانت كسائر المقابر لكن منذ دفنت فيها نورة صارت أكثر الأماكن رعبا و غموضا.
في آخر الليل وفي هذا الطقس السيئ كانت هناك سيارة حمراء اللون تمر من هناك وفجأة لاحظ سائقها فتاة تجلس على قارعة الطريق، ترتدي ثوبا ناصع البياض حافية القدمين فأوقف السيارة وذهب رغم الأمطار ليتفحص حالها .
إقترب الرجل شيئا فشيئا وكلمها لكنها لم تجب، وضع يده على رأسها فرفعته ونظرت له، نظرت له فتراجع بضع خطوات وسقط على الأرض من هول ما رأى، ملأ صراخه المكان وركض بسرعة نحو سيارته لكن ما إن إقترب منها حتى إشتعلت فيها النيران فجأة، أجل في ظل كل تلك الأمطار الغزيرة إشتعلت النيران..... إنه رعب ما بعده رعب، السيارة تحترق، الفتاة تتجه نحوه ماشية بخطوات بطيئة والدماء تسيل من عينيها كأنها دموع، أصوات ضحكات مجهولة المصدر، حمار يجري هاربا من فأر.وكلب يجري هاربا من قط،. أغمي على الرجل من شدة الخوف ولم يستيقظ إلا غدا صباحا حين سطعت الشمس، كان حاله يرثى له ثياب متسخة بالطين مبللة بمياه الأمطار وبسبب تبوله على نفسه من كثرة الخوف. فز واقفا حين رأى سيارته التي إحترقت ليلة البارحة أمام عينه في أبهى حلة وكأنه إشتراها للتو. إقترب منها بحذر، فتح باب السيارة فلفت نظره ورقة صغيرة على المقعد... بعد قرائتها مباشرة انطلق هاربا وظل يجري دون أن يعلم إلى أين هو ذاهب، كل ما يعلمه هو أنه عليه الإبتعاد عن هذا المكان فورا.
لقد كان نص الرسالة كالآتي (( لقد كنا نمزح معك، نزلت علينا ضيفا في ليلة حفل إطلاق روحي بعد عشرة سنوات من السجن والعذاب... شكرا لك على الحضور.))
*****
في أحد الأحياء بالعاصمة، الأحياء الراقية، يعيش شاب إسمه عزيز... عزيز هذا وحيد أمه وأبيه مدلل وله من الأموال والسيارات مالا عين رأت ولا أذن سمعت، كلما وقع في مشكلة إلا وأخرجه منها والده كالشعرة من العجين وكلما كان مكتئب أو تعرض لأزمة نفسية يخرجه منها والده برحلة سياحية لأجمل بلدان العالم... يبدأ يومه بعدالعصر، وينتهي بين الفجر والصبح. هاهو الآن يركب سيارته الفاخرة رفقة جميلتين حسناوتين ويشد الرحال لمدينة الحمامات، هناك حيث العرب الليلية والكباريات، حيث الأصدقاء والفتيات المغريات.
قضى ليلة صاخبة ككل ليلة وعاد فجرا إلى منزله رفقة شقراء فاتنة الجسد. جلست الحسناء على الأريكة في قاعة الجلوس بينما دخل عزيز لأخذ حمام سريع عله يساعده على إسترجاح بعض من تركيزه وإيقاظه قليلا من سكره. جهزت الفتاة سطران من الكوكايين في إنتظار خروج الفتى المدلل من أجل رحلة سعادة على متن الخطوط الجوية الوهمية....
حدث ذلك بالفعل وبعد ضحك ولعب ومرح إتكأ على فخذيها وظل يحدق في السقف ليرى فجاة نورة تبتسم له.
تملكه ضحك شديد وقال:
- أقسم أن الكوكايين شيئ من وراء الخيال... صدق منير حين قال أنها أفضل بكثير من تلك الأقراص التي كنت أتناولها.
فردت الفتاة:
- أجل لذلك هي غالية ولا يقدر عليها إلا الأغنياء أمثالك.
ثم أضافت ضاحكة:
- تخيل أن أحدا من أولائك الفقراء يستهلك الكوكايين... أقسم أنه سيبيع شرف أخته حتى يستطيع شرائه.
ههه إنفجر عزيز ضاحكا:
- فقراء كالتي أراها الآن.
رفع رأسه وإنتصب واقفا متجها نحو الحمام بينما إتجهت الشقراء إلى غرفة النوم.... جلست أمام المرآة تضع أحمر الشفاه فأحست بأحدهم يتحرك خلفها، إلتفتت فلم يكن هناك أحد.
شرعت في خلع ملابسها فبدأت تحدث أشياء غريبة داخل الغرفة، شقت المرآة وإنكسر زجاج النافذة بطريقة كأن أحدهم أصابه بحجارة من الخارج.. إقتربت الشقراء من النافذة وألقت نظرة فلم يكن هناك أحد في الخارج.. تسلل إلى قلبها الخوف فهمت بالخروج لمناداة عزيز... وضعت يدها على المقبض فإذا بالباب لا يفتح ,جذبت ودفعت كثيرا إضافة إلى الطرق والصراخ لكن دون جدوى....
فجأة بدأت صراصير تخرج من المقبض متحركة فوق يدي الشقراء مما جعلها تسقط أرضا والدموع تتطاير من عينيها وفور سقوطها أمسكها أحدهم من شعرها وجرها في كامل أنحاء الغرفة، ليس هناك أحد غيرها هناك فمن الذي يفعل هذا حقا إنه رعب ما بعده رعب....
لا تزال الشقراء تبكي وترتعش من شدة الخوف حتى إقترب منها مقص وشرع في قص شعرها بينما هي تصرخ وتصيح بأعلى صوتها... لحظات ثم فتح باب الغرفة فخرجت مسرعة وغادرت البيت دون أن تلتفت ورائها. بضع دقائق وخرج عزيز من الحمام، كانت المرآة في أحسن حال وليس هنالك زجاج مكسور حتى شعر الشقراء المقطوع إختفى فأعتقد أنها رحلت دون علمه... لعنها وسبها كثيرا ثم خلد إلى النوم.
بعد العصر أفاق عزيز وكان رأسه يألمه كثيرا ,أطلق زفيرا طويلا ثم نهض من الفراش يمشي بخطوات متعثرة، فتح باب الغرفة فإذا بطريق من الشموع مفروش بالورود وبالونات حب تزين المكان...
إندهش مما رأى وأرتسمت على شفاهه بسمة واضحة. تقدم شيئا فشيئا حتى الطاولة أين وضعت علبة مزينة تبدو وكأنها هدية وإلى جانبها ورقة صغيرة مطوية، فتح العلبة فإذا بها ساعة فاخرة، وضعها على يده فكانت في غاية الروعة.... ترى من هذه التي فعلت كل هذا؟ أمسك الورقة فكان نصها كالآتي
《 إسمك عزيز وأنت عزيز على قلبي... أنت الأجمل أيها الشقي 》
لم يستطع تحديد هوية صاحبة الهدية لكثرة الفتيات اللاتي يواعدهن والفتيات اللاتي يعرفهن لكن كان يراوده شك كبير في أن الشقراء هي من فعلت ذلك... هي تملك نسخة من المفتاح وبما أنها غادرت بتلك الطريقة في الصباح فهي أرادت أن تعتذر بتلك الطريقة الراقية.
أسابيع مرت وهذه الفتاة لم تظهر أبدا، لا أثر لها، لا تجيب عن هاتفها غير موجودة ببيتها ولا بعملها. طبعا عزيز لم يكن متأثر بذلك فهو يعيش بمبدأ 《ليس مهم من الفتاة بل المهم أنها جميلة وليس الهدف من العلاقة هو الجدية بل التسلية》 في كل فجر كان يعود للبيت ومعه فتاة أو إثنان وبحوزتهم جواز السفر لرحلة السعادة الوهمية.... يستهلكون مع بعضهم وإن بقي لهم من الجهد ولو قليلا فيمارسون الجنس وإلا فيخلدون للنوم جميعا. تقدم به العمر وتجاوز الثلاثين، عمر مناسب للزواج، لذلك ناداه والده في أحد الأيام وفتح معه الموضوع....
قال أنه أطنب في العبث مع الحياة وإن واصل كذلك فإنه سيهدم كل شيئ بناه وتعب في تحقيقه على إمتداد عشرين سنة ولذلك قرر أن يزوجه. إستشاره في إبنة صديقه وشريكه إسمهان ,هي فتاة جميلة، ناجحة في حياتها الدراسية وكذلك المهنية، مثقفة ولا تشكو من أي إخلالات. لم يكن لعزيز سوى الموافقة لأنه يعلم أنه إن تفوه بغير ذلك فإن والده يمكن من أن يحرمه من كل شيء... السيارات والأموال، الشركة والنفوذ فهو يعلم أنه بدون والده لا يسوى شيئا.... لا يعرفه الناس ولا يحترمونه أو حتى يخافونه لكونه عزيز بل لكونه إبن فلان.
تمت الخطوبة على بركة الله وصار للفتى المدلل مسؤوليات، صار هناك من بتتبع خطواته ويتعقب تصرفاته... إن كان هو مدلل أمه وأبيه فإن إسمهان من ذلك النوع أيضا، كلما غضبت منه بسبب سهره المتواصل وإهماله لها ذهبت فورا لوالدها تشتكيه وهو بدوره على الفور يتصل بشريكه ليعاتبه فينعكس ذلك مباشرة بالسوء على عزيز. مع مرور الزمن بدأ يتعلق بها شيئا فشيئا، وجد فيها ما لم يجده في فتيات الليل، وجد فيها الإهتمام والحب فبدأ يصلح من حالها ويحاول التغيير من نفسه قدر المستطاع لإرضائها.
في وقت متأخر من إحدى الليالي كانت إسمهان تداعب شعرها تفكر في خطيبها وفجأة أحست برجفة مفاجئة تهز بدنها، شعرت وكأن هناك شخص ما يراقبها....
في تلك الأثناء سقطت قرورة المياه على الأرض مما زاد في خوفها. ضاق نفسها ففارقت الفراش ووقفت على باب الشرفة تستنشق بعض الهواء النقي حتى دفع شخص ما من الخلف أوقعها أرضا، نظرت خلفها بهلع شديد فإذا بها فتاة ترتدي ثوبا ناصع البياض يصل طولها تحت الركبة بقليل، عيونها حمراء تسيل منها الدماء، شعرها غير منظم مجعد وكأنه لم يمشط منذ سنين....
إقتربت منها وفتحت فمها فإذا بلسانها لسان أفعى وأنيابها حادة كمصاصي الدماء، أمسكتها من شعرها وقالت - يفترض بي أن أقتلك الآن ولكني سأكون رحيمة... إبتعدي عن عزيز وغادري البلاد فورا وإلا أقسم فإني سأقطع جسدك وأجعله طعاما للكلاب... أنا هنا أعيش بين الجدران وسأعود في أي لحظة فلا تختبري صبري أيتها الفتاة تلاشى الظلام وهبت نسائم الفجر و إسمهان تبكي وترتجف من شدة خوفها، هول ما رأت جعلها عاجزة عن الكلام تنتظر بزوغ الشمس حتى تقصد المطار وغادرت دون رجعة.