هم أمة أقدم من اسمها الذي تُعرف به اليوم؛ لأنها على أرجح الأقوال أرومة الجنس السامي التي تفرع منها الكلدانيون والآشوريون والكنعانيون والعبرانيون، وسائر الأمم السامية التي سكنت بين النهرين وفلسطين، وما يحيط بفلسطين من بادية وحاضرة. وقد تتصل بها الأمة الحبشية بصلة النسب القديم مع اختلاط بين الساميين والحاميين.
فهذه الأمم كلها تتكلم بفرع من فروع لغة واحدة هي أصل اللغات السامية، ويدل على تلك اللغة اشتراك فروعها في بنية الفعل الثلاثي الذي انفردت به بين لغات العالم بأسره، وتشابه الضمائر والمفردات وكثير من الجذور والمشتقات، فضلًا عن التشابه في ملامح الوجوه وخصائص الأجسام، قبل أن يكثر التزاوج بينها وبين جيرانها من الأمم الآسيوية أو الأفريقية.
وإذا كان لهذه الأمم جميعًا أصل واحد، فأرجح الأقوال وأدناها إلى التصور أن يرجع هذا الأصل إلى الجزيرة العربية لأسباب كثيرة؛ منها: أن التحول من معيشة الرعاة إلى معيشة الحرث والزرع والإقامة في المدن طور من أطوار التاريخ المعهودة، وليس من أطواره المعهودة أن يتحول الناس إلى معيشة الرعاة الرحل في بوادي الصحراء بعد الإقامة في الحواضر والبقاع المزروعة.
ومنها أن الجزيرة العربية — في عزلتها المعروفة — أشبه المواقع بالمحافظة على أصل قديم، وهي كذلك أشبه المواقع أن تضيق فيها موارد الغذاء عن سكانها فيهجروها إلى أودية الأنهار القريبة.
ومنها أن اتجاه الهجرة من ناحية البحرين وناحية الحجاز متواتر في الأزمنة التاريخية القريبة والبعيدة، وأقربها ما حدث بعد الإسلام في وقت واحد من زحف العرب على العراق وزحفهم على الشام في عهد الخليفة الصديق. وليس لدينا ما يمنع أن يكون التاريخ الحديث دليلًا على التاريخ القديم، ولا سيما إذا خلا التاريخ كل الخلو من رواية يقينية أو ظنية تومئ إلى هجرة النهريين وسكان الأودية إلى الجزيرة العربية في زمن بعيد أو قريب، فإن السُّمريين سكان ما بين النهريين الأقدمين كانوا هنالك قبل عشرة آلاف سنة، ولم يصل إلينا قط خبر عن هجرتهم إلى مكان في الجزيرة العربية، كائنًا ما كان موقعه من تلك البلاد، بل ثبت على التحقيق أن الساميين هم الذين هجروا مواطنهم إلى ما بين النهرين؛ حيث قامت العواصم التي تُسمى بالأسماء السامية كمدينة بابل «باب الله» أو «باب إيل».
•••
أما الرأي الآخر الذي يُرجح أن الأمم السامية نشأت في بقعة من الأرض غير الجزيرة العربية، فأشهر القائلين به هو الأستاذ «جويدي الكبير»، العالم الإيطالي المعروف في القاهرة، وأقوى الحجج التي يستند إليها مستمدٌّ من مضاهاة اللغات السامية، وكثرة أسماء النبت والأمواه في لهجاتها الأولى. وعنده أن اشتراك اللغات السامية في هذه المفردات مما يدل على أرومة نشأت في بلاد مخصبة كثيرة الزروع والأنهار، ولم تنشأ في صحراء العرب وما شابهها من البقاع.
وهذا الرأي ضعيف لا يقوم بالحجة الناهضة، ولا تؤيده حالة الجزيرة العربية قبل الكشوف الحديثة بزمن طويل، فضلًا عن حالة الجزيرة التي تدل عليها تلك الكشوف في طبقات الأرض وعوارض الجو وعلم الأجناس.
فالمروج الفيحاء والبقاع المخصبة لم تكن مجهولة قط في جنوب الجزيرة ولا في جوانبها الشرقية الشمالية عند البحرين ووادي اليمامة، وهي البقاع التي مرَّ بها المهاجرون من قديم الزمن، تارة من اليمن إلى البحرين إلى ما بين النهرين وبادية الشام، وتارة من البحرين بداءة إلى ما وراءها من المشارف الشمالية.
ولم تزل بقاع اليمامة إلى ما بعد الإسلام مشهورة بالمراعي الواسعة، والعيون الثرارة، والأمطار الغزيرة، والمروج المعشبة التي تخلفت مما هو أخصب منها وأعمر بالإنسان والحيوان في أقدم الأزمان. وقد لاحظ الرَّحالة الألماني شوينفرت أن القمح والشعير والجاموس والمعز والضأن والماشية وجدت في حالتها الآبدة في اليمن وبلاد العرب القديمة قبل أن تستأنس في مصر والعراق.
وتبين من الكشوف العلمية في العهد الأخير أن الجزيرة العربية تعرضت لأدوار الجفاف وطوارئ الزلازل منذ عصور موغلة في القدم، فكان القفر فيها يجور على الخصب في أدوار طويلة بعد أدوار أخرى على التدريج، قبل أن تجور الصحراء على معظمها في عصور التاريخ.
فحالة الجزيرة العربية كافية لتفسير التشابه بين لغات الساميين في ألفاظ الخصب والثمرات والأمواه، ولكن الرأي الآخر — رأي الأستاذ جويدي — لا يُفسِّر لنا الفرض القائل بهجرة العرب مثلًا مما بين النهرين أو من الشام إلى قفار الصحراء. وهو فرض لا دليل عليه من الروايات القديمة، ولا من الأحوال المرجحة على حسب التقدير المعقول، ولا من السوابق المألوفة كما رأينا الأمثلة عليها في التاريخ الحديث.
•••
وعلى هذا يصح أن نعتبر أن سلالة العرب الناشئين في جزيرتهم الأولى قد سكنت أواسط العالم المعمور منذ خمسة آلاف سنة على أقل تقدير، وأن كل ما استفاده الأوروبيون من هذه البقاع في هذه العصور هو تراث عربي أو تراث انتشر في العالم بعد امتزاج العرب بأبناء تلك البلاد.
وليس هذا التراث بقليل؛ لأنه يشتمل على كل أصل عريق — عند الأوروبيين — في شئون العقل والروح، وأسباب العمارة والحضارة؛ وهي: (١) العقائد السماوية، و(٢) آداب الحياة والسلوك، و(٣) فنون التدوين والتعليم، و(٤) صناعات السلم والحرب وتبادل الخيرات والثمرات.