حفظ التاريخ لنا قليلًا من أخبار السيدة خديجة — أم الزهراء — رضي الله عنهما، ولكن هذا القليل كافٍ للتعريف بها، وبما يمكن أن تورثه بنيها من الخلائق والسجايا؛ لأنه يعطينا منها صورة كاملة لا تزيدها الإفاضة في الأخبار إلا في التفصيل.
ومن جملة الأخبار القليلة التي حُفظت لنا نعلم أن الزهراء أنجبتها أمٌّ ذات فطنة ورجاحة، وأنها رضي الله عنها كانت غنية اليد غنية النفس بأكرم العواطف الأنثوية: عاطفة المحبة الزوجية، وعاطفة الأمومة، وعاطفة الإيمان.
كانت تسمى في الجاهلية بالطاهرة وسيدة نساء قريش؛ لأنها جمعت إلى مكانة النسب العريق مكانة الثروة الوافرة ومكانة الخلائق الموقرة، وأهلها جميعًا لم يحفظ التاريخ سيرة أحد منهم إلا كان عَلَمًا في الحكمة والدراية، أو في الشجاعة والشمم، كورقة بن نوفل وأسرة الزبير بن العوام.
ولدت لأبوين كلاهما من أعرق الأسر في الجزيرة العربية، وكلاهما ينتهي نسبه إلى لؤي بن غالب بن فهر؛ بل كانت أمها تنتسب من ناحية أمها كذلك إلى هذا النسب المعرق في النبل والسيادة، فهي فاطمة بنت هالة التي ينتهي نسبها كذلك إلى لؤي بن غالب، وهالة بنت قلابة التي ينتهي نسبها إلى ذلك الجد الأعلى، وقد اجتمع لها مع النبل مكانة الثروة الوافرة كما تقدم، فكانت قافلتها إلى الشام تَعْدِل قوافل قريش أجمعين في كثير من الأعوام.
وأهم من هذا جميعه بالنسبة إلى زوجة نبي، وإلى جدة الأئمة من بيت النبوة، أنها كانت مفطورة على التدين وراثةً وتربية.
فأبوها خويلد هو الذي نازع تُبَّعًا الآخِر حين أراد أن يحتمل الركن الأسود معه إلى اليمن، فتصدى له ولم يرهب بأسه غيرة على هذا المنسك١ من مناسك دينه. وقال السهيلي في الروض الأنف: «إن تُبَّعًا رُوِّع في منامه ترويعًا شديدًا حتى ترك ذلك وانصرف عنه» فلا يبعد أن روعة خويلد ومرآه وهو ينذر العاهل بالغضب الإلهي إذا أقدم على فعلته قد شغل قلب التبَّع فتراءى له من المخوفات في منامه ما أرهبه وثناه عن عمله.
وابن عم السيد خديجة هو ورقة بن نوفل الذي رجعت إليه حين بدا لها من اضطراب النبي عليه السلام عند مفاجأته بالوحي ما أزعجها، فركبت إلى ورقة تسأله لعلمه بالدين وعكوفه على دراسة كتب النصارى واليهود، ولم تكن الكهانة الدينية وظيفة ينتفع بها صاحبها؛ إذ لم يكن في مكة مسيحيون يرجعون بأمرهم إلى كاهن أو كنيسة، وإنما كان عكوف الرجل على دراسة الدين لطبيعة فيه توحي إليه الشك في عبادة الأصنام، وتجنح به إلى البحث والمراجعة عسى أن يهتدي إلى عقيدة أفضل من هذه العقيدة. ويُنسب إليه شعر كان يقوله في الجاهلية يشبه شعر أمية بن أبي الصلت، ويروي كُتَّاب السيرة أنه استغرب علم السيدة خديجة باسم جبريل حين ذكرته له، وقال لها: «إنه السفير بين الله وبين أنبيائه، وإن الشيطان لا يجترئ أن يتمثل به ولا يتسمى باسمه.»
وقد جاء حديث ورقة مع السيدة خديجة على روايات مختلفة، لا يعنينا أن نستقصيها؛ لأن المهم في الأمر هو وجود هذا الشغف بمدارسة الأديان بين بني عم السيدة الأقربين، فهذا وانفراد أبيها بين زعماء مكة بالوقوف لعاهل اليمن والمخاطرة بنفسه غيرةً منه على مناسك الكعبة كافيان للإبانة عن طبيعة التدين التي ورثتها الأسرة، من كان منهم على الجاهلية، ومن تحول عنها إلى النصرانية.
ويؤخذ من أخبار السيدة خديجة الأخرى أنها كانت على علم بكل من يطالع كتب المسيحية والإسرائيلية؛ لأنها لم تكتف بسؤال ابن عمها بل سألت غيره ممن كانت لهم شهرة بالاطلاع على التوراة وكتب الأديان.
وقد رُوِيَ عنها كلامٌ قالته للنبي عليه السلام حين فاجأه الوحي فعاد إليها، وقال لها: «لقد خشيت على نفسي!» فكان كلامها — الذي أرادت أن تُسَرِّيَ به عنه وتُثَبِّت به جَنانه — آية على العلم بلباب الدين علمًا يُستكثر على الناشئين في أديان الجاهلية، فإن الدين لا يعدو أن يكون عندهم كهانة وسِحْرًا، ولكنها أدركت من حقيقة الدين ما لا يدركه عامة قومها، فعلمت أنه فضيلة، وأن النبي الجدير أن يُندب له هو الرجل الذي اتَّسَمَ بالفضيلة، وقالت للنبي وقد آمنتْ أنه وحي وليس بعارض من عوارض الْجِنَّة: «كلا! والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ،٢ وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وتَصدق الحديث، وتؤدي الأمانة.»
علامات للنبوة لا يدركها كل من يسمع بالدين، ولولا أنها عرفت من أبناء عمومتها من كان يفهم النبوة هذا الفهم لما كانت هذه علاماتها لتصديق الدعوة وصرف الوجل والخشية عن نفس زوجها الكريم.
وهي على هذا طبيعة مميزة، وليست طبيعة منساقة إلى السماع والتقليد، فمما نقل عنها أنها طلبت إلى النبي عليه السلام أن يخبرها إذا جاءه جبريل، فلما أخبرها قالت له: «قم فاجلس على فخذي اليسري» ففعل، فقالت: «هل تراه؟» قال: «نعم». قالت: «فتحوَّل إلى فخذي اليمنى» وسألته: «هل تراه؟» قال: «نعم». فألقت خمارها٣ وسألته، فقال: «الآن لا أراه». قالت: «يا ابن العم اثبت وأبشر، فإنه ملَك وما هو بشيطان.»
وهذا الاختبار غاية ما كان ينتظر من سيدة في عصرها أن تمتحن به حقيقة الوحي. ولا غرابة فيه عند المسلم وعند غير المسلم في العصر الحاضر، فإن البديهة لا تشتغل بالوحي الديني والنظر إلى جسد الأنثى في وقت واحد، ولا سيما بعد الحوار وإعادة السؤال مرة بعد مرة، فلا موجب إذن لشك المتشككين من المتحذلقين في صحة هذه الأحاديث.
وقد رُزقت هذه السيدة البارة صَباحة الوجه مع ما رُزِقَتْهُ من الخُلُق الجميل والحسب الأثيل٤ والمال الجزيل، وصدق من قال: إن السعادة لا تتم، فإن هذه السيدة التي تم لها غاية ما تتمناه المرأة لم تتم لها نعمة السعادة في حياتها الزوجية، فإنها تزوجت في صباها برجل من هامات٥ مكة هو أبو هالة بن زرارة، فمات ولها منه ولد صغير سُمِّي باسم هند (لعله دفعًا لأذى الحسد)، وهو الذي تربى مع السيدة فاطمة وقتل في جيش الإمام في وقعة الجمل على أرجح الأقوال، ويُؤثر عنه أوفى وصف للنبي رواه سبطه الحسن عليهما صلوات الله.
ثم بنى بها عتيق بن عائذ بن عبد الله المخزومي، واختلفوا في أي زوجيها كان الأول، ولكنه على كل حال زواج لم يُكتب له الدوام، وقد أعرضت عن الزواج بعد هذين الزوجين حتى عرض لها في حياتها الرجل الذي أصبحت بفضله عَلَمًا من أعلام النساء في التاريخ، ولا شيء أدل على رجاحة لُبِّها من أَنَاتِها٦ في اختيار زوجها، مع تهافت الخطاب عليها ورجوع الأمر إليها فيما تختار.
أما كيف اتصل النبي عليه السلام بالعمل في تجارتها، فتكاد الأقوال تتفق على أنه كان بمشورة من عمه أبي طالب، وأن أبا طالب قال له في سنة من السنين: «يا ابن أخي، أنا رجل لا مال لي وقد اشتد علينا الزمان، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالًا من قومك في عيرها فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك.» وقد تردد النبي في مفاتحتها بهذا الطلب فذهب إليها أبو طالب، فأجابته على رضى وكرامة، وقالت له: «لو سألت ذلك لبعيد بغيض لأجبناك، فكيف وقد سألت لقريب حبيب؟»
وقد سافر النبي إلى الشام وباع واشترى وربح لها أضعاف ما كانت تربح في كل عام، وأعجبها منه أنه حين عاد من السفر وَكَل إلى غلامها ميسرة — الذي كان بصحبته — أن يسبقه ليبشرها بعودة القافلة ووفرة كسبها، فأكبرت منه مروءته وأمانته وحِذْقَه، وأحبته وودت لو يخطبها مع الخطاب، وعرَّضت له بذلك في حديث أقرب إلى التلميح منه إلى التصريح.
وأحجم النبي حياء، وأحجمت هي عن التصريح، ثم أوعزت إلى صديقة لها — هي نفيسة بنت منية — أن تشجعه على الخطبة، فسألته نفيسة ذات يوم: «ما يمنعك أن تتزوج؟» قال: «قلَّة المال». قالت: «فإن كُفيت ودعيت إلى المال والجمال والكفاءة؟» قال: «ومن تكون؟» قالت: «خديجة!» قال: «فاذهبي فاخطبيها.»
وروى الزهري صاحب أقدم السير أن «رسول الله ﷺ قال لشريكه الذي كان يَتَّجِرُ معه في مال خديجة: «هلم فلنتحدث عند خديجة»، وكانت تكرمهما وتتحفهما، فلما قاما من عندها جاءت امرأة مستنشئة٧ — هي الكاهنة — فقالت له: جئت خاطبًا يا محمد؟ فقال: «كلا». فقالت: ولِمَ؟ فوالله ما في قريش امرأة — وإن كانت خديجة — إلا تراك كفؤًا لها.»
وأشبه الأشياء بأن يكون — بين الروايات المتعددة — أن النبي عليه السلام كاشف رئيس أسرته أن يتقدم لخطبتها ففعل وخطبها خطبة عزيز قوم لعزيزة قوم، وقال وهو يفاتح عمها في الأمر: «إن محمدًا ممن لا يُوازَن به فتى من قريش إلا رجح به شرفًا ونبلًا وفضلًا وعقلًا، وإن كان في المال قُلًّا فإنما المال ظل زائل وعارية مسترجعة، وله في خديجة بنت خويلد رغبة ولها فيه مثل ذلك» فقال عمها عمرو، أو ابن عمها ورقة بن نوفل في رواية أخرى: «هو الفحل الذي لا يُقدَع أنفُه».٨ وكانت أول امرأة تزوجها رسول الله، ولم يتزوج عليها في حياتها إلى أن قارب الخمسين.
ومن خديجة وُلِد للنبي جميع أبنائه ما عدا إبراهيم ابنه من مارية القبطية، وهم: القاسم، والطاهر، والطيب، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، أصغرهم باتفاق معظم الأقوال.
وكان النبي عليه السلام عند زواجه بالسيدة خديجة في نحو الخامسة والعشرين من عمره، أما السيدة خديجة فمن كُتَّاب السيرة من يقول: إنها كانت في الأربعين أو الخامسة وأربعين، ومنهم ابن عباس يقول: «إنها كانت في الثامنة والعشرين ولم تُجاوزها». وأحرى بهذه الرواية أن تكون أقرب الروايات إلى الصحة؛ لأن ابن عباس كان أولى الناس أن يعلم حقيقة عمرها، ولأن المرأة في بلاد كجزيرة العرب يبكر فيها النمو ويبكر فيها الكبر لا تتصدى للزواج بعد الأربعين، ولا يعهد في الأغلب الأعم أن تلد بعدها سبعة أولاد، عدا من جاء في بعض الروايات أنهم ولدوا مع من ذكرنا أسماءهم.
وقد يرجِّح تقدير ابن عباس غير هذا أن مثل خديجة تتزوج في نحو الخامسة عشرة أو قبلها لجمالها ومالها وعراقة بيتها وطمأنينة أهلها، فلا تتجاوز الخامسة والعشرين بعد زواجين لم يكتب لهما طول الأمد، وإن كنا لا نعرف على التحقيق كم من السنين دام زواجها من أبي هالة ومن عتيق بن عائذ، فمن الكلام عن ذريتها منهما يبدو أن أيامها معهما لم تزد على بضعة أعوام.
وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ.
وأمامنا ألف مصداق على هذه الآية في سيرة الرسول العظيم الذي تنزلت عليه تلك الحكمة الإلهية.
لقد تأخرت به قلة المال فلم يتزوج قبل العشرين، خلافًا لما جرى عليه العرف بين عِلْية القوم، وهو من تلك العِلْية في الذؤابة٩ العليا.
ولقد عزت الهناءة الزوجية على السيدة الغنية الوضيئة١٠ الذكية، فتأيمت١١ في نحو الثلاثين.
ولو كثر مال محمد لعله كان يبني قبل العشرين بكريمة معشر تصغره ببضع سنين، وكان هذا هو الحظ السعيد في عرف كل إنسان عاقل رشيد.
ولو تيسرت الهناءة الزوجية لخديجة لعلها كانت في غنى عمن يتجر لها ويؤتمن على قوافلها بين الحجاز والشام، ولكان لها من مالها ومال زوجها عون في الرحلة والمقام، وكان هذا هو الحظ السعيد في عرف كل إنسان عاقل رشيد.
أيهما كان خيرًا؟
هذا الذي كان كما كان، أو ذاك الذي كان يحسبه كل عاقل رشيد صفوة الحظ الحسن الرشيد؟!
لم تمض سنوات على هذه الآصِرة١٢ القدسية التي جمعت بين الزوجين الكريمين حتى طرأ طارئ لم يدخل لهما في حساب، واستجاش الغيب نفس رسوله فتحفزت لأداء الأمانة الجُلَّى التي جاشت بها جوانح الدنيا مئات السنين.
فلم يجد محمد إلى جانبه فتاة غريرة تفزع ولا تدري ما تصنع، بل وجد إلى جانبه قلبًا كريمًا وروحًا عظيمًا وسكَنًا تهدأ عنده جائشة ضميره وتطمئن إليه خشية فؤاده، ولم يكن قصارى الأمان عند حليلته التي سكن إليها أنها حنكة السن وحنان الأمومة، ولكنه أمان الذي يعرف من نشأته ونشأة آله ما الرسالة وما أمانة الحق والفضيلة، وما عاقبة الصبر على العُرَواء١٣ التي تندك لها عزائم وتطيش لها أحلام، ولا يتلقَّاها كما يتلقى البشارة المفرحة إلا من هو كفؤ لها من بني آدم وحواء.
وكل ما علمناه من سيرة خديجة عليها الرضوان خليق على قِلَّتِه أن يجعلها بحق سيدة نساء قريش، ولكن هذا القليل الذي علمناه لو ذهب كله ولم يبق منه إلا أيام حضانتها لبشائر النبوة في طلعتها لضمن لها أن تتبوأ مقام السيادة بين نساء العالمين.
وقد بقي محمد يذكر لها تلك الأيام إلى مُخْتَتَم أيامه، وظل يَتَفَقَّدُها ويَتَفَقَّدُ مواطن ذكراها أعوامًا بعد أعوام، لقد كان فيها الشغل الشاغل عن أطيب الأيام وأصعب الأيام. وإن وفاء كهذا لهو وحده كفاية المستقصي في التعريف بحقها من زوجة بارة وأم رءوم، فما من شهادة لإنسانة هي أصدق من دوام الوفاء لها في قلب إنسان عظيم.
هوامش
١ المنسك: الموضع يأتيه الإنسان ويتردد إليه في خير كان أو غيره، ومناسك الحج عباداته.
٢ الكَلُّ: الثقيل لا خير فيه.
٣ الخمار: بكسر الخاء: النصيف وهو ما تغطي به المرأة رأسها.
٤ الأثيل: القديم، المؤصل.
٥ هامات: الهامة: الرأس من كل شيء.
٦ أناتها: الحلم، والرفق، والتؤدة.
٧ مستنشئة: استنشأ الرجل: بحث عنها وتطلَّبها وتتبعها.
٨ يُقْدَع أنفُه: قدع الرجل صاحبه؛ منعه وكفه. والفرس كبحه.
٩ الذؤابة: ضفيرة الشعر المرسلة. ومن الجبل أعلاه. وفلان ذؤابة قومه، أعلاهم وأشرفهم.
١٠ الوضيئة: الحسنة النظيفة.
١١ فتأيمت: المرأة بلا زوج؛ بكرًا أو ثيبًا.
١٢ الآصِرة: حبل صغير يشد به أسفل الخباء. وما عطفك علي رجل من قرابة أو معروف.
١٣ العُرَواء (بضم ففتح): قرة الحمَّى، ومسُّها أول رعدتها.