تفتح وعيي منذ الصغر على أنغام دقة الزار وأغاني الزار ومناجاة الكودية عزيزة لأسيادها، ودخان البخور الذي يملأ بيتنا برائحته العطرة، وأمي وحكايات أمي عن الجن والعفاريت، وإيمانها بكل ما تنطق به الكودية عزيزة، ووقوفنا طابورًا أنا وإخوتي أمام الكودية عزيزة يوم الجمعة من كل أسبوع لتبخرنا بعين العفريت وترقينا وتباركنا، وكنت أستغرب رضوخ إخوتي وطاعتهم لأمي والكودية عزيزة برغم فارق السن الكبير بيني وبينهم، فأقربهم لي في السن هي أختي مُنية وكانت تسبقني بسبعة أعوام، ويكبرها عاصي بخمسة أعوام والذي يكبره رضوان بعامين.
كان عمري في ذلك الوقت حوالي خمسة أعوام، ولكني أتذكر تلك الفترة من حياتنا جيدًا.
أتذكر أزياء عزيزة كودية الزار وفرقتها، أتذكر أمي وبكاءها وانفعالها وضحكها وإغماءاتها وسط ضجيج الزار، بجلبابها الأبيض المبقع بدماء الديك الرومي المذبوح والفستان الأبيض أبو حزام أحمر الذي حاكته أمي لي لأرقص به معهم في ليالي الزار، وأختي الكبيرة التي حاكت لها أمي أيضًا فستانًا لترقص به وإخوتي الصبيان الذين كانوا يرتدون الجلباب الأخضر ويلتفون معنا في حلقة الزار، ودقاتها التي لا تنتهي.
كنا دَومًا في زحام؛ فبيتنا لا يخلو من الزوار؛ فقد كانت أمي بطبعها اجتماعية، حكاياتها لا تنتهي وخصوصًا إذا ما كانت تلك الحكايات عن الجن والعفاريت، وبسم الله الرحمن الرحيم حابس حابس يكفينا شر المِلابس!
كنا نسكن في بيت العائلة ولكن كُلٌ له شقته، وكانت شقة أبي هي الأصغر، ولكن أبي قد جعلها على طراز الأرابيسك بغرفة مضايفة كبيرة في مواجهة المدخل لتسع زوار أمي؛ فقد كان يحبها حبًا شديدًا بل يعشقها برغم عدم إيمانه بمعتقداتها وكثرة خلافاتهما بسبب تدخل عزيزة الكثير في جنبات حياتنا، إلا أنه كان يرضخ لها في النهاية فهي نعمة القلب كما كان يناديها، وما تبقى كان ثلاث غرف، غرفتي وأختي، وغرفة أخَوَاي، وغرفة أبي وأمي، وبالطبع الحمامان، والمطبخ، ونعم هي لا تبدو كشقة صغيرة، ولكنها كانت أصغر شقق العقار التي تميزت بمساحاتها المبالغ فيها وكثرة الحمامات بها، وحتى الآن لا أعلم سبب ذلك!
كنا نبدو كأسرة سعيدة، وبالفعل أنا كنت سعيدة في تلك الفترة، ولكننا كنا دَومًا مختلفين، وبرزت تلك الخلافات أكثر بعد ما حدث!
من أبرز الضيوف الذين كانوا يأتون إلينا -بل لم تكن ضيفة فقد كانت صاحبة منزل- زوجة عمي الكبير أو طنط سنية أم الأنوار، وأم الأنوار هو اسم الجنية التي كانت تحضر عليها لما جسمها يشيل ويقشعر من بخور وتعاويذ عزيزة، كانت طنط سنية امرأة في أواخر الثلاثينيات، بيضاء كورقة، كبيرة المقاعد حين تمشي وتتبختر يخيل إليك أن هناك أطفالًا يتأرجحون في الخلف!
وحمدًا لله فهي لم تكن تمشي كثيرًا فبسبب وزنها الذي فاض وكفى من كتر العز وأكل الوز اللي بيهز، كانت تكتفي بالجلوس في مكانها المعهود متربعة في منتصف غرفة ضيافتنا وبجانبها كل ما تحتاج حتى يحين موعد وصول عمي، فتنادي على صباح وإخوتي والجيران ليعينوها على القيام من مكانها، وقد كانت بشوشة الوجه ضحاكة، ومنافسة أمي الأولى، فقد كانتا دائمًا في مباريات ومبارزات على من هي الأكثر قربًا للأسياد واللي جسمها محمل أكتر من التانية وبيحضر عليها الجن أسرع، وغالبًا ما كانت طنط سنية تربح حين تحضر عليها أم الأنوار ذات الضحكة المجلجلة أم قصعة يهتز لها البيت على واحدة ونص!
وكانت عزيزة تستفيد من كل ذلك.