تحت ضوء القمر، وسكون الليل، وحفيف أوراق الشجر الصفراء، وكأنها لم تستطع أن تتحمل البقاء على قيد الحياة أكثر من هذا؛ فأهملت نفسها لتهوي من الشجر، وترتطم في الأرض، ليحركها الهواء كما يشاء كأنها هرمت من تشبثها في الحياة.
كان يقف شاب في المقابر، وتحديدًا أمام قبر صديقه الذي وافته المنية هذا الصباح؛ إثر حادث أليم، كان يقف لا يتحدث، دموعه هي التي تتحدث بالنيابة عن الكلمات، يبكي بحرقة، التشقق الذي يظهر في عينه، وقد مزج باللون الأحمر يعكس كم بكى على فقدان أعز رفقائه.
حقًا هناك سؤال يبادر ذهني، لماذا عندما يموت إنسان ويرحل عن الدنيا، نعترض على الموت.. نبدأ بإلقاء اللوم عليه، لماذا أتى الموت؟ لماذا لم يتركه؟ لماذا نسأل هذه الأسئلة؟!
أليس الموت حقًا؟! أليس كل شخص سوف يواجه الموت ويقابل ملك الموت في يوم من الأيام؟!
كنت أسخر من الأشخاص الذين يقولون هذا الكلام، ولكن اليوم أدركت بأن هذا لا يدل على الاعتراض أو حتى رفض الموت، لكن يدل على الحُب، نعم فقدان الأشخاص الذين نحبهم هو كسرة ظهر، لا نعترض على الموت ولكن نحزن أن هذا الشخص لن نقابله مجددًا، لن نراه، لن نلمسه؛ فهو ليس مسافرًا كما كانت تقول لنا الأمهات في الصغر عندما يرحل شخص مقرب لنا ويموت، نسأل الأم أين ذهب؟!، فتقول لقد سافر، ونظل ننتظر رجوعه متعلقين بوهم لطالما حلمنا أن يكون حقيقة، ثم تأتي الحقيقة كصفعة على وجوهنا عندما نكبر، ونعلم أن الشخص الذي انتظرناه العديد من السنوات لن يعود مجددًا؛ هكذا شعور الإنسان عند رحيل أقرب الأشخاص إلى قلبه.
فقد كان الشاب لا يقوى على تحمل فراق صديقه ورفيق سكنه في الجامعة، سقط على ركبتيه؛ فلم يقوَ على الوقوف، فقد رحل الجميع بعد أداء صلاة الجنازة والدفن ولكنه ظل مع صديقه، وها هي تخرج الكلمات أخيرًا من حلقه وكأنها كانت مقيدة بسلاسل تمنعها من الخروج، صديقي، أخي الذي لم تلده أمي، لا أعرف ما الذي تمر به الآن وأنت في أحضان التراب، لا يوجد معك أحد، ولا ينفعك أحد، كل الذي أستطيع أن أقدمه لك هو الدعاء وقراءة القرآن، لن أنساك أبدًا يا صدي....
صوت ضجيج صدر فجأة، جعل يوسف يتصلب في مكانه، لا يوجد أي ضوء سوى ضوء القمر، ما هذا الصوت؟! يبدو أنني أتوهم.
صدر صوت طرقات عنيفة مع صوت ضجيج؛ فزع يوسف ونهض وأخذ ينظر حوله بحذر، توقف الصوت، ولكن لم يكن هذا وهم.
على ضوء القمر الضعيف بدأ يبحث من أين أتى هذا الصوت، كانت قطرات العرق تملأ وجهه وجسده يرتعش، تكرر الصوت مجددًا؛ صوت صراخ مكتوم، طرقات عنيفة.
هنا... الصوت يصدر من هنا، وقف يوسف أمام أحد القبور، اقترب شيئًا فشيئًا؛ صدر الصوت مجددًا، وكأن هناك مَنْ يُعَذَّبُ أسفل هذا القبر؛ ويريد أن يهرب مما يلقاه.
لم يتمكن يوسف أن يظل هناك بمفرده، ركض بسرعة إلى غرفة التربي؛ التي تقع بالقرب من المقابر.
طرق يوسف الباب بعنف، وكأن ملك الموت يلاحقه ويريد الهرب منه، عدة طرقات متتالية؛ استيقظ التربي وفتح الباب، كان النوم ما زال عالقًا في عينيه، فتح عينًا واحدة فقط، ولم يتمكن من فتح الأخرى، نظر بتعجب وغضب، من الذي يطرق عليه في هذا الوقت؟! ولماذا يطرق بهذه الطريقة!
_ من أنت؟! ولماذا تطرق هكذا؟
_أنا يوسف يا عم فرج.
_يوسف من؟
_انظر إليَّ جيدًا، أنا من دفنت صديقه اليوم.
_نعم نعم، وماذا حدث، لماذا ترجف هكذا؟، أصبح وجهك شاحب، هل رأيت شبحًا؟!
_لا يا عم فرج، ولكن سمعت صوتًا، نعم، هناك صوت يصدر من أحد القبور، أرجوك تعال معي، يجب أن تسمع هذا.
_آه يا بني، يبدو أن حزنك على فراق صديقك جعلك تهلوس؛ وهذا بالتأكيد من قلة النوم، اذهب واسترح يا بني.
_لا، لا أهلوس، أرجوك، فقط تعال معي، وإذا لم تسمع شيئًا؛ فسنتأكد إذا كنت أهلوس أم لا!!
نظر العم فرج بإرهاق ليوسف الذي يرتجف أمامه؛ وبعدها قرر.
_حسنًا، حسنًا هيا بنا.
حمل المصباح في يده، وذهب مع يوسف.
_هنا يا عم فرج، الصوت صدر من هنا.
اقترب العم فرج من القبر، وانتظر دقيقة كاملة ولكن لم يصدر أي صوت، نظر إلى يوسف وقال:
_تأكدت الآن أنك فقط تهلوس.
فجأة صدر صرااخ مكتوم، وأصبحت الطرقات أشد عنفًا من قبل، أصبح الضجيج يصل إلى مسامعهم بوضوح.
فزع كل من يوسف، والعم فرج
قال يوسف بصوت متقطع:
_ سم .. سمعت هذا الصو..ت، نعم لا أهلوس.
تعجب العم فرج، وقال:
_ من صاحب هذا القبر؟
رفع المصباح ليرى اسم صاحب القبر، ولكن لا يوجد أي اسم.. كيف هذا؟!
_لا يوجد أي اسم يا يوسف؛ لهذا يجب أن نفتح القبر.
_ ماااذا؟ لا، هذا جنون.
_ليس جنونًا؛ ربما هناك من وقع بالخطأ في هذا القبر.
ذهبا وأحضرا أدوات للحفر، وعادا للقبر مجددًا، بدآ في الحفر، ومع الوقت أصبح الضجيج أوضح من قبل بكثير؛ وهنا وجدا تابووتًا.
تقدم العم فرج ويوسف ليفتحا التابوت؛ وهنا كانت الصدمة!
فتاة ترتدي قميص نوم أبيض ممزقًا، وملطخًا ببقع الدماء، هناك قيود على قدميها ويديها، وجهها به بعض الجروح والدماء الجافة، هناك ربطة حول فمها، تبكي بحرقة، وجهها شاحب؛ إذ كادت تختنق من قلة الأكسجين.
أزال العم فرج ويوسف القيود، وأخرجاها من هذا التابوت، وهنا فقدت الوعي، حملها يوسف إلى غرفة العم فرج، وضعها على السرير، وقاما بتغطيتها.