يدعونا هذا البحث إلى تعريف الديمقراطية التي نشأت قبل الدعوة الإسلامية كي نتبين ما جاء به الإسلام من هذا النظام غير مسبوق إليه، ونتبين بالمقابلة بين النظام القديم والنظام الجديد ما فيهما من مواضع الاتفاق ومواضع الاختلاف.
فكيف كانت الديمقراطية قبل الإسلام؟ وما هي؟ وما مدلولها من لفظها ومعناها؟
إنها كما هو معلوم كلمة مركبة من كلمتين باللغة اليونانية معناهما: حكم الشعب، فماذا نفهم من حكم الشعب أو من الحكومة الشعبية؟ هل هي الحكومة التي يتولاها الشعب بنفسه؟ هل هي الحكومة التي يرتضيها الشعب ويطمئن إليها؟
من تجارب الحكومات التي سميت باسم الحكومات الديمقراطية في بلاد اليونان والرومان يبدو لنا أن الحكومة التي يتولاها الشعب بنفسه لم توجد قط ولا يمكن أن توجد، ولو كان الشعب قليل العدد كما كان في المدن اليونانية، ويجوز لنا أن نعتبر أن التسمية هنا تسمية سلبية يراد بها أن الحكم الديمقراطي غير حكم الفرد المطلق وغير حكم الأشراف وغير حكم الكهان وغير حكم القادة العسكريين وما عدا ذلك من ضروب الحكم التي ليس للشعب فيها نصيب.
فإذا قيل: «الحكم الديمقراطي» فهم منه في ذلك الزمن أنه حكم لا يستبد به فرد واحد ولا طبقة واحدة، وأنه غير ضروب الحكم الأوتوقراطية والأرستقراطية والتيوقراطية والأوليجاركية والعسكرية وما إليها، فيجوز من ثم أن تكون التسمية كما قلنا تسمية سلبية على هذا الاعتبار.
وإذا قلنا إن الحكومة الشعبية هي الحكومة التي يرتضيها الشعب ويطمئن إليها، فقد يكون هذا التعريف صحيحًا من بعض الوجوه ناقصًا من عدة وجوه.
فقد ارتضت شعوب الأقدمين أحكام المستبدين وأطمأنت إليها، وقد كان بعض المستبدين معبودين يخولهم الرعايا حقوق الأرباب، ويحسبون ظلمهم حقًّا لهم لا محل للاعتراض عليه، وعلى هذا المعنى يمكن أن يقال: إن الأمم لم تعرف نوعًا من الحكم غير الحكم الديمقراطي منذ وجدت بينها الدول وقام بأمرها أصحاب السلطان، فمن سلم لهم بالسلطان المطلق خضع لأمرهم وصبر على بلائهم، أو كان شأنه في الاعتراض والانتقاض كشأن المذنبين المعاقبين في أفضل الحكومات، ينقمون ويغضبون كما ينقم الناس ويغضبون من العقاب والعذاب، ولكنهم لا يجدون لهم نصيرًا على الشكوى، ولا يستنكرون مصابهم فضلًا عن إنكار الآخرين لذلك المصاب.
ليس بالصحيح إذن أن يقال: إن الديمقراطية هي حكم الشعب، بمعنى أن الشعب يتولى بنفسه شئون حكومته، وليس بالصحيح كذلك أن الحكومة الديمقراطية هي الحكومة التي يرتضيها الشعب ويطمئن إليها، فلا بدَّ من صفة أخرى غير هاتين الصفتين لتمييز الديمقراطية من الأنظمة المخالفة لها، ولا بدَّ من الرجوع إلى الواقع لبيان هذه الصفة التي تصدق على الديمقراطية في عرف الأقدمين.
بدأ النظام الديمقراطي في إسبرطة من بلاد اليونان، ولم يبدأ في أثينا موطن الفلاسفة وأصحاب الدراسات الفكرية، وتقرير هذه الحقيقة مهم جدًّا للعلم بطبيعة النظام الديمقراطي الذي نشأ في ذلك الزمن، فهو نظام عملي قائم على ضرورات الواقع، وليس بالنظام الفكري القائم على توضيح المبادئ وتمحيص الآراء.
وكان ابتداء هذا النظام على يد ليكرغ Lycurgues في القرن الثامن قبل الميلاد، ويروى أنه ذهب إلى معبد دلفي ليستشير الآلهة في وضع نظامه، فقال له الوحي: إنه محبوب الآلهة، وإنه مأذون بوضع النظام الذي يرتضيه، وخلاصة نظامه أن يقوم على الحكم ثلاثون زعيمًا منهم ملكان اثنان لهما سلطان واسع في أيام الحرب ولا يمتازان بسلطان كبير في أيام السلم بين سائر الزعماء، ويجري انتخاب الزعماء بطريقة توافق ذلك الزمن، فيوضع الكتبة في مكان مغلق بحيث يستمعون منه إلى الأصوات من وراء الجدران ولا يبصرون شيئًا في خارجها، ويجتمع الشعب من حاملي السلاح في ساحة قريبة إلى ذلك المكان، ثم يتقدم المرشحون واحدًا واحدًا وكلهم ممن بلغ الستين أو جاوزها، فكلّما تقدم واحد منهم سجل الكتبة نصيبه من ضجة الأصوات الخارجية، فيذكرون مثلًا أن الأول ظفر بضجة عالية وأن الثاني ظفر بضجة أعلى منها أو دونها، وهكذا إلى نهاية المرشحين، وهم لا يعلمون ترتيبهم ولا يسجلون عددًا للأصوات التي نالها كل منهم؛ لأنها مجهولة لديهم لا يفرقون بينها بغير اختلاف الضجة الخارجية في الارتفاع والقوة والخفوت.
ويختار الثلاثون الأولون بهذه الطريقة فينظرون في الشرائع ويشرفون على الوظائف، ويعرضون القوانين على الشعب في ساحته الكبرى فيقر القوانين أو يرفضها، ولا يجوز له أن ينقحها أو يبدل نصوصًا منها بنصوص غيرها، وقد يرفض الشعب قانونًا ويصر مجلس الثلاثين على نفعه فينفذ على الرغم من المشيئة الشعبية، ولا يعاد النظر فيه إلا باقتراح الزعماء.
وكان ليكرغ هو الذي يشرع الشروط التي يؤخذ بها وكلاء الشعب بعد انتخابه، فكان يلزمهم أن يقسموا بينهم ثروتهم، ولا يزيد أحدهم على الآخر بالملك والمال، وربما نقموا منه شدته في هذه الشروط فثاروا عليه ورجموه بالحجارة، ولكنه كان يحتمي منهم بالشعب في هذه الحال، وقد حماه الشعب مرة؛ لأنه رآه مجروحًا يسيل الدم من عينه، ويوشك إن يعتدي المطاردون له على حياته.
أما في أثينا فقد كانت حكومة الشعب أمانة في أيدي أفراد من الحاكمين بأمرهم أشهرهم: صولون Solon وبزيستراتس Pisistratus وكليستنس Cleisthene وبركليس : Pericles.
وقد ابتدأت حركة الإصلاح على أيديهم بعد ابتدائها في إسبرطة بأكثر من مائة سنة، وافتتحها صولون بتشريعاته ودساتيره؛ لاتقاء الفتنة، وقمع المطامع التي تمادى فيها أصحاب الأرض والمال، وما زال هذا الإصلاح يتسع حتى شمل الزراع وعمال الملاحة على الخصوص؛ لأن انتصار اليونان على الفرس في وقعة سلاميس يرجع الفضل الأكبر فيه إلى الملاحين.
وكان الدستور الأثيني في أوجه يكل الأمر إلى جماعة من خمسمائة عضو منتخب يشترك في انتخابهم أبناء البلد الأحرار، ويختار خمسين من كل قبيلة من القبائل العشر، وكل قبيلة تشتمل على السكان في أماكن شتى، ولا تنحصر في سلالة معينة ولا في مكان واحد، ويجري الحكم على التناوب كل خمسين عضوًا في نوبة، ويقع الاختيار على قاض من كل قبيلة للفصل في الخصومات والحكم في الجنايات، وكان صولون يرشح الأغنياء لوظائف القضاء، حماية لهذه الوظائف من غواية الرشوة والحاجة. أما القواد العسكريون: فلا ينتخبون؛ بل يختارون برأي وكيل الشعب الحاكم بأمره، وكذلك من يناط بهم النظر في السياسة الخارجية.
وقد كان أرسطو لا يرضى عن هذا النوع من الديمقراطية، ويحسبه انحدارًا من حكم الكثرة إلى حكم الواحد، وكان أستاذه أفلاطون من قبله يرى أن نظام الوكيل المفوض خطوة بين الملكية المطلقة وحكومة الأشراف ثم الحكومة الشعبية، فعدل عن رأيه هذا بعد مراقبته للتجارب السابقة واللاحقة، واعتقد أن الوكيل المفوض نتيجة لازمة لغلبة الدهماء والجهلاء، ومن هنا امتزجت الكلمة بمعناها السيئ، وأصبحت مرادفة للطاغية كما نفهمها في الاصطلاح الحديث.
من هذه الخلاصة السريعة نرى أن الديمقراطية كانت في اليونان القديمة من قبيل الإجراءات أو التدبيرات السياسية التي تتقى بها الفتنة ويستفاد بها من جهود العامة في أوقات الحرب على الخصوص، ولم تكن هذه الديمقراطية مذهبًا قائمًا على الحقوق الإنسانية أو منظورًا فيه إلى حالة غير حالة الحكومة الوطنية، فهي على الجملة إجراء مفيد وتدبير لا محيد عنه لاستقرار الأمن في الدولة، وعلى هذا التقدير نظر إليه المؤرخ اليوناني الكبير هيرودوت فقال: إن «الأثينيين كانوا لا فضل لهم على من جاورهم في الشجاعة أيام خضوعهم للطغاة، فما هو إلا أن نفضوا عنهم نيرهم حتى تقدموا إلى الرعيل الأول بين الجميع، وتبين من هذا أنهم رضوا بالهزيمة حين كانوا مقهورين يعملون للسيد المسلط عليهم، فلما ملكوا زمامهم حرص كل منهم على أن يبذل غاية ما في وسعه لنفسه.»
•••
ولم يتغير معنى الديمقراطية هذا حين تعرض الفلاسفة للكتابة في أنواع الحكومات، فقد كانت التفرقة بين نظام من الأنظمة الحكومية ونظام آخر تفرقة في النفع والضمان، وكانت المساواة التي ترددت في كتب الفلاسفة مساواة وطنية وليست مساواة إنسانية، فقصروها على أبناء اليونان ولم يشركوا فيها الغرباء أحرارًا كانوا أو أرقاء، وكانت خلاصة فلسفة أفلاطون الحكومية: أن الرعية بمثابة القاصرين الذين لا يزالون بحاجة إلى الأوصياء، ويجوز في حكمهم أن يخدعوا كما يخدع الأطفال بالحكايات والأساطير، وتكلم أرسطو عن المساواة في الحرية بين المواطنين كأنها ضمان لصلاح الحكم لا شأن له بالحقوق الإنسانية التي يستحقها كل إنسان في كل أمة.
ومعلوم أن رومة القديمة كانت تتتلمذ على فلاسفة اليونان في البحوث الفكرية ومنها بحوث الحكومة، ولكن هذه البحوث لم يكن لها أثر في تقرير نظام الحكومة؛ بل كانت كلها لاحقة لأطوار الحكم، ولم تكن سابقة لها في وقت من الأوقات.
وقد استطاع الشعب أن يحصل على بعض الضمانات التي يعتمد عليها في مراجعة ذوي السلطان، وأصبحت موافقة وكلائه على الأحكام الكبرى لازمة في بعض التعديلات التي أدخلت على الشريعة الرومانية بعد ثورة الشعب غير مرة، ولكنها كانت كلها ضمانات سلبية للمنع والوقاية لا للفعل والتوجبه، وبقي التصرف في الأموال العامة والسياسة الداخلية والخارجية مقصورًا على النبلاء، وربما تولاه حاكم مفوض يختاره مجلس الشيوخ لوقت محدود، ولم يزل الكلام على الحق السياسي ملحوظًا فيه «المواطن الروماني» دون غيره من البشر، وهو المقصود بالكلام على المساواة القانونية بين الناس، وقد تكلم شيشرون بلهجة التوكيد عن المساواة الطبيعية بين الناس في كتابه الموسوم بالقوانين، وقال: «إننا مولودون للعدل وإن الحق مستمد من الطبيعة لا من أفكار الناس، وإن هذه الحقيقة تتضح أمامك على الأثر حيث تنظر إلى عشرة الناس واختلاط الإنسان ببني نوعه، فما من شيء هو مشابه لشيء ومعادل له كما يتشابه كل منا … ومهما نطلق على الإنسان الواحد تعريفًا معينًا له فهو منطبق على جميع البشر، وإنه لبرهان كاف على أنه لا فرق في النوع بين إنسان وإنسان.»
إلا أن المساواة في هذا الكلام أشبه بالمساواة في حدود التعريفات المنطقية والصفات الطبيعية، ولم يستوجب به شيشرون أمرًا غير الرجوع بالقوانين إلى الطبيعة وإجراء الأحكام على سنن العدل والمساواة، وأن يكون هو الضابط للعلاقات بين المواطنين في كل وطن، وهذه نزعة ترددت في أقوال المشرعين والفقهاء من الرومان لاشتغالهم بتأسيس قواعد القوانين، وكلهم مجمعون على أن قانون الطبيعة عام بين الإنسان والحيوان فضلًا عن عمومه بين بني الإنسان، وفي ذلك تقول فاتحة المجموعة التي وضعت على عهد جستنيان لتعليم طلاب الفقه: «إن قانون الطبيعة هو الذي علمته جميع الأحياء ولم يختص به بنو الإنسان، بل يشركهم فيه كل حي يطير في الهواء، أو يمشي على الأرض، أو يسبح في الماء» ثم تقول: «إن قانون رومة وقوانين الأمم تختلف؛ لأن قوانين كل أمة تحكمها العادات والمأثورات بعضها خاص بها وبعضها مشترك بينها وبين سائر بني الإنسان.»
وعلى أية حال لم يتقرر قط في دساتير المجالس الرومانية أن تتساوى جميع الطبقات في حقوق الانتخاب وحقوق الحكم، ولم يتوسعوا في حق «المواطنة» إلا لتجدد الحاجة إلى الجند من العامة، فتكررت في رومة أسباب الاعتراف للعامة ببعض المبادئ الديمقراطية، ووصلت هذه الحقوق إلى الجنود الرومان بعد اتساع الدولة واحتياجها إلى الجيش القائم، كما وصلت في أثينا إلى الملاحين ونظرائهم بعد وقعة سلاميس، وظل الجيش الروماني عاملًا قويًّا في إقامة العواهل والأمراء، فبلغ بالسيطرة الفعلية ما لم يبلغه بمبادئ الدساتير.
ونحن نقرر هذه الحقيقة عن أسباب الحقوق الديمقراطية عند الرومان واليونان؛ لأننا أردنا الكلام على النظام الديمقراطي الذي نشأ قبل الدعوة الإسلامية، ولكننا في حل من أن نستطرد مع الزمن إلى أحدث العصور، فنقرر أيضًا أن هذه الأسباب هي بعينها أسباب الحقوق الديمقراطية بين أحدث الأمم وأشدها إيمانًا بالحكومة النيابية، فعمال المدن الإنجليزية لم يخولوا حق الانتخاب في سنة ١٨٦٧ إلا لأنهم أصبحوا قوة لازمة للدولة في المصانع، ولم يظفر عمال الريف بمثل هذا الحق إلا بعد ذلك بثماني عشرة سنة؛ لأن خطرهم أهون من خطر عمال الصناعة في العواصم، ولمثل هذه الأسباب خولت المرأة حق الانتخابات بعد الحرب العالمية الأولى؛ لأنها اشتغلت بأعمال المصانع أثناء غياب الجند في ميادين القتال.
فمن الواضح إذن أن الديمقراطية قديمها وحديثها لم تقم على الحق الإنساني المعترف به لكل إنسان، وأنها كانت إلى الضرورة العملية أقرب منها إلى المبادئ الفكرية والأصول الخلقية، وأنها لم تكن في الأمم القديمة تعني حكم الشعب بمعنى مباشرة الحكم أو إنابة أحد من الشعب نفسه لولاية الأمور العامة، ولكنها كانت سلبية يفهم منها أن الحكم لا ينحصر في يد فرد ولا في يد طبقة واحدة، ولا يفهم منها أن الشعب منفرد بالسلطان أو غالب عليه.
هذه الديمقراطية التي تفرضها الضرورة يتساوى فيها فضل التشريع وفضل الطبيعية، فلا فضل لأحد في حرية الطائر أو حرية البدوي الذي ينطلق بين مراعي الصحراء، ويعتمد على حق لم يأخذه من دستور ولا من إنسان، ولا فضل كذلك للتشريع الذي يعطي حقًّا كذلك الحق ضرورة يمليها الواقع قبل أن يمليها دستور أو صاحب سياسة، فكل هؤلاء قد أخذوا ما لم يعطه أحد ولا يستطيع أحد أن يمنعه، وليس هذا هو المقصود حين نبحث عن الفضل في تقرير الحقوق وإقامة الدساتير.