tafrabooks

Share to Social Media

من رغباتي التي كنت أرددها في نفسي كلما راجعت أسماء الكتب التي أترقب الفراغ لتأليفها، أن أدرس تاريخ الدعوة الدينية كما تجلت في رسالات أكبر دعاتها في العالم الإنساني: إبراهيم الخليل وأبنائه، والكليم، والمسيح، ومحمد — عليهم السلام.
هذه الظاهرة الإلهية — دعوة النبوة — ظاهرة فريدة في العالم الإنساني لم تظهر بين الأمم في غير السلالة السامية، ولا بد لها من سبب تكشف عنه دراسة النبوات في هذه الأمم.
وسببها من جانبها التاريخي فيما ظهر لنا من المقارنة الطويلة بين الديانات، أنَّ النبوات الكبيرة كانت ترتبط بمدن القوافل؛ لأنَّها بيئة وسطى بين الحضارة والبداوة، وكذلك كانت أور، وبعلبك، وبيت المقدس، ومكة، ويثرب، ومَدْين، ومحلات الطريق في جنوب فلسطين وشمال الحجاز، وهي بيئات لا إلى حضارة المدن التي تعول في تشريع الحقوق على نظام الدولة، ولا إلى بداوة الصحراء التي تعول في تشريع الحقوق على سنة الثأر والغلبة، ولكنها — مدن القوافل — وسط بين الجانبين، مع حاجتها إلى تقرير الحقوق في كل لحظة، لدوام المعاملات واشتباكها، ولكثرة الطارقين ذهابًا وإيابًا، ممن يجدون المال، ويبحثون عن المتعة العارضة، ويحاول كل منهم أنْ يغلب صاحبه في سوق الأخذ والعطاء، وحلبة الخداع والادعاء.
ولهذا تترقب مدن القوافل مصدرًا للهداية غير مصدر الشريعة الحكومية، وغير مصدر النقمة والتغلب بين الغاصب والمغصوب، والعادي والمعتدى عليه؛ وذلك هو مصدر الهداية النبوية في بيئة وسطى، تهيأت لها حماسة النفوس في البادية، وشعور النفوس بقيمة العهد ورباط الأمانة في كل علاقة واسعة، كالعلاقة التي ترتبط بالقوافل المترددة على مسافات بعيدة.
ومما وُفقتُ إليه، مغتبطًا بهذا التوفيق، أنني اهتديت إلى حكمة هذه الظاهرة في سيرة الخليل إبراهيم، وسيرة محمد، والمسيح — عليهم السلام، وكل هذه السير ظهر في حينه، فظهر من استقبال العالم له، أنَّه لم يكن رغبة من رغباتي القوية وحسب، بل كان على التعميم رغبة قوية لقراء العربية في مختلف الآراء والنِّحل، لا نحسبها برزت في استقبال كتاب حديث، كما برزت في استقبال هذه الكتب الثلاثة، مما ألفناه خلال السنوات الأخيرة.
وكان من الواجب أن تظهر هذه الطبعة من هذا الكتاب قبل الآن، لولا أنَّ الفترة الأخيرة قد ازدحمت بالمؤلفات والكشوف الأثرية، التي تستمهل كل مؤرخ للسيد المسيح ولعصر الدعوة المسيحية، أملًا في الوقوف على جديد يُضاف إلى تاريخ الداعي أو تاريخ الدعوة، أو توقعًا لتوكيد شيء من القديم يحتاج إلى توكيد أو إلى تعقيب.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.