طرق البحث في روح السياسة
تستنبط سنن روح السياسة كبقية العلوم من الأعمال والحوادث ثم من تفسيرها، ومشاهدة الحوادث واختبارها في عالم السياسة أسهل من تفسيرها، أي من تعيين عللها وكشف نتائجها قبل وقوعها، فلم يخفَ انكسار جيوشنا في حرب سنة ١٨٧٠ على أحد، ولكن ما هي علة ذلك الانكسار؟ وأي الإصلاحات أنسب لوقاية أنفسنا من مثل تلك الهزيمة؟ هنا تختلف التفاسير والإيضاحات وتبدو الصعوبة، ولكي يعتقد القارئ صحة ذلك ليبحث عن النظريات المتناقضة التي قيلت في نظم الجيش في عشرين سنة أو عما كتبه المتخصصون من التقارير على الأقل، ولو سهل تفسير الحوادث الاجتماعية لساد الاتفاق بيننا في شأنه ولم يقع اختلاف فيه.
ومهما تكن ملاحظة الحوادث السياسية — التي هي جزء من الحياة اليومية — سهلة يصعب تمييز أسبابها، وتشتد الصعوبة عندما تكون أجزاء الحادثة التي نشعر بها قسمًا يسيرًا منها، ولا يكفي اتخاذ الإلهام دليلًا في مثل هذا البحث، فالضرورة تقضي علينا باتخاذ أدق الطرق فيه كما في العلوم الأخرى ولا سيما التاريخ الطبيعي، أي يجب على العالم النفسي أن يحذو حذو العالم الطبيعي الذي يجمع تحت فصيلة واحدة كثيرًا من الأمور المختلفة في ظاهرها، فيعد الحوت مثلًا من ذوات الثديين بدلًا من اعتباره من نوع السمك، ولو لم ينعم علماء الطبيعة النظر في الأمر لعدوا الحوت من فصيلة القرش لا من فصيلة السنجاب مع أن الحقيقة عكس ذلك.
تدل العبارات السابقة على أن أصعب شيء في روح السياسة هو أن نكتشف العوامل البعيدة أو القريبة للحوادث، وأن لا نعزو إلى عامل واحد ما صدر عن عوامل كثيرة، وسوف لا أطيل الكلام في بيان تلك الصعوبة، فأكتفي لإثباتها بذكر عدد من العوامل التي تنتشر بها الاشتراكية.
•••
تقوم الاشتراكية قبل كل شيء على مبدأ الأمل، أي أمل تحسين القدر وتكوين مستقبل سعيد، والأمل مع أنه لا يحل مشكلة السعادة إلا على وجه ناقص تراه من أهم بواعث الحركة التي عرفها البشر في كل حين.
وما احتاج الناس إلى تحسين معاشهم احتياجهم إليه في هذا الزمن، فقد كانوا يأملون تحقق ذلك في الحياة الآخرة التي كانوا لا يشكون فيها، وأما وقد أخذوا لا يعتقدونها الآن فتراهم يسعون في نيل السعادة في الحياة الدنيا، وبهذا يتضح لنا أحد العوامل في انتشار الاشتراكية.
ويتضح ذلك الانتشار أيضًا إذا علمنا أن الاشتراكية ديانة أخذت تحل محل الديانات التي أوشك نجمها أن يغيب، وقد دلَّنا علم النفس الحديث على أن الشعور الديني — أي احتياج المرء إلى الخضوع لأحكام إيمان يكون دليل أفكاره وخواطره — هو أحد مناحي الروح البشرية، فدعاة الاشتراكية هم قساوسة متدينون لم يغيروا سوى اسم آلهتهم، ومن مظاهر هذا التدين ما جاء في جريدة (الأومانيته) الصادرة في ٣٠ نوفمبر (تشرين الثاني) سنة ١٩٠٩ من أن الأستاذ الشاب في كلية (الصوربون) قال في حفلة افتتاح المدرسة الاشتراكية «موعظة حماسية استغاث فيها بآلهة العقل»!
إن تلك العوامل النفسية عامة في جميع الأمم، غير أن للاشتراكية أشكالًا تختلف باختلاف البلدان، ومن أسباب ذلك عامل العنصر، أي صفات الشعوب الموروثة، ولما بين هذه الصفات من التباين بحسب الشعوب أصبحت الاشتراكية عنوانًا واحدًا لكثير من الرغائب المختلفة، وكيف تكون هذه الصفات ذات طبيعة واحدة، ونحن نرى غرائز سكان الولايات المتحدة الذين يعتمد كل منهم في الحياة على نشاطه الشخصي وقوة استنباطه الفردية، تُناقِض غرائز أبناء الأمم اللاتينية الذين يحتاجون إلى سيد يحميهم احتياجًا أبديًّا؟
وعدا صفات العنصر نذكر عاملًا نفسيًّا آخر، أي الماضي، فمن البديهي أن شعوبًا سارت على نظام مركزي منذ قرون كثيرة وعلى رأسها حكومة مديرة لأدق شؤون حياتها الاجتماعية والصناعية والتجارية حتى الدينية لا تكون برغائبها ومناحيها وميولها مثل شعوب فتية ذات ماضٍ سياسي قصير غير شديد الوطأة.
لقد طبقت جميع حكوماتنا الملكية مذهب الاشتراكية الحكومية الذي يستحوذ علينا كل يوم، ولو نظرنا إلى نظم (كولبر) الدقيقة لرأيناها فصلًا من كتاب يبحث في ذلك المذهب، وبما أننا نعد الحكومة في الوقت الحاضر كآلهة حامية مجيرة، فجميع أحزابنا وطبقاتنا تطالبها بالمداخلة في أمورها لتدافع عن منافعها، وأرباب المصانع هم أول من طلب إليها أن تحميهم ليغتنوا من زيادتها ضريبة الجمارك ومنحها إياهم جوائز وإعانات … إلخ، ثم لما اعتز العمال بعددهم طالبوا الحكومة بحمايتها إياهم من أرباب الصناعة، وكلما أجابتهم الحكومة إلى رغباتهم التي هي بنت نظام الحماية اقتربت البلاد من الاشتراكية.
والحكومة لكي تنجز تلك المطاليب الزائدة سلكت سبيلًا استبداديًّا في سلب أموال الناس، فوضعت قوانين لحمل أرباب العمل على تأدية عمالهم رواتب تقاعد ولابتياع السكك الحديدة، واحتكار صنع كثير من المنتجات، وستستمر على ذلك حتى يصبح العمال من موظفي الدولة.
ثم إن المشترعين أخذوا يتدرجون إلى نزع الأموال من أيدي أصحابها بفرض ضرائب فادحة عليهم غير عالمين أن هذا يؤدي إلى خراب الصناعات الكبرى، ومساواة الناس في البؤس والشقاء، أي حدوث ما يحلم به كثير من ذوي النفوس المفعمة بالحقد على الأفضليات.
ولم تكن العوامل التي ذكرناها كل ما تتحول به الاشتراكية، بل يجب أن نبحث أيضًا عن كيفية انتشارها بين الجموع، وعن علة ما لبعض الألفاظ والصيغ من السلطان الكبير على النفوس، ثم إن الاشتراكية علاوة على انتشارها بين الجماعات الجاهلة، تنتشر بين الأساتذة وأهل الثراء من أبناء الطبقات الوسطى الراضين بنصيبهم، وهنا نضم إلى تلك العوامل عامل روح الجماعات وعامل العدوى النفسية الذي نفسر به ذيوع المعتقدات الكبيرة عند ظهورها.
يلوح لنا بعد أن علمنا كثرة العوامل في ظهور إحدى الحادثات الاجتماعية أن إدراك تأثير هذه العوامل المتبادل عظيم الصعوبة، ولبلوغ ذلك طريقتان إحداهما بسيطة والثانية معقدة، فالطريقة البسيطة — وهي كثيرة الاستعمال لبساطتها — عبارة عن تقدير علة واحدة للحوادث، وإيجاد أدوية ظاهرة لمعالجتها جميعها، فإذا أبدى العمال استياءً من سوء طالعهم تكون معالجة ذلك حسب هذه الطريقة بفرض ضريبة في سبيلهم على دخل الأغنياء، وإذا تناقض سكان إحدى الممالك تتم مداواة ذلك بإرهاق العزب وإثقال كاهل من ليس ذا ولد من أبنائها بالغرامات … إلخ.
على هذا الوجه يتعقل أولو النفوس المحدودة النظر من الساسة، وقد أوجبت سذاجتهم سن كثير من القوانين المضرة، فلننظر الآن إلى الطريقة التي يجب على الباحث في روح السياسة أن يسلكها:
لما كانت الحادثة الاجتماعية تصدر في الغالب عن عوامل كثيرة — قريبة كانت أم بعيدة — وجب على الباحث أن يعلم كيف يفرق بينها أولًا، ثم أن يقدر قيمتها المتقابلة ثانيًا، هكذا يفعل العالم الطبيعي إزاء حادثة تشتق من علل كثيرة، غير أن مسعاه أخف من مسعى العالم الاجتماعي؛ لأنه بتجاربه المكررة يقدر على تحقيق صحة استنتاجاته الأولى، مع أن المشاهدة لا التجربة هي دليل العالم الاجتماعي في الحوادث الاجتماعية، نعم إن التجارب الاجتماعية ليست قليلة إلا أنها تقع دون أن يكون لنا شأن في حدوثها، ونحن لعجزنا عن تكريرها ترانا مضطرين إلى إيضاح أمرها فقط، وكل يعلم ما توجبه هذه الإيضاحات من اختلاف في الرأي ونقص في اعتبار علم الاجتماع.
ولا يمكن تغيير قيمة عامل إلا إذا شوهد أنه يؤثر تأثيرًا متماثلًا في شعوب كثيرة خلال أزمنة مختلفة، على أن تظل بقية العوامل ثابتة لا تتغير. وهذا النهج لكونه لا يطبق إلا على أحوال هي غاية في البساطة لا يستنبط به سوى حقائق مبتذلة قليلة الفائدة كالقول إن الحكم المطلق يعقب الفوضى، وإن الشعوب القوية تتغلب على الشعوب الضعيفة … إلخ.
في الحالة هذه أرى أن تحليل العوامل الموجبة لإحدى الحادثات الاجتماعية يسهل إذا علمنا أن الحادثة الاجتماعية نتيجة عوامل مختلفة بعضها دائم والبعض الآخر موقت، فأما العوامل الدائمة فإنها تؤثر في جميع الحوادث تأثيرًا ثابتًا مستمرًّا، ومن هذه العوامل عامل العنصر؛ أي الصفات الموروثة، وعامل الماضي؛ أي المشاعر الدينية أو السياسية أو الاجتماعية التي ثبتت في روح الأمم في ماضٍ طويل، وأما العوامل المؤقتة فإنها بالعكس تتقلب على الدوام، وإنما هي بتأثيرها في عامل الوراثة القليل التغير تتسم بسمة ذلك العامل لا محالة، وهذا ما يجعل الشعوب المنتسبة إلى عناصر متباينة تسير على أشكال مختلفة، عندما تخضع في زمن واحد لعوامل مؤقتة واحدة، ثم إن التاريخ مع بيانه في الغالب أن الأمة الواحدة تستطيع أن تغير — ولو في الظاهر — معتقداتها وأناظيمها وفنونها يبرز الماضي بالحقيقة من تحت تلك التغيرات، ويحول في الحال ما أوجبته الثورات العنيفة من صور وأشكال.
يقتضي إذًا درس عامل العنصر وعامل الماضي اللذين يُغفل أمرهما عادةً لخفائهما، فهما يؤثران في نشوء الأمم تأثيرًا فعليًّا، فلو نظرنا إلى فرنسا مثلًا لرأينا أنه ينطوي تحت الفتن السياسية التي اشتعلت فيها مبدآن ثابتان مشتركان بين الأمم اللاتينية مسيران لأعمالها تسييرًا متشابهًا وهما؛ اعتقاد قدرة الحكومة على إصلاح كل شيء واعتقاد سلطان القوانين المطلق، وبفعل هذين المبدأين اللذين سندرسهما في فصول كثيرة توسع المذهب الحكومي، ونما المذهب الاشتراكي الذي هو كناية عن تفتح ذلك المذهب.
أوصاف عامل العنصر العامة قليلة؛ ولذا لم يكن البحث فيه كثير الصعوبة، فلقد علمنا كثيرًا من أحوال سكان الولايات المتحدة ومستقبلهم عندما لاحظنا بعضًا من أخلاقهم الأساسية كالنشاط والاعتماد على المجهود الشخصي والتفاؤل والاحتياج إلى الحرية الفردية وتعود الاستنباط الشخصي الذي يغني عن تدخل الحكومة، فأدركنا وجوب درس الأميركي مستقلًّا عن حكومته لا درس هذه الحكومة أولًا للاطلاع على حقيقته، فالأميركي لما أُلقِي حبله على غاربه تقدم في معترك الحياة غير معول على أحدٍ مقررًا مصير نفسه بنفسه، وكذلك إذا بحثنا في الجمهوريات الأميركية اللاتينية الكئيبة العاجزة عن الخروج من الفوضى الضاربة أطنابها فيها، نرى عددًا قليلًا من الأوصاف النفسية الأساسية مهيمنًا على مجرى تاريخها.
يظهر من الإيضاح السابق أن معرفة العوامل الكبيرة العامة التي تعين وجهة العوامل الأخرى تكشف القناع — ولو قليلًا — عن روح السياسة، وما خفت الصعوبة بها كثيرًا، فبجانب العوامل الدائمة عدة عوامل مؤقتة يتيه أمام تعقدها كل عقل ومنطق، فكيف نعين تأثير هذه العوامل المؤقتة؟
يكون ذلك بملاحظتنا أن في كل دور — عدا العوامل الكبيرة الثابتة التي أشرنا إلى تأثيرها — عددًا يسيرًا من المبادئ الناظمة التي توجه الأفكار والأعمال نحو معنى واحد، على هذا الوجه عيَّن مبدأ القوميات وجهة السياسة في دور الإمبراطورية الثانية، ويعين مبدأ المساواة بين المراتب الاجتماعية وجهة الاشتراكية في الوقت الحاضر … إلخ.
•••
فمن الملاحظات السابقة نرى أن تكوين كل حادثة يتم بفعل كثير من العوامل المتفاوتة في أهميتها، فشأن روح السياسة عبارة عن تعيين أهمية هذه العوامل، وتمييز الأساسي بينها وطرح الثانوي منها.
إن طرح العوامل الثانوية في روح السياسة ضروري كما في العلوم، ولا سيما في الفلسفة الطبيعية وعلم الفلك، وهو على نسبة هذه الضرورة كثير الصعوبة، فمما أوجبه تقدم العلوم في الزمن الحديث اعتبار كل حادثة معقدة إلى الغاية، ولم يعد الناس علل الأشياء بسيطة إلا لنقص في وسائل المشاهدة والاختبار عندهم.
وتتجلى فطنة العالم في إبرازه العوامل الأساسية لإحدى الحادثات، وتغاضيه عن الأخرى، فما استطاع (كبلر) أن يوضح نواميسه إلا بطرحه الخلل الثانوي ذا التأثير الضعيف في حركات الأجرام الفلكية، وكذلك السياسي الحقيقي يباشر الأمور كالعالم الفلكي متذكرًا أن العامل الواحد الذي لا أهمية له في أحد الأزمنة قد يكون مهمًّا في زمن آخر.
•••
أمَّا رأي علماء القرن السابق القائل بوجود نواميس مطلقة فقد أخذ يتقلص بالتدريج، ولن تكون مبادئ روح السياسة ثابتة أكثر من النواميس الجثمانية التي تتحول كما هو معلوم، ثم إن المبادئ السياسية تتضعضع بفعل كثير من العوامل غير المنتظرة على الدوام، فعلى هذا الوجه نرى في بعض الأوقات اختفاء تأثير بعض العوامل المألوفة إزاء جريان مفاجئ في الآراء، والرجل السياسي الذي يعرف نظام هذا الجريان يقدر على توليده أو تعيين وجهته على الأقل، كما استطاع بسمارك ذلك في سنة ١٨٧٠.
وجريان الآراء المفاجئ قوة أدبية لا تقدر أية قوة أخرى أن تقف أمامها في بعض الأحيان، وقد أدرك نابليون ذلك فقال: «إن جريان الأمور هو الذي يتكلم واتجاه الرأي العام هو الذي يقوده، وما كنت يومًا سيد نفسي، فالأحوال هي التي كانت تسوقني في كل وقت.»
ويبدو سلطان جريان الرأي وتقلبه في كل صفحة من صفحات تاريخنا الحديث، فما قصة الإمبراطورية الأولى ثم إعادة النظام الملكي ثم الدور الروائي ثم الإمبراطورية الثانية ثم حادثة (بولانجيه) … إلخ سوى أمثلة على ذلك، و«الأمير» الذي حكى عنه (ماكيافيلي) يسمى اليوم «الجماعة»، وتصبح قدرة الجماعة مخيفة عندما تتجه جميع العزائم نحو غرض واحد، وإن كان هذا الاتجاه لا يدوم طويلًا فعلى رجال السياسة أن يعلموا ذلك.
وفي الغالب لا يفقه رجال أحد الأدوار ما قد يحدث في دورهم من جريان في آراء الشعب، فلم يبصر أحد في أوائل الثورة الفرنسوية ما قد تؤدي إليه هذه الثورة من مستقبل رهيب، وفي الثورة المذكورة ظهر مصداق المثل القائل: بينما كانت السفينة تغرق كان السائحون يهنئون بعضهم بعضًا بالغرق، فكانت (مدام دوجانليس) مربية أمراء عائلة (أورليان) تقودهم ليروا هدم حصن (الباستيل)، وكان الأشراف ينظرون إلى هذا الجريان بعين العطف كما نظر أبناء الطبقة الوسطى العُمي إلى اعتصاب موظفي البريد الأول، وما كان الناس آنئذ أعلم من رجال الوقت الحاضر بأن الحوادث الفكرية مرتبط بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا، وأن كل واحدة منها لا تلبث أن تصبح علة لمعلومات أخرى.
نرى من هذا البيان ما على الرؤساء الذين يودون أن يحكموا الناس بحكمة ودراية أن يتجشموه من المصاعب، وتشتد تلك المصاعب بمقدار تباعدهم عن أفكار الجماعة، وخضوعهم لعوامل أخرى تقصيهم عن اكتناهها ومخاطبتها.
ولا يحسن المرء معرفة أبناء طبقة إلا إذا كان من تلك الطبقة، وهذا هو السر في أن زعماء «اتحاد العمال» الذين هم من طبقة العمال يعرفون كيف يجعلون هؤلاء يطيعونهم كما يجب، فبما أن أولئك الزعماء لا يبالون بالمبادئ الكبيرة والنظريات الجميلة في الإنسانية يعلمون أن الجموع كذلك لا تعبأ بها، وأن هذه الجموع ذات النظر المحدود ترضى من غير جدال بالمعتقدات التي أفرغت في صيغ وجيزة حماسية، وأنها تخضع لأشد الأوامر تجبرًا من دون أن ترفع عقيرتها إذا أملى عليها هذه الأوامر رجال أو لجان ذوو نفوذ وتأثير.
وليس عند هؤلاء الزعماء سوى علم وجيز بأحوال النفس، ولكنهم بهذا العلم الوجيز الملائم لأفكار أولي النفوس الساذجة استطاعوا أن يستعبدوا البسطاء، وهم يعلمون أين يذهبون وماذا يريدون، ولا يجهلون أغلاط رجال السياسة، فما أحرى بولاة أمورنا أن يحذوا حذوهم.
•••
يتألف من تلك العوامل جميعها — بعيدة كانت أم قريبة، دائمة كانت أم مؤقتة — ما نسميه «معادلة أحد الأدوار الاجتماعية»، فعلى حل هذه المعادلة حلًّا صحيحًا يتوقف في الغالب مستقبل الأمة، والضرورة هي التي تحلها إذا لم يتدخل المشترعون لإحلال العوامل التي توازن سنن الكون بينها.
وقد تبين لنا من عد عوامل التحول في إحدى الحادثات الاجتماعية تنوع تلك العوامل، وظهر لنا أن أكثرها تأثيرًا أشدها خفاءً، فمن مجموعها تتكون حزمة من قوى خفية تقود مقادير الشعب، فما أشبه الإنسان بلعبة تجهل الخيوط التي تحركها.
ومهما يكن سلطان هذه القوى، فليس علينا أن نكابدها مسلمين تسليمًا أعمى، ولو استحوذ مثل ذلك الشعور على البشر لما خرجوا من طور الهمجية الأولى، ولا استطاعوا أن يقهروا الطبيعة التي استعبدتهم أول الأمر استعبادًا قاسيًا.
وبهذا نطرق بابًا آخر في روح السياسة، فلو اقتصر روح السياسة على تحقيق الأمور لأصبح عبثًا، وعليه نرى لروح السياسة فائدتين أخريين؛ فائدة كشف العاقبة وفائدة نيل المقصد، فبهاتين الفائدتين نبطل عمل مفاجآت المستقبل وتأثيرها.
وكيف نصل إلى ذلك مع أن العلم يؤيد — كما جاء في التقاليد الدينية — وقوع الإنسان في حبالة القدر في كل زمن؟ سنرى في فصل أخير أنه يمكن إبطال عمل المقادير بتحليل العناصر التي تتألف منها.