أُولَى رِحْلَاتِي
بَعْدَ عَامٍ تَقْرِيبًا، أَرْسَلَنِي وَالِدِي إِلَى بَلْدَةِ هَالْ لِأَدَاءِ بَعْضِ الْمَهَامِّ لَهُ. وَمَا إِنْ وَصَلْتُ إِلَى هُنَاكَ حَتَّى الْتَقَيْتُ صُدْفَةً بِجُونْ — وَهُوَ صَدِيقُ دِرَاسَةٍ قَدِيمٌ — وَكَانَ وَالِدُهُ قُبْطَانَ سَفِينَةٍ مُبْحِرَةٍ إِلَى لَنْدَنَ.
قُلْتُ لَهُ: «إِنَّكَ لَمَحْظُوظٌ! فَكُلُّ مَا أَرَدْتُهُ فِي حَيَاتِي هُوَ أَنْ أُصْبِحَ بَحَّارًا، لَكِنَّ وَالِدَيَّ لَنْ يَسْمَحَا لِي بِالْإِبْحَارِ.»
– «سِنُّكَ كَبِيرٌ بِمَا يَكْفِي كَيْ تَتَّخِذَ قَرَارَاتِكَ بِنَفْسِكَ يَا رُوبِنْسُونْ، فَلِمَ تَهْتَمُّ بِرَأْيِهِمْ؟ سَأَقْتَرِحُ عَلَيْكَ فِي الْحَالِ مَكَانًا عَلَى سَفِينَةِ وَالِدِي، فَلِمَ لَا تَأْتِي مَعَنَا وَحَسْبُ؟»
جَالَ فِي خَاطِرِي حِينَهَا: «أَجَلْ! هَا هِيَ فُرْصَتِي.»
– «حَسَنًا، أَنَا مُوَافِقٌ يَا جُونْ! شُكْرًا لَكَ، سَيُسْعِدُنِي الذَّهَابُ مَعَكَ!»
سَيَتَأَلَّمُ وَالِدَيَّ، لَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ أَقْضِيَ حَيَاتِي مُحَاوِلًا إِسْعَادَهُمَا. أَخِيرًا سَأُصْبِحُ بَحَّارًا!
غَادَرْنَا فِي سَاعَةٍ مُبَكِّرَةٍ مِنَ الصَّبَاحِ، وَلَمْ تَكَدِ الشَّمْسُ تُشْرِقُ حَتَّى بَدَأْنَا رِحْلَتَنَا. وَتَأَرْجَحَتِ السَّفِينَةُ فَوْقَ الْأَمْوَاجِ إِلَى أَعَلَى وَإِلَى أَسْفَلَ حَتَّى أُصِبْتُ بِدُوَارِ الْبَحْرِ. وَإِلَى جَانِبِ مَعِدَتِي الْمُضْطَرِبَةِ، تَمَلَّكَنِيَ الْخَوْفُ لِعُلُوِّ الْأَمْوَاجِ وَتَكَسُّرِهَا عَلَى جَانِبَيِ السَّفِينَةِ، وَفَيضِهَا أَحْيَانًا عَلَى السَّطْحِ.
اسْتَلْقَيْتُ عَلَى الْأُرْجُوحَةِ الشَّبَكِيَّةِ فِي حُجْرَتِي الصَّغِيرَةِ وَشَعَرْتُ بِالتَّعَاسَةِ، فَبَكَيْتُ وَبَكَيْتُ، وَشَعَرْتُ بِالذَّنْبِ لِرَحِيلِي عَنْ أُمِّي وَأَبِي عَلَى النَّحْوِ الَّذِي فَعَلْتُ، فَقَدْ كَانَا أَبَوَيْنِ صَالِحَيْنِ وَعَطُوفَيْنِ وَأَرَادَا لِيَ الْخَيْرَ، كُلَّ الْخَيْرِ، لَكِنِّي خَيَّبْتُ آمَالَهُمَا وَكَانَ هَذَا هُوَ عِقَابِي.
ازْدَادَتِ الْعَاصِفَةُ سُوءًا، وَازْدَادَتِ الْأَمْوَاجُ ارْتِفَاعًا، وَتَوَقَّعْتُ أَنْ تَبْتَلِعَنَا كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَمْوَاجِ بِالْكَامِلِ. وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ تَغُوصُ فِيهَا السَّفِينَةُ أَسْفَلَ مَوْجَةٍ أُخْرَى هَائِلَةٍ، كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهَا لَنْ تَرْتَفِعَ أَبَدًا مَرَّةً أُخْرَى. وَقُلْتُ لِنَفْسِي فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ: «إِذَا نَجَوْتُ بِأَيِّ حَالٍ، أُقْسِمُ أَنِّي سَأَذْهَبُ إِلَى بَلْدَتِي لِأُمِّي وَأَبِي، وَأَنْ أَكُونَ إِنْسَانًا صَالِحًا، وَسَوْفَ أَكُونُ ابْنًا بَارًّا بِهِمَا!»
بِحُلُولِ صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، كَانَ الْبَحْرُ قَدْ هَدَأَ، وَبَدَا أَمْلَسَ كَالزُّجَاجِ، وَلَمْ يَعُدْ جَسَدِي يَشْعُرُ بِدُوَارِ الْبَحْرِ، وَاسْتَقْبَلَتْنِي الشَّمْسُ بِيَوْمٍ مُشْرِقٍ وَمُمْتِعٍ. كَمْ هُوَ الْأَمْرُ مُخْتَلِفٌ! صَعِدْتُ إِلَى ظَهْرِ السَّفِينَةِ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ مُنْذُ مُغَادَرَتِنَا هَالْ، وَرَأَيْتُ جُونْ يَتَأَمَّلُ الْأُفُقَ، وَيَقُولُ: «تَبْدُو أَفْضَلَ حَالًا! لَا أُصَدِّقُ أَنَّكَ كُنْتَ مَذْعُورًا لِهَذَا الْحَدِّ مِنْ هَبَّةِ رِيَاحٍ بَسِيطَةٍ!»
قُلْتُ مُسْتَنْكِرًا: «هَبَّةُ رِيَاحٍ بَسِيطَةٌ! يَا لَهَا مِنْ عَاصِفَةٍ مُرِيعَةٍ!»
فَضَحِكَ جُونْ وَقَالَ: «إِنَّكَ لَمْ تَرَ شَيْئًا بَعْدُ. فَقَطْ انْتَظِرْ حَتَّى تَكُونَ فِي عُرْضِ الْبَحْرِ، وَحِينَهَا سَتَرَى كَيْفَ تَكُونُ الْعَاصِفَةُ!»
ضَحِكْتُ أَنَا الْآخَرُ وَقُلْتُ: «حَسَنًا، فَقَدْ تَعَامَلْتُ مَعَهَا بِأَيِّ حَالٍ، خَطِيرَةً كَانَتْ أَمْ غَيْرَ خَطِيرَةٍ، فَهَذِهِ أَوَّلُ عَاصِفَةٍ لِي فِي الْبَحْرِ.»
قَالَ لِي بِمَرَحٍ: «تَعَالَ يَا رُوبِنْسُونْ، هَيَّا بِنَا لِنَشْرَبَ بَعْضَ البنش!»
يَا لَلْمُتْعَةِ الَّتِي حَظِيتُ بِهَا هَذِهِ اللَّيْلَةَ! ذَهَبَتْ عَنِّي جَمِيعُ مَخَاوِفِي فِي كَأْسٍ مِنَ البنش وَوَقْتٍ رَائِعٍ صَاخِبٍ. وَسُرْعَانَ مَا رَاحَ وَعْدُ اللَّيْلَةِ السَّابِقَةِ بِالْعَوْدَةِ لِبَلْدَتِي طَيَّ النِّسْيَانِ، فَمَا عُدْتُ خَائِفًا مِنْ أَنْ يَبْتَلِعَنِي الْبَحْرُ كُلِّيَّةً، وَلَمْ أَرْغَبْ فِي الْعَوْدَةِ لِدِيَارِي؛ لَقَدْ خُلِقْتُ لِحَيَاةِ الْبِحَارِ.