tafrabooks

Share to Social Media

الربيع

خرجتُ أشهد الطبيعة كيف تُصبح كالمعشوق الجميل، لا يُقَدِّمُ لعاشقه إلا أسباب حبه!
وكيف تكون كالحبيب، يزيد في الجسم حاسةَ لمس المعاني الجميلة!
وكنتُ كالقلب المهجور الحزين، وجد السماء والأرض، ولم يجد فيهما سماءَه وأرضَه.
ألا كم آلاف السنين وآلافها قد مضت منذ أُخرج آدم من الجنة!
ومع ذلك، فالتاريخ يعيد نفسه في القلب؛ لا يحزن هذا القلب إلا شعر كأنه طُرِدَ من الجنة لساعته.
•••
يقف الشاعر بإزاء جمال الطبيعة، فلا يملك إلا أن يتدفق ويهتز ويطرَب.
لأن السر الذي انبثق هنا في الأرض، يريد أن ينبثق هناك في النفس.
والشاعر نبيُّ هذه الديانة الرقيقة التي من شريعتها إصلاح الناس بالجمال والخير.
وكل حُسن يَلتمس النظرة الحية التي تراه جميلًا لتعطيه معناه.
وبهذا تقف الطبيعة محتفلة أمام الشاعر، كوقوف المرأة الحسناء أمام المصوِّر.
•••
لاحت لي الأزهار كأنها ألفاظ حبٍّ رقيقة مغشَّاة باستعارات ومجازات.
والنسيم حولها كثوب الحسناء على الحسناء، فيه تعبيرٌ مِن لابِستِه.
وكل زهرة كابتسامة، تحتها أسرارٌ من معاني القلب المعقدة.
أهي لغة الضوء الملون من الشمس ذات الألوان السبعة؟
أم لغة الضوء الملون من الخد، والشفة، والصدر، والنحر، والديباج، والحِلَى؟
•••
وماذا يفهم العشاق من رموز الطبيعة في هذه الأزاهر الجميلة؟
أتشير لهم بالزَّهر إلى أنَّ عمر اللذة قصير، كأنها تقول: على مقدار هذا؟
أتُعْلِمهم أن الفرق بين جميل وجميل، كالفرق بين اللون واللون، وبين الرائحة والرائحة؟
أتُنَاجيهم بأن أيام الحب صور أيامٍ لا حقائق أيام؟
أم تقول الطبيعة: إن كل هذا لأنكِ أيتها الحشرات لا تنخدعين إلا بكل هذا١ …؟
•••
في الربيع تظهر ألوان الأرض على الأرض، وتظهر ألوان النفس على النفس.
ويصنع الماءُ صُنْعَه في الطبيعة فتُخرج تهاويل النبات، ويصنع الدم صنعه فيُخرج تهاويل الأحلام.
ويكون الهواء كأنه من شفاهٍ متحابة يتنفس بعضها على بعض.
ويعود كل شيء يلتمع؛ لأن الحياة كلها ينبض فيها عِرق النور، ويرجع كل حي يغني؛ لأن الحب يريد أن يرفع صوته.
•••
وفي الربيع لا يضيء النور في الأعين وحدَها، ولكن في القلوب أيضًا.
ولا ينفذُ الهواء إلى الصدور فقط، ولكن إلى عواطفها كذلك.
ويكون للشمس حرارتان؛ إحداهما في الدم.
ويطغى فيضان الجمال كأنما يراد من الربيع تجربة منظر من مناظر الجنة في الأرض.
والحيوان الأعجم نفسه تكون له لفتات عقلية فيها إدراك فلسفة السرور والمرح.
وكانت الشمس في الشتاء كأنها صورة معلقة في السحاب.
وكان النهار كأنه يضيء بالقمر لا بالشمس.
وكان الهواء مع المطر كأنه مطر غير سائل.
وكانت الحياة تضع في أشياء كثيرة معنى عُبوسِ الجو.
فلما جاء الربيع كان فرح جميع الأحياء بالشمس كفرح الأطفال، رجعت أمهم من السفر.
•••
وينظر الشباب فتظهر له الأرض شابَّة.
ويشعر أنه موجود في معاني الذات أكثر مما هو موجود في معاني العالَم.
وتمتلئ له الدنيا بالأزهار، ومعاني الأزهار، ووحي الأزهار.
وتُخرج له أشعة الشمس ربيعًا، وأشعة قلبه ربيعًا آخر.
ولا تنسى الحياةُ عجائزها، فربيعهم ضوء الشمس …
•••
ما أعجب سر الحياة! كل شجرة في الربيع جمال هندسي مستقل.
ومهما قطعتَ منها وغيرتَ من شكلها أبرزتها الحياة في جمال هندسي جديد؛ كأنك أصلحتَها.
ولو لم يبقَ منها إلا جِذر حي أسرعتِ الحياة فجعلت له شكلًا من غصون وأوراق.
الحياة الحياة، إذا أنت لم تفسدها جاءتك دائمًا هداياها.
وإذا آمنتَ لم تعد بمقدار نفسك، ولكن بمقدار القوة التي أنت بها مؤمن.
•••
فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا.٢
وانظر كيف يخلق في الطبيعة هذه المعاني التي تبهج كلَّ حي، بالطريقة التي يفهمها كل حي.
وانظر كيف يجعل في الأرض معنى السرور، وفي الجو معنى السعادة.
وانظر إلى الحشرة الصغيرة كيف تؤمن بالحياة التي تملؤها وتطمئن.
انظر انظر! أليس كل ذلك ردًّا على اليأس٣ بكلمة: لا …؟
١ ظاهرة اللون والرائحة لجذب الحشرات لتعمل على نقل اللقاح من زهرة إلى أخرى.
٢ سورة الروم، الآية ٥٠.
٣ اليأس: القنوط والاستسلام للهزيمة.




عرش الورد١

كانت جَلْوَة العروس كأنها تصنيف من حلم، توافَت٢ عليه أخيلةُ السعادة فأبدعت إبداعها فيه، حتى إذا اتسق وتم، نقلته السعادة إلى الحياة في يوم من أيامها الفردة التي لا يتفق منها في العمر الطويل إلا العدد القليل؛ لتحقق للحي وجود حياته بسحرها وجمالها، وتعطيه ما يُنسَى ما لا يُنسى.
خرج الحُلم السعيد من تحت النوم إلى اليقظة، وبرز من الخيال إلى العين، وتمثَّل قصيدة بارعة جعلت كلَّ ما في المكان يحيا حياة الشعر؛ فالأنوار نساء، والنساء أنوار، والأزهار أنوار ونساء، والموسيقى بين ذلك تتمِّمُ من كل شيء معناه، والمكان وما فيه، وزنٌ في وزن، ونغمٌ في نغم، وسحرٌ في سحر.
•••
ورأيت كأنما سُحرتْ قطعةٌ من سماء الليل، فيها دارة القمر، وفيها نَثْرَةٌ من النجوم الزُّهْرِ، فنزلت فحلَّت في الدار، يتوضَّحْنَ ويأتلقْنَ من الجمال والشعاع، وفي حسنِ كلٍّ منهن مادة فجر طالع، فكُنَّ نساء الجلوة وعروسها.
ورأيت كأنما سحر الربيع، فاجتمع في عرش أخضر، قد رُصِّع بالورد الأحمر، وأُقيم في صدر البَهْو ليكون منصة للعروس، وقد نُسقت الأزهار في سمائه وحواشيه على نظمين: منهما مفصَّل ترى فيه بين الزهرتين من اللون الواحد زهرة تخالف لونهما؛ ومنهما مكدَّس بعضه فوق بعض، من لونٍ متشابه أو متقارب، فبدا كأنه عُشُّ طائرٍ ملكيٍّ من طيور الجنة أُبدع في نسجه وترصيعه بأشجار سقى الكوثرُ أغصانَها.
وقامت في أرض العرش تحت أقدام العروسين، ربوتان من أفانين الزهر المختلفة ألوانه، يحملهما خَمْلٌ من ناعم النسيج الأخضر على غصونه اللُّدْن تتهافت من رقتها ونعومتها.
وعُقِدَ فوق هذا العرش تاج كبير من الورد النادر، كأنما نُزع عن مَفْرِق مَلِك الزمن الربيعي؛ وتنظر إليه يسطع في النور بجماله الساحر، سطوعًا يخيل إليك أن أشعةً من الشمس التي ربَّت هذا الورد لا تزال عالقة به، وتراه يزدهي جلالًا، كأنما أدرك أنه في موضعه رمزُ مملكة إنسانية جديدة، تألَّفت من عروسين كريمين. ولاح لي مرارًا أن التاج يضحك ويستحي ويتدلل، كأنما عرف أنه وحده بين هذه الوجوه الحِسَان يمثل وجه الورد.
ونُصَّ على العرش كرسيان يتوهج لون الذهب فوقهما، ويكسوهما طِراز أخضر تلمع نضارته بِشْرًا، حتى لتحسب أنه هو أيضًا قد نالته من هذه القلوب الفَرِحة لمسةٌ من فرحها الحي.
وتدلَّت على العرش قلائد المصابيح، كأنها لؤلؤ تخلَّق في السماء لا في البحر، فجاء من النور لا من الدُّر؛ وجاء نورًا من خاصته أنه متى استضاء في جو العروس أضاء الجو والقلوب جميعًا.
وأتى العروسان إلى عرش الورد، فجلسا جِلْسة كوكبين حدودهما النور والصفاء؛ وأقبلت العذارى يتخطَّرْنَ في الحرير الأبيض كأنه من نور الصبح، ثم وقفن حافَّاتٍ حول العرش، حاملات في أيديهن طاقات من الزَّنبق، تراها عَطِرةً بيضاء ناضرة حَيِيَّة، كأنها عذارى مع عذارى، وكأنما يحملن في أيديهن من هذا الزنبق الغض معانيَ قلوبِهن الطاهرة؛ هذه القلوب التي كانت مع المصابيحِ مصابيحَ أخرى فيها نورها الضاحك.
واقتعدت دَرَجَ العرش تحت ربوتَي الزهر ودون أقدام العروسين طفلةٌ صغيرة كالزهرة البيضاء تحمل طفولتها، فكانت من العرش كلِّه كالماسة المدلَّاة من واسطة العِقْد، وجعلت بوجهها للزهر كله تمامًا وجمالًا، حتى ليظهر من دونها كأنه غضبانُ مُنْزَوٍ لا يريد أن يُرَى.
وكان ينبعث من عينيها فيما حولها تيار من أحلام الطفولة جعل المكان بمن فيه كأن له روح طفل بغتته مسرةٌ جديدة.
وكانت جالسة جِلْسَةَ شِعْرٍ تمثِّل الحياة الهنيئة المبتكرة لساعتها؛ ليس لها ماضٍ في دنيانا.
ولو أن مبدعًا افتَنَّ في صُنع تمثالٍ للنية الطاهرة، وجيء به في مكانها، وأُخذت هي في مكانه لتشابها وتشاكل الأمر.
وكان وجودها على العرش دعوة للملائكة أن تحضر الزفاف وتباركه.
وكانت بصغرها الظريف الجميل تعطي لكل شيء تمامًا، فيُرَى أكبر مما هو، وأكثر مما هو في حقيقته. كانتِ النقطةَ التي استعلنت في مركز الدائرة، ظهورُها على صغرها هو ظهور الإحكام والوزن والانسجام في المحيط كله.
•••
لا يكون السرور دائمًا إلا جديدًا على النفس، ولا سرورَ للنفس إلا من جديد على حالة من أحوالها؛ فلو لم يكن في كل دينار قوةٌ جديدةٌ غيرُ التي في مثله لما سُرَّ بالمال أحد، ولا كان له الخطر الذي هو له؛ ولو لم يكن لكل طعام جوع يُورده جديدًا على المعدة لما هنأ ولا مرأ؛ ولو لم يكن الليلُ بعدَ نهارٍ، والنهارُ بعدَ ليلٍ، والفصول كلها نقيضًا على نقيضه، وشيئًا مختلفًا على شيء مختلف، لما كان في السماء والأرض جمال، ولا منظر جمال، ولا إحساس بهما؛ والطبيعة التي لا تفلح في جعلك معها طفلًا تكون جديدًا على نفسك، لن تفلح في جعلك مسرورًا بها لتكون هي جديدة عليك.
وعرش الورد كان جديدًا عند نفسي على نفسي، وفي عاطفتي على عاطفتي، ومن أيامي على أيامي؛ نزل صباح يومه في قلبي بروح الشمس، وجاء مساء ليلته لقلبي بروح القمر؛ وكنت عنده كالسماء أتلألأ بأفكاري كما تتلألأ بنجومها؛ وقد جعلتني أمتد بسروري في هذه الطبيعة كلها؛ إذ قَدَرْتُ على أن أعيش يومًا في نفسي؛ ورأيت وأنا في نفسي أن الفرح هو سر الطبيعة كلها، وأن كل ما خلق الله جمال في جمال؛ فإنه تعالى نور السماوات والأرض، وما يجيء الظلام مع نوره، ولا يجيء الشر مع أفراح الطبيعة إلا من محاولة الفكر الإنساني خلق أوهامه في الحياة، وإخراجه النفس من طبائعها، حتى أصبح الإنسان كأنما يعيش بنفس يحاول أن يصنعها صناعة، فلا يصنع إلا أن يزيغ بالنفس التي فطرها الله.
يا عجبًا! ينفر الإنسان من كلمات الاستعباد، والضَّعَةِ، والذلة، والبؤس، والهم، وأمثالها، وينكرها ويردها، وهو مع ذلك لا يبحث لنفسه في الحياة إلا عن معانيها.
•••
إن يومًا كيوم عرش الورد لا يكون من أربع وعشرين ساعة، بل من أربعة وعشرين فرحًا؛ لأنه من الأيام التي تجعل الوقت يتقدم في القلب لا في الزمن، ويكون بالعواطف لا بالساعات، ويتواتر على النفس بجديدها لا بقديمها.
كان الشباب في موكب نصره، وكانت الحياة في ساعة صلح مع القلوب، حتى اللغة نفسها لم تكن تلقي كلماتها إلا ممتلئة بالطرب والضحك والسعادة، آتية من هذه المعاني دون غيرها، مصوِّرة على الوجوه إحساسها ونوازعها، وكل ذلك سحرُ عرش الورد؛ تلك الحديقة الساحرة المسحورة، التي كانت النسمات تأتي من الجو ترفرف حولها متحيرة كأنما تتساءل: أهذه حديقة خُلقت بطيور إنسانية، أم هي شجرة ورد من الجنة بمن يتفيَّأْنَ ظلَّها ويتنسَّمْنَ شذاها من الحُور، أم ذاك منبعٌ ورديٌّ عطري نوراني الحياة هذه المَلِكة الجالسة على العرش!
يا نسمات الليل الصافية صفاءَ الخير، أسأل الله أن تنبع هذه الحياة المقبلة في جمالها وأثرها وبركتها من مثل الورد المبهج، والعطر المنعش، والضوء المحيِي؛ فإن هذه العروسَ المعتليةَ عرشَ الوردِ:
هي ابنتي …
١ يتعلق النص بزفاف كبرى بناته «وهيبة» على ابن عمها، وهي أول فرحة بولده.
٢ توافت: توافدت وأقبلت تترى.


أيها البحر!

إذا احتدم الصيف،١ جعلتَ أنت أيها البحر للزمن فصلًا جديدًا يُسمَّى «الربيع المائي».
وتنتقل إلى أيامك أرواح الحدائق، فتنبت في الزمن بعض الساعات الشهية كأنها الثمر الحلو الناضج على شجره.
ويوحي لونك الأزرق إلى النفوس ما كان يوحيه لونُ الربيع الأخضر، إلا أنه أرق وألطف.
ويرى الشعراء في ساحلك مثل ما يرون في أرض الربيع، أنوثة طاهرة، غير أنها تلد المعاني لا النبات.
ويُحِسُّ العشاق عندك ما يحسونه في الربيع: أن الهواء يتأوَّه …
•••
في الربيع، يتحرك في الدم البشري سر هذه الأرض، وعند «الربيع المائي» يتحرك في الدم سر هذه السحب.
نوعان من الخمر في هواء الربيع وهواء البحر، يكون منهما سُكْر واحد من الطرب.
وبالربيعَيْن: الأخضر والأزرق، ينفتح بابان للعالم السحري العجيب؛ عالم الجمال الأرضي الذي تدخله الروح الإنسانية كما يدخل القلبُ المحب في شعاع ابتسامة ومعناها.
•••
في «الربيع المائي» يجلس المرء، وكأنه جالس في سحابة لا في الأرض.
ويشعر كأنه لابس ثيابًا من الظل لا من القماش؛ ويجد الهواء قد تنزَّه عن أن يكون هواء التراب.
وتخفُّ على نفسه الأشياء، كأن بعض المعاني الأرضية انتُزِعت من المادة، وهنا يدرك الحقيقة: أنَّ السرور إن هو إلا تنبُّه معاني الطبيعة في القلب.
وللشمس هنا معنى جديد ليس لها هناك في «دنيا الرزق».
تشرق الشمس هنا على الجسم؛ أما هناك فكأنما تطلع وتغرب على الأعمال التي يعمل الجسم فيها.
تطلع هناك على ديوان الموظف لا الموظف، وعلى حانوت التاجر لا التاجر، وعلى مصنع العامل، ومدرسة التلميذ، ودار المرأة.
تطلع الشمس هناك بالنور، ولكن الناس — وا أسفاه — يكونون في ساعاتهم المظلمة …
الشمس هنا جديدة، تُثبت أن الجديد في الطبيعة هو الجديد في كيفية شعور النفس به.
•••
والقمر زاهٍ٢ رَفَّاف من الحسن؛ كأنه اغتسل وخرج من البحر.
أو كأنه ليس قمرًا، بل هو فجرٌ طلع في أوائل الليل، فحصرته السماء في مكانه ليستمر الليل.
فجرٌ لا يوقظ العيون من أحلامها، ولكنه يوقظ الأرواح لأحلامها.
ويلقي من سحره على النجوم فلا تظهر حوله إلا مستبهِمة كأنها أحلام معلقة.
للقمر هنا طريقةٌ في إبهاج النفس الشاعرة، كطريقة الوجه المعشوق حين تقبِّله أول مرة.
•••
و«للربيع المائي» طيوره المغردة وفراشه المتنقل:
أما الطيور فنساء يتضاحكن، وأما الفراش فأطفال يتواثبون.
نساءٌ إذا انغمسن في البحر، خُيِّل إليَّ أن الأمواج تتشاحن٣ وتتخاصم على بعضهن …
رأيت منهن زهراء فاتنة قد جلست على الرمل جِلسة حواء قبل اختراع الثياب، فقال البحر: يا إلهي! قد انتقل معنى الغرق إلى الشاطئ …
إن الغريق مَن غَرِق في موجة الرمل هذه …
•••
والأطفال يلعبون ويصرخون ويَضِجُّون كأنما اتسعت لهم الحياة والدنيا.
وخُيِّل إليهم أنهم أقلقوا البحر كما يقلقون الدار، فصاح بهم: وَيْحَكُمْ يا أسماك التراب …! ورأيت طفلًا منهم قد جاء فوكز البحر برجله! فضحك البحر وقال: انظروا يا بني آدم!
أعلى اللهِ أن يعبأ٤ بالمغرور منكم إذا كفر به؟! أعليَّ أن أعبأ بهذا الطفل كيلا يقول إنه ركلني برجله …؟!
•••
أيها البحر، قد ملأتْك قوةُ الله لتثبت فراغ الأرض لأهل الأرض.
ليس فيك ممالك ولا حدود، وليس عليك سلطان لهذا الإنسان المغرور.
وتجيش بالناس وبالسفن العظيمة، كأنك تحمل من هؤلاء وهؤلاء قشًّا ترمي به.
والاختراع الإنساني مهما عَظُمَ لا يغني الإنسانَ فيك عن إيمانه.
وأنت تملأ ثلاثة أرباع الأرض بالعظمة والهَوْل، ردًّا على عظمة الإنسان وهوله في الربع الباقي؛ ما أعظمَ الإنسانَ وأصغرَه!
•••
ينزل في الناس ماؤك فيتساوون حتى لا يختلف ظاهرٌ عن ظاهر.
ويركبون ظهرك في السفن فيحِنُّ بعضهم إلى بعض حتى لا يختلف باطن عن باطن.
تُشعرهم جميعًا أنهم خرجوا من الكرة الأرضية ومن أحكامها الباطلة.
وتُفقرهم إلى الحب والصداقة فقرًا يريهم النجوم نفسها كأنها أصدقاء؛ إذ عرفوها في الأرض.
يا سحر الخوف، أنت أنت في اللجة كما أنت أنت في جهنم.
•••
وإذا ركبك الملحد٥ أيها البحر، فرجفتَ من تحته، وهدرتَ عليه وثُرْتَ به، وأريتَهُ رأي العين كأنه بين سماءين ستنطبق إحداهما على الأخرى، فتُقْفَلانِ عليه، تركته يتطأطأ٦ ويتواضع، كأنك تهزه وتهز أفكاره معًا، وتدحرجه وتدحرجها.
وأطَرْتَ كلَّ ما في عقله، فيلجأ إلى الله بعقل طفل.
وكشفت له عن الحقيقة: أنَّ نسيان الله ليس عمل العقل، ولكنه عمل الغفلة والأمن وطول السلامة.
•••
ألا ما أشبه الإنسان في الحياة بالسفينة في أمواج هذا البحر!
إنِ ارتفعتِ السفينةُ، أو انخفضت، أو مادت،٧ فليس ذلك منها وحدها، بل مما حولها.
ولن تستطيع هذه السفينة أن تملك من قانون ما حولها شيئًا، ولكن قانونها هو الثبات، والتوازن، والاهتداء إلى قصدها؛ ونجاتُها في قانونها.
فلا يَعْتِبَنَّ الإنسان على الدنيا وأحكامها، ولكن فليجتهد أن يحكم نفسَه.
هوامش
١ احتدم الصيف: اشتدت حرارته.
٢ زاهٍ: فَرِحٌ مفتخِر بحسنه وجماله.
٣ تتشاحن: تتخاصم.
٤ يعبأ: يهتم.
٥ الملحد: الكافر.
٦ يتطأطأ: يخفض رأسه إذعانًا وخضوعًا.
٧ مادت: انزلقت، تحركت متزحلقة إلى الأمام.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.