tafrabooks

Share to Social Media

عمرو كرم


الأحد 4 مارس – التاسعة صباحًا – مستشفى الشيخ زايد

ماذا يحدثُ؟ أين أنا؟ ومَن هؤلاء! لماذا يَحْمِلُونَني على سرير؟! أسمعُ أحدَهم ينادي فيهم، لكنْ لا أسمعُهُ أو أراهُ بوضوح.. أظنُّه يُطالبُهم بالتوجُّهِ إلى غرفةٍ ما!
- حالةُ الضغطِ، وضربات القلب؟
- الضغط كويس.. ضربات القلب سريعة شوية.
لماذا يفحصُني هؤلاء؟ يبدو أنني بمستشفىً ما.. لكن لماذا؟! ها هي أمي عن جواري.. لماذا لا تحدثني! ولماذا تبكي؟ ما الذي حدث؟! لماذا لا أقوَى على النطقِ! فهمتُ.. إنه كابوس، وسأنهض بعد قليل لا أتذكر منه شيئًا!
أحاولُ أنْ أنطقَ فلا أقوَى على تحريكِ شَفَتَيَّ! أنادي أمي دون صوتٍ... فترد عليّ بنظرة شَفَقٍ، وتغمغم بالدعاء مرارًا.. أثابر على المحاولة بلا جَدْوَى!
يبدو أنه ليس كابوسًا.. فأنا مُسْتَلْقٍ هكذا منذ ساعات! أغيب عن وعيي الهَشِّ، وأعود مجددًا لمحاولة التحرُّك.. أو النطق.. بلا جَدْوَى! استسلمُ أخيرًا للوَهَنِ.. الصداع يَتَمَلَّكُني.. أشعرُ كأنَّ رأسي كرة (راجبي) في مباراة حاسمةٍ لدوري كرة القدم الأمريكيّ! بدأتُ أرى أميَ بوضوح أفضلَ من ذي قبل.. محاطة بالأطباء.. أظنهم يحاولون طمأنتَها. أرى طبيبة شابة تدخل الغرفة، وتحمل بيدها كثيرًا من الأوراق.. يبدو من استعراضها لتلك الأوراق أنها تقارير حالتي. لا يظهر على هذه الطبيبة الكثير من التوتر، فقط القليل منه! عرّفتْ نفسها بأنها (الدكتورة ياسمين أخصائية المخ والأعصاب) يبدو أنني بدأتُ أسمع أفضل من ذي قبل أيضًا.. أظنها تشير إلى أن كل التحاليل والأشعة تبدو مطمئنة، وأنه لا يوجد سبب واضح لحالتي... بيد أنها تشك بأن علّة نفسيّة هي ما قد جاءت بي إلى هنا.. لا أتذكر الكثير حقًا، ولا أعرف الذي شكلني على هذا النحو، بيد أنني لا أركن إلى اعتقادها هذا...!
تتلكأ عقاربُ الساعة أمامي، وأنا أراقبها عن كَثَبٍ، ولا أدري كم من الوقت قد راقبتها! أتأمل ما يدور من حولي بأذن منزعجة، وشطر عين، بلا لسانٍ ينطق، أو يدٍ تُلَوِّحُ، ولا جسدٍ يَقْوَى على الحركة!
ها أنا بدأت أتذكر ما جاء بي إلى هنا.. استيقظتُ مبكرُا كعادتي، لم أعانِ أيَّ إرهاق، ولم أشعر بأي تعب، رغم أنني كنت قد وصلت منزلي عند منتصف الليل بعد أن قضيت عطلة نهاية الأسبوع مع رفقائي بمدينة العين السخنة، وفي أثناء تناولي الإفطار مع أمي أُغْشِيَ عليّ فجأة دون أي مقدمات.. ولكن، كيف أُغشيَ عليّ وأنا أحدثني الآن! وكيف لي أن أرى كثيرًا مما يدور حولي! تراني مت وأتجول الآن بروحي؟! لا أظن، فأنا لا أرى سوي ما تسمح به تلك الفتحة الضيقة التي صنعها هدب عيني الأعلى، الذي لا طاقة له لملامسة نظيره الأسفل... في حين تكون الروح حرة ومنطلقة أكثر من ذلك.
تحبو الساعات، وأنا في حالتي الغريبة هذه، كأن جسدي في حالة شلل تام، في حين أنني قادر علي سماع القليل ورؤيته. أظن أن أمي قد غادرت؛ لتطمئن على حالتي من الأطباء.. وها أنا بدأت أستفيق..
يؤلمني جسدي بالكامل، ولا زلتُ أشعرُ بصداع شديد! ورغم استيقاظي للتو، إلّا أن رغبة جامحة للنوم تجتاحني مرة أخرى! الصورة أمامي تهتز ببطء شديد! تُرى.. كم لبثتُ على هذا الحال؟ أنظر حولي فأتيقنُ أنني لست بمنزلي.. إنها فعلاً مستشفى! يتبين لي أن الغرفة كما كنت أراها تمامًا.. إذنْ ما رأيته وشعُرتُ به لم يكن حُلمًا، ولم تكن هلاوس! أتذكر تلك النافذة الكبيرة عن يمين سريري، والتي تطل على حديقة المستشفى كما رأيتها، وهذا التلفاز الصغير المعلق على الحائط أمامي.. تمامًا مثلما رأيته، وذلك الحائط عن يساري يمين باب الغرفة، ونصفه الأعلى من الزجاج.. أكبر قليلاً عمّا عرفته، ويكشف البهو الكائن أمام الغرفة بالكامل. هااه.. من تلك الحسناء أمام غرفتي؟ ما أجمل هذا الشعر الأسود الثائر الذي يزين العمل الفني الرائع أسفله! يا إلهي! أهذه مجرد خطوات أم أنها تعزف؟! إنها تقترب من باب غرفتي، يا لَحَظِّي..
- صباح الخير..
لم أتدبر يومًا معني هذه التحية.. كنت أستقبلها عادةً كأنها دعاء من المحيي إلى المُحَيَّا، ولكن قد انكشف لي معناها الآن فقط.. نعم، إن هذا هو الخير كله الذي سيزين نهار يوم يبدو أنه سيكون طويلًا وشاقًا.. فأي خير يكون أفضل من رؤية آية من آية الله.. هذا الجمال..
- متأسفة، هي ديه مش غرفة هاني البنا جوز مي؟
شردتُ طويلاً، فسهوتُ عن رد سلامها؛ فعادت -هي- لتسألني عن هاني.. ترى من ذا الهاني؟ كم تمنيت لو كنت هو، فبخلاف أن أكون هاني، كيف سأبقيها أمامي حتى تكتفي عيني من تأملها، وكيف ستلمسها يداي لتهنأ بها كما هنأت عيناي؟!
- لا يا فندم مش هي.
جاوبتُها على مهلٍ، فردَّتْ من فورها، وهي تستعد للمغادرة:
- آسفة على الإزعاج.. ألف سلامة.
يا إلهي، أي إزعاج هذا! وأي سلامةُ ستكون بعد رؤية تلك العينين الزرقاوين الساحرتين المليئتين بالشغف؟! لم أتمكن من رد سلامها للمرة الثانية، ولا حتى الرد على اعتذارها، فقد سيطرت عينايَ على عقلي تمامًا، وباتت تأخذ القرارات نيابة عنه، وقد قَرَّرَتْ أن تستمتع بتأملها فقط! بدأت المعركة بداخلي تشتعل.. يدي تغار من عيني وترغب بشدة أن تنعم بلمسها، في حين أن لساني يشعر بأنه مقيد، ولا يستطيع مخاطبتها بحرية، فيحاول.. لكنّ أذني تحجمه كي تستمتع بصوتها.. لابد من السيطرة على هذا الوضع! أين ذلك العقل؟ لم يتركني مشتتًا بهذا الشكل! استحضرته، فشرع من فوره بتوزيع المهام على كل عضو بجسدي، ووعد كلًا منهم بنيل قسط من رحيقها، ثم بدأ بتنفيذ خطته فورًا، فنطق لساني مستعطفًا:
- بعد أذنك ممكن تناوليني ريموت التكييف؟
رَدَّتْ بلطفٍ:
- آه طبعاً، اتفضل.
قررت يدي -دون إرادة مني- أن تأخذ راحتها مع الريموت.. لا أدري من أين لها هذه الجرأة! لكن هنا وبمنتهى الحزم قيدها عقلي، وأخبرها أن التلامس لا يكون أبدًا في أول لقاء... يا إلهي أنه يخطط للقاءات أخرى.. رائع.
- شكرًا، ممكن كمان آآآه... تناوليني كوباية مياه؟
كان ينبغي عليّ أن أبقيها لأطول فترة ممكنة.. وكانت الثلاجة الصغيرة تقع تحت النافذة التي على يمين سريري، بينما الأكواب على منضدة أسفل الحائط الزجاجي الملاصق للباب عن يساري، فعليها أن تجتاز الغرفة يمينًا لتحضر قِنّيْنَة من الثلاجة، ثم يسارًا لتحضر كوبًا، ثم تقترب مني مجددًا لتناولني إياه.. بالفعل، قامت بها كما ينبغي.. ومكثت أتأملها في ذهابها وإيابها وأرسمها في ذهني؛ كي لا أنساها.. أيّ جمال هذا! يتثنى قَدُّها في مِشيتها، كأنها تقدم عرضًا على خشبة المسرح! تسير ببطيء فتتيح لي مزيدًا من التأمل.. منحنياتُها متناسقة بدقة فائقة، كأنها لوحة فنية رسمت بعناية! قوامُها ممشوق، وَجْنَتَيْها لها احمرارُ الورود، وشعرُها ينساب كما الحرير على كتفيها، فتحرِّكُ يدها بخفة لتزيح شعرها للخلف؛ فيسكرني رحيقُها.. أراقب حركة يدها.. لا تزدان بخاتم في يدها اليمنى. ناولتني كوب المياه بيدها اليسرى، لا تنطوي هي الأخرى على خاتم، وبرقة الورود سألتني:
- خدمة تانية؟
فكرت أن أطلب منها ضمَّ راحتها، فقط لنصرة العدالة في توزيع ذلك الشعور الرائع بين أعضاء جسدي، لكنني تراجعت:
- لا، شكرًا وآسف على تعبك.
غادَرَتْ غير مكترثة لشكري أو اعتذاري.. رحلتْ قبل أن أخبرَها أنّ إزعاجَها الذي تعتذر عنه كان مِثل (عزف أوركسترا موسارت) على ضفاف نهر الريفييرا وسط جبال لبنان لحظة غروب الشمس عن بلاد الأندلس... يا له من إزعاج. رأيتها من خلال الحائط الزجاجيّ مرة أخرى، تَعَمَّقَتْ بالرَّدْهَة التي تبدأ بغرفتي، وتلاشت ببطء كما يتلاشى ضوء الشمس بعد توهجها الشديد، لكنّها نظرت إليّ قبل أن تغيب عن نظري.. اختبأتْ خَلْفَ نظرتها ابتسامةٌ خفية، وظلَّت عيناها ترقبني حتى حال الحائط بيننا.. لم أدرك السر وراء تلك النظرة، أو المغزى لتلك الابتسامة المسجونة خلف قضبان وجهها، تراها شَعُرَتْ بما شَعُرْتُ به؟! أم أنها ابتسامة الجميلة لمجنونها!
- عمرو.. ألف سلامة عليك يا حبيبي، طمني حاسس بإيه؟
هكذا تحدثت أمي فَرِحَةً بمجرد أن رأتني فاتحًا عيني.. أخبرتُها أنني لا أشعر بأي ألم.. لم أتحايل عليها، وإنما فجأة تعافيت تمامًا! لا ينقصني فقط سوى قليل من النوم، والكثير منه لن يضر. عَلِمْتُ أنّ كل التقارير والفحوصات تشير إلى أنني بصحة جيدة، فغادرتُ المستشفى بعد مكوثي بها قرابة يوم وليلة. لا يشغل بالي ما أصابني من تعب، بقدر ما أصابني من عينيها... تلك الفاتنة التي مرت عليّ كمرور موج البحر على سفينة غارقة منذ مئات السنين، غمرتني بطلّتها. تُرى هل سألقاها مجددًا؟ أسأل نفسي وأجيب أنه حتمًا سألقاها، فإن لم يكن ذلك حظي فسأصنع حظي بنفسي.
مر يومان وتلك الفاتنة لم تغب عن مخيلتي.. تَمَلَّكَتْها فأهلَكَتْها؛ فقررتُ البحث عنها فورًا، وكانت نقطة الانطلاق واضحة جدًا.. إنه هاني البنا زوج مي. ذهبت إلى المستشفى وسألت عن غرفة هاني البنا، فاكتشفت أنه قد غادر. سعيت للتواصل مع أحد المسئولين بالمستشفى للحصول على بياناته، لكن الأمر لم يكن بالسهولة التي تصورتها!



مراد العدوي


الاثنين 5 مارس – الثامنة والنصف صباحًا – قصر العدوي – مدينة الشيخ زايد

استيقظت متأثرًا بقرع صوتها في أذني بعلو، هذه ليست مجرد مناداة.. إنه صراخ! أيقظتني أنا وفريدة بدقاتها المتواترة على باب غرفتنا.. في الحقيقة كان هذا وقت نهوضي، أو قربه. دخلت أمي الغرفة بعد أن أذنت لها، وتحدثت وجلة:
- يوسف في العين السخنة مع اصحابه بقاله كام يوم، ومن امبارح الصبح مابيردش عليّا.. وبكلم مريم لقيتها هي كمان متعرفش عنه حاجة!
زفرت مستنكرًا، وتطلَّعت إلى الساعة مجددًا، ثم تحدثت إليها متلهفًا بعض السكينة:
- عادي يا ماما، تلاقيه مشغول ولا طلع رحلة في البحر ونسي تليفونه.
- لا طبعاً، كان كلمني من تليفون حد من صحابه.
ثم رفعت صوتها أكثر، وقالت مستنكرة كأنني دهست كبرياءها بحذائي:
- ومشغول عني إزاي يعني.. ده عمره ما عملها قبل كده!
- طيب إنت عايزاني أعمل إيه دلوقتي؟
- قوم نروح له.
تعلم أمي جيدًا أن القطيعة هي علاقتي بيوسف منذ عام كامل، وتريدني الآن أن أترك أشغالي، وألهث خلفه!!
- ماما أنا عندي شغل ومواعيد مهمة، مش معقول هسيب أشغالي وأجري في الشوارع عشان واحد مابيردش على تليفونه! اهدي بس شوية، وهتلاقيه بيكلمك دلوقتي.
- لا أنا مش هاهدى، وخلاص مش عايزة منك حاجة.
طالبتها بالانتظار قليلاً؛ حتى أستعد لأذهب معها.. فبرغم أنني لا أتمنى رؤية يوسف، إلّا أنني أيضًا قلق عليه.. أو قد أكون قلقًا من غضبها.. أو الاثنين، لا يهم. خضعتُ لرغبتها، وتجنبتُ غضبًا لا أقوى على رده، أو حتى صده!
دخلتُ الحمّام وعالجت جسدي من صدمة صراخ الصباح الذي انهال عليّ، ثم ركنتُ إلى شُرْفَةِ غرفتي مرتديًا روب الحمام الأبيض.. أشعلت سيجارة وأنا أتأمل أسفل الشرفة.. هذه الحديقة الفسيحة المزدانة بالأشجار والنخيل والسيارات الفارهة.. كلها قد تذهب هباءً بسبب تُرَّهات يوسف.. أحقاً قد ينهار كل شيء بسبب سوء تصرفه؟ أم هي تصرفاتي أنا ووالدي؟ لا يهم.. في كل الأحوال، هو يضع كل شيء على المَحَكِّ، وليست أملاكنا فقط.. إنما حريتي أيضًا. انتهيت من سيجارتي وبدأ جسدي يشعر بحيويته تدريجيًا.. تأنّقت كعادتي، حتى صَرَخَتِ باسمي مطالبةً لي أنْ أُسْرِعَ.
كنت حاضرًا جسديًا، غائبًا ذهنيًا عندما أخبرتني عن غياب يوسف.. لم أحْظَ بأي فرصة للتعقل.. ما الذي منعها من محاولة الاتصال بأصدقائه؟ بالتأكيد لم يسافر وحده! نزلتُ من غرفتي ووجدتُها تتوسط بهو القصر بانتظاري.. عرضتُ عليها فكرتي؛ فتلقفتْها بفرحة كأنني عبقري.. لعلي كذلك! ثم شَرَعَتْ بالاتصال فوراً بكريم صديقه فأخبرها:
- أنا وعمرو رجعنا يوم السبت بالليل عشان شغلنا، ويوسف قال إنه هيتابع بتوع الصيانة يوم الأحد الصبح وبعدين يجي.. هو لسه ماجاش؟
زاد توتر أمي أكثر بعدما تأكدتْ أن يوسف قضى آخر ليلتين وحده، وهَرَعَتْ للخروج فورًا باتجاه (العين السخنة)، حتى أنها كادت تَهْوِي في أثناء صدامها مع درجات السَّلَّم الخارجي للقصر، وفيما كنت آخذًا بيدها، وأطالبها بالتريث، ثارت في وجهي بلومٍ وعتاب قائلة:
- أوعي يا مراد خلافاتكم تأسيك على أخوك الصغير.. ده إنت اللي مربيه.
أخذت عدة ثوانٍ كي أستوعب ما ترمى إليه! وريثما فهمت اندهشت قليلاً، وفي حين قررت لومها وتأنبيها.. عجزت عن النطق! توقف قلبي للحظات عن الخفق، وسادت الدهشة -التي كانت قليلة- وجهي، واحترت فيما عليّ التفوه به... أمسكت عن الكلام، وبدا عليّ التوترُ.. ولم أقدر سوى أن أتمتم:
- إن شاء الله يوسف بخير.
لم أستطع، أو لم أرغب في قول شيء ينفي ادعاءها.. بالتأكيد هي ليست على حق، أو قد تكون؟ وكيف أعرف أسرار نفسي! إن يوسف أخي، وأقرب ليكون ولدي.. حقاً قد ساهمتُ في تربيته، لكنّه لم يعد كما كنتُ أعرفه.. أم أنني من لم يبق على حاله؟
تحركنا بسرعة حتى وصلنا (فيلا السخنة) بعد ساعة ونصف.. انطلقت أمي بجنبات الفيلا وأدوارها.. بينما اتجهتُ إلى الحديقة الخلفية؛ حيث هالني ما نظرت...!! وجدته مستلقياً على الأرض، جهاز (اللاب توب) على المنضدة بجواره مرفوعة شاشته المظلمة، وكان كوب العصير مائلاً على حافة المنضدة المرتفعة، لا يحتوي إلا على القليل.. اقتربت منه، وما لمسته حتى وجدته يفتح عينيه.. كأنه كان منتظرًا أكثر الوجوه التي لا يتمني رؤيتها ليستفيق أمامه.. أو لعل جذبي ودفعي لجسده هو ما أيقظه؟ فتح يوسف عينيه، وأمعن إليّ النظر، وكأنها المرة الأولي التي يراني فيها... لم يحنَّ عليّ بهذه النظرة منذ بدء خلافاتنا.. أو أظنني لم أنل هذه النظرة من قبل! من أين له نظرة أمنّا هذه، فهو لم يشبهها قط؟ شعُرتُ وكأنَّ لديه الكثيرَ ليقوله، فبادرته:
- إيه اللي حصل احكيلي، حد عملك حاجة؟
لم ينطق يوسف بكلمة واحدة، وإنما كان جوابه أنْ دفع جسده لأعلى متعلقاً بكلتا يديه إلى كتفي، ثم احتضنني...!! آخر مرة احتضنّا، أو حاولنا الاحتضان، وفشلنا حسب ما أتذكر.. كانت منذ عام مضى، بعد وفاة والدي بعامين تقريبًا، عندما فكّرت في صفعه على وجهه وتراجعت.. كان حضنًا باردًا خشنًا ليس كهذا الحضن الدافئ، وفي حين يبدو لي أن هذا الحضن نهاية فترة سيئة لعلاقتنا كان ذاك الحضن هو بدايتها.
بدأت خلافاتنا بعد وفاة أبينا مباشرة.. أو تفاقمها هو ما كان بعد وفاته، إنما بدايتها كانت أثناء فترة مرضه، قبل ثلاث سنوات من اليوم. بدء يوسف حينها التحدث إليّ بأنه قد نما إلى علمه عن طريق صديقه وكيل النائب العام، أن هناك بلاغاتٍ عن تَوَرُّطِ الشركة في قضية فساد كبيرة، وبرغم أنه لم توجه إلينا أيةُ تهمة رسمية، إلا أنه لم يهدأ، واستمر في البحث، حتى أن الشركة التي لم تخطها قدمه من قبل إلا مرة أو اثنتين، بات يدخلها باستمرار.. كانت زياراته أشبه بحملات تفتيش!
لم يعثر على ما يدين الشركة، أو قد يكون وجد القليل.. فقط بعض الهدايا والإكراميات المطلوبة للاستمرار بالمنافسة.. لم أستطع أن أفهم، إن كان هذا، قد أسعده أم أحزنه! وإن كان قد حزن.. أحزن لوجود مخالفات بسيطة، أم حزن لعدم وجود مخالفات كبيرة؟! غمرت نفسي بأسئلة لا علاقة لها بالمنطق، ولا علاقة لها بيوسف، أخي الذي أوقن أنه أشرف وأنقي مَنْ عَرَفْتُ، أم أنني لا أعرفه؟ عمومًا، سواء أنا أو والدي.. كلانا لم يسرق أحدًا، ولم نجلب سلعًا فاسدة للبلد، لم نسمم أهلنا قط.. ذلك ما أعرفه جيدًا.. فقط قد تَسَلّْلْنا وَسَط الفاسدين بأقدام خفيفة خفيّة، حتى رسمنا طريقًا وانفردنا به، وصنعنا اسمًا كبيرًا متميزًا في الصناعة والتجارة وغيرهما.. لم نترك مجال عمل حتى تفوقنا فيه.
بدأت تراود يوسف أفكار عن تطهير الثروة بمجرد أن رأى تلك المخالفات التافهة مع بعض الشائعات المغرضة! أي نهج ذلك الذي كان سيتخذه من أجل التطهير؟ التنازل عن ثروتنا للدولة، أم التبرع بها للجمعيات الخيرية، أم بِسَجْنِي؟ لا أدري، ولم ينم إلى مسمعي مثل هذا التفكير من قبل، أسمع غيري؟ لا أظن، أو أظن.. لا يهم!
قمت بنقل كل ممتلكاتنا إلىّ باستخدام التوكيل العام من والدي قبل وفاته بعدة أيام... فكرتُ مليًا بهذا القرار قبل أن اتخذه.. أو لم أفكر.. لا أتذكر.
علم يوسف بالأمر وبدلاً من الانصياع لأخيه الأكبر، زاد عناده. أتُرى لو كنت مكانه! كنت أفعل مثله؟ أم أنصاع إلى من يكبُرني بثمانية أعوام وهو بمثابة أبي؟ لكن.. كيف لو كنت مكانه؟! لقد كنت كذلك بالفعل! ألم أواجه نفس الحيرة مع أبينا عندما بدأتُ التوغل في إدارة الشركات! لقد التزمت بما علمني إياه، وأكملت مشواره.. لقد كنت مكانه بالفعل، لكنني لم أرتكب حماقاته تلك. هل كان يتوجب عليّ ارتكابها؟
كنت أقبل انتقادات يوسف وتلميحاته طوال عامين، حتى ذلك اليوم حين اتهمني بالفساد...!! لم أتمالك نفسي.. وجدت يدي تغادرني إلى وجهه.. سيطرت عليها بصعوبة، ثم غلبتني مشاعر الخزي فاحتضنته، أو حاولت احتضانه.. ومن يومها شابت علاقتنا وذَبُلَتْ.. رُفعت يدي لأعلى، وكأنها رُفعت لتبنيَ سورًا فولاذيّا بيننا.
استمرت علاقتنا في التدهور يومًا بعد يوم.. وغادر يوسف المنزل هو ومريم ورحمة، ولجأ إلى القضاء يتهمني بتزوير عقود نقل الملكية.. أفعل ذلك حقاً؟ لا زلت حتى الآن غير متيقن! حتى بعد أن اطَّلَعْتُ على ملفات القضية، وحضر المحامي إحدى جلساتها التي انتهت بالتأجيل.. لا زلت أتشكك، أفعلها يوسف؟! اشتعلت وتوهجت تلك الذكريات بعقلي، حتى أخمدها يوسف بصوت خافت مجروح:
- مراد.. إزيك عامل إيه؟
أي حال يسأل عنها من في هكذا حال؟! إنه يبدو ككهل في ستينيات عمره، وليس في منتصف عقده الرابع! كيف لمن يمرُّ بأزمة كهذه أن يبادر هو بالسؤال عن صحة الآخرين! أم أنه لا توجد أزمة؟! كيف يسأل عن حالي وهو لا يعرف حقيقة حاله؟! توقيت السؤال الذي أصابني بالدهشة، ومن قبله ذلك الحضن، ووصول أمي، وتفقدها أحوال صغيرها، منعوني من الرد عليه، في حين تحدثت أمي متلهفة:
- حبيبي مالك؟ إيه اللي حصل؟
- مش عارف، آخر حاجة فاكرها إني بعد ما فطرت قعدت هنا أشتغل شوية، وكنت مستني بتوع الصيانة.. ومش فاكر أي حاجة تاني. بس إنتوا إيه اللي جابكم؟
لم يتصور أنه قد مر يوم وليلة وهو مُسْتَلْقٍ على الأرض، ولم يصدق حتى تأكد بنفسه من التاريخ والوقت. وسَرعان ما استعاد توازنه، وتحركنا فورًا عائدين إلى القاهرة. قضينا في السيارة أغرب ساعتين قضيتهما معه طيلة حياتي.. تارة أراه أخي الذي عرفته من قبل، وتارة أراه ذلك الشخص الذي لم أعتده في الأعوام الأخيرة.
سرد يوسف كل ما يتذكره حتى صباح أمسٍ.. لم تكترث أمي لتلك التفاصيل بقدر فرحتها بسلامته، وكذلك أنا لم يشغلني ما حدث له بقدر ما شغلتني ردة فعله تلك، هو نفسه بدا مستغربًا تقلب أحواله! أو أظهر ذلك.. فقد كان ينظر إليّ مبتسمًا، ثم فجأة يُظلم وجهه وتذوب الابتسامة! يسألني عن حالي، وقبل أن أرد عليه يزيح وجهه من أمامي، ويوجه سؤالًا مختلفًا لأمي! استمر هكذا حتى عُدنا إلى القصر.. وعلى درجات سلمه الرخامية العريضة المزينة بالورود عن الجانبين قابلتنا مريم زوجته، وبيدها صغيرتهما رحمة، وكذلك فريدة زوجتي وآسر وفيروز أبنائي.. الكل في انتظارنا للاطمئنان على يوسف.. الكل يحبه ويهتم لأمره، وكذلك أنا.. أم أنني تغيّرت؟ لا، لا أظن.

يوسف العدوي


بعد الظهر

غادر مرادٌ القصرَ دون دخوله، فيما مكثتُ أنا مع أمي ومريم وفريدة أكثرَ من ساعة، يسألوني عمّا جرى؛ لأرد عليهم بما لا ينفع أو يضر! فأنا حقاً لا أتذكر أيَّ شيء... لم تسمح أمي بمغادرتي البيتَ، وأصرَّتْ أن أصعدَ إلى غرفتي؛ لأستريح بها حتى يشرف المساء لتطمئن تمامًا على صحتي. استأذنتُهن، وصعدتُ، بينما بقيتْ مريمُ ورحمةُ معهما.
لم تطأ قدمي هذه الغرفة منذ قرابة عام.. دخلت لا ألوي على شيء.. ولا أخفي أنني كنت قد اشتقت إلى كل ركن هنا.. ألقيتُ قميصي أرضًا بمجرد أنْ دخلت الغرفة، فمنع الباب من الانغلاق حين حاولت جذبه خلفي دون عناية، فيما سقط البنطالُ عني منهكًا قبل وصولي الحمّام... أخذت حمّامًا دافئًا، ثم صلَّيْتُ ما فاتني. شعُرْتُ في أثناء صلاتي بقدَمٍ تتحرَّك بخفة في الغرفة، وسريعًا ما خفت ذلك الصوتُ، ثم تلاشَى.. كان عَمِّ صابرٌ قد أعد لي كوبًا من القهوة باللبن كما أفضله، وتركه على المنضدة من خلفي.
أخذت الكوب، وصنعتُ من أصابعي شبكة تحمله، وبقيت أدفِّئُ يدي وأتأمل من الشرفة شمس الشتاء الحنونة في آواخر أيامها وهي ترمي سهامها برفق على الأشجار والنخيل بالحديقة.. خلاء يبعث الطمأنينة على نفس لا ترتاب، ويهدي الحيرة لكل محتاج، وسؤال تلو الآخر يفتح باب الذكريات، مرها قبل حلوها.. أو حسب الاحتياج! أحقاً قد تكون هذه الثروة حصاد سنين من الفساد؟ ينفي مرادٌ ذلك الادعاءَ دومًا.. لكن كيف لي أن أصدقه، وقد اكتشفت هذه المخالفة الجسيمة بعد عدة أيام فقط من التفتيش في ملفات الشركة؟ وبخبرة منعدمة في أمور الإدارة أو المراجعة! ولو أن الأمر كما يدَّعِي، فلماذا أوقفني عمّا كنتُ أُجْرِيه من مراجعات وتدقيق؟ ولِمَ قام بنقل ممتلكاتنا لنفسه بمجرد معرفته نيتي بتطهير هذه الثروة ممّا يشوبها من حرام؟ أتُراه حقًا قد انزعج فقط من أفعالي، ويخاف على سمعة العائلة وسمعة أبينا غفر الله له؟ أم أنه متواطئ مع شيطانه ويحذر الفضيحة أو السجن؟!
أتذكر جيداً آخر محادثة قد دارت بيننا منذ عام، وكيف آلت الأمور لهذا الحد من بعدها.. كان مراد قد نقل كلَّ ممتلكاتنا باسمه قبل وفاة والدي بأيام قليلة، دون أن يستطلع رأي أحد أو حتى يخبرنا لمجرد العلم! وكنت في أثناء تفتيشي بالشركة قد حَصُلْتُ على مستند يثبت دفع الشركة لمبلغ بعشرات الملايين من الجنيهات تحت بند ركيك غير مفهوم، وعندما أصررت على معرفة أصل هذا المبلغ، أَخبرني:
- المبلغ ده كان قيمة هدية لحد من كبار المسئولين.
تساءلت حينها.. أي شركة تدفع عشرات الملايين رشوى؟ ولماذا قد تضطر لدفع مبلغ كهذا إلا لو كان لتسهيل تجارة محرّمة؟! لم أستطع حبس تلك الأسئلة بداخلي، وقذفتها بوجهه.. كان حوارًا خشنًا عنيفًا.. رآه مراد كتحقيق معه واتهامات واضحة لم يقبلها، ولم يقابلها بما ينفيها، ولم يحاول تبريرها.. بل فاجأني:
- ياريت تعرف إن كل حاجة بقت مكتوبة باسمي من قبل وفاة بابا، ومش هسمح مرة تانية إنك توجهلي اتهامات زي ديه.
- يبقه إنت كده بتأكد ظنوني!
الجرح البسيط عندما يأتي من قريب يكن غائراً، ورده عندما يصيب يكن فتاكاً... فقد كان عصيًا عليه سماعُ مثل هذه الاتهامات مني.. كنت فظًا، بيد أن فعلته هي الأخرى لم تكن هينة! كيف له أن يفرض سيطرته على ميراثي، ثم يرميني بتهديد؟! بل يتمادى أكثر، ويفكر أن يصفعني على وجهي، ثم يعدل عن ذلك، ويحاول احتضاني بين ذراعيه.. لم أستطع أن ألقي برأسي على صدره كما كنت أفعل بصغري، فكيف يكون هو المداوي والجاني؟ كيف يكون قدوتي وعاري؟!
فاض بعدها صدري بالهم، ورويدًا رويدًا، لم أعد قادرًا على مشاهدته أمامي يسيّر حياته وأعماله كأنَّ شيئًا لم يكن! فغادرت القصر، وسكنت شقة بأحد التجمعات السكنية التابعة لشكرتنا، ومنذ ذلك الحين بدأت القطيعة تخط علاقتنا، وذابت أمُّنا ذهابًا وإيابًا مروِّجَة للصلح، ولكنَّ كلانا ورث عنها عنادها.
تعصف بي الذكرياتُ كلما تواجدتُ بهذا المكان، ولو أنني استسلمتُ لها؛ لاستولت عليّ اليوم بأكمله.. نزعتُ هاتفي من الشاحن بعد أن عادت بطاريته هي الأخرى للحياة، وكما توقعت تمامًا، عشرات المكالمات الفائتة والرسائل.. لكن، هناك الكثير من الغموض تحتويه رسائل عمرو.. كما أن هاتفه أيضاً مغلق!
- طب اتصل بكريم!
هكذا أفكر، لكن في الأخير أقرر الاستسلام للنوم.

روميو


مدينة الشيخ زايد – الاثنين 5 مارس – التاسعة صباحًا

طلع الصباح كل الجمال في طلعته ... والنور سرح كحل عنينا بفتنته
والطير صدح للمولى جلّت قدرته ...ألحان جميلة تسعد القلب الحزين*

- صباح الفل يا ست الكل..
- صباح الخير يا كيمو.. حلوة أوي الأغنية اللي كنت مشغلها ديه.
عادة لا أستمع لأغنيات أو أي شيء آخر بمجرد استيقاظي، لكنّ هاتفي كان قد قرر من تلقاء نفسه أن يسبغ صباحي بلون البهجة... مُسْتَشْعِرُ اللمس الخاصُّ به أصبح حساسًا بزيادة عن اللازم، لكن الحقيقة أنني أستمتع بما يقدمه إليّ من مفاجآت.. مثلاً، بالأمس كنت أحاول الاتصال بأحد عملاء الشركة، ويُدْعَى إيهاب متولي، ولكنه قرر الاتصال بإيهاب محفوظ أحد زملاء الجامعة، والذي لم نتواصل معًا منذ عدة أعوام... كانت المكالمة رائعة حقًا، ضحك إيهاب ملءَ قلبه بعد أن صارحته بالدافع الحقيقي لاتصالي به! أشعر وكأنَّ هذا الهاتف يعيد تقييم احتياجاتي، ويعدل أوامري وفقًا لتقييمه هذا...!
- أمال بابا ونور فين.. نزلوا بدري ولا إيه؟
أختي نور تقيم معنا منذ أن وصل حملها إلى شهره السابع، في حين أن شادي زوجها دائم التنقل بين منزلنا ومنزلهما، وبرغم أنني اعتدت ألّا أراها صباحًا هي أو أبي إلا أنني اعتدت أن أسأل عليهما أمي كل يوم، كما اعتادت هي على نفس الرد:
- لا يا حبيبي إنت اللي صاحي متأخر، هم سبقوك ونزلوا.. زمانهم كمان وصلوا أشغالهم.
تقولها أمي وكأنني معتاد على النهوض متأخرًا، في حين أنني أستيقظ كل يوم في تمام موعدي مفعمًا بالنشاط والحيوية، لكن.. عادة لا أغادر المنزل في الموعد المحدد.. مثلاً، اليوم قد استيقظت بمنتهى النشاط في تمام الثامنة صباحًا، نصف ساعة كانت كافية كي أغادر المنزل وأقل منها كاف كي أصل مقر عملي في موعدي، لكن بعد أن تجولت في هاتفي لخمس دقائق، ثم استحممت وارتديت أول ملابسي، رأيت أن لِحْيتي تبدو سيئة قليلاً.. هكذا اعتقدت، فقررت تجميلها.. عدت مجددًا إلى الحمّام بعد أن خلعت ما ارتديت، وهذبت لحيتي جيدًا، وفضلت الاستحمام مرة أخرى... عدت بعدها إلى مرآة غرفتي، وعاينت لحيتي جيدًا لأتأكد أنها صارت جذابة، وقد كانت. لم تكن تلك الدقائق ضمن النصف ساعة التي ينبغي عليّ أن أكون جاهزًا لمغادرة المنزل خلالها، ولا تلك الدقائق التي سرقت مني في أثناء قراءتي لخبر دخول أحد المنتجين العالميين للألبان ومشتقاته إلى السوق المصري عن طريق الاستحواذ على أحد الشركات المتوسطة.. بالتأكيد سيصير لنا منافس جديد قوي.
- طب خد فطارك أهوه.
لا أبرح المنزل صباحًا دون تناول وجبة غذائية كاملة، أو آخذها معي.. كأيام الطفولة الخوالي..
- مع ألف سلامة يا حبيبي... هتتغدي معانا؟
- لأ، هتغدي مع رانيا.
ما أجمل هذه الرياح الخفيفة! وما أجمل الشوارع وهي مزّهرة هكذا! بالرغم أن الربيع لم يأتِ بعد، إلا أنني أشم ريحه. لو أن تصير كل فصول السنة ربيعًا.. لانتهت نصف مشاكل هذا الكوكب..
- جمال إيه وربيع إيه! إنت مش شايف الزحمة اللي داخل عليها، يا جدع ديه فكرة أن الشيخ زايد بقت مدينة زحمة لوحدها تقفل الواحد عالصبح!
- وإيه المشكلة يعني! هتأخر خمس دقايق كمان؟! عادي.. طب شايف أنت الشجر الأخضر الجميل ده.. اللي مالي الجزيرة اللي في نص الشارع هناك ديه، ولا الورود الحمراء والصفرة اللي قدام البيوت؟ مش حاجة تفتح النفس بزمتك؟
قاطعني هاتفي وأنا أجادلني كالمعتاد... كانت (طنط) كوثر تتصل لتسألني عن يوسف، كانت تبدو شديدة القلق، ولم أتمكن من مساعدتها، فقد تركناه بالأمس أنا وعمرو بـ(العين السخنة) وعدنا إلى القاهرة. أنهيت مكالمتي معها، وحاولت أنا أيضًا الاتصال بيوسف، لكنه لم يجيب.
وصلت إلى الشركة التي أعمل بها كمدير للتطوير.. كنتُ متأخرًا عشر دقائق عن اجتماع روتينيّ.. لا أدري لماذا يتذمر البعض من تأخر الآخرين دقائق معدودة؟ ما فائدة العجلة سوى زيادة التوتر وعدم القدرة على الاستمتاع بأي شيء؟! ثم أن أحضر متأخرًا بذهنٍ صافٍ، أفضل من أن أحضر مبكرًا بذهنٍ مُعكرٍ، وفي كل الأحوال لم يفوتني شيءٌ من الاجتماع سوى دقائق الترحيب والمزاحات المملة.
- صباح الفل يا شباب.
- صباح الفل يا روميو.
روميو ... اسم لا أدري إن كان يتوجب عليّ حبه أم بغضه، ما أعرفه أنه يصيبني بالدهشة! أصدقائي في العمل أطلقوا عليّ هذا الاسم نظرًا لعلاقاتي العاطفية المتعددة، ما يدهشني حقاً أنهم يطلقون عليّ اسم المخلص في حبه روميو، إسقاطًا على علاقاتي التي في ظاهرها لهم تنتهِ بالتخلي...!! يسقط الناس الاتهامات على بعضهم بالمجان.. لا أحد منهم يعلم ما عانيته.. ولا أحد منهم يتصور أنه قد كان هناك دافع قوي أجبرني على إنهاء كل علاقة عايشتها.. لم يكن أبدًا تخلياً منّي.. فأنا لم أخدع أي فتاة، ولم أتفوه بكلمة واحدة لم أكن أعنيها وأصدّقها تمامًا.. ومن الجميل الاعتراف أن علاقتي برانيا مختلفة تمامًا.. لم أخُضْ تَجْرِبَةً مثل هذه من قبل.. إنها فتاة رائعة حقًا، ولا أعتقد أنه قد يأتي يومٌ وأشرع إلى التخلي عنها.. التقينا وصرنا أصدقاء منذ عدة أشهر فقط.. فهي أحد مؤسسي شركة الرواد للدعاية والإعلان، ورئيسة الفريق المسئول عن الحملة الدعائية للشركة التي أعمل بها..
هاااه.. ماذا يحدث؟ لماذا خفُتُ الضَّوء بهذا الشكل! إنني لا أكاد أرى! لماذا انتفض الجميع هكذا؟ لما يهرولون باتجاهي؟! أظنهم يطالبون بعضهم بالاتصال بالإسعاف، لمن؟ لمَ لا أقدر على النطق! هل أنا مِتُّ؟!

ياسمين

يبدو أنه سيكون يومًا عسيرًا! عادة أحبُّ الحالاتِ النادرة.. فهي تُعَلِّمُني الكثير.. لكن ليس هكذا في بادئ اليوم! لماذا قد يسقط شاب في غيبوبة وهو حديث عهد بعقده الرابع؟! أتُرى مديره هو السبب؟ أم أن له زوجة تقاسمه مرار الزواج البائس وقد تشاجرا صباحًا؛ فسقط متأثرًا بضغوطه ظهرًا؟! لا أدري لماذا يُقبل الناس على الزواج طالما أن كل المتزوجين تعساء؟! إن كان الحب هو الدافع.. ألم يروا كم من حبيب خانه محبوبه؟ وإن كان الحب هو دافع الزواج.. فهل الكره هو دافع الطلاق؟! ولماذا ينقلب الحب إلى كره؟! أسئلة كثيرة لا أعرف أجوبتها، وأظن أنني لن أعرف مطلقًا!
هذه الحالة تمامًا مثل حالة عمرو الذي وصل بالأمس! لا توجد مشكلة واضحة، والمريض لا تظهر عليه أية أعراض مَرَضية.. هو فقط مستغرق في النوم!
أعتقد أنني بحاجة إلى مزيد من الخبرات؛ كي أفهم مثل تلك الحالات. حقيقة.. التخرج من أوائل الدفعة ليس كافيًا كما قيل لي! لكن برغم أنني أرى كل يوم حالات محيّرة.. إلا أن هاتين الحالتين يُشْغِلانِنِي كثيرًا.. سأناقشهما لاحقًا مع دكتور حسن لأستطلع رأيه، أما الآن فعليّ مقابلة أهله لشرح طبيعة حالته التي لا أعرف عنها الكثير!
- في حد وصل من أهله يا هدى؟
- آه ومستنييك بره الأوضة.
أحب مهنتي جدًا، وبقدر حبي هذا يكون كرهي لنظرة أهالي المرضي القلقين على ذويهم، تلك النظرة التي تبحث عن الأمل تارة، وتلومني وتتهمني بالتقصير تارة أخري.. حالة كهذه لا أدري عنها شيئًا، ولا يمكنني أن أصارح أهله بهذه الحقيقة! ينبغي عليّ نَحْتُ الجُمَل المحشوَّة بالأمل على لوحة كلامي.. خرجت إلى أهله وزملاء عمله الذين أحضروه.. لا أدري كيف أفسر لهم حالته! ها هي أمه -وخلفها الآخرون- تهرع إليّ:
- طمنينا يا دكتورة، كريم ماله؟
- كريم زي الفل، ممكن بس يكون عمل مجهود زيادة ولا حاجة، ممكن تحكولي إيه اللي حصل؟
- والله كان نازل من البيت كويس خالص ولا كان باين عليه أي تعب.
- وفي الشغل كمان كان زي الفل، ده مالحقش يقعد ساعتين على بعض!
- تمام، هنستنى شوية يمكن يفوق لوحده هو كمان.
- هو كمان! قصدك إيه يا بنتي؟
سأل والده بأمل، فأوضحت له:
- امبارح في حالة شبه حالة كريم جت المستشفى، والنهاردة الصبح فاق لوحده وخرج من ساعة صحته كويسة وزي الفل.
- إن شاء الله خير.
ظل والده يغمغم بتلك الجملة، وينظر إلى الأرض وهو يبتعد عن ناظري.. مشى بعيدًا، واختار كرسيًا منفردًا، واتخذ منه مسكنًا.
تركت كريمًا، وتابعت جدولي المكتظ بحالات أصعب، ولكن بقيت حالتا عمروٍ وكريمٍ في بالي تُشغلانِه، وتُقلقانِه بالأسئلة واحدًا تلو الآخر، حتى تواصلت مع دكتور حسن تلفونيًا.. أقنعني أنها قد تكون حالة عادية، وأنه قد يكون هناك عرض لم ألاحظه هو المتسبب في غيابهما عن الوعي، وأكد على أنه سيفحص كريمًا بنفسه بمجرد وصوله إلى المستشفى صباح الغد.
بدأت يوميَ التالي ولم تعد أسئلتي الطبية عن حالة كريم تشغلني كثيرًا، بيد أن الأسئلة الشخصية تنحر في ذهني.. حتى أنني حلمت أنني أوقظه من غيبوبته كي أسأله عمّا تسبب في حالته تلك! أي فضولٍ هذا! تحركت باكرًا كعادتي بعد أن تناولت إفطاري مع أمي وأختي هند.. اتجهت إلى المستشفى، واتجهت أمي إلى البنك الذي تعمل به، فيما تحركت هند لجامعتها.
في طريقي للمستشفى وفي أثناء قيادة سيارتي، تلقيّت مكالمة الصباح المعتادة من فدوى تشكو خيانة زوجها.. وكالعادة وبدون جديد.. لم تتمكن من إثبات خيانته لها، ولم تقو على مواجهته أو محاصرته بأي خطأ قد ارتكبه وقد يدفعه للاعتراف... يبدو أنها لم تفهم بعد أنه كما للمرأة حاسة خفية تخبرها بخيانة شريكها، فللرجل حاسة خفية تساعده على تنظيف كل أخطائه ونزواته أولًا بأول! فدوى امرأة رائعة حقًا، ليس لأنها صديقة عمري، بل لأنني أعرفها جيدًا، ولا أظن أنها تستحق الخيانة... وهل توجد امرأة تستحق؟!
وصلت إلى المستشفى، وبدأت المرور على المرضى كعادتي، وها هي حالة كريم..
- مفيش جديد يا هدى؟ وفين أهله؟
- لا مفيش، وأهله لسه خارجين من خمس دقايق مش عارفة راحوا فين.
- أوك، خليني أقيس له أنا الضغط وروحي إنت لدكتور حسن فكريه يجي يبص عليه قبل أما ينزل العمليات.
مستوى الضغط جيد.. ضربات القلب سريعة لكنها لا تُقلق. لكن.. كيف تبدو عليه هذه السكينة؟ ومن أين له هذه الابتسامة التي ترتسم على مُحَيَّاه؟ وكيف هو متأنق هكذا وهو في ثباته هذا! لو أنني ما رأيت زملاء عمله بالأمس لظننته أحد مشاهير الفن، الذين لا يفارقون مساعديهم وأدوات تجميلهم حتى بغيبوبتهم! كم أتمنى أن ينهض الآن لأخبره أنه لا يوجد ما يستحق أن يعيش شاب في منتصف عمره مثل هذه التجربة!
يا إلهي.. يبدو أنه سمعني وبدء يستفيق!
كريم.. إنت سامعني؟ عامل إيه؟

****
لماذا هذه الطبيبة مفزوعة هكذا، ولمَ تبدو بهذا الأسى؟ أتذكرها جيدًا وهي تطمئن أهلي بالأمس، وتخبرهم أنني بخير، وأنني سأَفِيقُ خلال ساعات، أطَمْأنَتْهم ونسيت أن تطمئن نفسها؟! هاااه.. ما هذا؟ كيف لي أن أتذكر أحداثًا من المفترض أنني -وقتها- كنت في غيبوبة؟!
- كريم، كريم...
- إنت مين؟ وأنا فين؟
أخبرتني اسمها ووظيفتها، وأنني محتجز هنا منذ أمس، ثم سألتني عمّا أشعر به... أنا لا أدري ما هذا الذي أشعر به، أظنه لا شيء! أشعر بخواء كبير يملأ جوفي ويفيض! جاوبتها بالحقيقة الوحيدة التي أعرفها الآن:
- حاسس أني أعرفك، إحنا اتقابلنا قبل كده؟
- أستاذ كريم.. أنا أقصد حاسس بأي تعب، في حاجة بتوجعك؟!
لا أفهم سبب ضيقها، أو لماذا تتعامل معي بهذه القسوة! شكرتها على مجهودها، فأخبرتني أنها ستبحث عن أهلي؛ حيث إنهم قد تركوا الغرفة منذ قليل، لم أستطع أن أتركها ترحل ببساطة.. فهناك شعور غريب يسيطر عليّ تجاهها، فسألتها:
- إحنا اتقابلنا قبل كده؟
نظرت إليّ بامتعاض، ثم قالت:
- لا ماعتقدش، حمد الله على سلامتك.
دينا إمام

أهذه قنبلة سقطت على منزلي أم أن أحد الانتحاريين يظن أن هذا هو مبني التجارة العالمي فرع السادس من أكتوبر وقرر هدمه! يبدو أنه لا هذا ولا ذاك.. إنه ذلك الشيء المعدني الصغير بجوار سريري الذي يذكرني يوميًا أنني الآلة التي قد حان موعد دورانها..
يظن البعض أن وصولك إلى محل عملك قبل الموعد وفي قمة تأنقك أمر يسير؛ يظنون أنه يسهل عليك التغلبُ على بطانية الشتاء! حمقى! ليس أمر سهلاً، كما أنه أيضًا ليس تضحية أو بطولة، فلا مكان هنا للتضحيات أو البطولات.. كل ما عليهم فهمه أن الحياة لا تعطي هدايا.. إن أردت شيئًا فعليك دفع ثمنه، وإذا وهبتك الدنيا عطية بلا مقابل فاعرف أنك قد دفعت ثمنها مسبقًا، أو أنها ستفاجئك بأخذ ثمنها عنوة فيما بعد.. أتعجب من أناس يطمعون في الحصول على ما لا يملكون ثمنه! أنا أدفع ثمن كل ما أبتغيه مسبقًا، ولا أنتظر الهدايا.. ولا أقبلها.
عادةً أكون في مكتبي قبل بدء جلسة التداول بساعتين بعد أن آخذ فنجان القهوة المعتاد، ولكن اليوم عليّ المرور أولاً بالمستشفى لزيارة زوج مي صديقتي.. سيكلفني ذلك التضحية بفنجان القهوة المعتاد..
- صباح الخير.
يبدو أنني أخطأت الغرفة.. فنجان القهوة وتأثيره! لكن لماذا هذا الشاب لا يرد؟!
- متأسفة، هي ديه مش غرفة هاني البنا جوز مي؟
لا أدري سر تلك النظرة البلهاء التي ارتسمت على محياه.. يا لحماقة الرجال! أظنه تحت تأثير بنج أو شيء كهذا. ناولته كوبًا من الماء، وغادرت الغرفة.. لا يبدو أن هُيامه هذا تأثير بنج، فهو لم يزل يحدق باتجاهي حتى بعد مغادرتي لغرفته! عيناه تكاد تخرق الحائط الزجاجي.. لكن لا أظن أنني صادفته من قبل.. يبدو أنه مجرد أحمق مريض! ابتعدت بحثاً عن الغرفة الصحيحة، ثم أنهيت زيارتي وحاولت شحن جسدي بكوب قهوة من كافيتريا بالمستشفى، واتجهت مسرعةً إلى مكتبي الذي وصلت إليه متأخرة قليلاً، على غير عادتي..
- جاية متأخرة ليه يا فيرجينيا البورصة؟
- كنت بعمل واجب، واتلم يا حبيبي بدل ما أوجّب معاك عاصبح.
- ده بدل ماتقوليلي شكرًا! عمومًا خدي يا سيتي ده ملخص الاجتماع الصباحي.. وادعيلي.
- طبعاً.. وأنا ليا مين غيرك!!
الجميل في مهنتنا هذه أن أخذك للأمور كلها ببساطة وهدوء هو أمر حتمي؛ لأنه بخلاف ذلك لن تستطيع الاستمرار بها عامًا واحدًا، وأنا أنمو وأترعرع هنا منذ أكثر من عشر سنوات. مضت ساعات العمل وكأنها دقائق.. كان يوم مزدحمًا وشاقًا كالمعتاد، ولم ينته بعد.. إنما كدتُ أن أبلغَ منتصفه.. اتجهت من فوري إلى الجراج ثم إلى سيارتي، وأمام مرآة صالون السيارة كثفت مكياجي، ثم استبدلت ساعتي والشنطة، وارتديت نظارتي الشمسية... المظاهر أحيانًا قد تخلق الغيرة أو الحقد في نفوس الآخرين، وبالتأكيد تتسبب في سطوعك وسط الجموع.. ومن هم مثلي لا يفضلون هذا ولا ذاك.. لكن في أماكن أخرى تكون المظاهر -أحيانًا- هي الفيصل في إتمام الصفقات، وهذه الصفقة مهمة جداً لمسيرتي.. فبعد النجاح الذي حققته في الصعود بأسهم شركة أصول العقارية، ينبغي عليّ تأكيد هذا النجاح بسهم آخر.. وهو ما لا يتطلب الكثير.. عليّ إبهار هؤلاء المستثمرين بجودة هذه الشركة وسهولة تحريك بسعر السهم، ولا مانع من تذكيرهم بالأرباح التي حققوها بالاستثمار بأسهم أصول العقارية.. ليتبقى إقناع مجلس إدارة تلك الشركة بضرورة التعاون معنا..
- رائع يا دينا كالعادة.. deal.
هكذا ردوا جميعا على اقتراحي.. كما توقعت.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.