اليوم قد وصل ردُّ البورصة المصرية، وكذلك شركة العدوي على استفساراتنا بشأن مراسلاتهما في قضية التلاعب، وكما توقعت.. اتضح أن البورصة قد أرسلت ثلاثة تحذيرات بشأن العمليات المنفذة، بل إنها في آخر تحذير أشارت لإمكانية سحب ترخيص السمسار في حالة تكرار المخالفة. أما الشركة فقد أقرَّت باستلام تلك الإنذارات، وأنها أبلغت فحواها للسمسار المسئول، ولكنها لم تُقَدِّمْ ما يثبتُ أنها أبْلَغَتْ تلك التحذيراتِ للسمار أو المستثمرين. كان المستشارُ سامح قد عاد إلى العمل، والتقيتُه من أجل التحدُّثِ معه عن عودته لتولي القضية، واستكمال التحقيق، أشاد سامح بقراري الأخير، واستجاب لطلبي باستكمال التحقيق، وقرَّرَ عدمَ استدعائهم على الفور، وفضَّل استدعاءَهم بعد أسبوع كامل.
مرت الأيام، ووصل إلى دينا الاستدعاءُ الثالثُ للنيابة، وأخبرتُها أن هذه المرة سيتولَّى التحقيقَ معها المستشار سامح.. حَصَلْتُ على إجازة لذلك اليوم؛ حتى أتمكن من مرافقتها، ومررتُ عليها، وذهبنا سويًا إلى مقر النيابة، وانتظرتها أمام الغرفة حتى ينتهي التحقيق. لأول مرة أكون نزيلًا لا مارًا على هذه الردهة التي يبلغ طولها حوالَيْ عشرين مترًا، وعَرْضها ثلاثة أمتار.. على يمينها ستُّ غرفٍ متراصَّةٌ للتحقيق، وفي جهة اليسار نوافذ تَطُلُّ على بَهْوِ المبني الكبير، ومقاعدُ الجلوس على كلا الجانبين يجلس على أغلبها مرافقو المتهمين، وأصحاب الشكاوَى.. اخترت أحد النوافذ المنكسرة، ووقفت أمامها ناظرًا إلى باب غرفة المستشار سامح، وبمجرد أن دخلت دينا، وأغلق العسكري الباب خلفها، ظل يراقبني بتوجس لأقل من دقيقة، ثم طرق الباب مرة أخرى ودخل الغرفة.. لا أدري ما أثار فزعه، ولكنه عاد ومعه المستشار سامح! سألني سامح أن أدخل، وأجلس في غرفته، معتقداً أنه لا يصح أن أقف هكذا، ولكنني أصررْتُ على البقاء في الخارج، وأخبرته أن لدي موعدًا، وأنني كنت سأرحل حالاً لولا خروجه.
هجرت باب غرفته والردهة بالكامل، وبقيت أراقب باب الغرفة من البهو الكائن بآخر الردهة قبالة السلم، حتى خرجت دينا ومن خلفها المحامي. تحرَّكنا باتجاه بعضنا.. هي تحاول الخروج وأنا مقبل عليها.. حتى التقينا بمنتصف الردهة.. كانت تبدو مندهشة، وبدا ذهنها مشتتَا، فيما كان المحامي يبدو عليه حالة من السكون المعتاد، سألتهما كيف صار التحقيق، فرد المحامي:
- كل شيء تمام، التحقيق هيستمر شوية وده مش وحش.
قال المحامي هذه الكلمات الغامضة، ثم انجرف مع تيار المواطنين الذي لا ينفك يغدو ويروح، وأخذ يلوِّح بيده مودعًا إيانا في عجالة! في حين أن دينا طلبت أن نذهب إلى مكان ما، كي نجلس، وتحكي لي ما دار في التحقيق.
مقهى (كارلا) أصبح مكاننا المفضل.. مثل شجرة أحباب الأرياف في الستينيات، أو صخرة على شاطئ الإسكندرية محفور عليها أسماء العشاق.. كنّا نلتقي في ذلك المقهى، ولا نرى أمامنا أيًا من تلك المباني، ولا أحدًا من هؤلاء المارة المتأنقين دائمًا.. كان لا يمر يومان دون أن نلتقي فيه.. ساعد على ذلك حالة دينا النفسية بسبب تلك القضية، فقد كانت قليلة المرح، ترفض في أغلب الأوقات اقتراحاتي بزيارة أماكن جديدة. ورغم أن الطريق من مقر النيابة في أكتوبر إلى مدينة الشيخ زايد يحتاج إلى ثلث الساعة؛ إلا أنها لم تتحدث طيلة هذه المدة.. وجدتها شاردة، فحاولت محادثتها، لكنها لم تسمعني، فتركتها لعزلتها حتى وصلنا المقهى، وأخذنا مجلسنا وسألتها:
- إيه اللي حصل؟
- مش فاهمة حاجة! وكيل النيابة طلب حضور رئيس الشركة القابضة.
- تقصدي رشاد؟
- لأ، رئيس المجموعة كلها.. مراد! وسألني إذا كان في حد كلفني إني أعمل كده، وفضل يقولى أتكلم ومخافش! كمان سألني عن علاقتي بمراد العدوي، وعن علاقتي بحد اسمه حسين نصار.
- مين حسين نصار ده؟
- المدير التنفيذي للمجموعة... أنا أسمع عنه طبعًا، لكن معرفوش شخصيًا.
- وبعدين؟
- سألني ليه سهم الشركة ديه تحديدًا اللي قررت إني اتعامل عليه بالشكل ده، وأسئلة تانية كتير مالهاش علاقة مباشرة بالعمليات اللي أنا عملتها!
أمسكَتْ دينا عن الكلام، وبدأتْ تشرد بعيدًا، حتى سألتها عمّا يريبها..
- كلامه ده مخوفني شوية.. أنا بس مش واثقة أوي في تحليلي...
طالبتها أن توضح لي سببَ تخوفها..
- من سنيتن طلعت إشاعة إن شركة العدوي طلبت الاندماج مع أصول العقارية.. طبعًا محدش صدق الكلام ده، ولما رئيس شركة أصول أكد الكلام ده بشكل رسمي بإفصاح للبورصة، وفقاً لقواعد القيد يعني.. شركة العدوي نزلت بيان قالت فيه إن مفيش عندها نية للاندماج مع أي كيان آخر، والموضوع اتقفل على كده.. أنا حاسة إن وكيل النيابة بيحاول يربط الموضوعين ببعض.
عرفت على الفور الشك الذي يهمس بأذن سامح.. إنه يظن أن تلك العمليات كانت لصالح مراد.. انتقامًا، أو محاولة غير شرعية منه للاستحواذ على تلك الشركة.. هكذا سيأخذ القضية إلى منحنى آخر! عزمنا على مغادرة المكان قبل أن تطلب مني أن تُجرِيَ مكالمة لوالدها من هاتفي بعد أن نفد شحن بطارية هاتفها. كنتُ أسمع صوت صافرة خافتًا إثر ضغطها على الأرقام، ولكن فجأة توقف هذا الصوت، وظهر صوتٌ أعلا منه يُنبئُ عن وصول رسالة.. انتظرت أن يعود إلى مسمعي صوت الضغط على الأرقام لكنّه لم يحدث.. أتقرأ الرسالة؟!! أمسكت دينا عن الرمش بعد أن أمسكت عن الكلام برهة، ثم أعطتني الهاتف دون أن تجري المكالمة، ولمّا سألتها جاوبتني:
- مفيش داعي، نص ساعة وهبقه في البيت.
لم أفهم لما انقلب حالها بهذا الشكل! مظاهر الغضب باتت جليّة، نظراتها سيطرت عليها الريبة والشك! حتى أنها عَجَّلَتْ في مغادرتنا المقهى. أتكون تلك الرسالة هي السبب؟ أي رسالة قد تفعل ذلك! تفقدت هاتفي في أثناء سيرنا خارج المقهى، ووجدت رسالة من حلا تقول:
- على فكرة.. وحشتني وعايزة أشوفك.
لم أكن أدري أن حلا قد قررت أن تنتقل بالعلاقة إلى مرحلة جديدة بهذه السرعة، وفي هذا التوقيت تحديدًا! ولا أدري من أين لها هذه الجرأة! شغلني التفكير في أثناء سيرنا إلى السيارة.. كيف سأبرِّرُ هذا الموقفَ وتلك الرسالة.. كيف سأدافع عن نفسي!
لم يَرْمِ أيٌّ منّا حَجَرًا على الصمت الذي خيّم على رحلتنا، حتى وصلنا أمام منزلها.. لم أقوَ على مغادرتها دون محاولة تبرير أو دفاع.. فحاولت:
- على فكرة مفيش أي حاجة بيني وبينها.. إحنا مجرد أصدقاء، وده كلامها هي، ولو تحبي تقري كل الرسايل بنفسك خدي تليفوني.
كان ردها كالمرة السابقة لا ينّم عن أي اهتمام، في حين أن ملامح الغيرة والغضب قد فضحتها هذه المرة:
- لا مفيش لزوم.
قالتها وغادرت السيارة فورًا.. كان صمتها عتابًا آلمني بشدة.. اقتحمني كصرخة مفعمة بالغضب، تحرِّكُ جيوشًا من الخجل والندم والحزن، كما تحرِّك الصافرةُ العسكرَ.
اتصلت بيوسف بعد أن تركتها على الفور، وأخبرته بأمر ذلك الاستدعاء وما دار بالتحقيق مع دينا، وسألته كذلك عن الأستاذ حسين نصار وما يعرفه عنه، فأخبرني بأنه كان مساعدًا لوالده منذ تأسيس المجموعة، ويشغل حاليًا منصب المدير التنفيذي. لم يكن لديه أي فكرة قد تساعدنا، فطلبت منه أن يحدد لنا موعدًا مع مراد، فأشركه معنا بالمكالمة على الفور.. بمجرد أن أخبرته هو أيضًا بما لدي، طلب أن نلتقي بمنزلهما مساءً.. رحبت بالفكرة؛ وذهبت في الموعد، وبدأت حديثي موضحًا له كل ما دار في التحقيق، وظنّي فيما يرمي إليه المحقق، فسألني:
- هو وكيل النيابة ده ممكن يكون حد موصيه يعمل كده؟
تعجبت كيف مال إلى هذا الاستنتاج! حريّ به أن يكون أكثر تأدبًا! لو أنه يتهم أحد زملائي في نزاهته فهو يتهمني كذلك! لجمت لساني عن النيل منه، فلو أنه شخص آخر للقنته درسًا قاسيًا، لكنّ مراد بمثابة أخي الأكبر؛ لذا أوضحت له باستياء:
- النيابة مش أداة في إيد حد، وسامح مستشار محترم.. ممكن يكون حد بعتله معلومات كوّن من خلالها رأيه ده.. المهم هل في معلومات إحنا منعرفهاش؟
- الموضوع كله إن أصول ديه شركة استثمار عقاري متوسطة، الشركة كلها قايمة على مشروع واحد عملوه زمان، وحتة أرض كبيرة جنب أرض بتاعتنا أكبر منها بكتير في الساحل. حاولنا نشتري منهم الأرض ورفضوا، ففكرنا نشتري الشركة نفسها.. الكلام ده كان من سنة، أو اتنين.. بشكل ودي الرئيس التنفيذي للشركة العقارية عندي كلم رئيس شركة أصول، والراجل ماكنش مرحب بالموضوع فتراجعنا فوراً، لكن الغريب إن بعدها بشهر تقريباً لقينا الشركة ديه أفصحت للبورصة أننا عرضنا عليهم شراكة ودمج وإنهم رفضوا! الرجل التافه كان عايز يعمل سيط وخلاص على حساب سمعتنا في السوق.. أصدرنا بيان توضيحي وقتها، وقفلنا الموضوع.
- طب وإيه علاقة أستاذ حسين نصار بالموضوع؟
- غريبة فعلاً إنه يسأل عن حسين بالاسم!
اتصل مراد بالأستاذ حسين؛ ليستفسر منه عن الأمر، وطالبه يوسف أن يفتح مكبر الصوت، وبعد أن سأله مراد عن الأمر تفاجأنا جميعًا بما قاله الأستاذ حسين:
- أنت عارف أنا طول عمري باشغل فلوسي في البورصة، واشتريت أسهم شركة أصول ديه أول ما بدأت تطلع من فترة كده، والسهم فعلاً طلع جامد ونزل بعد كده كل اللي طلعه، وملحقتش أبيع بالأسعار العالية فاحتفظت بالأسهم.
ما أن سمعه مراد حتى تفحَّمَ وجهُهُ وظلَّ يصرُخُ بقوة! لم يُراعِ صداقته لوالِدِه، أو كِبَرِ سنِّه.. لم يفهم حسين أو يوسف سببَ غضبِ مرادٍ، واستمرَّ مرادٌ في إلقاءِ اللوم على الرجل، وتأنيبه بشدةٍ، ثم أغلق الخط مودعًا إيَّاهُ دون أن ينتظر ردَّه! سأله يوسف عن سبب ضيقه، فلم ينطق بالجواب، وانشغل مرادٌ في إشعال سيجارة، وأخذ يَمتصُّ رحيقها، ثم يطرده بقوة، كأنه يريد أن يطرد معه كل ما سمع بتلك المكالمة، فأجبتُ يوسف قائلًا:
- حسين موظف كبير في الشركة الأم، وشراه في أسهم أصول وقت التلاعب اللي حصل من خلال شركة تابعة لكم، يعطي إيحاء بأنه كان على علم بالموضوع، ومع وجود رغبة سابقة من شركتكم إنها تستحوذ على الشركة ديه أو تندمج معاها زي ما صاحب الشركة ادعي، يعطي إيحاء تاني أنكم بتحاولوا تستحوذوا عليها بشكل فيه تحايل.
اجتاح المكان صمتٌ مُطْبِقٌ، حتى رفع مرادٌ هاتفه، واتصل بمديرة مكتبه:
- عايز بكره اجتماع مجلس إدارة الساعة تمانية الصبح.
أنهي مراد مكالمته في بضع ثوانٍ، ثم سألني:
- إيه رأيك؟
أخبرته أن موقفه ليس جيدًا، وأن الشركة قد تدفع غرامة مالية كبيرة، وقد يتعرض بعض الموظفين لسحب تراخيصهم، وقد يزيد الأمر أكثر.. لكنني اكتشفت أن كل هذه العقوبات وأكثر منها ليست ما يثير قلقه..
- الغرامات مقدور عليها.. لكن السمعة! الشركات اللي زينا أهم حاجة عندها السمعة، لما يتقال إني بستخدم الشركة المالية عشان أفيد الشركة العقارية، بشكل غير قانوني.. ده يضربنا في مقتل!
عاد مرادٌ إلى هاتفه يشبك ذيل مكالمة في طرف أخرى... لم يَسَعْنِي تخمينُ ما يدبره! وكذلك يوسف.. ولم يَقْدُمْ أيٌّ مِنّا على سؤاله عن نياته.. فهو لم يَكُفَّ عن الحركة في الغرفة بعصبية مكبًا من غضبه على كل مجيبيه! يأمرُهم بطلبات على أن ينفذونها خلال ساعات.. وكان يطفئ السيجارة، فيشغل أخرى؛ ليملأ صدره الفائر بالحنق من دخانها! فتركناه وغادرنا المكتب بهدوء تام، حتى أنني أظن أنه لم ينتبه لمغادرتنا.
فترَتْ عَلاقتي بدينا بجفافِ معاملتها وقلة اللقاءات بيننا، كما تفتر الزهور بجفاف أوراقها وعدم سقياها.. لم نلتق مرة واحدة منذ رسالة حلا، بيد أننا تحدثنا في الهاتف قليلاً.. وكلما حاولت التحدث عن حلا كانت ترفض؛ مبررة ذلك بأن الأمر لا يهمها! بعد التفكير مرارًا، خَلُصْتُ إلى أنها بالتأكيد تَشْعُرُ بضيقٍ، لكنها لا تريد أن تفصح عنه، وقررت إعطاءها مساحتها الخاصة، وأن أتركها تغضب بطريقتها.. وطالما أننا لم نتفق على الارتباط بشكل نهائي، فمن المنطقي ألّا تصرِّحَ بغيرتها، وعَزَمْتُ على أن أفاتحها بخصوص علاقتنا مرة أخرى بمجرد انتهاء التحقيق. وبقيت العلاقة بيننا فاترة بهذا الشكل حتى قبل التحقيق مع مراد بيوم واحد، حين تفاجأت بمكالمتها وكانت تنضح سعادة وفرحًا:
- شوفت اللي حصل؟ أنا مش مصدقة!
- خير؟ فرّحيني.
- شركة العدوي للاستثمار العقاري أفصحت رسميًا عن نيتها تقديم عرض للاستحواذ على 100% من أسهم شركة أصول العقارية، بسعر مبدأي خمسة وستين جنيه للسهم.
لم أفهم لم كل هذه المبالغة في سعادتها، هل نسيت مخالفاتها لقواعد التداول والقانون؟ أم أنها نسيت أن هناك شكاوَى من الذين قد خسروا أموالهم، وباعوا أسهمهم، ولن يستفيدوا من هذا العرض؟ استفسرت منها عن هذه النقاط، واتضح لي من ردها كم هي ماهرة في عملها:
- مخالفتي لقواعد التداول آخرها إني هتوقف عن التنفيذ بنفسي، واللي يخلي مراد يشتري الشركة بالكامل ويدفع مئات الملايين، يخليه يدور على الخسرانين ويراضيهم ويسحبوا شكوتهم.
يصطف كلامها والمنطق صفًا واحدًا.. لكن كيف لها أن تتصور مستقبلها بالشركة دون أيِّ تغيير؟ كيف لا تتوقع أيَّ ردة فعل من الشركة تجاهها؟! من الطبيعي أن تُقْدِمَ الشركة على فصلها! فهم أصبحوا كالمغتصب الذي يداوي جريمته بالزواج! حتى وإن كانت فكرة الاستحواذ هذه قد راودتهم في مرحلة سابقة، الآن صارت الشركة مجبرة عليها. لم أبُحْ لها بتلك الأفكار، وكذلك لم أتمالك نفسي من أن ألَمِّحَ لها عن نواياي...
- بكره الموضوع يخلص إن شاء الله، ونفرح فرحتين!
لم تعقب على كلمة (فرحتين)، فقط غمغمت خلفي، قائلة: (إن شاء الله)، وأنهينا المكالمة.
****
أحْضَرَ لي مديرُ إدارة البحوث تقييمه لشركة أصول العقارية كما كلفته.. القيمة العادلة للسهم ليست بعيدة عن أعلى سعر قد صعد إليه بسبب تلك المخبولة.. الضرر ليس جسيمًا في تقديم عرض شراء بخمسة وستين جنيهًا. كذلك أحضر لي كمالٌ تقريرًا عن المتضررين من حركة السهم الذين تقدموا بالشكوى للجهات الرقابية.. الجميع قبل التسوية وهذا خبر رائع.. طالبته أن ينهي التسوية معهم اليوم. وأن يرسل خطابًا للصحافة والبورصة، يُعْرِبُ فيه عن نيتنا في تقديم عرض استحواذ على كامل أسهم شركة أصول العقارية. كنتُ أرغبُ في حضور ذلك التحقيق غدًا، وكل الأمور تحت السيطرة، لا أرغب في مفاجآت..
عُرِضَ عليَّ أيضًا التقريرُ الخاصُّ بالتحقيقات التي أجريت بشركة الوساطة مؤخرًا، قرأتها سريعًا، وكانت لدي رغبة مُلِحَّة بفصلهم جميعًا، ولكنه ذكرني بما لا أنساه أبدًا.. لا توجد فائدة من الجلبة التي قد يقومون بها في حالة فصلهم، فقد ينال ذلك من سمعتنا! اتفقنا على إنهاء التعاقد معهم جميعًا بشكل ودي... وفي أثناء خروجه من مكتبي ناديته:
- سيب البنت لحد أما اقولك نعمل معاها إيه، بس تفضل موقوفة عن العمل.
لا أرغب في الإقدام على ما يسوء علاقتي بيوسف مرة أخرى، فقررتُ أن أتركَ له القرار فيما يخص مصير تلك الفتاة؛ فاتصلت به على الفور، وأخبرته أنني أريد أن ألقاه على العَشاء، جلسنا سوياً في حديقة القصر بعد تناولنا العَشاء، وأخبرته بالإجراءات التي اتخذتها، وطمأنته أن هذه القضية سوف تنتهي غدًا، ثم سألته عن رأيه في مصير صديقته، فسألني مندهشًا:
- إنت متصرفتش معاها ليه صحيح؟
لم يفهم، أو لم يصدق ما فهمه بأنني قد تركتُ له القرار! أكَّدْتُ له رغبتي في أن يقرر هو بشأنها، وأعطيته الحرية في أن يبقيَ عليها بالشركة تقديرًا لصديقه.. فكان رده:
- أنا شايف إنها المفروض تتعاقب طبعًا.. لكن مش زي الباقيين، وده مش عشان عمرو، ده عشان غلطها أقل منهم.. أي حد ممكن يغلط، وهو فاكر نفسه صح، عادي. لكن اللي يغلط وهو عارف إنه بيغلط.. يبقه مجرم.
ذلك الأحمق يهدر وقته وصحته في مناهدة المراهقين بالجامعة! في حين أن لديه مهارة فطرية في الإدارة، ولم لا؟ فهو ابن شاكر العدوي.. وأخي. وافقت وجهة نظره، وأخبرتُه أنني سأنظر في أمر الفتاة فيما بعد.. ولكن لماذا فيما بعد؟ أخبرته فورًا أنني سأمنعها من التنفيذ بنفسها مرة أخرى، كما أنه سيتم حرمانها من أي مكافآت أو حوافز حتى نهاية العام الجاري، وسَتُحْرَمُ من زيادة الراتب السنوية بالعام المقبل. تقبَّل يوسف قراري وأيَّده، وحينما كنت أتأهب للصعود إلى غرفتي، تذكرت، والحق أنني لم أنس لحظة واحدة أنه لم يردَّ عليّ في عرضي له بأن ينضم إليّ في إدارة الشركة، فسألته:
- إنت ماردتش عليا لحد دلوقتي ليه؟! هتنزل الشركة وتتولي موضوع التفتيش ولا لأ؟
كنت متوقعاً أنه لن يعطيني جوابًا الآن، بل كنت متأكدًا أنه سيماطلني؛ حتى ينال اليأس منيّ، بيد أنه فاجأني بموافقته! لم أصدقه في البداية.. ظننته يمازحني، حتى أكد لي أنه موافق، على المبدأ! أي مبدأ؟ لقد عقب على موافقته بأن التوقيت فقط ليس مناسبًا! انفعلت عليه، واتهمتُه بأنه يتلاعب بي، وأنه لن يأخذ ذلك القرار أبدًا، فقاطعني ضاحكًا، وهو يحاول تهدئتي:
- هو إنت على طول روحك في مناخيرك كده! اهدي بس وأنا أفهمك.. أنا قدمت استقالتي والله، بس الامتحانات على الأبواب خلاص.. أخلصها وأمشي.
استقبلت كلامه بفتور، أو هذا ما أظهرتُه.. بينما كانت تغمرني سعادة اجتهدتُ في إخفائها، وعبرتُ له فقط عن امتناني لموافقته. وكعادته أوقفني في اللحظة الأخيرة قبل أن أغادر مجلسي؛ ليخبرني بشيءٍ ما يتركه حتى آخر لحظة لثقله، أو لسهوه عنْه.. بدأ كلامَه بأنه يفكر في أمرٍ ما.. أخذ يتلعثم ويخلع نظارته ثم يضعها مرة أخرى! كانت عيناه منكسرة لا تنشد المواجهة! لماذا كل ذلك الوجل؟! لم يكن الخوف أحدَ شيمه من قبل.. أظنه ينطوي على أمر جلل! أو أنه ينوي مفاجأتي بأحد طلباته الكارثية! فسألته:
- موضوع إيه بالظبط؟
خلع نظارته مجددًا، بيد أنه وضعها جانبًا هذه المرة، ثم أخذَتْ ابتسامةٌ خفيفة مكانَها على وجهه، أظنّه يحاول أن يخفي بها توتره.. ثم بصوتٍ يلوّحُ بمرحٍ زائفٍ تحدث قائلًا:
- مش إنت كنت قولتلي أقولك اقتراحاتي بخصوص الإكراميات والكلام ده!
كنت قد نسيت ذلك الأمر برمته! لاحظتُ أنه يستخدم كلمة إكراميات لأول مرة.. كان مؤخرًا يصفها بالرَّشاوَى، وقديمًا بالفساد. عمومًا هذا تقدم جيد.. قد يكون بطيئًا، لكنه مقبول. طلبت منه أن يخبرني بمقترحه، ففعل:
- مبدأيًا عايزك تبقه عارف.. إن أهم حاجة عندي إن علاقتنا تفضل كويسة، ومقترحي ده لو ماعجبكش قولي وأنا افكر في غيره.
طلبت منه أن يكتفي بهذه المقدمة، وأن يقدم مقترحه مباشرة، فقال كالمتبارين في مسابقات السرعة:
- نتبرع بربع الشركة لصندوق مصر السيادي.. أو أي جهة مشابهة.
كانت يداه غير ثابتَيْن.. تتحرك من أعلى المنضدة إلى جبينه، ثم إلى شعره، ثم تعود أدراجها مرة أخرى.. ذلك الساذج لا زال أمامه الكثير لينضج! يظن أن طلبه هذا سيسوئني، أو أنني سأغضب منه وأوبخه! دفعني ارتيابه الشديد للضحك، ثم أخبرته موافقتي على الفور. اندهش، ولم يصدقني في بادئ الأمر، وظن أنني أستهزئ به.. فعاتبني:
- إنت بتاخدني على قد عقلي؟!
لا أعلم لما لم أصارحه يومًا بكثير من الحقائق التي لا يعرفها عن ثروتنا! قد أكون نسيت، أو أنني لم أرغب أن أحمله كثيرًا من المسئولية؟ لكنه لا يتحمل حتى القليل منها! هل أخطأت في تركه؟ أم فقط تأخرت؟ أليس هو من ناء بنفسه عن كل هذا؟! أم أنني قد سعيت لهذا عطفًا عليه؟ عموماً قد حان الوقت ليفهم أكثر، ويعرف أن لكل شيء ثمنَه:
- لا أبدًا.. أنت بس اللي مش فاهم.. إحنا زي ما بندفع لكتير من المسئولين إكراميات، إحنا برضه بنقدم للدولة تبرعات.. أرقام أقل طبعًا من اللي إنت بتقترحها، لكن مفيش مشكلة لو زودنا الرقم شوية وإنت نزلت عن الربع شوية.
تفاجأ يوسف، ووسعت حدقتاه اندهاشًا، وقال وهو ينظر بعيداً:
- أنا فاكر فعلاً إننا من فترة أتبرعنا بمبلغ كبير لصندوق تحيا مصر، لكن كنت فاكرها مرة كده وخلاص.
- مرة إيه! إحنا دايمًا بنتبرع وبنساهم في مشاريع للدولة، وبنساهم في بنا مستشفيات، وغيره كتير.
- طب وليه نفضل ندفع إكراميات ونرجع نتبرع.. ونلف في الدوامة ديه! ماندخل الدولة معانا شريك في كل حاجة، وتفضل الإدارة معانا.. وساعتها يبقه رجعنا جزء كبير من حق الدولة، وماظنش إننا هنبقه محتاجين ندفع إكراميات والكلام ده تاني، صح؟
أخبرته أنه ليس بالضرورة أن يتوقف دفع الإكراميات بمشاركة الدولة، ووعدته أنني سأفكر جيدًا في الأمر، فاستمر في اقتراحاته:
- كمان أنا نفسي أوي نعمل مشروع مهم.. مؤسسة تعليمية مجانية، ندعم بيها الشباب المتفوق، ونساعدهم يكملوا دراستهم سواء جوه مصر أو بره، وبعد كده يتعينوا عندنا، وأنا مستعد أتحمل تكلفة المشروع ده من نصيبي، لو يعني كده هيبقه كتير بالنسبة لك.
أمرته ألّا يكرر حديثه عن نُصُب منفردة، وأخبرتُه عدم ممانعتي المضي بذلك المشروع، وأعطيته الحرية في أن يبدأ الإعداد إليه فورًا. أما عن أمر المشاركة مع الحكومة فأخبرته أنني احتاج بعض الوقت؛ لأنهي بعض المشكلات المعلقة، ثم أفكر في اقتراحه.
صباح اليوم التالي وصلت مع كمال إلى مقر النيابة، وأنوي عدم البقاء طويلًا.. بل إنني توَعَّدتُ كمالًا بأنه في حالة بقائي بهذا المكان لأكثر من عدة دقائق؛ سيدفع هو الثمن.. كان وعيدي له مزاحًا، يوارى جدًا. كانت هذه هي المرة الأولى التي ألج فيها إلى غرفة تحقيقات.. كثيرًا ما رأيت تصويرًا لمثل هذه الغرفة بالأعمال الفنية، وكنت أظنهم يبالغون في تصوير حالتها المتردية، ولكنني اكتشفت أنه لم تكن هناك أية مبالغة! بل إن حالة الغرفة أسوأ من أي غرفة تحقيقات قد رأيتها في أي عمل فنيّ! ولكن الغريب أنني عندما تأملت الغرفة، وتخيلتها في قديم عهدها، رأيت رقيًا وجودة فائقة، شاخت مع الزمن! فالمكتب من خشب زان، لا يقل عمره عن أربعين عامًا، وقد يزيد! ويصعب تسمية لونه من شدة بهتانه، فلا هو بنيّ، ولا أحمر ولا أصفر.. وكانت تملؤه نقوش يدوية رائعة، تعلوها نقوش عشوائية صنيعة تحرشات الزمان! بينما الكراسي تبدو أقل عمرًا بكثير.. على الأرجح تم تغييرها منذ عدة سنوات، وكانت الإضاءة صفراء خافتة، تنبعث من نجفة ذات ستة أزرع، كل زراع منهم ينتهي بكف يحمل لمبة واحدة.. النافذة على الحائط عن يمين المحقق ويسار باب الغرفة.. مستطيلة الشكل عرضية، وليس عليها ستارة، بينما بمنتصف الحائط خلف المحقق توجد لوحة فنية، تظهر عليها آية قرآنية: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ} كانت تلك اللوحة مختلفة عن المكان، كأنها وضعت هنا من دون قصد! تجمع بين أصالة الزمن الماضي، وزهو الحداثة.. لا أظن أن عمر هذه اللوحة يزيد عن سبعين عامًا، وقد يقل.. ومع ذلك، لم تزل أحرف اسم الله في البسملة والتصديق لامعةً، كأنها صنعت بالأمس.. أنزلت عيني عن اللوحة بصعوبة حتى وصلت إلى وكيل النيابة.. برغم صغر سنه بدا وكأنه ابن خمسين عامًا، كأنه قد تأثر بكهولة المكان! وبمجرد أن جلسنا قدَّم إلينا فائق ترحيبه واحترامه، وبدأ كلامه باعتذار عن تحميلنا مشقة الحضور.. يبدو أنه بالفعل كالمكان.. سبقه الزمن لكنه استطاع أن يحافظ على الكثير من رقيه، أو أنه يعلم أنني قد أنهيت القضية قبل حضوري، ويحاول أن ينهي الأمر بشكل لائق، شكره كمال على ترحيبه بنا، ولم يدعه يطرح أي سؤال، وتحدث على الفور:
- اتفضل يا فندم.. ده خطاب مرسل من شركة العدوي إلى إدارة البورصة المصرية، تفصح فيه عن نيتها بتقديم عرض شراء لشركة أصول العقارية.. وديه تنازلات جميع المشتكين عن الشكاوى المقدمة.
قام المستشار بفحص الأوراق سريعًا كأنه كان قد اطلع عليها من قبل، وتأكد من صحة التوقيعات والأختام، ثم أغلق التحقيق، وسمح لنا بالانصراف، وبالفعل.. لم يتعد بقاؤنا في مكتبه أكثر من عدة دقائق.
****
أقرأ هذه الأوراق للمرة الرابعة أو الخامسة.. كيف لا يوجد رابط بينهم؟ أهي حقًا مصادفة؟! كل المصابين قد مروا على مدينة العين السخنة بمحافظة السويس، والتوقيت الذي جمعهم هناك كان ليلة الجمعة أول يوم من شهر مارس، هذا كل ما أملك.. لكنهم لم يأكلوا من نفس المطعم، ولم يتواجدوا في نفس المكان، لم يتوافقوا على فعل واحد يجمعهم!
لأول مرة يُلفت نظري شيءٌ ما... أربعة من المصابين العشرة قد تحدثوا باستفاضة عن لطف الجو وهدوء السماء الملفت، تحديدًا في ليلة الجمعة ثاني أيام شهر مارس.. الليلة التي جمعتهم بالمدينة، واثنان من الأربعة قد أكدوا أن القمر كان كاملاً متوهجًا.. فقد كتبت سها:
- قعدت يوم الجمعة بالليل في جنينة الفندق أكتب.. الجو كان جميل والسما صافية جدًا، كانت الساعة قرب تمانية والقمر كان بدر ونوره خلاني مش محتاجة أقعد في مكان فيه إضاءة صناعية، فضلت أتأمل السما واكتب على ضيّ القمر لحد نص الليل.
وكذلك كتب حسين:
- يوم الجمعة بالليل خرجت أنا وزمايلي بعد العشا قعدنا في الخلا، كان الجو حلو أوي، وضي القمر منور الصحرا مخليها ضهر.. نمت على الأرض وفضلت أبص للسماء لحد أما روحت في النوم، وماحستش بحاجة غير وهم بيصحوني عشان نرجع السكن.
هل نظرة إلى القمر قد تؤدي إلى التعرض لإصابة! بالتأكيد لا! هذه الملاحظات لا تنسج خيطًا، ولا تخط طريقًا.. يجب أن أقرأ أكثر، أو يجب أن أزورهم مرة أخرى وأطرح المزيد من الأسئلة.. سؤال واحد قد يكشف كل شيء، فقط عليّ اختيار السؤال الصحيح. اكتفيت من مطالعة هذه الأوراق، وبدأت أستعد.. فاليوم سألتقي بكريم وأسرته في منزلهم.. لا أدري كيف قبلت أن أذهب! بأي صفة سأحضر حفلتهم؟! بالتأكيد قد حدثهم عنّي، وسيظل الكل يتفحصني من أجل تقييمي، وبمجرد أن أغادرهم سيبدي كل منهم رأيه عن العروسة! فكرت كثيرًا أن اتصل به، وأعتذر عن حضوري، لكنني أعلم أن هذا سيُحْزِنُه، كما أنني لم أره منذ يومين، ويغلبني شوقي إليه.. يبدو أن العدوى قد انتقلت إليّ!
عند تمام السابعة مساءً وصلت إلى منزله في أحد التجمعات السكنية الراقية بالشيخ زايد.. المنزل كما يسمى (Town House) على طراز المباني الإنجليزية القديمة.. لونه أبيض مطعم بالأزرق الفاتح، ويتكون من طابقين أرضي وأول، وملحق به حديقة صغيرة لا تتجاوز خمسين مترًا، لكنها اتسعت الحاضرين.. لم ينم سور الحديقة لأكثر من متر واحد، وكانت شجراته كلها مزينة بالأضواء الحمراء الصغيرة، وحائط المبني الذي تنبعث منه الحديقة كتب في جزئه الأعلى، فوق باب الحديقة الزجاجي، بالإنجليزية (Welcome Eyad). وجدت نورَ تجلس بالداخل بفستان أبيض فضفاض، تشبه الملائكة، وتحتضن إيادًا بين يديها.. سلمتُ عليها أولاً، ثم قبَّلْتُ يد إياد بعد أن وضعت هديته على منضدة بالزاوية.
استقبلتني نور بحفاوة كبيرة، و(طنط) سحر كذلك.. دهست معي نجيل الطريق، حتى تعمقنا بالحديقة، ووصلنا إلى آخر الطاولة الممتدة بطول الحديقة.. أخذت مجلسي، وعندما همّ كريم بالجلوس في جواري؛ جذبته أمه من زراعه وبدعابة خفيفة حدثته:
- روح ياللا اقعد بعيد.. ده مكاني مع القمر ديه.
أنهيا مزاحهما، ثم استأذنتني والدته لتضايف بقية الحضور. تسارعت عقارب الساعة، وكان الجميع لطفاء معي وفيما بينهم.. فضحكاتهم كانت تملأ المكان، ومزاحهم بصوت عالٍ كان يُجْبِرُني على مشاركتهم الضحك! حلّت التاسعة مساءً، واستأذنت كريمًا في أن أنصرف، ولكنه أصرَّ على أن يصحبني إلى الخارج، وبمجرد أن ركبت سيارتي، جاورني بها، ثم سألني بتودد:
- تحبي نروح نقعد في حته نشرب حاجة؟
- ماشي.
نزلنا بمقهى قريب من منزله، وسألني عن انطباعي من لقاء أسرته، وإن كنت استمتعت بالوقت الذي قضيته معهم، فأخبرته:
- لذاذ جداً الصراحة، كلهم.. وأهل شادي كمان، كانوا لطاف أوى.
مر الوقت، ولم يسألني عن الأورق التي بحوزتي.. لم يسألني إن كنت قد توصلت لأي جديد يخص إصابته والآخرين! لا أدري إن كان فاقدًا للأمل في أن أتوصل لشيء، أم أنه غير مقتنع بأن هناك رابطًا بينهم... طرحت أسئلتي عليه، فكان جوابه:
- أنا عارف إنك لما توصلي لحاجة هتقوليلي، واديكي شايفة الدوشة اللي أنا فيها.
سألني بعدها إن كنت قد توصلت لأي جديد، فذكرت له ملحوظتي، ووصفتها بغير المهمة، وعقبت بأنه لا يمكن أن يكون للقمر أو السماء علاقة بإصابات الناس.. لكنه فاجأني بوجهة نظر مختلفة تماماً.. كعادته!
- مستبعدة تأثير القمر ليه؟ هو مش القمر ده بيأثر على البحر بحاله وبيتسبب في المد والجزر! إزاي مستبعدة إنه يكون له تأثير علينا؟ أنا رأيي تبحثي ورا الموضوع ده أكثر، ممكن توصلي لحاجة.
كان وقع كلماته على أذني بمثابة ضوء أخضر لعقلي بالتحرك الفوري، فقررتُ أن أتصل بكل المصابين، وأتحدث إليهم في هذه النقطة تحديدًا، لكنني تذكرت فجأة أنني أجلس أمام أحد المصابين! فطلبت منه أن يحكي لي ما يتذكره عن تلك الليلة، وإن كان قد لاحظ شيئًا بخصوص السماء... احتاج إلى كثير من الوقت؛ لكي يتذكر ما دار في تلك الليلة.. ثم بدأ يروي:
- كنا قاعدين أغلب الوقت في الجنينة، ماخرجناش بعد ما رجعنا من الغدا، وزي ما قريتي في الورق اللي معاكي.. الجو فعلاً كان كويس أوي، والسما كانت صافية وأظن فعلاً القمر كان بدر.
- هو إنتَ عادة بتقعد تتأمل شكل السما والقمر؟
- لا خالص، لكن يوسف طبعًا بيحب الفلك جدًا. فكان بيكلمنا عن تليسكوب جديد هيطلع للسما، يعتبر الأكبر على مدار التاريخ.. كان بيقول إنه هيقدر يلتقط صور لمجرات تبعد عننا مليارات السنين الضوئية... فضل يتكلم كتير، وفضلنا نتأمل معاه السما والنجوم.. بس، مفيش أكتر من كده.
لا تختلف رواية كريم عن روايتي سها وحسين التي دوناها في أوراقهما. قررت أن أبدأ باكرًا التواصل مع المصابين الخمسة الآخرين.. بدأت الاتصال بالمهندسة عبير.. وبعد أن سألتها مباشرة، جاوبتني:
- آه أنا فاكرة اليوم ده كويس، يومها كنت رايحة أقابل زمايل قدام كانوا موجودين في العين السخنة، كان معادنا الساعة تمانية بس أنا وصلت بدري شوية، وهم وصلوا متأخر.. فضلت أقلب في تليفوني كتير لحد أما زهقت، فقررت أخود كام سيلفي.. وانا بصور نفسي لاحظت فعلاً إن القمر كان شكله حلو أوي في الصورة بدر في تمامه، فكررت الصورة أكتر من مرة بكذا وضع، بحيث إني أظهر القمر معايا في الكادر.. وعجبني الصراحة شكل السما والقمر يومها فلفيت الكرسي وقعدت اتأمله.
أتمنى أن يخالفهم أحد منهم، يخبرني فقط أنه لم يلاحظ السماء ولم يتأمل شكل القمر، فلو أن الأمر يرجع لتأثير القمر فلن يستمع إليّ أحد! أنهيت الاتصال مع عبير، ثم اتصلت بسيد، ووجهت له نفس الأسئلة، وكانت إجابته:
- يا دكتورة أنا راجل رسام، وما بيعديش عليا يوم من غير ما أقعد في مرسمي على الروف، أتأمل السما والقمر، وأرسم اللي يجي على هوايا.
- طيب تقدر تفتكر شكل القمر يومها كان عامل ازاي؟
- ماخبيش عليكي.. صعب افتكر اليوم ده تحديدًا!
لم ينف سيد الاحتمال، لكنه لم يؤكده. أنهيت مكالمته سريعًا، ثم اتصلت بتامر.. ذلك الذي يعشق صديقة زوجته! رحبت به، وذكرته بنفسي، وطرحت عليه سؤالي.. وكان جوابه واضحًا:
- اليوم ده أنا فاكره كويس، كان عندي مشاكل في الشغل وكنت مضغوط أوي، واتخانقت كمان مع سارة بعد أما وصلت البيت، فنزلت على الساعة ٧ تقريبًا أخدت العربية ومشيت مش عارف أنا رايح فين! نص ساعة ولقيتني في العين السخنة، قربت من البحر بالعربية وركنت على أول الرمل... كان في قهوة بعيدة عنّي يجي ميت متر، اتمشيت لحد عندها وجبت فنجان قهوة وكيس ترمس، ورجعت قعدت على شنطة العربية. فضلت قاعد كده يجي ساعتين، مابعملش أي حاجة غير إني باكل ترمس وبتأمل السما والبحر.. يومها كانت السما صافية، والقمر كان بدر منور السما كلها..
كنت قد نسيت سؤاله عن أحواله في أول المكالمة، فقبل أن أنهيها سألته عن صحته وعن حالته النفسية، فصدمني... أخبرني أولاً أن حالته الصحية جيدة، كذلك أكد لي مثل الجميع أنه مر بغيبوبة ثانية استمرت ست ساعات، ثم فاجأني بأنه قد تعثر بغيبوبة ثالثة لم تدم لأكثر من ساعة واحدة! ولكن لم تكن غيبوبته الثالثة سببَ صدمتي، وإنما خبر انفصاله عن زوجته منذ عدة أيام! لا أدري من أين يأتي الرجال بهذا الجحود؛ ليتخلوا عن أسرهم بتلك السهولة.. لم أستطع أن أخفي استيائي له، فحاول أن يبرر موقفه:
- يعني الأفضل أني كنت أنام جنبها كل يوم وأنا بفكر في واحدة غيرها.. هي مش ديه تعتبر خيانة برضه؟
يتحدث بيقين أن خيانة العقل أسوء من التخلي! من أين له هذا اليقين؟ هل واجه ألمَ التخلي من قبل؟ هل بحث يومًا عن شخص ما يحتاجه بشده، ولم يجده؛ ليصدر ذلك الحكم على زوجته وأبنائه؟ لا أظن! فالخيانة تدفع ثمنَها الزوجة، بينما التخلي يدفع ثمنَه الجميع.. حتمًا هو أيضًا سيدفع ثمنه فيما بعد! ريثما يتقدم به العمر، ويبحث عن سند فلا يجد! كم تمنيت أن أخبره أن الخيانة أسوء ما قد تناله المرأة في زواجها، بينما التخلي هو أسوء شيء على الإطلاق! وددت لو أخبره أن تفكيره في غيرها لن يؤذيها لو أنه احترمها بأفعاله. خيانة العقل تذبل وتنتهي مع الوقت إن لم تتغذَّ بالأفعال! وددت لو أخبره أن تفكيره في غيرها لن يتسببَ في مخاوف الليل التي سترافق أطفاله.. خيانة العقل لن تحرم بناته من حضنه قبل النوم.. لن تسرقهم شعورهم بالأمان...!!
أنهيت اتصالي معه وصرت منهكة! لم يعد لدي طاقة للمثابرة.. أجَّلت المكالمتين الأخيرتين لليوم التالي. وواصلت نوبة عملي، ولم يزل مزاجي متعكرًا، وفي أثناء طريقي إلى المنزل اتصلت بكريم كعادتي.. بعد عدة ثوانٍ من المكالمة سألني:
- صوتك مش مظبوط.. مالك!
أخبرته عمّا توصلت إليه من مكالمات اليوم، وفهم سبب ضيقي.. استفسر مني عن بعض المعلومات عن تامر، ولكنني لم أكن على دراية بها.. سمعني جيدًا حتى ما أبقيت في نفسي شيئًا، ثم تحدث بروية:
- مبدأيًا، إنت متعرفيش أصلاً إذا كان تامر مخلف ولا لأ، ومع ذلك افترضتي انه تخلى عن عياله!
شعرت بخجل من دفاعي عن أبناء قد لا يكون لهم وجود، لكنني لم أسكت..
- يعني لو مخلف، كان ده هيمنعه؟!
- ممكن طبعًا! كتير ممكن يستحملوا عشان عيالهم.
قلت باستنكارٍ:
- وكتير ما بيهمهمش!
- مظبوط.. بس حتى دول مش بالضرورة يتخلوا عن عيالهم! كتير بينفصلوا عن زوجاتهم وبتفضل علاقاتهم ممتازة بعيالهم.
قالها كريم، وكأنه أراد أن يخبرني أن كل الرجال ليسوا كأبي! أعرف أنه على صواب، بيد أنه تملكني الحنق، وانطبق صدري، وانكب إلى بعضه، وكُبِتَ صوتي، ولم يجرؤْ على الرد.. فأنهيت المكالمة سريعًا بادعاء أن أمامي لجنة من الشرطة.. طالبني قبل أن يغلق الخط أن أتصل به فور مروري من هذه اللجنة، ولكني لم أفعل.
حاولت إسقاط المكالمتين في بئر النسيان، وواصلت القيادة متخطية منطقة سكني، ثم عدت.. حتى وصلت المنزل بعد المغيب. وجدت أمي بالمطبخ، تستعد لتقديم الغداء، وكانت هند بجوارها تساعدها بينما دخلت أنا مباشرة إلى غرفتي بعد أن ألقيت سلامًا لم أنتظر رده. جاءت أمي من خلفي، وسألتني إن كان هناك مشكلة ما بالعمل، فنفيت، وأكدت لها أن العمل يسير على ما يرام، فسألتني إن كنت قد تشاجرت مع كريم...
أطلعتها على نصيبي من المكالمتين، فبدأت تشرح لي أن كريمًا لم يخطئ في شيء... لقد ظنت أنني قد غضبت منه، بيد أنني قد تألمت من الحقيقة التي ألقى بها في وجهي! كل مخاوفي التي لازمتني طيلة طفولتي مرت أمامي بمجرد أن نطق تامر أنه انفصل عن زوجته.. كل اللحظات التي اشتقت فيها إلى حضن أبي ولم أجده.. كل مرة رأيت صديقاتي معلقات بأذرع أبائهنَّ وأنا وحدي ممسكة بيد أمي وحيدة منكسرة، تذكرتها.. كريم لم يتجاوز، وتامر لم يقم بجرم.. إنما هي الذكرى...!! أخبرت أمي أن كل شيء سيكون على ما يرام.. كنت أسعى إلى أن أنفرد بنفسي، ولكنني فشلت! أخذت تلح عليّ أن أتصل به.. ولم يرجعها وعدي لها أن أفعل فيما بعد، إنما أصرَّت وأحضرت هاتفي من حقيبتي، وقالت وهي تربت على كتفي:
- ماتسيبهوش يبات زعلان منك.
أطعتها وأمسكت هاتفي، واتصلت به، فرد عليّ بسؤال:
- انتوا ساكنين في أنهي دور؟
****
كانت ياسمين تحتاج أن أُطَمْئِنَها، احتضنها.. كان قلبُها ينشد ملاقاة قلبي فنهرتها بعقلي! كلمة واحدة كانت تتمني سماعها، ولم تنلها! دهست بصلابة عقلي جرحَ حياتها ومأساتها الوحيدة.. أي حماقة هذه؟! قررت أن أزورها في بيتها؛ لأقدم اعتذاري، وأطمئن أنها بخير.. ولعلها فرصة؛ كي أتعارفَ على أمها وأختها. وصلت أمام منزلها في منطقة الزمالك.. تسكن ياسمين مع أسرتها في واحد من إبداعات المعمار القديم الذي يعود لنصف القرن الماضي.. مدخل العمارة واسع، وسقفه مرتفع قرابة أربعة أمتار، وفي المدخل يوجد مصعد خشبي.
فتحت ياسمين الباب، ومن خلفها هند وأمهما.. رحبن بي بشدة، وقدمت بوكيهًا من الورود لهن، فأخذته مني هند فوراً، واحتفظت به بعد أن أقحمت وجهها بداخله، وأخذت نفسًا عميقًا، ثم ابتسمت بسعادة ظمآن ارتوى لتوِّه. طلبتْ (طنط) منى أن أتقدمَ في الدخول.. تحركت خطواتٍ للأمام، وهمستُ بأذن ياسمين في أثناء مروري من جوارها:
- هو كان المفروض أجيب تلاتة بوكيه ورد ولا إيه؟
ضحكت ياسمين بصوت ليس خافتًا؛ حتى لاحظت أمها، فرمتنا بابتسامةٍ ونظرةِ رضا، فيما كانت هند لم تزل منشغلة بالورود، وتبحث عن إناء تحفظها به.. تركت مائدة الطعام عن يميني، وأتْبَعْتُ الخُطَى إلى الصالون.. تركتُ أولَ كرسيٍّ، وجلست على الذي يليه، وجلستْ ياسمينُ على الأريكة عن يميني، وبجوارها أمها، ثم أخيرًا جاءت هند ومعها الورود مرصوصة في زهرية أرجوانية اللون، ووضعتها على (كونسول) مُسْتَنَدٍ إلى الحائط في منتصف صالة الاستقبال يفصل بين غرفتي الطعام والصالون، ثم اقتربتْ مني، وسألتني عمّا أفضل من شراب، فسبقتني أمها بالرد:
- لا كريم هيتغدى معانا.
- متشكر جدًا يا طنط، بس أنا مش هقدر أطول.. أنا كنت جي أطمن بس على ياسمين وأتشرف بحضرتك طبعاً.
لم تتقبل اعتذاري؛ فنزلت على رغبتها، وشاركتهن وجبةً دافئة بالمشاعر، مزبدة بالحب.. ولما انتهينا أخذنا كوبي الشاي وانفردت بها بالشرفة.. حاولت الاعتذار لها عمّا بدر مني، فقالت:
- أنا مش زعلانة، بالعكس.. أنا اللي كنت عايزة أعتذر لك عن رد فعلي.
- أنا عايزك تنسى أي حاجة حصلت زمان.. إدي لنفسك فرصة تبدئي حياة جديدة.
ابتسمت برضا وسعادة، فأطبقتُ راحتها بين يدَيَّ، وأردفتُ قائلًا:
- طول عمري كنت بدور عليكي...
سعلت (طنط) منى عن عمد؛ فأربكتني.. سقطت راحتها عن يدي فورًا، وعادت بكلتا يديها متشابكتين فوق قدمها، وبعفوية نظر كلانا إلى السماء.. ولمّا لاحظت اكتمال القمر وسطوعه تذكرت آخر ما كنّا نتحدث عنه عبر الهاتف، فأخبرتها:
- صحيح.. أنا هقابل يوسف النهاردة، وهتكلم معاه في موضوع السما والقمر وآخد رأيه، عايزك بس تكلمي باقي الناس.
وعدتني أنها ستتواصل مع آخر اثنين من المصابين غدًا. ولو أنهما أكدا تأملهما للقمر في ذات اليوم، فقد يكون ذلك طرف الخيط. أنهيت كوب الشاي، وانصرفت، ووعدتهن بأن هذه الزيارة ستتكرر عمّا قريب.
- متأكد؟
- وإيه اللي ممكن يمنعني أتقدم لها!
- إن عمرك مابتكمل للمرحلة ديه، ودايمًا بتلاقي الحجة المناسبة عشان تخلع!
- طيب ولو خطبتها فعلاً.. ماسمعش صوتك تاني؟
- وعد يا سيدي.. لو خطبتها مش هتسمعني تاني أبدًا.
يبدو أنني قد أنعم بالهدوء قريبًا.. فأنا أعلم جيدًا حقيقة مشاعري تجاهها، ولأول مرة أتذوق حلو هذه المشاعر ولن أضيعها أبدًا.. لقد صارت هي سكني وتَرْحَالي، موطني عندما يشتد بي الاغتراب.. وملاذي وقت الضيق.
اتفقت مع يوسف وعمرو أن نلتقي فورًا بعدما أخبرتهما أنَّ لدي خبر جديدًا من ياسمين، وصلت إليهما وكان أمام عمرو كوب فارغ من القهوة، وبيد يوسف كوب من العصير لا زال في منتصف عمره. ألقيتُ عليهما التحية، وقبل أن أجلس سألني عمرو:
- إيه الجديد؟
- هقول، بس نفكر بالراحة وبالعقل من غير تريقة.
- يابني وهو حد قارفنا بتريقته غيرك! أخلّص وأقول.
أخبرتهما بكل ما عرفته من ياسمين، وقبل أن أفصح عن رأيي بأن الأمر يستحق الدراسة، قاطعني عمرو مستهزئًا:
- إنت جاي تهزر! قمر إيه بس؟!
قلت مستنجداً:
- طب نسمع رأي يوسف؟!
أيد يوسف قولي، وزايد بأن هذا التفكير لا يعتبر مخالفة للعلم! أخبرنا أنه قد صدرت العديد من الدراسات تؤكد أن هناك تأثيرًا للقمر على السلوك البشري، وأن بعض الدراسات قد أثبتت أن للقمر تأثيرًا على النوم عند البشر، وخصوصًا عند الليالي السابقة للقمر المكتمل أو البدر، كما أكدت دراساتٌ أخرى أن للقمر تأثيرًا على الحالات المزاجية والعنف في السجون! وغيرها من دراسات تؤكد أن للشمس تأثيرها في حالات الانتحار! والأمر برمته ليس جديدًا.. أرسطو مثلا، كان يعتقد أن القمر يسبب الإصابة بالجنون والصرع! وفي وقت أقدم من ذلك، كان يرجِّح الناس أن النساء الحوامل ستضعن أحمالهن عند اكتمال القمر، دونما أي دليل أو سبب! ودراسات أخرى تتحدث عن تأثير السحب على الحالة المزاجية، وغيرها...
أخبرتهما أننا بصدد انتظار ردِّ آخِر اثنين من المصابين غدَا، ليؤكدا أو ينفيا تأملهما للقمر تلك الليلة، وإن صادف أنهما قد فعلا، نكنْ جميعًا.. ولأول مرة، قد تشاركنا في سلوك واحد.. هو.. تأمل القمر، ليلة الجمعة ثاني أيام مارس خلال الفترة ما بين الثامنة والعاشرة مساءً.
كان نقاشنا في ذلك اليوم يسير بشكل عاديّ، لم نرفع راية الجدل كعادتنا.. بل اتخذ المزاح موضعه عندما بدأه عمرو..
- إنت السبب على فكرة! قعدت تقولنا بصوا النجوم ديه معرفش اسمها إيه! وتليسكوب جديد معرفش ماله، ولبستنا التلبيسة ديه في الآخر!
زايدت عليه:
- المشكلة يا أخي إننا مافهمناش أي حاجة، ولا فاكرين كلمة واحدة من اللي قاله!
استمر مزاحنا حتى وجدنا أن عَمْرًا قد نام! حاولنا إيقاظه ولم ننجح! عرفنا أنها غيبوبة ثالثة...!!
وصلنا مستشفى الشيخ زايد خلال دقائق، وقام الأطباء بكل الفحوصات، وكالمعتاد كانت كل مؤشراته الحيوية جيدة. سريعًا وصل يوسف ومعه والدة عمرو بعد أن فضل إخبارها وإحضارها للمستشفى بنفسه، فابتعدت عنهما قليلاً، واتصلت بياسمين وأخبرتُها بما حدث لعمرو، فأخبرتني أن تامرًا كان قد أخبرها أنه مر بغيبوبة ثالثة، لم تستمر لأكثر من ساعة.. ثم طالبتني أن أمكث في جواره أراقبه، على أن تتصل هي بي بعد مرور ساعة، وبالفعل استعدناه بعد قرابة الساعة!
الفصل التاسع
تقبَّلَتْ دينا عقوباتِ الشركة لها بصدرٍ رحبٍ، بينما تقبَّلَتْ أن نلتقيَ بصعوبة بعد أن أصرَرْتُ عليها إصرارًا.. التقينا في مكانٍ مختلفٍ هذه المرة؛ نزولًا على رغبَتِها التي لم أفْهَمْ سببَها.. وبعدَ مجلسِنا بدقائقَ، عاتبتها:
- من يوم الرسالة وإنتِ بتعامليني وحش.. ومش عايزة تسمعي مني مبرر، أو دفاع عن نفسي.. مع إنك عارفة ومتأكدة إني بحبك!
- سيبك من اللي أنا عارفاه.. إنتَ متأكد إنك بتحبني؟
لماذا قد تشك في حبي لها؟ فبخلافِ الطبِّ، وما توصلَتْ إليه ياسمين.. ألا تَنْضُحُ مشاعري؟! ألم أكن بجوارها منذ أن عَثَرْتُ عليها؟ ألم أفعل الكثير لكي أتمكن من نيل قلبها واستثارة محبتها؟! جاوبتها بحسم:
- طبعًا.
سألت باستياء:
- طب وصاحبتك اللي بتوحشها ديه، أخبارها إيه معاك؟
- ولا حاجة، إحنا أصحاب زي ما قولتلك!
سكتت برهة ثم غمغمت:
- صحاب.. آه
- آه والله صحاب بس!
- آخر مرة شوفتها إمته؟
كنت قد التقيت بحلا مرة أخرى بعد ذلك اللقاء بمطعم “Diner House” وكان ذلك منذ أسبوع أو أقل، قضينا نصف النهار سويًا بالتسوق في أحد المولات، ثم أخذنا وجبة سريعة، وشربنا كوبًا من القهوة المحببة إلينا..
- من أربع أيام تقريبًا.
- كانت لابسة إيه يومها؟
أخبرتُها:
- كانت لابسة جينز، وبلوزة نص كم صفرا عادية.
- ده نفس اللبس اللي كانت لابساه يوم أما قابلتنا صدفة؟!
- لأ، متهيألي يوم ما قابلتنا كانت لابسة بلوزة كت، لونها أبيض.
- طيب آخر مرة شوفتها، كانت عاملة شعرها إزاي؟
لا أدري لأيِّ مستقرٍّ تسيرُ.. حاولتُ فَهْمَ سبب أسئلتها فلم تجِبْني، وأصرَّت على أن أُجيبَها أولًا! ففعلت بترقبٍ:
- متهيألي كانت عاملاه كيرلي اليوم ده.. أظن كده!
- هي عادةً بتعمله كيرلي؟
- لا مش شرط.. ساعات بتعمل ضفيرة واحدة من نصه، وساعات بتسيبه متعرج.. مفيش تسريحة ثابتة عليها يعني.
سألتها إن كانت لديها أسئلة أخرى، لكنها نفت، فطالبتها بشرح علاقة تلك الأسئلة بتصريحي بحبي لها، فجاوبتني:
- إنتَ بتقابلها كتير.. حتى بعد أما قربنا من بعض! كمان إنت واخد بالك كويس من لبسها، وفاكر قصة شعرها... البنت عاجباك يا عمرو، وأنا مش هينفع أرتبط بيك، وإنتِ مش عارف إنت عايز إيه بالظبط.. حتى لو كنت فعلاً بتحبني.
شلال من الدماء تحرك عكس طبيعته مرتفعًا إلى رأسي فأثقلَه، توقفت عن التفكير ثوانيَ معدودة.. لم أطل، ولم أتردد كعادتي.. وتحدثتُ بحسم وحماس:
- أنا وكيل نيابة يا دينا، شغلي بيعلمني آخد بالي من كل تفصيلة، وفي الطبيعي أنا ذاكرتي قوية جدًا.
ابتسمتْ باستنكارٍ؛ لتعبر عن عدم اقتناعاها. فتحدثتُ بجدية وثقة:
- أول مرة شوفتك فيها في المستشفى كنتِ لابسة بلوزة بيضا، وجيبة زرقاء ومسيبة شعرك، وتاني مرة شوفتك وماتكلمناش كنتِ لابسة بدلة جراي بكم وجيب قصيرة، وشعرك كنت مسيباه، تالت مرة شوفتك فيها...
وصفتُ لها ما ارتدته في كل مرة التقينا بها، وكيف كان شعرها وهيأتُها بالكامل. تحدثت بثبات ودون تردد، ثم سألتها باستنكارٍ:
- أظن كده بقه تبقى إنت عجباني أكتر؟!
لم ترد على سؤالي، وبدت متحيرة من أمرها.. فعدت لأدفع عن نفسي اتهامها:
- أنا ممكن أكون غلطان إني بقابلها، لكن مش معنى كده إني مش عارف أنا عايز إيه! أنا مش صغير يا دينا. وحلا قدامي أهيه، لو أنا عايزها ماروح أقولها إيه اللي يمنعني؟
ألقيت سؤالًا استنكاريًا.. فجاوبته بجدية:
- إنك ممكن تكون بتحبني بس مش مقتنع إنك ترتبط بيا، وشايف إن هي مناسبة لك أكثر.
- مش مقتنع إني أرتبط بيكي فجاي أقولك إني عايز أرتبط بيكي!
- إنتَ قولت؟
- امال بحبك ديه معناها إيه؟
- الحب شعور مش قرار، وإنت دايمًا بتصارحني بشعورك وعمرك ما صارحتني بقرارك؛ لأنك مش قادر تاخده!
- لا أنا عارف كويس أنا عايز إيه!
- طب ولما واحدة تبعتلك رسالة تقولك وحشتني وعايزة أشوفك فتنزل تاني يوم تشوفها، يبقه ده اسمه إيه؟!
- دينا أنا بحبك، إنسي اللي فات وخلينا نبتدي حياة جديدة.
- أنا عارفة إنك بتحبني، مش ديه المشكلة!
- امال إيه المشكلة؟
- إني اثق فيك، وأحس معاك بالأمان!
- إنتِ بتحبيني؟
- وده هيفرق؟
- بتحبيني؟
- مش هقدر أرد.
انتهى لقاؤنا، وطلبت بصوت يكاد يسمع أن نغادر المكان.. ففعلنا. اتجهت بعدها بخطى متثاقلة إلى المقهى، وكان يوسف وكريم في انتظاري.. وبمجرد جلوسي سألني يوسف:
- مالك؟ وشك مقلوب كده ليه؟!
لم أخبرْهما شيء عن حلا قبل هذه اللحظة... فحكيت لهما عنها، وأطلعتهما على ما دار بيني وبين دينا وما أغضبها.. فقال يوسف لائمًا:
- ماتنجرفش ورا مشاعر الله أعلم هتدوم أد إيه.. خليك مع الأصلح لك.. دينا بنت جميلة فعلا، لكن المهم إنك تكون مقتنع إنها مناسبة لك.
فسألني كريم:
- هو أنت محتار في الاختيار بين الاتنين، ولا محتار تصالح دينا إزاي؟!
- أنا اخترت دينا طبعًا، لكن ترددي قبل الاختيار خلاني أتصرفت غلط، ومخليني مش عارف أقنع دينا إزاي دلوقتي.
اندهش كريم لترددي، ثم تحدث برأي حاسم. كان يرى أن الحب هو أعظم النعم، والاختيار بدافع الحب هو ما قد يعين المرء على الصمود أمام تحديات الحياة.. إنما اختيار الشخص الأصلح دون حب فهو بالفعل قد يقلل من تلك التحديات، لكنه لن يعيننا على الصمود أمام ما تبقى منها، ذلك إنْ كان فعلاً اختيارنا للأصلح صحيحًا. أما إن كان الاختيار لما نظنه أصلح خاطئًا.. فسيعيش المرء حياة مترعة بالكآبة، وسيدفع سنوات عمره ثمنًا مع الشخص الخطأ! وسيكون مجبرًا على الاختيار بين أمرين كلاهما مر.. إما أن يبقى بجوار اختياره الخاطئ، ويعيش تعيسًا، أو أن يبتعد ويعيش وحيدًا.
لم يستمر نقاشنا كثيرًا بعد ذلك، وبدأنا نتحدث في مواضيع أخرى، حتى فاجأنا يوسف بقرار انضمامه لإدارة الشركة مع مراد.. عرفنا أنه سيبدأ مَهامَّ عمله خلال أيام، كما أخبرنا برفض مراد لطلبه بخصوص نقل ملكية ربع الشركة لأحد المؤسسات الحكومية، بسبب تخوُّفِه من أن يتبع ذلك تدخلاتٌ حكوميةٌ تعيقُ العملَ في الشركة، وقرَّرَ أن يؤسِّسَ شركة للأعمال الخيرية برأس مال ضخم، على أنْ يتم تمويلها بربع عوائد الشركة الأم سنويًا.. تندرج أسفلها تلك المؤسسة التي كان يحلم بتأسيسها لمساعدة الشباب المتفوق علميًا، بالإضافة إلى مستشفى عملاقةٍ متعددةِ التخصصات، ستكون أحد أكبر المستشفيات بمصر، ومدارس وجامعات تؤسس على أعلى مستوَىً.. كان يوسف يتحدث والسعادة تقفز من عينيه، واستمر في القصِّ علينا ما ينوى القيامَ به عندما يبدأ مهامَّ عمله، حتى غلبنا الإرهاق؛ فتحرك كل منا إلى منزله.
استيقظت في صباح اليوم التالي، وقد عرفت جيدًا ما سأفعله، تمامًا كأنني كنت أفكر في أثناء نومي! سيّرت يومي بشكل طبيعيّ.. حتى اتصلت بحلا بعد إنهاء عملي:
- ينفع أشوفك دلوقتي؟
- خير، في حاجة؟
- آه، لما أشوفك هقولك.
أعشق في حلا أنها دائمًا ما تكون قريبة، متفهمة، متحمسة ومتجددة.. بيد أنني لا أكُفُّ أبدًا عن التفكير في دينا ما دمتُ وحدي...! ولكن، لماذا أبقى وحيدًا؟ كنتُ أنظر إلى حلا وهي تتقدم تجاهي وابتسامتها المعهودة تملأ وجهها، حتى جلستْ، وكلفتني بمزاحها المعتاد أن أطلب لها زجاجة مياه على وجه السرعة، فطلبت، وبدأتْ تصف لي سوءَ درجة الحرارة المرتفعة بالخارج، وكأنني ولدت في هذا المكان، ولم أدخله سوى الآن، ومن دقائق قليلة...! لاحظت فجأة، وبعد فترة طويلة من الثرثرة وفي أثناء تناولها عصير الجوافة باللبن، أنها قد انشغلت عن سؤالي عن سبب لقائنا بهذه العجلة.. فأبعدت كوب العصير عن فمها سريعًا؛ حتى إنها أسقطت بعضًا منه على الطاولة! ثم سألتني بلهفة وترقبٍ:
- صحيح.. إنت ماقولتليش كنت عايزني في إيه ضروري؟
- وإنتِ ادتيني فرصة أقول حاجة!
ضحكنا سويًا على ثرثرتها التي باتت محببة إليّ، ثم سألتها:
- ممكن تحدديلي ميعاد مع بابا؟
****
مر باقي المصابين بغيبوبة ثالثة لم تتجاوز الساعة.. استقبلوها جميعًا من دون قلق؛ حيث إنهم كانوا قد تناقلوا خبرها فيما بينهم، وذلك عن طريق مجموعة التواصل التي أنشأتُها لهم عبر أحد تطبيقات الهاتف.. قمتُ بذلك بعدما تأكدتُ أنهم جميعًا قد تأملوا القمر في نفس الليلة، وفي نفس الساعة تقريبًا. قررتُ أن أكتب بحثًا كاملًا عن هذا الموضوع، وأنشره للعامة، لكنهم رفضوا جميعًا وضع أسمائهم في هذا البحث.. أصابني رفضهم بالاستياء والإحباط، حتى كريم نفسه.. فاجأني برفض قاطع، حيث قال بغضب لم أعهده عليه:
- مش عايز حالتي الصحية تبقه مشاع لكل الناس، ومش هقبل حد يضايقك بكلامه!
كنت قد نسيت تمامًا أنني طرف في هذه القصة! حقًا.. كيف سأتقبل سخافات المجتمع وتدخلاتهم! قررتُ أن أكتفيَ بكتابة أول حرف من الاسم الثنائي فقط لكل مصاب، وتقبَّلَ جميعُهم ذلك، بعدما تعهدت بألّا أذكر أسماءهم كاملة إلا بعد الرجوع إليهم. أنهيت البحث، وعرضته على الدكتور حسن الذي كان طوال رحلتي هذه يتابع التطورات معي أولًا بأول.. أثنى على مجهودي كثيرًا، وأبدى انبهاره وفخره بما توصلت إليه، وأكد أنه سيكون لهذا البحث دويٌّ في الأوساط الطبية على مستوى العالم كلّه، لكنه طالبني بتعديل بعض المصطلحات وبعض التصريحات.. سألني أن أخفض من لغة التأكيد التي كنت أتحدث بها، حتى إنه جعل البحث كله بصيغة التساؤلات حول إن كانت هذه الأحداث وتلك الأعراض مصادفة. لم أرحب برغبته تلك في بادئ الأمر، حتى بيّن لي وجهة نظره، وكعادته أقنعني.
عدَّلْتُ البحث، وأنهيته كما وجهني، ووقَّع هو كمشرف عليه، وساعدني على نشره محليًا وعالميًا. لاقى البحث جدلاً واسعًا، وخرج عشرات الأشخاص على مستوى العالم يؤكدون أنهم مروا بنفس الأعراض مع اختلافات بسيطة، في توقيت مقارب لتوقيت إصابة المصريين، مما دفع منظمة الصحة العالمية أن تتحرك لتقصي الحقيقة.
انتشر الخبر في كل الأرجاء، حتى إنه فرضني على قائمة (فوربس) لأكثر الأشخاص المؤثرة في العالم! هنأني كلُّ مَن أعرفهم.. كذلك والدي الذي التقيته أكثر من مرة منذ أن تم نشر البحث...
أشعر أنه يتغير بشكل ملحوظ كلما قابلتُه! إنه العمر.. يمر بنا وكأنه يمر علينا! كل يوم يمر يأخذ منّا شيئًا مما أعطاه لنا في صبانا، ويبدو أن والدي كان يأخذ السوء في شبابه، ويترك الخير، والآن يستبدلهما مجددًا مع مضيّ الأيام. أصبح لا يترك يومًا دون أن يتصل بي، ويتصل بهند أيضًا؛ ليطمئن علينا، ويلح علينا كل أسبوع ليلقانا، ولا يتقبل أي عذر، حتى ألِفنا لقاءه كل أسبوع...!! أتذكر أول مرة التقيته بعد نشر هذا البحث.. كان يود سماع كل تفصيل لم يرد بالبحث، فرويت له كل ما مررتُ به، وكيف توصلت لكل هذه الاستنتاجات.. غمغم بجملة علقت في ذهني كثيرًا (كم وددت لو أُصِبْتُ مثلهم!)، لم أفهم ما يرمي إليه.. فاعترف لي بأنه لم يُحِبَّ أمي يومًا، وقد تزوجها بعد أن رأى أنَّ فيها زوجة مثالية، جميلة، مخلصة، متفوقة في عملها، بالإضافة إلى أنها من أسرة راقية. تزوجها لكنه لم يشعر يومًا بالسعادة معها، وهي كذلك.. لم يتحملا بعضهما عند لحظات الغضب والضيق التي يمر بها كل إنسان! لم يكونا سندًا لبعضهما عند أوقات الضعف. لم يشعر يومًا باحتياجاتها، ولم تشعر هي بما ينقصه! روى لي أن حياتهما كانت أشبه بالسجن.. وكل منهما يلعب دور السجان في صمت! كان يقسم إنه حاول كثيرًا تغيير مشاعره تجاهها، ويظن أنها قد حاولت أيضًا، لكن لم يُكْتَبْ لهما النجاح! كان يشعر بالوقت الذي يقضيه معها كأنه وقت مُهْدَرٌ من حياته، هدفه الوحيد أن يمر دون معاناة! وأجبره إنجابي بعد عام واحد من الزواج على تحمّل ذلك الوضع.. وظلا هكذا لسنوات؛ حتى ساءت حالتهما.. صمت طويلاً.. واغرورقت عينيه، وفشل أن يحبس دمعه، ثم عاد للتحدث منكسرًا:
- الست أقوى من الراجل بكتير، وحب الأم ده حاجة عظيمة وكبيرة.. خلاها هي اللي تسعى إنها تحافظ على البيت وأنا...
اعترف أنه في الوقت الذي كانت تتحمل أمي تلك الحياة من أجل الحفاظ على البيت، لجأ هو إلى اللهو والسهر خارج المنزل. اعترف بخطئه وندم على هجرنا.. كان يتحدث وهو ناظر إلى بحثي، ثم شرع أن يمسح عليه برفق وهو يغمغم "العدوى التي تمَنَّيتُها" وظل يرددها أكثر من مرة! وصف هذه الإصابة بأنها هبة من الله، لا ينالُها إلا المحظوظون، وهم قليلون.. ظلَّ يتخيل ويتساءل لو أنه كان أصيب مثلهم، واستيقظ أمام أمي، أي مصير كان سيكتب لعلاقتهما؟
لأول مرة أشعر بالأسى تجاهه، حاولت تهدأته قليلاً وبث الطمأنينة في قلبه..
- كل واحد بياخد نصيبه من الدنيا بشكل مختلف عن التاني، وإنتَ خدت نصيبك وإحنا خدنا نصيبنا واللي فات مات.. وأدينا الحمد لله كبرنا وبقينا زي الفل أهوه.
- البركة في أمكم، هي اللي شقيت وتعبت.. ربنا يباركلها.
تطورت علاقتنا منذ ذلك اليوم، وأصبحت أفضل من ذي قبل بكثير، وزاد من تحسِّن هذه العلاقة تواجدُه في منزلنا لأول مرة منذ سنين؛ لملاقاة كريم وأهله عندما تقدموا لخطبتي.
مريم
بعد عدة أشهر.. المستشفى
لا أعلم متى ينزاح هذا الكابوس عنّا؟! غيبوبة جديدة...!! كنت أتوقع ألا تستمر هذه المرة لأكثر من دقائق وفقاً للمعدل المتبع، لكن قد مر أكثر من ثلاث ساعات، حتى الآن...!!
نجلس جميعًا مرتابين، القلق يمزِّق عقلي، والحزنُ يبهت لونه شحوبًا على وجه (طنط) كوثر، والحنق يفور من عينيْ مراد. نجلس ها هنا منذ ثلاث ساعات.. نتحسس الأمل بثقة صبيانية، نرتاب مما نجهله فنسأل العليم أن يرزقنا العلم.. نرضى بقضائه، ونسأله رضاه.
انضم إلينا كريمٌ بعد وصولنا المستشفى بساعة واحدة.. فقد تصادف أن اتصل بهاتف يوسف بمجرد وصولنا أكثر من مرة حتى أجبته.. كان كأنه على علم بأمر هذه الغيبوبة! فما لبثت أن أجبت اتصاله حتى قال:
- يوسف عامل إيه؟
لم يسألني أين هو، أو لم أنا التي تجيب على هاتفه! ألقى تحيته على اسمي، ثم تساءل عن أحوال صديقه فوراً! وها هو ثالثهما يصل.
- إزيكم يا جماعة.. طمني يا مراد إيه الأخبار؟
- مش عارفين حاجة يا عمرو، زي كل مرة!
- هو بقاله قد إيه دلوقتي؟
- تقريبًا ثلاث ساعات!
سيطر الوجل على عمرو وكريم.. لاحظ الجميع ذلك، لكن لم يفهم السببَ أحدٌ غيري. إنهما يرونا مصيرهما أمام أعينهم! نصحتهما ومرادًا أن يذهبوا لينشطوا عقولهم بكوب من القهوة، فاليوم يبدو طويلاً. خرجوا جميعًا من الغرفة، وبقيت أنا وفريدة و(طنط) كوثر فقط، وبعد مرور عدة دقائق عاد مراد وحده يسوقه القلق والتوتر! لم تلاحظ أمه حالته؛ لانشغالها بيوسف والدعاء له، لكنني وفريدة لاحظنا، فسألتْه فريدة بصوت خافت:
- مالك؟
- تمام مفيش حاجة.
تُرى ما الذي عرفه بالخارج، وشغله إلى هذا الحد، واضطر إلى الكذب حياله؟ سألته عن كريم وعمرو، لعلهما عرفا شيئًا عن هذه الإصابة، فشاور لي برأسه أن أذهب إلى الخارج.. خرجتُ لكن لم أجد أحدًا منهما! تحركت يمينًا ويسارًا فلم أجد لهما أثرًا، حتى وجدت مرادًا أمامي مجددًا.. فسألته بارتياب:
- في إيه أنا مش فاهمة حاجة!
- تعالي معايا.
فتح باب أحد الغرف المجاورة لغرفة يوسف، فوجدت عَمْرًا مُستلقيًا على السرير، ورأيتُ كريمًا بجواره جالسًا على كرسيٍّ، ويده تعلو رأسه المنكسرة! لم أكن أتوقع أن تجريَ الأمور بهذه السرعة، ومع ذلك لم أتفاجأ كثيرًا، فاتجهت إلى كريم ناصحة:
- أنا متهيألي إنتَ محتاج ترجع البيت.
رد بهدوء:
- لا بالعكس.
طلب كريم من الممرضة التي كانت معنا في الغرفة أن تحجز له أقرب غرفة؛ ليقوم ببعض الفحوصات، وفي أثناء حديثه لها كان يتصل بأمه، فأخبرها بهدوء مصطنع:
- يوسف تعبان شوية، وأنا معاه في المستشفى.. وممكن أبات معاه.
ثم اتصل بأخته:
- يوسف وعمرو دخلوا غيبوبة تاني وأنا معاهم في المستشفى.. أنا حجزت أوضه ليا، وهسيب رقمك لمريم، لو حصلي حاجة هي هتكلمك، تعالي من غير ما تبلغي بابا وماما، أنا فهمتهم إني في المستشفى بايت مع يوسف.
ارتاب مراد كثيرًا من الترتيبات التي يجريها كريم.. وقف قليلاً يتأملنا، وقد حدق عينيه؛ ليدقق النظر إلينا.. ثم تحدث:
- ممكن أفهم في إيه؟
لم أستطع الرد، ففعل كريم:
- أنا وعمرو ويوسف بتجيلنا نفس الأعراض ديه بالظبط، غيبوبة كل فترة معينة، الفكرة أنها كانت كل مرة بتستمر لفترة أقل من المرة اللي قبلها، وآخر مرة كانت ساعة!
- الكلام ده من أمته؟
- تقريبًا سنة.
قاطعتهما بحسم:
- سنة بالظبط، يوم أما روحت إنتَ وطنط جبتوا يوسف من السخنة.
ثار مراد وارتفع صوته:
- إزاي محدش يقولي حاجة زي كده؟!
طلب منه كريم أن يهدأ، ويخفّض من صوته، واستأذنتهما في أن أذهب لتفقد يوسف.. خرجت من الغرفة، ورأيتُ مرادًا خلفي يتجه إلى غرفة التمريض.. كانت الغرفة تبعُد عني أكثر من عشرين مترًا، لكن صوته كان مرتفعًا فسمعته:
- أنا عايز أشوف مدير المستشفى فورًا، ومعاه رئيس القسم.
لم يدخل مراد إلى الغرفة، وإنما بقي أمامها.. كنا نراه من خلال الحائط الزجاجي يُجْرِي العديد من المكالمات.. ظنت فريدة أنها مكالمات خاصة بالعمل، فيما كنت أعلم جيدًا أنها لا تتعلق بالعمل، كما أعلم أن اليوم لن يمرَّ بسلام!
مر يوم كامل منذ دخولنا المستشفى، وعلمت أن مراد بدأ يجري تجهيزات لنقل يوسف إلى مستشفى بألمانيا.. كانت التحركات في المستشفى قد هدأت قليلاً، ولكن سرعان ما دب التوتر بين العاملين بالمستشفى عندما سقط كريم هو الآخر!! طلبت من التمريض أن يحملوه سريعاً إلى الغرفة التي كان قد حجزها بالأمس، واتصلت بنور على الفور لأخبرها، في الوقت نفسه الذي سمعت فيه مراد يتحدث إلى وزير الصحة:
- يعني إيه يا فندم محدش عارف هم مالهم! هو ده مستوى الطب في مصر؟!
عرفتُ من ردِّ مرادٍ أنَّ الوزيرَ سيأتي بنفسه؛ ليطِّلِعَ على حالتهم. كانت (طنط) كوثر قد انتقلت مع كريم في أثناء نقله إلى غرفة أخرى، وكان مراد يتحدث مع مدير المستشفى مجددًا عندما خرجت فريدة من الغرفة لتهدئته بعدما رأت حركة يده وجسده من خلف الزجاج.. تأكدنا أنه بدأ يثور على الجميع، في حين بدأ يوسف أن يستفيق وأنا بجواره.. حمداً لله!
- إيه اللي حصل؟
- كنت في غيبوبة تاني!
سأل بوهن:
- بقالي قد إيه؟
- أربعة وعشرين ساعة بالظبط.
- تااااااني!
ابتسم يوسف، وأطبق على راحتي بوهن، ثم قال ممازحًا...
- طب الحمد لله إني المرة ديه صحيت قدامك إنتِ، الله أعلم كنت هحبِّ مين تاني!
- طب وليه ماتقولش إنك كده خفيت؟!