hindawiorg

Share to Social Media

تحوَّل انتباه السيد كيف بسرعة إلى المخلوقات التي تشبه الطيور التي كان يراها
حاضرة بكثرة في كل رؤاه الأولى. وسرعان ما صوب انطباعه الأول، وظن لفترة أنها ربما
تمثل نوعًا نهاريٍّا من الوطاويط. ثم فكر، بغرابة، أنها مجموعة من الملائكة. كانت رءوسها
مستديرة، وتشبه رءوس البشر بشكل غريب؛ وكانت عينا أحدها هي ما روَّعه بشدة في
ملاحظته الثانية؛ كانت لها أجنحة فِضية عريضة بلا ريش، لكنها كانت تلمع مثل قشور
السمك الذي اصطِيد للتوِّ، وبالتموج الغامضللألوان نفسه. ولم تكن هذه الأجنحة مبنية
على غرار أجنحة الطيور أو الوطاويط، التي درسها السيد ويس، ولكنها كانت مُدعمة
بضلوع مقوَّسة تشع من الجسد (أفضل وصف لها أنها أجنحة فراشات مُدعمة بضلوع
مقوَّسة). كان الجسد صغيرًا، لكنه مُزوَّد بمجموعتين من أعضاء الإمساك، تشبه الِمجَسات،
تحت الفم مباشرة. رغم أن هذا بدا مذهلًا للسيد ويس، لكنه لم يملك إلا الاقتناع في النهاية
بأن هذه الكائنات هي التي كانت تملك الأبنية العملاقة التي تشبه أبنية البشر والحديقة
الفخمة التي تجعل الوادي الفسيح رائعًا. علاوة على ذلك، أدرك السيد كيف أن الأبنية،
بجانب العجائب الأخرى، بلا أبواب، ولكن النوافذ الدائرية الواسعة التي تنفتح في سهولة،
كانت توفر للكائنات المدخل والمخرج. كانت تلك الكائنات تحطُّ على مِجساتها، وتطوي
أجنحتها حتى تصير صغيرة مثل العصا، وتَثِب داخلَ الأبنية. لكن، كانت بينَها كثرةٌ من
كائنات مجنَّحة أصغر حجمًا تشبه اليعاسيب والعِثَاث والخنافس الطائرة الضخمة. وعبر
الأرضالعشبية، كانت تزحف ببطء خنافسُ أرضية عملاقة زاهية ذَهابًا وإيابًا. عَلاوة على
ذلك، على الممرات المرتفعة والشرفات، كانت تظهر كائنات ذات رءوسعملاقة تشبه الذباب
المجنَّح الكبير، لكنها بلا أجنحة، وكانت منشغلة بالقفز على شبكة مِجَساتها التي تشبه
الكف.
أشرنا بالفعل إلى الأجسام اللامعة فوق الصواري التي كانت تنتصب علىشرفةِ أقرب
مبنى. تجلى للسيد كيف — بعد مشاهدة أحد هذه الصواري بتدقيق شديد في يوم شديد
الإشراق — أن تلك الأجسام اللامعة كانت بلورات تشبه التي ينظر فيها. وبالمزيد من
التدقيق، اقتنع السيد كيف أن كل واحدة، في مشهد يضم نحو عشرينصارية، كانت تحمل
جسمًا مشابهًا.
كان الواحد من الكائنات المجنَّحة الضخمة يرفرف عاليًا إلى أحد الصواري، ويشاهِد
— بعد أن يطويَ جناحَيه ويلف عددًا من مِجساته حول الصارية — البلورةَ بثبات لفترة
زمنية تمتد أحيانًا إلى خمس عشرة دقيقة. اقتنع الرجلان، بعد سلسلة من الملاحظات التي
اقترحها السيد ويس، أنه فيما يخص هذا العالم الخيالي الذي يشاهدانِه، أن البلورة التي
ينظران من خلالها كانت تقف على قمة أبعد تلك الصواري في الشرفة، وأنه في إحدى المرات
على الأقل نظر أحد سكان ذلك العالم في وجه السيد كيف أثناء ملاحظاته لعالمهم.
كفانا حقائق أساسية لهذه القصة الفريدة. ما لم نرفضها كلها على اعتبار أنها اختلاق
بارع من السيد ويس، يجب علينا تصديق أحد أمرين: إما أن بلورة السيد كيف كانت في
عالمَيْن في وقت واحد، وبينما كانت تُحمَل في أحدهما من مكان إلى آخر ظلت ثابتة في الآخر،
وهذا ما يبدو سخيفًا إجمالًا؛ وإما أن هناك علاقة غريبة بينها وبين بلورة أخرى مشابهة
لها تمامًا في هذا العالم الآخر، حتى إن ما يُرى داخل البلورة التي في هذا العالم، يمكن
لمراقِب من العالم الآخر رؤيته في ظروف مناسبة في البلورة المناظرة، والعكس صحيح. في
هذا الوقت، لا نعرفحقٍّا بأي طريقة يمكن أن ترتبط بلورتان، لكننا نعرفاليوم ما يكفي
لندرك أن الأمر ليس مستحيلًا بالكلِّية. كان وجود ارتباط بين البلورتين هو الفرضية التي
طرأت للسيد ويس، وهي تبدو لي على الأقل مقبولة للغاية.
لكن أين كان هذا العالم الآخر؟ أوضح ذكاء السيد ويساليقظ هذا الأمر أيضًا بسرعة.
بعد الغروب، أظلمت السماء بسرعة — في الواقع كانت هناك فترات شَفَق قصيرة للغاية —
وبزغت النجوم. كانت تشبه تلك التي نراها في عالمنا ومُرتَّبة في المجموعات الكوكبية ذاتها.
رأى السيد كيف مجموعات الدُّب والثريا ونَجْمَي الدَّبَران والشِّعرَى، وهو ما يعني أن العالم
الآخر لا بد أنه يقع ضمن مجموعتنا الشمسية، ويبعد عن عالمنا على أقصى تقدير بضع
مِئات الملايين من الأميال. باتباع هذا الدليل، أدرك السيد ويس أن سماء منتصف الليل
كانت أغمق في زُرقتها من سماء عالمنا في منتصف الشتاء، وأن الشمس بدت أصغر قليلًا في
مثل قمرنا لكن أصغر ولهما سمات مختلفة » « كما كان هناك قمران صغيران » . ذلك العالم
كان أحدهما يتحرك بسرعة كبيرة حتى إن حركته كانت واضحة لمن ينظر إليه. ،« تمامًا
ولم يكن هذان القمران عاليَيْن في السماء قطُّ، وإنما كانا يختفيان حالَما يرتفعان؛ ويعني
هذا أنهما كانا يتعرضان للخسوف في كل مرة يكملان فيها دورة كاملة؛ لأنهما كان قريبَيْن
للغاية من كوكبهما الأم. كل هذا يعبِّر بشكل كامل عما هي عليه الأمور على كوكب المريخ،
رغم أن السيد كيف لم يكن يعلم هذا.
في الواقع، يبدو الاستنتاج القائل بأن السيد كيف كان ينظر إلى سطح المريخ وسكانه
من خلال البلورة معقولًا للغاية. وإذا كان هذا هو الأمر بالفعل، فإن نجم المساء الذي كان
يلمع بشدة في السماء من تلك المسافة البعيدة لم يكن سوى كوكبنا المألوف، الأرض.
لبعضالوقت، لم يكن يبدو أن المريخيين — إذا كانوا مريخيين — على علم بملاحظة
السيد كيف لهم. كان الواحد منهم يأتي مرة أو مرتين ليحدق، وينصرفسريعًا إلىصارية
أخرى، وكأن الرؤية لم تكن مُرضية. خلال ذلك الوقت، استطاع السيد كيف مشاهدة سير
حياة هذا الشعب المجنَّح دون أن تزعجَه ملاحظاتهم، ورغم أن تقريره غامض ومفكَّك
لا محالة، فإنه مع ذلك يوحي بالكثير. تخيل الانطباع عن الإنسانية الذي يمكن أن يحصل
عليه مراقب مريخي كان بإمكانه — بعد تحضير صعب وإرهاق كبير للعينين — التحديق
في لندن من برج كنيسة سان مارتن على فترات تبلغ أطول فترة منها أربع دقائق. كان
السيد كيف عاجزًا عن التأكد مما إن كان المريخيون المجنَّحون هم أنفسهم المريخيون الذين
كانوا يتقافزون في الممرات المرتفعة والشرفات، وما إن كان بإمكان هؤلاء أن يرتدوا أجنحة
حينما يريدون. رأى مرارًا حيوانات خرقاء ذات قدمين، تشبه القردة على نحو غامض،
وبيضاء، وشفافة جزئيٍّا، تتغذى وسط نوع من الأشجار التي تنمو عليها الأشنات. وفي
مرة هرب بعض هؤلاء من أمام أحد المريخيين ذوي الرءوس الدائرية المتقافزين. أمسك
المريخي بأحدهم في مِجَساته، وحينئذٍ اختفت الصورة فجأة، وتركت السيد كيف في الظلام
متشوقًا لمعرفة ما حدث. وفي مرة أخرى، ظهر شيء ضخم، ظنه السيد كيف في البداية
حشرة عملاقة، وهو يتقدم في الممر المرتفع بجوار القناة المائية بسرعة رهيبة. وحالما أصبح
هذا الشيء أقرب، أدرك السيد كيف أنه كان آلة مكونة من معادن لامعة، ومعقدة للغاية.
وبعد ذلك، حينما نظر مرة أخرى، اختفى عن نظره.
بعد فترة، طمح السيد ويس لجذب انتباه المريخيين؛ وفي المرة التالية التي ظهرت له
فيها عينا أحدهم الغريبتان قريبة من البلورة، صرخ السيد كيف، وهرب بعيدًا، وأشعلا
النور على الفور، وبدءا في الإيماء بأسلوب يوحي بإرسال الإشارات. لكن حينما عاد السيد
كيف في النهاية لفحصالبلورة وجد أن المريخي قد اختفى.
بعد ذلك الوقت، زادت هذه المشاهدات في أوائل شهر نوفمبر، وحينئذٍ بدأ السيد كيف
في اصطحاب البلورة معه أينما ذهب بعد شعوره بأن شكوك عائلته بشأن البلورة بدأت
تهدأ؛ حتى يسليَ نفسه — سواء بالنهار أو بالليل — بمشاهدة ما أصبح بمرور الوقت
أكثرَشيء واقعي في حياته.
في شهر ديسمبر، أصبح عمل السيد ويس المرتبط بالامتحانات المقبلة عبئًا ثقيلًا،
وكانت جلساتهما تتوقف على مضض لمدة أسبوع، وطوال عشرة أيام أو أحد عشر يومًا
— لم يكن متأكدًا من هذا — لم يرَ السيد كيف مطلقًا، وحينئذٍ ازدادت لهفته لاستئناف
هذه المشاهدات. وبانخفاض ضغط عمله المعملي الموسمي، ذهب إلى شارع سفن ديالز،
وعلى الناصية لاحظ أن مصاريع نوافذ متجرَيْ مربي الطيور والإسكافي مغلقة، وكان متجر
السيد كيف مغلقًا.
دق على الباب، وفتحه ابن زوجة السيد كيف مرتديًا ملابس سوداء. نادى فورًا على
السيدة كيف التي لم يستطع السيد ويس إلا أن يلاحظ أنها كانت ترتدي ثياب حِداد

رخيصة لكنها فضفاضة بشكل مهيب. دون أن يفاجأ السيد ويس بشكل كبير، عرف أن
كيف مات ودُفِن بالفعل. كانت دامعة، وكان صوتها أجش قليلًا، كانت قد عادت لتوِّها
من ضاحية هايجيت، وبدا أن عقلها كان منشغلًا بشئونها، والتفاصيل الرسمية للمأتم،
لكن السيد ويس نجح في النهاية في معرفة تفاصيل موت السيد كيف. عُثِر عليه ميتًا
في متجره في الصباح الباكر بعد آخر زيارة منه للسيد ويس، وكانت البلورة بين يديه
المتصلبتين الباردتين، كان وجهه باسمًا، حسب قول السيدة كيف، كما كانت قطعة المُخمل
التي يستخدمها لحفظ المعادن ملقاة عند قدميه. لا بد أنه مات قبل خمس ساعات أو ستٍّ
من العُثور عليه هكذا.
مثَّل هذا صدمة كبيرة لويس، وأخذ يوبخ نفسه بشدة لأنه تجاهل الأعراضالواضحة
لاعتلال الرجل العجوز. لكن تفكيره الرئيس انصبَّ على البلورة، واقترب من هذا الموضوع
بحذر شديد لمعرفته بغرابة أطوار السيدة كيف، وصُعِق حينما عرف أنها بيعت.
كان أول ما فكرت فيه السيدة كيف، بعد اصطحاب جسد زوجها للطابق العلوي،
هو أن ترسل إلى القس المجنون الذي عرضخمسة جنيهات مقابل البلورة، لتخبره بأنها
عثرت عليها، لكن بعد بحث شديد عن عنوانه بمساعدة ابنتها، اقتنعتا بأنهما فقدتاه، ولما
لم تكن لديهم النفقات اللازمة لنَعْي كيف، ودفنه بشكل يليق بساكن قديم لشارع سفن
ديالز، نشدوا تاجرًا من أصدقاء العائلة في شارع جريت بورتلاند. اشترى التاجر عن طيب
خاطر جزءًا من بضائع المتجر بعد تقييمها. كان هو من قيَّمَ البضائع بنفسه، وكانت
البيضة البلورية من بين ما حصل عليه. بعد تقديم قليل من التعازي الملائمة، المقدمة
دون تحضير مسبق، هُرع السيد ويس فورًا إلى شارع جريت بورتلاند، لكنه علم هناك
أن البيضة البلورية بيعت لرجل طويل أسمر يرتدي ملابس رَمادية. وهنا تنتهي الحقائق
المادية لهذه القصة الغريبة، والموحية من وجهة نظري على الأقل، بشكل مفاجئ. لم يدرِ
تاجر شارع جريت بورتلاند مَن كان الرجل الطويل الأسمر ذا الملابس الرَّمادية، ولم يرَه
بالانتباه الكافي ليصفَه بدقة. لم يكن حتى يعرف أي طريق ذهب فيه الرجل بعد مغادرته
المتجر. ظل السيد ويس في المتجر لفترة يختبر صبر التاجر بأسئلة لا طائل من ورائها،
ليُنفِّسعن غضبه. في النهاية، وبعد أن أدرك فجأةً أن الأمر خرج برُمَّته عن نطاق سيطرته،
وتبدَّد مثل حُلم عابر، عاد إلى غرفته، مندهشًا قليلًا لوجود الملحوظات التي كتبها، ما زالت
كما هي على طاولته غير المرتبة.
كان إحباطه وضيقه عظيمين بالطبع. قام بزيارة ثانية (بلا طائل بالمثل) لتاجر
شارع جريت بورتلاند، ولجأ لنشر إعلانات في الدوريات التي يَحْتَمل أن تقع في أيدي

البيضة البلورية
جامعي التحف والخردوات، كما بعث برسائل إلى مطبوعتَيْ ذا ديلي كرونيكل ونيتشر، لكن
المسئولين عن المطبوعتَيْن شكُّوا في أن الأمر خُدعة، وطلبوا منه أن يُعيد التفكير في الأمر
قبل نشرالخطابات، ونصحوه بأن مثل هذه القصة الغريبة، التي تفتقر لأي دليل يدعمها
مع الأسف، ربما تهدد سمعته بصفته باحثًا. علاوة على ذلك، فإن عمله الرفيع كان له
متطلباته العاجلة؛ لذا، وبعد مرور شهر أو نحوه — فيما عدا تذكرة بين الحين والآخر
لبعض التجار — اضْطُر على مَضض إلى التخلي عن سعيه للعثور على البيضة البلورية،
ومنذ ذلك اليوم حتى الآن، ما زالت البيضة مختفية. ورغم ذلك، يخبرني السيد ويس بين
الحين والآخر، وأنا أصدقه بالفعل، أنه أحيانًا ما تنتابه نوبات حماسيتخلى فيها عن شغله
الأكثر إلحاحًا، ويستأنف البحث عنها.
إن أمورًا مثل ما إذا كانت البلورة ستظل مفقودة أم لا، وكذلك ما يتعلق بطبيعة
مادتها وأصلها، كلها تظل تخمينية تمامًا في الوقت الراهن. إذا كان مشتريها الحاليُّ جامعًا
للتحف، فمن المتوقع أن استفسارات السيد ويس قد وصلته من خلال التجَّار. لقد تمكن
السيد ويس من معرفة أن قس السيد كيف ورجله الشرقي لم يكونا سوى الموقَّر جيمس
باركر وأمير بوسو الشاب كوني في جزيرة جاوة. يجب عليَّ ذكر بعض الأمور بشأنهما؛
فقد كان غرضالأمير الشاب هو مجرد الفضول والبذخ. وكان متلهفًا على الشراء لأن كيف
كان ممانعًا — بالمقابل — في البيع. من المحتمل أن الشاريَ في المرة التالية كان شاريًا عابرًا
وليس جامعًا للتحف على الإطلاق، وربما تكون البيضة البلورية الآن — على حد علمي —
على بُعد مِيل مني، تُزين مَرسمًا، أو تُستخدم ثُقَّالة ورق، دون معرفة وظائفها المميزة.
والواقع أن فكرة هذا الاحتمال هي ما دفعتني جزئيٍّا لنشر هذه القصة بشكل يمنحها
فرصة ليقرأها قارئ القصصالخيالية العادي.
أما أفكاري بشأن ما حدث فهي تتطابق تقريبًا مع أفكار السيد ويس. أعتقد أن
البلورة التي تقبع على الصارية في أرض المريخ وبلورة السيد كيف، مرتبطتان ارتباطًا
ماديٍّا، لكن بشكل لا يمكن تفسيره في الوقت الراهن، ويؤمن كلانا بأن بلورة عالمنا من
المحتمل أن تكون قد جاءت من المريخ في الماضيالسحيق ليلقي سكان المريخ من خلالها
نظرة مقرَّبة على أحوالنا اليومية. ربما كانت هناك بلورات أخرى في عالمنا تقابل بقية
البلورات التي كانت على الصواري، لكن لا يمكن لأي نظرية خيالية أن تُغْني عن الحقائق
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.