قد يكون الواقع مؤلم؛
لكن أن تعيشه فهو أكثر إيلامًا
جميلة هي؛
كلؤلؤة براقة بين نِفايات الألباب!
حورية هي؛
تغدو ببراءة هاربة من الأنياب!
عالقة هي؛
تدفعها أمواج..
تسلبها أمواج..
يستبيحها الأقارب قبل الأغراب!
و..مليحة هي..؛
حينما صار الحُسن جريمة تستوجب أشد العقاب!
****
ها قد دُقّت الطبول، وعلا صوت النّاقوس
وأعلنَ الزمانُ عن ولادةِ صاحبة الظلِ المطموس
تلك الهاربة التي تنشدّ التخفي عن مَرضى النّفوس،
المُسافرة إلى أبعدِ رُكنٍ لا يطاله ضوء الشُّموس،
المُتعبة مِن الحياةِ، وقسوة جِنس البشرِ المهووس،
المَطعونة مِن زوجٍ بيديه أودَعها في السجنِ المَنحوس،
المَذبوحة على يدِ أختٍ لم تُبالِ بسماعِ أنينها المَهموس،
الشريدة بين أُناسٍ يُطالعونها باستنكارٍ؛ وكأنها إحدى فتيات المَجوس،
المَلعونة بجمالها، فأرادها الكل أن تكون له عروس
طلبت بعضًا مِن الرفقِ فلم تنَل إلا حذف قصتها مِن القاموس
صرخت فيهم وقالت: رفعَ اللهُ قدري في النّاموس
وعزّزني الرسول في سُنتِه، وقالَ عني: قارورة بالحسنى عامِلوها
فاتهموها بما ليس فيها، وقالوا مكانها ها هنا في قُمقُمٍ كالطيرِ المَحبوس
لا مفر لها مِن قبضتِنا، ولا سبيل لها لتعيش دون قيود
كَبّلوها دون إرادتها، وقصقصوا ريشها وقالوا: تتباهي علينا كما الطاووس
جرّدوها مما تملك، وألقوها على الهامشِ وقالوا: ليست أكثر مِن ظلٍ مَعكوس
صُبّوا عليها شَرابكم وأعيدوا مِلء الكؤوس،
وحينما تملّوها انهالوا عليها ضربًا بالفؤوس،
أو اطحنوها تحت الضّروس،
وإن اعترضَت فرِّغوا فيها رصاصاتكم بلا رحمة؛ حتى يختفي أثرها المَلموس
وبين ما أرادت المليحة، وما أرادوا ظلّت كالحيرى لا تجد السبيل لتتحرر مِن سجنِها، فخارت قواها حتى لاذت بالجلوس
تنعى الحظ الذي ألقى بها في مجتمعٍ لا يرحم، وَجَبَ عليها إتباع ما فيه مِن طقوس
فهل يا ترى لكِ يا مَليحة مِن بعدِ موتٍ إحياء فترفعي رأسكِ عاليًا وتُنكّس باقي الرؤوس؟!
( خاطرة بقلم هند فايد)
تجلس وداد الوَعد على كرسي مكتبها، تنظر للأوراقِ المُتراصة أمامها،وبين كل فينة وأخرى تنظر لاسمٍ مُدون بأسفلِاللائحة أمامها..
( إلهام الحُسيني )
وعينيها تتركان الاسم وتشردان للجريدةِ الموضوعة بجوارِ الورق،ثم تتركزان على عنوانٍ رئيسي بالخطِ العريض..
( اغتصبني قدام ابني )
قبل أن تتحرك عيناها ببطءٍ قابض لروحِها لنسخةٍ أخرى مِن الجريدةِ ولكن فرق التوقيت بين النسختين شهر..
شهر كامل جعل العنوان يتبدّل لـ..
( ضحيّة الاغتصاب مطلعتش ضحيّة.. الضحيّة بتجيب رجّالة بيتها، وجوزها شاهد، وعمل لها قضية زِنى )
تنهدت وداد بضيقٍمِن حالِ هذا المجتمع الغريب،تستشعر جديًا ظلم بيّن وقع على الضحيّةِ، وتتساءل كيف تمَّ ظلمها بقضيةٍ بهذهِ البشاعة؟!
كيف تتحول مِن ضحيّةٍ لمُتهمةٍ بجريمةٍ بهذهِ الحقارة؟!
كيف انتظرت لتظهر براءتِها عن طريقِ مُحامي تطوّع للدفاعِ عنها؟!
كيف لم يستشعروا الظلم الذي وقعَ عليها مِن أول جلسة.. وخاصة حين قالت في تحقيقاتِ النيابة التي عرضَت الجريدة جزء منها..
" هددني يقتل ابني اللي كان بيُصرخ.. وهددني ببنتي اللي أجبرني أسيبها في التوكتوك،وكانت درجة حرارتها ٤٠ يا بيه.. "؟!
ثم تقرأ في سطرٍ آخر..
"قعدت أضرب فيه لحد ما حيلي اتهد يا بيه..
كتّفني،وكتم نفسي علشان يمنعني أصوّت.. "
لتغمض وداد عينيها بألمٍ، ودموعها تحرق عينيها.. ولكن مِهنيّتها منعتها الاستمرار بذلك التأثير.
عليها أن تُقنع إلهام بالموافقةِعلى نشرِ قصتها.. قصتها الحقيقية، لا ما نشرته الجرائد، وتداوله كلام الناس.
ستحاول معها،وان لم تستجِب ستخبر مُحاميها الذي هاتفته قبل أيامٍ، وطلبت مساعدته، وأخبرها أن هذه الخُطوة تخص إلهام وحدها.
أمسكت هاتفها بإصرارٍ لا تفقده أبدًا..
وبدأت اتصالها..
متمنّية أن تجيب ( الضحيّة)هذه المرة.
***
بعد يومين
في أحدِ الأحياء الشعبية بمدينةِ الإسكندرية كان هناك امرأة تبلغ منِ العُمرِ السابعة والعشرون.. تجلس على مكتبٍ خشبي بسيط للغاية، ويُرَصّ أمام مكتبِها عدد مِن ماكينات الخياطة، ووراء كل ماكينة تجلس سيدة، أو فتاة مازالت في عُمرِ الزهور.
تنظر للهاتف الذي يلحّ بسماجةٍ لم تقابل مثلها قبلًا.. فهذه المُتصلة لا تملّ أبدًا!
تأففت مغلقة صوت الرنين، ثم عادت تتطلّع أمامها.
( مشغل خياطة )
كان مَلاذها بعد هروبِها بطفليها مِن العارِ الذي لحقهم جميعًا؛ وقد كانت نظرات الناس لا ترحمها.. سواء مُشفقة أو متجنّية.
لم تأبه في البدايةِ، وخاصة بعد أن علم الجميع مدى الظلم الذي وقع عليها، لكن مع الوقت أصبحت الناس لا ترحمها.. وخاصة حين أتت لها ابنتها في ليلةٍ تسألها ببراءتِها كطفلةٍ.
" ماما.. العيال في المدرسة بيقولوا لي إنك بتجيبي رجّالة البيت "
وقتها تأكدت أن العيش بتلك المنطقة أصبح مِن المستحيل.. وخاصة مع تخلّيمَن هُم منها!
هي سَنة.. سَنة واحدة فقط..
سَنة قلبت كل موازين حياتها رأسًا على عقبٍ.
تنهدت إلهام بضيقٍ يملأ كيانها كلّما خطر على بالِها ما حدث،قاطع شرودها إحدى العاملات، وأصغرهن سنًا.
" أبلة إلهام.. الأستاذ فريد برّه "
فريد..
فريد وهو فريد!
لم تقوَ السيطرة على دقات قلبها المتقاذفة مع نطق اسمه..
فريد الذي لا يكلّ ولا يملّمِ ما يخصها..
فريد الذي كان لها نقطة نجاة..
بُقعة نور في وسطِ طريق مظلم.. معتم ووَعر..
ولكن ما يطلبه يشبه المستحيل!
تنهدت للمرّة التي لا تعلم عددها،ثم أخبرت الفتاة.
" خليه يدخل.. وعرّفي البنات إنه داخل.. اللي تغطي وشها،أو تداري شعرها "
وهذا لأن البنات العامِلات معها تأخذن راحتهن بداخلِ المشغل؛ منهن مَن تلبس النقاب وحين تدخل المشغل تخلعه؛ ومنهن مَن تخلع حجابها وتجلس براحةٍ.
يتعامل الجميع مع المشغل كأنه بيتهن.. بل هو فعلًا بيتهن؛فكل عامِلة معها تحمل مِن أعباءِ الحياة ما جعلها تحتاج لهذا العمل، مهما كان بسيطًا.
استقامت هي الأخرى، لتُنزِل نقابها، تخفي به وجهها..
وجهها الذي كان لعنتها فيما حدث..
ولم تتصالح بعد مع تلك اللعنة!
﴿ لعنـــــــــة مَليحــــــــــة ﴾
***