تفاجَأَ السيد فينسي عندما عرف أنه على الرغم من عدم معرفة السيد هارت بالشغب
الذي حدث، فقد أرَّقته إحدى الرؤى، وهي الرؤيا نفسها التي رآها السيد فينسي؛ إذ كان
السيد بيزل شاحبًا ورثَّ الثياب ويُصدِر إيماءات تعبِّر عن التوسُّل الصادق للمساعدة. كان
كنتُ ذاهبًا للتوِّ لرؤيته » : هذا هو انطباع السيد هارت عن معنى إشاراته. واستطرد قائلًا
«. في مبنى ألباني عندما وصلتَ. كنتُ متأكدًا من أنه وقع له مكروه
ونتيجةَ تشاوُر الرجلين قرَّرا الاستفسارَ في شرطة سكوتلانديارد عن أنباء عن
لا بد أنه ألُقِي القبض عليه؛ فمن غير الممكن أن » : صديقهما التائه، وقال السيد هارت
إلا أن قوات الشرطة لم تُلقِ القبض على السيد بيزل. «. يستمر بهذه السرعة لفترة طويلة
لقد أكَّدوا الوقائعَ التي حدثت للسيد فينسيفي الليلة السابقة وأضافوا إليها أحداثًا جديدة،
بعضها كان ذا طابع أكثر خطورةً من تلك التي كان يعرفها، وضمَّتِ القائمةُ حوادثَ
تكسير الزجاج في النصف العلوي من طريق توتنهام كورت، وهجومًا علىشرطي في طريق
هامبستيد، واعتداءً فظيعًا على سيدة. وارتُكِبت كلُّ هذه الفظائع بين الساعة الثانية عشرة
والنصف والساعة الثانية إلا الربع صباحًا، وبين تلك الساعات — وفي الواقع من لحظة
خروج السيد بيزل لأول مرة من شقته في التاسعة والنصف مساءً — استطاعوا تتبُّعَ مسار
عنفه المستفحل والغريب؛ ففي الساعة الأخيرة، على الأقل قبل الساعة الواحدة وتحديدًا
حتى الثانية إلا الربع، هام على وجهه في أنحاء لندن وهو في حالةِ هياجٍ متجنبًا برشاقة
مذهلة كلَّ محاولةٍ لإيقافه أو القبضعليه.
إلا أنه اختفى بعد الثانية إلا الربع. حتى تلك الساعة كان عددُ مَن شاهدوه لا يُعَد ولا
يُحصَى؛ فقد رآه الكثيرون، وهربوا منه أو لاحَقوه، ثم انتهى كلُّ شيء فجأةً. ففي الثانية
إلا الربع شُوهِد وهو يجري في طريق يوستون متَّجِهًا نحو شارع بيكر مُشهِرًا صفيحة
زيت سلجم مشتعل، موجِّهًا ألسنةَ اللهب من الصفيحة صوبَ نوافذ المنازل أثناء مروره.
لكنْ لم يلمحه أحدٌ من رجال الشرطة الموجودين في طريق يوستون بعد متحف الشمع،
ولا أولئك الموجودين في الشوارع الجانبية التي اجتازها حتمًا بعد أن ترك طريق يوستون.
لقد اختفى فجأةً، ولم يتضح أيٌّ من أفعاله التالية على الرغم من دقة التحقيقات.
كانت تلك الأخبار مفاجأةً جديدة لمستر فينسي، لكنه وجد راحةً كبيرة في اعتقاد السيد
ومن خلال هذا التأكيد ،« لا بدَّ أنه سيُلقَى القبض عليه قريبًا » هارت بأن السيد بيزل
استطاع أن يُعطِّل الأمورَ التي أربكت ذهنه. بَيْدَ أنه بَدَا من المؤكد أن أي تطورات جديدة
سوف تضيف مستحيلات جديدة إلى ذلك الكمِّ الهائل المتراكم منها بالفعل والذي يعجز
عن تصديقه؛ فلقد وجد نفسه يشك فيما إذا كانت ذاكرته قد خدعته خدعةً بَشِعة، ويفكر
فيما إذا كانت هذه الأمور قد وقعت بالفعل. ومع حلول الظهيرة بحث عن السيد هارت
مرةً أخرى ليبثَّ له الأفكارَ التي لا تطاق والتي تثقل ذهنه؛ فوجد السيد هارت مشغولًا
مع أحد المحققين الخاصين المعروفين، لكنْ نظرًا لأن ذلك الرجل لم ينجز أيَّ شيء في هذه
القضية، لسنا في حاجةٍ إلى الاستفاضة فيما اتخذه من إجراءات.
طوالَ ذلك اليوم وتلك الليلة لم يُسفِر البحثُ الحثيث الذي لم يتوقَّف عن معرفةِ مكانِ
السيد بيزل، وطوالَ ذلك اليوم كان السيد فينسيمقتنعًا في قرارة ذهنه أن السيد بيزل كان
يسعى إلى لفت انتباهه، وطوالَ الليل كان يطارده في أحلامه بوجهٍ حزين تلطِّخه الدموع،
وكلما رأى السيد بيزل في أحلامه رأى معه عددًا آخَر من الوجوه الغامضة والخبيثة التي
بَدَا أنها تلاحِقه.
في اليوم التالي، يوم الأحد، تذكَّرَ السيد فينسي القصصَ العجيبة المنتشرة عن السيدة
بولوك الوسيطة الروحانية التي كانت في ذلك الوقت تجذب الأنظار للمرة الأولى في لندن،
وقرَّر السيد فينسي استشارتها. كانت تقيم في منزل المحقِّق المشهور الدكتور ويلسون
باجيت، وعلى الرغم من أن السيد فينسي لم يقابل ذلك السيد من قبلُ، فإنه ذهب إليه على
الفور بنِيَّة طلب العون من السيدة، ولم يكد يذكر اسمَ بيزل حتى قاطَعَه الدكتور قائلًا:
«. لم يتسنَّ لنا التواصُل إلا في نهاية الليلة الماضية »
وغادَرَ الغرفة وعاد حاملًا معه لوحًا كان مكتوبًا عليه كلمات بخطِّ يدٍ مهزوز في واقع
الأمر، لكنه كان خطَّ يدِ السيد بيزل بلا جدال!
«؟… كيف حصلتَ على ذلك؟ هل تقصد أن » : قال السيد فينسي
وبمقاطعات عديدة من جانب «. لقد حصلنا عليه الليلةَ البارحة » : فقال الدكتور باجيت
السيد فينسي استطرَدَ ليشرح كيف حصل على الكتابة، واتضح أنه أثناء جلساتِ تحضيرِ
الأرواح تدخُل السيدة بولوك في حالةٍ أشبه بالغيبوبة؛ حيث تدور عيناها بطريقة عجيبة
تحت الجفون، ويصبح جسدها متصلِّبًا، وبعد ذلك تبدأ في التحدُّث سريعًا جدٍّا بأصوات
غير صوتها عادةً، وفي الوقت نفسه تكون إحدى يديها أو كلتاهما نَشِطة، وفي حالةِ توافُر
الألواح والأقلام الرصاصتكتبان الرسائلَ بينما تتدفَّق الكلمات من فمها، وعلى نحوٍ مستقل
تمامًا عن تدفُّق تلك الكلمات. كثير من الناس يعتبرونها وسيطًا روحانيٍّا أكثر تميُّزًا من
السيدة بايبر الشهيرة. وأصبح الآن أمام السيد فينسي واحدة من الرسائل، رسالة مكتوبة
جورد بيزل … » : بيدها اليسرى، ومكوَّنة من تسع كلمات مكتوبة على نحوٍ متقطع كالتالي
والعجيب أن الدكتور باجيت «. حفر تجريبي … شارع بيكر … النجدة … أتضوَّر جوعًا
أو المحقِّقَيْن الآخرَين اللذين كانا حاضرَين لم يكونوا قد سمعوا عن اختفاء السيد بيزل
— حيث لم تظهر أخبارُ اختفائه إلا في جرائد السبت المسائية — ووضعوا الرسالة بجوار
الرسائل الأخرى الغامضة والمبهمة التي تُسلِّمها السيدة بولوك من آنٍ لآخَر.
وعندما عرف الدكتور باجيت قصةَ السيد فينسي، كرَّس نفسه على الفور بحماسٍ
شديد للبحث وراء ذلك الدليل الذي أدَّى إلى معرفته بأمر السيد بيزل. ولن يكون مُجدِيًا
في هذا الصدد وصْفُ استفسارات السيد فينسيأو استفساراته هو نفسه؛ إذ يكفي أن هذا
الدليل حقيقيٌّ في حدِّ ذاته، وأن السيد بيزل عُثِر عليه فعليٍّا بمساعدته.
فقد وجدوه في قاعِ نفقٍ منعزل أصبح مهجورًا وجرى إغراقه بالمياه مع بدء العمل في
السكة الحديدية الكهربائية الجديدة في محطة شارع بيكر. كُسِرت ذراعه وساقه وضلعان
من ضلوعه. يحمي النفقَ سورٌ يبلغ ارتفاعه قرابة عشرين قدمًا، فلا بد أن السيد بيزل
— ذلك الرجل الممتلئ الجسم المتوسط العمر — قد اندفع دون روِيَّة ما أدَّى إلى سقوطه
عَبْره. كان مبتلٍّا تمامًا بزيت السلجم، والصفيحة المحطَّمة قابعة بجواره، لكنْ لحُسْن الحظ
أن اللهب انطفأ بسقوطه. كان الجنون قد فارَقَه تمامًا، وبالرغم من ذلك فقد كان بطبيعة
الحال في حالةِ إعياءٍ شديد، وعندما رأى منقذيه استسلم لبكاءٍ هستيري.
ونظرًا للحالة المؤسفة لشقة السيد بيزل، فقد اصطحبوه إلى منزل الدكتور هاتون في
شارع بيكر العلوي. وفي هذا المنزل خضع للعلاج بالمهدِّئات، وأبعدوا عنه بحرصٍ شديد
أيَّشيءٍ قد يُذكِّره بالأزمة العنيفة التي مرَّ بها. إلا أنه في اليوم الثاني أدلى برواية.
ومنذ ذلك الحين كرَّرَ السيد بيزل هذه الرواية مرات عديدة — لي ولغيري — منوِّعًا
التفاصيلَ مثلما يفعل دائمًا راوي التجارب الحقيقية، لكنه لم يناقضنفسه مطلقًا في أيٍّ
منها. وكانت الرواية التي حكاها في مجملها على النحو التالي.
ومن أجل فهم روايته بوضوحٍ، من الضروري أن نعود إلى تجاربه مع السيد فينسي
قبل تعرُّضه لهذا الهجوم العجيب. كانت أولى محاولات السيد بيزل الخروج من جسده
— أثناء تجاربه مع السيد فينسي كما يتذكر القارئ — محاولات غير ناجحة، إلا أنه في
كل هذه التجارب كان يركِّز قوته وإرادته على الخروج من الجسد، معبِّرًا عن ذلك بقوله:
وفي النهاية، وتقريبًا على عكس المتوقَّع، حالَفَه «. أرغب في ذلك بكل ما أوتيت من قوة »
النجاح. ويؤكد السيد بيزل أنه حقٍّا ترك جسده بالفعل عن طريقِ قوةِ الإرادة، وانتقل إلى
مكانٍ أو حالةٍ خارجَ هذا العالم.
في لحظةٍ كنتُ جالسًا على الكرسي مغمضَ » : كان التحرُّر فوريٍّا، إذ يصفه قائلًا
العينين بشدة ويداي مُمسِكتان بالكرسي. كنتُ حينَها أبذل كلَّ ما في وسعي لتركيز عقلي
على فينسي، ثم وجدت نفسي خارج جسدي، ورأيت جسدي بالقرب مني، لكنه لم يكن
«. يحتويني بالتأكيد، وكانت يداي مسترخيتين ورأسيمتدليًا للأمام على صدري
لا يُزعزِع شيءٌ إيمانَ السيد بيزل بهذا التحرُّر. وبطريقة هادئة وواقعية يصف
الإحساسَ الجديد الذي شعر به؛ لقد شعر أنه أصبح غير محسوس! لقد توقَّعَ الكثيرَ
لكنه لم يتوقع أن يجد نفسه كبيرًا على هذا النحو الهائل! إلا أنه أصبح كذلك. يقول:
لقد كنتُ سحابةً كبيرة — إنْ جاز التعبير عن الأمر بهذه الطريقة — مرتبطة بجسدي. »
بَدَا لي الأمر للوهلة الأولى كما لو أنني اكتشفتُ ذاتًا أكبر لم يكن الجزءُ الواعي في عقلي
سوى جزءٍ ضئيل منها. رأيت مبنى ألباني وشارع بيكادللي وشارع ريجنت وكل الشقق
والأماكن في المنازل غاية في الصِّغَر وغاية في اللمعان والوضوح، متناثِرة أسفل مني كما
تُرَى المدينة الصغيرة من المنطاد. وبين الحين والآخَر كانت أشكالٌ غامضة تشبه حلقات
الدخان الهائمة تجعل الرؤيةَ غيرَ واضحة نسبيٍّا، لكنني في البداية لم أهتم بها كثيرًا؛ أكثر
ما أصابني بالدهشة وما زال يدهشني حتى الآن هو أنني رأيتُ دواخلَ المنازل بالإضافة إلى
الشوارع بوضوحٍ تام، رأيت أناسًا قلائل يتناولون العشاء ويتحدثون في منازلهم، ورأيت
رجالًا ونساءً يتناولون الطعام ويلعبون البلياردو ويشربون في المطاعم والفنادق وأماكن
الترفيه العديدة المكتظة بالروَّاد. لقد كان الأمر أشبهَ بمشاهَدةِ ما يحدث داخلَ خلية نحل
«. زجاجية
كانت هذه كلماتِ السيد بيزل بالضبط كما دوَّنتُها عندما أخبرني بالقصة. وفي أثناء
هذا التحرُّر ظلَّ لفترة يراقب هذه الأشياء ناسيًا السيد فينسيتمامًا. وقال إنه بدافع الفضول
انحنى وحاوَلَ بيده الضبابية التي وجد أنه يمتلكها أن يلمس رجلًا سائرًا في شارع فيجو،
إلا أنه لم يتمكَّن من فعل ذلك، على الرغم من أن إصبعه بَدَا أنها مرت خلال الرجُل؛ لقد
منَعَهشيءٌ ما من فعل ذلك،شيءٌ من الصعب عليه وصفه. لكنه شبَّهَ تلك العقبةَ التي منعته
باللوح الزجاجي.
شعرتُ كما تشعر القطة عندما تذهب لتربِّت على صورتها في المرآة » : واستطرد قائلًا
وفي كثيرٍ من الأحيان عندما أسمعه يحكي هذه القصة كان السيد بيزل يعود إلى «. لأول مرة
تشبيه تلك العقبة باللوح الزجاجي، إلا أنه لم يكن تشبيهًا دقيقًا تمامًا؛ فكما سيرى القارئ
على الفور، كانت توجد مقاطعات لهذه المقاوَمة التي لا يمكن اختراقها عادةً؛ حيث كانت
توجد وسائلُ لاجتياز الفاصل والعودة إلى العالَم المادي مرةً أخرى. إلا أنه بطبيعة الحال
توجد صعوبةٌ بالغة في التعبير عن هذه الانطباعات غير المسبوقة باللغة اليومية المعتادة.
الأمر الذي أدهَشَه على الفور وأقلَقَه طوالَ هذه التجربة كان صمتَ هذا المكان؛ لقد
كان في عالَم خالٍ من الصوت.
في البداية تمثَّلت الحالة الذهنية للسيد بيزل في التعجُّب الخالي من العاطفة؛ إذ كان
فكره مركَّزًا في المقام الأول على معرفة المكان المحتمل وجوده فيه. لقد كان خارجَ جسده
— خارج جسده المادي على أي حال — لكنَّ هذا لم يكن كلَّ ما في الأمر؛ فهو يعتقد — وأنا
عن نفسي أعتقد كذلك — أنه كان في مكانٍ خارجَ المكان كما نفهمه نحن كليٍّا. فمن خلال
الإرادة القوية خرج من جسده إلى عالَم خارج عالمنا، عالَم لم يحلم به أحد، لكنه قريب
للغاية من عالمنا ويقع في موقع غريب للغاية منه، لدرجةِ أنَّ كل الأشياء على هذه الأرض
تُرَى بوضوحٍ من الخارج ومن الداخل في هذا العالَم الآخر المحيط بنا. ولفترة طويلة،
حسبما بَدَا له، ظلَّ هذا الإدراك يشغل ذهنه ممَّا جعله ينشغل عن كل الأمور الأخرى، ثم
تذكَّرَ ارتباطَه بالسيد فينسي الذي كانت تلك التجربة المذهلة في نهاية الأمر مجرد مقدمةٍ
له.
وهكذا ركَّزَ عقله على قدرة جسده الجديد على الانتقال من مكان لآخَر. ولبرهةٍ كان
عاجزًا عن التخلُّص من ارتباطه بجسده الأرضي، وظلَّ جسمه السحابي يتمايل لبعض
الوقت ويتقلَّصويتمدَّد، ملتفٍّا وملتويًا أثناء جهوده لتحرير نفسه، ثم انكسرفجأةً الرابطُ
الذي يربطه. ولفترةٍ اختفى كل شيء خلف ما بَدَا وكأنه كراتٌ دوَّارة من البخار الأسود،
ثم رأى من خلال فجوةٍ ظهرت لفترة وجيزة جسمَه المتدلي يسقط بارتخاءٍ، ورأى رأسه
الهامد يسقط جانبًا، ووجد نفسه يتحرَّك مثل سحابة ضخمة في مكان غريب من سُحُب
ضبابية جعلت تفاصيل لندن المضيئة منبسطةً أمام ناظريه كما لو كانت نموذجًا مجسَّمًا
أسفلَ منه.
بَيْدَ أنه الآن أصبح مُدرِكًا أن البخار المتذبذب المحيط به إنما هوشيء أكثر من مجرد
بخار، وخالَطَ الخوفُ الإثارةَ المتهورة التي كانت في بداية كلامه؛ فقد اكتشف على نحوٍ غير
وأن كل كرة ولفَّة من !« وجوه » محدَّد أولًا، ثم على نحوٍ بالغ الوضوح فجأةً، أنه محاط ب
ذلك الكيان الذي يشبه السحابة ليسسوى وجه. ويا لها من وجوه! فهي وجوه منضبابٍ
خفيف، وجوه هزيلة شفافة. إنها وجوه مثل تلك الوجوه التي تحدِّق في النائم في ساعات
النوم العميق بغرابةٍ لا تُحتمَل. لقد كانت عيونًا شريرة وطمَّاعة تمتلئ بالفضول النَّهِم،
وكانت الوجوه مقطبة الحاجبين، وكانت شفاههم مبتسمة ومزمجرة، وكانت أيديهم غير
الواضحة تتعلَّق بالسيد بيزل أثناء سيره، ولم تكن بقية أجسادهم سوى أثرٍ مراوِغ من
الظلام الذي يسير ببطء. لم يقولوا كلمة، ولم يصدر صوتٌ من أفواههم التي بَدَتْ مثرثِرة،
واندفعوا كلهم حولَه في ذلك الصمت الشبيه بالحلم، مارِّينَ بحريةٍ من خلال الضباب القاتم
الذي هو جسده، ومتجمِّعين حوله بأعداد أكبر. وهكذا مرَّ السيد بيزل الضبابي — الذي
اعتراه الخوفُ فجأةً — بين هذا الجمع الصامت والنَّشِط من العيون والأيادي المتشبثة به.
كانت وجوهًا غير آدمية بالمرة ذات عيون محدِّقة في غاية الخبث، وإيماءات ضبابية
معقوفة كالمخالب لدرجةِ أنه لم يخطر ببالِ السيد بيزل أن يحاول التواصُلَ معها إطلاقًا.
بَدَا أنهم أطياف حمقاء، تُحرِّكهم الرغبةُ العبثية، فهُمْ كائنات لم تُولَد ولم تنعم بنعمة
الوجود، تنمُّ إيماءاتها عن الحقد والتعطُّش للحياة التي هي رابطهم الوحيد بالوجود.
يا لهما من عزمٍ وإصرارٍ مكَّنَا السيدَ بيزل من متابعة التفكير في السيد فينسي وسطَ
هذه السحابة التي تعجُّ بالأرواح الشريرة الصامتة. لقد استنفَدَ إرادتَه وبذل جهدًا هائلًا
كي يجد نفسه ينحو — لا يدري كيف — صوبَ ستيبل إن؛ حيث رأى السيد فينسيجالسًا
منتبهًا ويَقِظًا على كرسيِّه ذي المسندين بجوار المدفأة.
كانت تتجمَّع حول السيد فينسيأيضًا مجموعةٌ كبيرة أخرى من تلك الأطياف العبثية
الصامتة، التي تتجمَّع حول كلِّ ما هو حي ويتنفس، مشتاقةً وراغبة وساعية إلى ثغرةٍ
تَنفُذ منها إلى الحياة.
ولفترةٍ حاوَلَ السيد بيزل عبثًا لفت انتباه صديقه؛ لقد حاوَلَ الوقوفَ أمام عينيه
وتحريك الأشياء في غرفته ولمسه، إلا أن السيد فينسي ظل غير متأثر، وغير مُدرِك للكيان
القريب منه للغاية. إن الشيء الغريب الذي وصفه السيد بيزل باللوح الزجاجي فصَلَهما
على نحوٍ لا يمكن تجاوُزه.
في النهاية فعل السيد بيزل فعلًا متهورًا. لقد أخبرتكم أنه يستطيع على نحوٍ غريب
رؤيةَ الشخص من الداخل لا من الخارج فحسب مثلنا؛ ومن ثَمَّ مدَّ يده الضبابية وأدخَلَ
أصابعه التي بَدَت سوداء في ذلك العقل الفارغ.
فجأةً انتفضالسيد فينسي كشخصاستعاد انتباهه من الأفكار الهائمة، وبَدَا للسيد
بيزل أن جسمًا صغيرًا لونه أحمر داكن في منتصف دماغ السيد فينسيتورَّمَ وتوهَّج عندما
فعل ذلك. فيما بعدُ رأى السيد بيزل أشكالًا تشريحية للدماغ، وعرف عندئذٍ أن هذا الجسم
هو العين الصنوبرية التي يصفها الأطباء بالبنية العديمة الفائدة. قد يتعجَّب الكثيرون من
الحقيقة التالية: نحن نمتلك عينًا في تجويف الدماغ؛ حيث لا يمكن رؤية أيِّ ضوء أرضي!
في وقتِ حدوثِ التجربة كانت تلك العين وباقي التشريح الداخلي للدماغ جديدين تمامًا على
السيد بيزل، وعندما رأى مظهرها المتغيِّر مدَّ إصبعه بالرغم من خوفه من العواقب ولمس
هذا المكان الصغير؛ وعلى الفور انتفَضَالسيد فينسي، وحينها علم السيد بيزل أنه رآه.
في تلك اللحظة أدرَكَ السيد بيزل أن ثمة مكروهًا قد لحق بجسده، ورأى رياحًا هائلة
تهب وسط عالَم الأطياف واقتادته. كان مقتنعًا بذلك بشدةٍ لدرجةِ أنه كفَّ عن التفكير في
السيد فينسي، واستدار للجهة الأخرى على الفور وانسحبت معه كلُّ الوجوه التي لا تُعَد ولا
تُحصَىانسحابَ أوراقِ الشجر أمام الرياح العاتية. لكن عودته كانت متأخرةً للغاية؛ ففي
لحظةٍ رأى الجسمَ الذي تركه بلا حراك وخائر القوى — راقدًا بالفعل كجثةِ شخصٍمات
للتوِّ — قد نهَضَ؛ نهَضَ بفضل قوةٍ وإرادةٍ ليستا بقوته وإرادته، ووقف بعيون محدِّقة
ومدَّ أطرافه على نحوٍ مريب.
للحظةٍ ظلَّ ينظر إليه في فزع شديد، ثم مالصوبه، إلا أن اللوح الزجاجي انقفل عليه
مرةً أخرى ومنعه؛ فأخذ يضرب نفسه في اللوح بقوة، وتجمَّعت كلُّ الأرواح الشريرة مكشِّرة
عن أنيابها، وأخذت تشير إليه وتسخر منه؛ ما دفعه إلى حالةٍ من الغضب الشديد. وصف
السيد بيزل نفسه في هذه الحالة بطائرٍ طار في طيشٍإلى إحدى الغرف، وظل يضرب نفسه
في اللوح الزجاجي الذي يَحُول بينه وبين الحرية.
وفجأةً وجد الجسد الضئيل الذي كان جسدَه في يومٍ من الأيام يرقص مبتهجًا. لقد
رآه يصيح على الرغم من أنه لم يتمكَّن من سماع صيحاته، ورأى عنفَ حركاته يزداد.
شاهَدَه وهو يقذف أثاثه العزيز في كل مكان في ابتهاجٍ جنوني بالوجود، ويمزِّق الكتب،
ويحطِّم الزجاجات، ويحتسيبجنون من الشظايا المسننة، ويقفز ويضرب في قبولٍ شَغُوفٍ
للحياة. شاهَدَ كلَّ هذه التصرفات في دهشةٍ جعلته مشلولًا، ومن جديد دفَعَ نفسه مرةً أخرى
صوب الحاجز الذي لا يمكن اختراقه، وعلى الرغم من حشد الأشباح الساخرة المحيط به فإنه
سرعان ما عاد إلى السيد فينسي، وهو في حالةِ تشوُّششديد ليخبره بالاعتداء الذي وقع عليه.
إلا أن دماغ السيد فينسي كان قد أصبح الآن موصدًا أمام الأطياف، طارَدَه السيد
بيزل المسلوب الجسد دون جدوى حيث أسرَعَ إلى هولبورن لطلب إحدى سيارات الأجرة.
وعاد السيد بيزل مرةً أخرى محبطًا ومفزوعًا ليرى جسده المنتَهك يصيح في هياجٍ شديد
في رواق بيرلينجتون.
وهنا سيبدأ القارئ المنتبه في فهم تفسير السيد بيزل للجزء الأول من هذه القصة
الغريبة. إن الكائن الذي اندفع في لندن على نحوٍ محموم مُحدِثًا الكثيرَ من الإصابات
والكوارث كان لديه بالفعل جسد السيد بيزل، لكنه لم يكن السيد بيزل؛ لقد كان روحًا
شريرة من ذلك العالَم الغريب الكائن خارج الوجود الذي ذهب إليه السيد بيزل في طيش
شديد. لقد استحوذَتْ عليه الروحُ لعشرين ساعة، وطوالَ هذا الوقت ظلت روحُ السيد بيزل
مسلوبةَ الجسد تَجُول جيئةً وذهابًا في عالم الأطيافالوسيط الذي لم يسمع أحدٌ عنه، باحثًا
عن المساعدة بلا طائل. وقضىساعات كثيرة في قرع دماغ كلٍّ من السيد فينسي وصديقه
السيد هارت. وكما نعلم، فقد نهض كلاهما بسبب جهوده، إلا أنه لم يعلم اللغةَ التي
قد تنقل لهما موقفَه وتسدُّ فجوةَ الفهم ليساعداه؛ فقد ظلت أصابعه الضعيفة تتحسَّس
دماغَيْهما بلا طائل وبلا قوة. ولقد تمكَّنَ ذات مرة — كما أخبرتكم من قبل — من تغيير
مسار السيد فينسي بحيث يقابل الجسدَ المسروق في مساره، لكنه لم يتمكَّن من أن يُفهِمه
ما حدث؛ لقد عجز عن تحقيق أيِّ استفادة من تلك المواجهة …
طوالَ تلك الساعات استحوذت على عقل السيد بيزل فكرةُ أن جسده من الممكن أن
يُقتَل الآن على يدِ ساكنه الغاضب، وأنه قد يمكث في أرضالأطياف تلك للأبد؛ ومن ثَمَّ فقد
عاش في هذه الساعات معاناةً من الخوف المتزايد. وفي كل مرة يندفع فيها ذهابًا وإيابًا
في هذا الحماس العاجز، يحتشد حوله عددٌ لا يُعَد ولا يُحصَى من أرواح ذلك العالَم التي
تشوِّش عقله. ودائمًا ما كان يتحرك حشدٌ من هذه الأرواح الحاسدة ويصفِّقون إعجابًا
بزميلهم الناجح وهو يُكمِل مسيرته المجيدة.
يبدو أن تلك هي حياةُ مثل هذه الأشياء التي ليس لها أجساد، والتي تعيش في ذلك
العالم الذي هو ظلُّ عالمنا؛ إنهم يراقبون دائمًا ويَتُوقون إلى سبيلٍ لدخول الجسد الفاني
كي يتمكَّنوا من الهبوط إلى عالمنا كنَوْباتِ غضبٍ وهياج، كشهوات عنيفة ودوافع مجنونة
وغريبة ليبتهجوا في الجسد الذي فازوا به. فالسيد بيزل لم يكن الروحَ البشرية الوحيدة
في ذلك المكان؛ لقد قابَلَ واحدة من الأروح البشرية في البداية، ثم قابَلَ بعد ذلك العديدَ
من أطياف البشر؛ بشر مثله، يبدو أنهم فقدوا أجسادَهم ربما مثلما فقَدَ هو جسدَه، كانوا
يتجوَّلون في يأسٍ في ذلك العالَم المفقود الذي ليس بحياةٍ وليس بموت. وعلى الرغم من
أنهم لا يستطيعون الكلامَ لأن هذا العالَم صامت، فقد عرف أنهم بشرٌ بسبب أجسادهم
غير واضحةِ المعالم، وبسبب الحزن الذي اعتلى وجوهَهم.
بَيْدَ أنه لا يعرف كيف جاءوا إلى ذلك العالم، ولا أين يمكن أن توجد أجسادهم التي
فقدوها، ولا يعرف إنْ كانوا يطوفون حول الأرضأم أنهم أصبحوا محبوسين للأبد في موتٍ
لا عودةَ منه. لم يعتقد أن تلك الأرواح كانت لأمواتٍ وأنا أيضًا لا أعتقد ذلك، إلا أن الدكتور
ويلسون باجيت يعتقد أنهم أرواحٌ عقلانية لأناسٍ فُقِدوا أثناء نوبات جنونهم على الأرض.
وفي النهاية وجد السيد بيزل مكانًا تجمَّعَ حوله عددٌ قليل من تلك المخلوقات الصامتة
غير المجسدة، واندفع عبرهم فرأى بالأسفل غرفةً ذات إضاءة باهرة وأربعة أو خمسة
رجال صامتين وامرأة، كانت المرأة ممتلئةَ الجسم وترتدي زيٍّا أسود وجالسةً على نحوٍ
غريب على كرسي ورأسها مُلقًى إلى الوراء. عرف أنها الوسيطة الروحانية السيدة بولوك؛
فقد شاهَدَ صورها من قبلُ، ورأى المسارات والبنى في دماغها تتوهَّج وتُثار مثلما رأى
العين الصنوبرية تتوهَّج في دماغ السيد فينسي. كان الضوء متقطعًا للغاية؛ فأحيانًا يكون
واضحًا، وأحيانًا أخرى لا يتجاوز بقعةَضوءٍ خافتةضعيفة، وكان ينتقل ببطءٍ في دماغها.
استمرت السيدة بولوك في التحدث والكتابة بيد واحدة، بينما رأى السيد بيزل أطيافَ
الرجال المحتشدة حوله والعدد الهائل من الأرواح الضبابية في أرض الضباب يجاهدون
جميعًا ويندفعون كي يلمسوا المناطق المنيرة في دماغها، وكلما وصل أحدهم إلى دماغها أو
اندفع أحدهم بعيدًا عنها، كان يتغيَّر صوتها وكتابة يدها. وعلى هذا النحو، كان ما تقوله
غيرَ مرتَّبٍ ومشوشًا في معظم الأحيان؛ فهو تارةً جزءٌ من رسالة إحدى الأرواح، وتارةً جزءٌ
من رسالةِ روحٍ أخرى، وأخذت تَهْذِي بالخيالات الجنونية لأرواحٍ يُحرِّكها العبث. ثم أدرك
السيد بيزل أنها تتحدَّث نيابةً عن الروح التي لمستها، وبدأ يكافح بحماسٍ شديد ليصل
إليها، إلا أنه كان خارجَ الحشد وكان غير قادر على الوصول إليها في ذلك الوقت، وأخيرًا
عندما زاد قلقه ذهب ليرى ما الذي حدث لجسده في تلك الأثناء. ظل لفترة طويلة يبحث
عنه جَيْئةً وذهابًا بلا جدوى، وتملَّكَه الخوف من أن يكون قد قُتِل، ثم وجده في قاع النفق
في شارع بيكر، يتلوَّى بقوة ويعاني من الألم؛ لقد تسبَّبت السقطة في كسر ساقه وذراعه
وضلعين من ضلوعه. علاوةً على ذلك، كانت الروح الشريرة غاضبةً لأن وقتها كان قصيرًا
للغاية، وبسبب الألم الناتج عن حركاتها العنيفة وتملمُل جسدها.
إثرَ رؤية هذا المشهد عاد السيد بيزل بجديةٍ هائلة إلى الغرفة المُقامة فيها جلسة
تحضيرِ الأرواح، وبمجرد أن دفع بنفسه داخل المكان، رأى أحد الرجال الواقفين حول
الوسيطة الروحانية ينظر في ساعته كما لو كان يقصد ضرورة انتهاءِ جلسةِ تحضيرِ
الأرواح على الفور؛ وعندها انصرفالعدد الهائل من الأطيافالذين كانوا يحاولون الوصولَ
إلى الوسيطة، تعلو وجوهَهم علاماتُ اليأس. وعلى الرغم من ذلك، فإن فكرةَ كون جلسة
تحضير الأرواح قد أوشكت على الانتهاء لم تَزِد السيد بيزل إلا مزيدًا من الإصرار؛ فدفع
الآخَرين بعزم شديد مستنفِدًا كامل إرادته حتى وصل على الفور إلى دماغ السيدة. في
تلك اللحظة توهَّجَ عقلها توهُّجًا شديدًا، وكتبَتْ على الفور الرسالةَ التي حفظها الدكتور
ويلسون باجيت. وبعد ذلك دفعت الأطياف الأخرى وغمامة الأرواح الشريرة السيدَ بيزل
بعيدًا عن السيدة، ولم يستطع استعادةَ انتباهها مرةً أخرى طوالَ بقية الجلسة.
وهكذا عاد وانتظر لساعاتٍ طويلة في قاع النفق حيث ترقد الروح الشريرة في الجسد
المسروق الذي أعجزته، تتلوَّى وتبكي وتئنُّ نادبةً حظها بينما تتعلَّم درسَ الألم. وقربَ
الفجر حدث ما كان السيد بيزل ينتظره، لقد توهَّجَ الدماغ توهُّجًا شديدًا وخرجت الروح
الشريرة، ودخل السيد بيزل الجسدَ الذي خشي ألَّا يدخله مجددًا أبدًا. وما إنْ دخل الجسد
حتى انتهى الصمت — ذلك الصمت الكئيب — وسمعصخبَ حركة المرور وأصوات الناس
من حوله، أما ذلك العالَم الغريب الذي يمثِّل ظلٍّا لعالَمنا — تلك الأطيافالقاتمة والصامتة
العبثية الرغبة، وأطياف البشر التائهين — فقد اختفى بلا أثر.
مكث السيد بيزل هناك قُرابةَ ثلاث ساعات إلى أن عُثِر عليه. وعلى الرغم من ألمِ ووجعِ
الجروح، والمكانِ الرطب المعتم الذي كان يرقد فيه، والدموعِ التي ذرفت بها عيناه لِمَا
يعتصر جسده من ألم؛ كان قلبه يفيض بالامتنان لمعرفته أنه عاد بالرغم من ذلك مرةً
أخرى إلى عالَم البشر الرحيم.