هنا ودون أي تجميل للحقائق, أو تخفيف للأحداث، عالمنا مليء بالوحوش.."
" سواء كانوا مخيفي الهيئة, وهؤلاء ليس من الصعب التعامل معهم، هم أقرب للحيوانات في التفكير,
كل ما يسيرهم غريزتهم الحيوانية, الرغبة في البقاء, لا شيء آخر.."
**********
صوت الطلقات الرصاص تخترق الأشجار, تكسر سكون الليل, تلك الزمجرة المخيفة بطريقة وحشية,
ركض مع ارتطام بأغصان الأشجار..
_ بالاتجاه الشمالي..
انطلق الصوت من أحد الأشخاص بحماس شديد, فيندفع الجميع لذلك الاتجاه..
ثم عم صمت على المكان, حين طلب منهم قائدهم ذلك..
فقط الأعين تدور بالمكان تبحث, قدر ما يسمح لهم الضوء المنبعث من القمر المكتمل بذلك..
ثم رصاصة انطلقت سريعًا؛ لتسكن قلب ذلك الجسد, الذي قفز مرةً واحدة من فوق إحدى الأشجار,
فيتهاوى الجسد بقوة, اهتزت لها الأرض هامدًا بلا حراك, قتيلاً..
تجمع الفريق حول الجسد ينظرون إليه من علو بحذر, يوجهون إليه أسلحتهم بتحفز,
في حين مال أحدهم بجذعه يتفقده, يدفعه بفوهة سلاحه..
رفع وجهه ولا زال منحنيًا, يقول بعملية:" لقد مات.."
هز قائدهم رأسه باستحسان, هاتفًا بمرح:" رائع.. تخلصنا من ذلك المستذئب اللعين.."
جثى آخر على ركبته, يتفحص المستذئب, يرى مكان الرصاصة,
فابتسم قائلاً بإعجاب:" رصاصة فضية بمنتصف القلب مباشرةً.. أحسنت جنسن.."
ابتسم الأخير بلا مبالاة, وكأن شيء لم يكن, فهو مُعتاد على الأمر..
لكنه عقد حاجبيه بانتباه, حين قال رفيقه:" لحظة واحدة.. هذا ليس طريدتنا.."
نظر الجميع للجثة أمامهم بتدقيق, لتتسع أعينهم بإدراك,
فيهتف جنسن بهلع:" أين راين؟.."
**************
تجولت بالغابة قليلاً بعد أن رأت جسد المستذئب يرقد هامدًا,
ثم بدء مرحلة التفاخر بينهم, فشعرت بالملل ورحلت..
رفعت يديها تمط جسدها المتيبس, ثم تدلك عنقها المتشنج بألم, بسبب طول جلوسها منذ بدء غروب الشمس حتى ظهور القمر, ينتظرون ظهوره..
أخرجت من جيب سترتها قطعة حلوى مطاطية, تضعها بين أسنانها, تأكلها بتلذذ,
تئن بمتعة, وذلك الطعم اللاذع الممتزج بالحلوى السكرية, تضرب حواسها, فتبتسم بانتشاء,
تجمدت ابتسامتها حين شعرت بحركة خلفها,
مع صوت خطوات تدهس الأوراق المتساقطة للأشجار, ممزوج بلهاث أنفاس عنيف خشن..
اتسعت عيناها بقوة, تكتم أنفاسها, تلتفت برأسها ببطء تنظر من فوق كتفها,
فتقابل عيناها عينين صفراوين, ينظران إليها بغضب مخيف, أسنانه الكبيرة بارزة, يزمجر بقوة..
ابتلعت ريقها بصعوبة, تبتسم ببلاهة, وقد سقطت قطعة الحلوى من فمها..
انطلق صوت من جهازها اللاسلكي, يهتف بقوة محذرًا:" راين.. لم نقتل المستذئب الأصلي.. من قُتل مجرد تابع له.."
ببطء شديد أنزلت يدها, تُمسك بجهازها الصغير, المُعلق بحزام ببنطالها, ترفعه, تقربه من شفتيها,
دون أن تحيد بعينيها عن ذلك الواقف أمامها,
تقول بابتسامة سخيفة أظهرت أسنانها:" في الواقع لقد عرفت.. فالآخر يقف أمامي.."
اتسعت عينا جنسن برعب, يصرخ بها آمرًا:" اطلقي عليه رصاصة في الحال.."
فتجيبه بنفس نبرتها:" نفذت مني الذخيرة.. وأحتاج للمساعدة.."
_اركضي في الحال.. تبًا..
لم تكن تحتاج لأمره الصارخ, فذلك الوحش أمامها قد تحرك مُهاجمًا إياها, فركضت بكل قوتها, تشتم بعنف,
تنظر حولها تبحث عن مكان تختبأ به, وصوته خلفها يهدر بشراسة..
قفزت تتفادى ذلك الجذع الساقط من إحدى الأشجار, ويسحقه المستذئب بقدميه, اختبأت خلف شجرة, تكتم أنفاسها, كي لا يشعر بها,
لكن صوت جنسن الهادر بغضب, المنطلق من اللاسلكي بحوزتها:" تحركوا سريعًا.."
لفت انتباهه, فاندفع اتجاه الصوت, لتشتم مرةً أخرى,
لاعنة بسخط:" تبًا.."
ألقت جهازها, ثم ركضت بعيدًا, وهو خلفها..
وصل جنسن والبقية إلى المكان, حيث سمع صوت جهازها فاندفع نحوه,
ليجده ساقطًا أرضًا, انحنى يلتقطه يتفحصه, فوجد جزءً منه مُحطم,
جز على أسنانه, ضاغطًا شفتيه بقوة, يُلقيه بغضب, فيُكمل تحطيمه,
صارخًا:" رااااااااين.."
ركض سريعًا حين سمع صوتها الصارخ بقوة, وحين وصل اتسعت عيناه بذعر,
وذلك المستذئب ينقض عليها, فيسقط أرضًا ساحقًا جسدها بجسده الضخم أسفله, قبل أن يتمكن من إطلاق الرصاص..
تجمد مكانه وقد هوى قلبه بين قدميه, وهو لا يرى أي حركة من كلاهما,
شعر بكتف أحدهم يدفعه بقوة, راكضًا,
يهدر برعب:" راين.."
أجفل حين وجد جسد المستذئب يتحرك ببطء,
فوجد نفسه يركض اتجاههما, يطلق الرصاص من سلاحه عليه بجنون..
دفع رفيقه من أمامه, يجثو أرضًا, دافعًا جسد المستذئب عن راين,
ليجدها مُغمضة العينين, وقد تناثرت الدماء على جسدها, ووجهها, وتجمع الفريق حولهما..
مد يده يلمس وجنتها, يناديها بخفوت مرتجف:" راين.."
لثوانٍ لم تبدي أي حركة, مما جعل قبضة جليدية تسحق قلبه, مع ألم شديد دفع بعض الدموع لتتجمع بعينيه,
لكنه فغر شفتيه يشهق دون صوت, حين وجدها ترفرف بأهدابها ببطء,
تفتح عينيها تنظر إليه بصمت, ثم تُبعد نظرها عنه تتطلع حولها,
قبل أن تقول مبتسمة ببساطة:" لقد نلت منه.."
تنهدات مرتاحة انطلقت من الجميع؛
إلا جنسن الذي جذبها بقوة, يحتضنها بعنف, يكاد يسحقها على صدره,
هاتفًا بغضب موبخًا:" لقد كدتِ تقتلينني رعبًا.. هل أنتِ بخير؟.."
داميان الذي جثى بالقرب من المستذئب يتفحصه بحذر, ثم نظر إليهما, قائلاً بابتسامة عريضة, مادحًا:" عمل رائع راين.."
نظرت إليه من فوق كتف جنسن, ترفع يدها بعلامة النصر,
قائلة بمرح لاهثة:" طعنة بالقلب بسكيني الفضي.."
فتنطلق صيحات الإعجاب, وستيفان ينظر إليها بصمت..
أبعدها جنسن, ثم نهض يجذبها لتقف, يقربها إليه يتحركان,
هاتفًا بحاجبين معقودين بغضب:" احرقوا الجثث.."
هز البقية رأسهم بخفة, يتحركون لتنفيذ الأمر, قبل الرحيل, فهم لا يتركون فرصة للصدف, يحرقون الجثث كي لا يسمحون إليهم بالعودة مرةً أخرى, وإن كان احتمال ضعيف..
تحرك جنسن مع راين كي يذهبا للسيارة للعودة,
يسألها مرةً أخرى بقلق:" هل قام بعضَّكِ؟.."
توقفت وقد انكمشت ملامحها بطريقة توحي بألمها, صدرها يعلو ويهبط بطريقة ملحوظة, تتنفس بروية,
تجيبه بصوت باهت:" لا لم يعضَّني.. لكنه......."
قطعت حديثها تنظر لجسدها, فانتبه أنها تضغط بيدها على جانبها الأيمن,
ثم رفعت يدها المرتعشة, الغارقة بالدماء,
تقول بصوت متحشرج بألم:" لكن أظنه قد خدشني بأظافره.."
ترنح جسدها, فتلقفها بين ذراعيه, يهدر بهلع:" راين.."
تثاقلت أهدابها, تشعر بالتعب, لكنها قالت قبل أن تفقد وعيها بهدوء, مطمئنة:" مجرد خدش صغير.."
وذلك الخدش الصغير, لم يكن سوى جُرح عميق للغاية, أفقدها الكثير من الدماء..
حملها إلى السيارة يضعها بالمقعد الخلفي,
يجلس بجوارها يحتضنها بذراع, وبيده الأخرى يضغط جرحها بقوة,
يهتف بستيفان الذي أتى خلفهما:" ستيفان راين مُصابة, لنعد للمقر.."
قفز الأخير سريعًا لداخل السيارة, يجلس خلف المقود, يُدير السيارة, منطلقًا بسرعة,
جعل صوت إطاراتها يحتك بقوة بالطريق مُخلفًا عاصفة ترابية..
****************
فتحت عينيها بتثاقل وهي تشعر بتلك الأنفاس القريبة من وجهها؛ ليطالعها وجه جنسن يجلس مُشرفًا عليها, يراقبها أثناء نومها..
ابتلعت ريقها, تهمس بتحشرج من أثر النوم:" مرحبًا.."
لم تجد منه إجابة، وعلامات وجهه العابس لم تتغير، تنهدت تتسطح على ظهرها, مُبتسمة باستعطاف مُضحك، لكنه لم يبالي،
فتقول بيأس:" جنسن.."
رمش بعينيه يسألها بخشونة مقتضبة:" كيف تشعرين الآن؟.."
ابتسمت برقة، عيناها تلمعان بشغف؛
تجيبه بنعومة:" بخير.. لقد مر أسبوع على الحادث.. أنا حقًا بخير.. كان خدش بسيط.."
زم شفتيه بقوة، يزفر بغضب، يرمقها بنظرة مشتعلة،
يوبخها مرددًا باستنكار:" خدش بسيط أليس كذلك!.. كاد ذلك اللعين ينتزع كبدكِ.. لقد نزفتِ كثيرًا.."
رفعت يدها تمررها على وجنته الخشنة، النامية شعيراتها قليلاً،
تستعطفه:" لقد مرت, وأنا بخير.."
أبعد يدها عن وجنته، يشيح بوجهه عنها، جاذًا على أسنانه يكاد يحطمها،
قائلاً من بينهم بسخط غاضب:" لم تمر راين.. أنتِ طريحة الفراش كلما نهضتِ سقطتِ أرضًا.."
ضحكت بمرح, تشاكسه:" ربما أفعل ذلك كي تحملني.."
لكنه لم يبتسم, بل ازداد انعقاد حاجبيه..
اعتدلت ببطء، وقد انكمشت ملامح وجهها بألم بسبب جُرحها،
تقول ببساطة:" جنسن هذه حياتنا.. إن لم نكن نتقبلها ما كنا لنكن صائدي وحوش.. الموت حولنا دومًا..
إن متُ ذلك اليوم فذلك قدري.. غيري قد ماتوا وتابعنا خلفهم لم نتوقف.."
التفت إليها برأسه بحدة، عيناه الرماديتين مشتعلتين بغضبه،
يهدر بعنف:" اخرسي راين.. إياكِ أن تقولي ذلك مرةً أخرى..
لا تستطيعين تخيل الرعب الذي أصبت به ذلك اليوم.. كنتِ شاحبة وباردة كالأموات..
للحظة ظننت أنني فقدتكِ.. وذلك كان........"
قطع حديثه يشيح بوجهه عنها وقد ارتجفت نبرته، وتلك الغصة تصيبه بالاختناق،
حين قاد ستيفان السيارة, وهي تنزف بين يديه, كانت ساكنة, حتى أنفاسها ثقيلة يكاد يشعر بها، يصرخ بستيفان أن يزيد من سرعته، وحين وصلوا إلى المقر، ووضعها بالمركز الطبي خاصتهم،
كاد يُجن وتشاك طبيبهم يُحاول ألا يفقدها،
بل هو كاد أن يقتل ستيفان حين أخرجه بالقوة؛
كي يستطيع تشاك التركيز وإنقاذها..
لا يمكنه البقاء بدونها، هي من رباها صغيرة؛ حتى تغلغلت بداخله، تجري مع مجرى دمه،
هي ليست حبيبته وزوجته فقط؛ قبل كل هذا هي ابنته الصغيرة، إن فقدها فقد حياته؛
يعرف الآن شعور الفقد الذي شعر به رفاقه, حين خسروا أحبائهم؛ فيزداد شعوره بالألم وتأنيب الذات على عدم حمايتهم، واضعًا على عاتقه ذنب فقدانهم..
إن كان قائدًا جيدًا لم يكن ليفقد من فريقه الكثير..
ذلك الخوف والصراع الذي رأته على ملامحه جعلها تشعر بالألم، دومًا يخاف أن يفقدها، بل كل مهمة يكاد يُلصقها به كي لا تُصاب بأذى،
تعرف ما يعانيه كلما خسر أحدهم، رغم أن ما يعيشونه وحياتهم دومًا مخاطرة..
مستعدون للموت بأي وقت، لكن جنسن يخاف فقدانها،
وهي بالطبع تخاف فقدانه كلما خرجوا بمهمة,
تتقافز دقات قلبها رعبًا أن يُصيبه مكروه؛
هو حياتها من رباها وعلمها كل ما تعرفه سواء بحياتها الخاصة، أو ذلك العالم الذي وجدت نفسها فيه, بعد مقتل والديها..
ارتجفت للذكرى، تهز رأسها بقوة تنفض عنها تلك المشاهد التي كادت أن تُهاجمها،
عبست تزم شفتيها بإغواء، تقول بدلال مُعاتبة:" هل ستظل هكذا طوال الوقت؟.. أنا مريضة وأنت لا تراعيني هكذا.."
نظر إليها بطرف عينه بسخط، فرفرفت بأهدابها
بابتسامة ناعمة، تعض شفتها السفلى،
تمد يدها لطرف قميصها ترفعه قليلاً، فيظهر جزء من جسدها المُغطى بضمادة بيضاء،
تهمس برقة شديدة:" ألا تريد أن ترى ندبتي الجديدة؟.."