ShrElRawayat

Share to Social Media

تتلفت حولها في خوف من هدوء المنطقة المحيطة بها، عملها يحتم عليها العودة متأخرة ليلًا، ورغم أن المحل الذي تعمل به كبائعة في منطقة حيوية لكن موقف الميكروباص بعيدًا نسبيًا عن المجمع التجاري، فتضطر إلى المشي حوالي 15 دقيقة حتى تصل للموقف.
كل يوم تشعر بنفس الخوف أثناء مرورها بهذا الشارع، وللأسف ﻻ يوجد بديلًا له للوصول لوجهتها.
نظرت بساعتها فوجدتها قاربت الحادية عشر مساءً، سيغضب منها والدها بشدة ولكن ماذا بإمكانها أن تفعل فظروف العمل تجعلها أحيانًا كثيرة تغادر بوقت متأخر، وأكثر ما تخشاه أن يرفض والدها استمرارها بالعمل بسبب تأخرها.
ولكنها لم تجد حلًا متاحًا غير هذا، فقد ظلت طوال عام ونصف متمسكة بالبحث عن وظيفة بشهادتها ولكنها لم تجد.. هي خريجة خدمة اجتماعية ونظرًا للظروف الاقتصادية الحالية أصبح الحصول على عمل بدون وجود واسطة من المستحيلات، وبعد أن يأست من البحث أيقنت أنها لن تجد وظيفة ملائمة لها.
وفي إحدى المرات أثناء تجوالها بالمجمع وجدت لافتة مكتوب عليها «مطلوب بائعات»، فدخلت المحل وقبلوا بها للعمل.
الحق يقال إن العمل برغم إجهاده ووقوفها أغلب الوقت لكن صاحبة المحل سيدة في غايه الاحترام، تعاملها معاملة جيدة بعكس مالكي باقي المحلات؛ فهي أثناء تواجدها بدورة المياه للوضوء هي وصديقتها ضحي تستمعان إلى بعض العاملات وهن تشتكين من أصحاب المحلات؛ فمنهم سليط اللسان، ومنهم سليط اليد، ومنهم المتجبر، وآخر آكل للحقوق وعمولات البيع، ولهذا فهي متمسكة بعملها وتحاول الحفاظ عليه قدر المستطاع حتى تتحسن ظروفها، على أقل تقدير هي تتكفل بمصاريفها الشخصية وتساعد بقدر ضئيل في مصروفات البيت بما يسمح به راتبها الصغير نسبيًا.
هي الأخت الكبرى لعائلة متوسطة الحال، يصغرها أخ وأخت.. الأخ بمرحلة التعليم الثانوي والأخت بالسنة الثانية بكلية الحقوق، والدها موظف بإحدى المصالح الحكومية وأمها ربة منزل.. عائلة سعيدة مترابطة كأغلب العائلات المصرية، يعانون من ارتفاع مستوي المعيشة ولكنهم يجاهدون من أجل حياة كريمة، حتى لو عملت بوظيفة ﻻ ترقي لمستوي طموحها ولكنها متأكدة أنها مجرد خطوة على الطريق وليس نهاية الطريق.
شهقت بعنف عندما رن هاتفها من كثرة رعبها وأعصابها المشدودة، أخرجت الهاتف سريعًا وردت على أختها بعصبية نتيجة لإثارة خوفها:
- السلام عليكم.. ماذا هناك يا ولاء.. أفزعتني؟!
ردت ولاء بتأفف: هل سأتصل بك لأسمعك إحدى قصائد الغزل مثلًا! أين أنتِ يا رحاب؟ أبي سيجن من القلق عليكِ؟
أغمضت عينيها وﻻ تعلم كيف تتصرف فلقد تأخرت اليوم حقًا:
- أعطني إياه كي أطمئنه بنفسي.
تناول والدها الهاتف وكلمها بصوت يشوبه القلق عليها، فردت سريعًا:
- أبي كيف حالك؟ أعتذر بشدة عن تأخيري، ولكن كان هناك زبونة اشترت الكثير من العباءات لابنتها فرحة بحجابها، وكنت أنا المكلفة بالبيع لها وقد أخذتُ عمولة جيدة ستساعد بمصاريف مجموعات التقوية لياسر.
رد والدها بصوته القلق:
- كان يجب أن تتصلي وتخبريني يا رحاب؛ على الأقل أرسل لكِ ياسر كي يكون معكِ بهذا الوقت المتأخر؛ الشوارع غير آمنة يا ابنتي.
ردت بصوتها الحنون:
- ﻻ تقلق عليّ يا حبيبي، خمسة دقائق وأصل الموقف وأركب بأول ميكروباص متجهة ناحية البيت، فقط أحتاج دعواتك.
رد عليها: وفقك الله يا ابنتي وأوقف لكِ أولاد الحلال.
وكأنما استجاب الله له، بمجرد أن وضعت هاتفها بالحقيبة وجدت شخصًا أمامها كأنه نبت من العدم، يترنح قليلًا ويمسك بيده مدية ويقول بلسان ملتوٍ:
- بهدوء وبدون أي صوت أخرجي كل ما في حافظة نقودك وأعطني هاتفك المحمول.
تجمدت مكانها وجحظت عيناها من الخوف وتلعثمت ﻻ تعلم ماذا تفعل:
- مااا ماذا.. من أنت.. ماذا تريد؟؟
رد بنفاذ صبر: هل سنتعرف على بعض؟ هل أُخرج لكِ البطاقة كي تأخذي منها صورة؟ أعطني كل الأموال التي معك.. هيااااا.
وبلمح البصر سمعت صوت سيارة خلفها وسطع ضوئها الذي انعكس على المدية، توقفت السيارة فجأة محدثة صوتًا عاليًا ونزل سائقها واشتبك مع هذا المترنح ولم يأخذ وقتًا للتخلص منه، غير أن السارق أصابه إصابة سطحية بكف يده، وهي واقفة مكانها كأنما شُلت أجهزة الحركة لديها أو تم تحنيطها كقدماء المصريين.
نظر لها الشاب بقلق وهو يحرك يده يمينًا ويسارًا أمام عينيها قائلًا:
- يا آنسة.. هل أنتِ بخير؟
ﻻ رد.. يبدو أنها تعرضت لصدمة من الخوف. اقترب أكثر وربت على خدها بضربات خفيفة وهو يتأمل ملامحها الشاحبة؛ بشرة قمحية نقية بدون أي مستحضرات تجميل، ملامح هادئة، عين واسعة نوعًا ما بلونها الأسود، أنف معتدل الحجم وفم صغير نسبيًا، وجه نحيف يزينه حجاب رقيق.
أمّا عن جسمها فلا يظهر منه شئ نتيجة لملابسها الواسعة، لكن برغم هذا يري أن الفتاة تعاني من النحافة، فيكاد يجزم أن وزنها ﻻ يتجاوز الخمسة وأربعون كيلو جرامات.. وبمجرد النظر لها ولهشاشتها الظاهرة مع قصر قامتها استيقظ داخله حس بالحماية، وتولد لديه شعور بأنها ابنته أو أخته أو حبيبته.
بدأت رحاب ترمش بعينها نتيجة لضرباته المتكررة على خدها لتستوعب ما حولها، ليكف عن تأملها ويبعد يده فورًا ما إن ﻻحظ استجابتها قائلًا:
-هل أنتِ بخير؟ هل تعرض لكِ هذا الحقير؟ تكلمي يا فتاة فهو مازال أمامي فاقد الوعي أستطيع عقابه على أي شئ وربما قتله إن كان آذاكِ، بعدها سأذهب به لأقرب قسم كي يحتجزوه لديهم.
حركت رأسها نفيًا وبدأ صوتها في الظهور:
- ﻻ.. أنا بخير.. بخير تمامًا، كان يريد سرقة أموالي وهاتفي ولكن بعثك الله لي باللحظة المناسبة وقد استجاب الله دعاء والدي.
أغمضت عينها كأنها تجمع أفكارها وفتحتها مرة أخري وقالت بامتنان وابتسامة باهتة:
- شكرًا لك.. جزاك الله خيرًا.
مد يده ليحثها على المشي أمامه قائلًا:
- هيا اركبي معي كي أقوم بإيصالك لأي مكان.
رفضت سريعًا: ﻻ ﻻ.. شكرًا، الموقف على بُعد خطوات، ولا أستطيع الركوب معك.
رد عليها بنفاذ صبر: اركبي يا فتاة لن ألتهمك حية! هل تريدين لمترصد آخر الهجوم عليكِ؟! انظري لنفسك.. أنتِ غير قادرة على السير عشرة خطوات كاملة.. ما بالك بطريق كامل!
عندما لاحظ رفضها رفع عينيه للسماء، ثم نظر لها وقال محاولًا إقناعها:
- كي أجعلك أكثر راحة سأشغل العداد وأدفعِ ثمن الأجرة بآخر الطريق.
نظرت له بعدم فهم، ثم نظرت للسيارة التي ولأول مرة تنتبه أنها تاكسي وليست سيارة ملاكي، انصاعت لكلامه فما قاله صحيح؛ فلا طاقة لها على السير خطوة واحدة.
سبقها بعد أن سألها عن وجهتها وعرف الطريق، فتح لها الباب الخلفي فشكرته بامتنان حقيقي وجلست تلتقط أنفاسها المذعورة. راقبته وهو يتجه ناحية مقعده، وجدته طويل إلى حد ما يميل للبدانة، شعره أسود مجعد خفيف من الأمام كأنه في طريقه للصلع، بشرته قمحية، يبدو في أوائل الثلاثينات أو أواخر العشرينات، ملامح شرقية عادية ﻻ يميزه غير طابع الحسن بذقنه، أمّا باقي ملامحه عادية كآلاف المصريين.
أسندت رأسها على الزجاج بتعب وأغمضت عينيها، ولكنها فتحتهما سريعًا على صوته القلق: هل أنتِ بخير؟ هل تحتاجين لطبيب؟
ردت نافية: ﻻ شكرًا لك، أنا بخير، فقط ارهاق وصدمة ﻻ أكثر.
ثم تنحنحت بحرج قائلة: شكرًا لك لما فعلته، وأشارت بعينها لكف يده متسائلة:
- هل يؤلمك الجرح؟
قال بعدم اهتمام: لا؛ إنه جرح سطحي لا يحتاج غير مطهر وقطن.. ﻻ تقلقي.
عاد الصمت يتخلل المكان، فقال قاطعًا إياه وهو ينظر لها عبر المرآة:
- هل تسيرين دائمًا من هذا الشارع؟
حركت رأسها موافقة وقالت بيأس:
- نعم للأسف أضطر للمرور منه يوميًا للذهاب لموقف الاتوبيسات.
سألها مستفسرًا: ألا يوجد شارع آخر يمكنك المرور منه؟
ردت بإرهاق وتعب: يوجد شارع ولكنه بعيد نسبيًا، سيجعلني أتأخر ربع ساعة إضافية.
ثم أردفت بسخرية: صدقني بعد نهاية يوم متعب بالعمل آخر ما أفكر به هو أن أخطو خطوة زائدة في سبيل ذهابي للمنزل، فكل ما أفكر به أقصر وأسهل الطرق بعد الوقوف لمده ﻻ تقل عن عشر ساعات يوميًا.
ضحك وتكلم ببساطة: أنتِ تشتكين من الوقوف طوال اليوم، وأنا أشكو من الجلوس طوال اليوم؛ فعملي كسائق تاكسي يجعلني دائم الجلوس طوال ساعات العمل؛ حتى بعملي الحكومي ﻻ أتحرك من أمام مكتبي إلا في أضيق الحدود.
تنبهت لكلماته فقالت بلهفة:
- هل تعمل بالحكومة؟ أﻻ يريدون موظفين جدد كي أقدم هناك؟
ضحك بسخرية قائلًا: صدقيني هم يريدون التخلص من الموظفين الحاليين وليس تعيين جدد، ألم تسمعي التصريحات الأخيرة لعدد من المسئولين بالدولة؟
ثم سألها: ماهي شهادتك وبما تعملين؟؟
تنهدت بيأس: أنا بكالوريوس خدمة اجتماعية دفعة 2018، لكني أعمل كبائعة في أحد محلات الملابس بالمجمع التجاري في نهاية هذا الشارع.
أومأ بإدراك قائلًا: أنا بكالوريوس هندسة كيميائية دفعة 2011، أعمل بشركة المياه.
ردت بعدم فهم متسائلة: ما دخل الهندسة الكيميائية بشركة المياه؟!
أجابها موضحًا: أنا أعمل في محطات تحلية مياه الشرب، لكن بالعمل الحكومي الأمر بيروقراطي بحت بين أوراق وإمضاءات وموافقات وأختام وﻻ فائدة من أي فكر جديد.
أكمل بيأس: أنا أعمل بالشركة منذ ستة سنوات، قبلها حاولت العمل بأي شركة خاصة ولكن لم يكن لدي واسطة للعمل بإحداهن، مع العلم أني أمتلك براءة اختراع في مجال تحلية مياه البحر باستخدام تقنية النانو تكنولوجي، ولكن لم يلتفت أحد لأهمية ودعم هذا المشروع بالرغم من المشاكل العديدة التي نواجهها بمصر بعد مشروع سد النهضة الذي سيؤثر عاجلًا أم آجلًا على حصتنا من مياه نهر النيل.
وعندما يأست تمامًا من التفات الدولة لأهمية المشروع راسلت العديد من الشركات الأجنبية في الآونة الأخيرة لعل أحدهم يهتم بالأمر، ولكن لم يصلني الرد من أي منهم حتى الآن.
تطلعت إليه بصمت وهي تسمع معاناته ونبرة الحزن واليأس بصوته فهو يستحق الاحترام؛ مهندس ويعمل كسائق تاكسي كي يوفر احتياجاته، بالتأكيد عنده التزامات مثلها وخاصةً أنه رجل يجب أن يساعد والده ﻻ أن يكون عبئًا عليه، دعت له قائلة:
-وفقك الله وقدم لك الخير إن شاء الله، بإذن الله بقدر تعبك ومجهودك سيعطيك الله، لكن إياك أن تيأس واستمر في عرض مشروعك على كل الشركات المتاحة أمامك ولا تتكاسل.
أومأ لها موافقًا على كلامها ثم سألها قائلًا:
- هل هذا ميعادك اليومي لانتهاء العمل؟
نفت قائلة: ﻻ.. بالغالب أغادر في التاسعة والنصف أو العاشرة على أقصى تقدير، لكن اليوم تأخرت للحادية عشر لوجود عدة زبائن لن تستطيع مالكة المحل المتابعة معهم جميعًا.
أومأ برأسه ثم تبادل الحديث معها حول دراستها وظروف البلد وصعوبة وجود وظائف بالوقت الراهن حتى اقترب من منزلها، دقائق وكان على ناصية الشارع إلى أن أوقفه هتافها:
- توقف أرجوك، توقف هنا، المنزل بهذا الشارع، سأكتفي حتى هنا وشكرًا لك لكل ما فعلته.
قال ببساطة: ﻻ شكر على واجب، ولكن لماذا لا أدخلك حتى باب المنزل؟ تذكري إنه تاكسي وليست سيارة خاصة!
أومأت برأسها موافقة فقد نسيت تمامًا أنه تاكسي وخشيت أن يراها والدها تخرج من سيارة شخص غريب، ولا تريد أن تحكي له ما حدث حتى لا تثير رعبه عليها.
بعد وصولها لمنزلها سالمة حاولت دفع ثمن التوصيلة، لكنه رفض تمامًا ورحل في هدوء. وقفت هي تتابع السيارة إلى أن اختفت من أمامها وهي تسأل نفسها هل ما زال هناك أحد بهذه الشهامة! ودعت له بالتوفيق وأن يسترها الله معه كما سترها وحماها اليوم من شر هذا البلطجي.
حاولت تناسي الموقف كله وصعدت لمنزلها كي تطمئن أهلها، وبخها والدها ووالدتها على عدم الاتصال، ونامت ليلتها وهي تحلم بما حدث والسائق المهندس يحتل جزءًا كبيرًا من أحلامها.

اليوم التالي:
تقف بجوار صديقتها ضحى البائعة الأخرى معها بالمحل، فالوقت مازال مبكرًا وحركة البيع هادئة للغاية خاصة أنهم بأيام امتحانات والشتاء قارص بالخارج، فمن سيخرج في مثل هذا الوقت للبيع والشراء إلا للضرورة.
تأففت ضحى وهي تنظر للهاتف قائلة:
- لم يكلمني جواد منذ أمس الأول، وﻻ يرد على اتصالي أو رسائلي.
ردت رحاب بعصبية من تهور صديقتها وقالت:
- يحق له ضحي، فأنا ﻻ أفهم كيف تفكرين؟! الرجل يريدك ويفعل كل ما يستطيع لتوفير حياة كريمة لك وأنتِ تتمسكين بمظاهر ﻻ أهمية لها.
ردت ضحي تدافع عن نفسها:
- كيف ﻻ أهمية لها يا رحاب! هل تعجبك وظيفتنا هذه؟ أنا خريجة تجارة وأنتِ خدمة اجتماعية ونعمل كبائعات بالمحلات، وهو خريج آداب قسم تاريخ ويعمل في محل لصيانة وبيع الهواتف المحمولة.. هل هذه هي الحياة التي سنظل بها؟!
ردت رحاب بغضب: يا حمقاء إنه شريك بالمحل وليس مجرد بائع؛ أي أنه يعمل في ماله، ثم هل وجد وظيفة بشهادته وتخاذل عنها؟! الكل يشكو من قلة الوظائف والأهالي يشتكون من أولادهم الجالسين على المقاهي بدلًا من البحث عن أي مصدر رزق حلال، وأنتِ خطيبك يحاول جهده العمل بكل طاقته ليوفر لك حياة مقبولة.
وحتى لو وجد أي وظيفة حكومية ثابتة أنتِ تعلمين جيدًا أن راتب مدرس تاريخ ﻻ يكفي لدفع إيجار شقة وفاتورة كهرباء، ما بالك بمصاريف بيت كامل خصوصًا مع طلبات والدتك الغير منتهية إلا إذا عمل بالدروس الخصوصية.
دمعت عينا ضحى وقالت:
- الضغوط حولي يا رحاب ﻻ تنتهي ما بين مقارنات أمي أن خطيبي بائع بمحل بينما زوج أختي يعمل موظفًا بإحدى المصالح الحكومية، وبين ابنة خالتي التي ﻻ تترك مناسبة إلا وتسخر من أن جواد مجرد بائع يوم بيوم وﻻ يوجد له دخل ثابت كخطيبها الذي يعمل موظفًا بإحدى الوزارات الحكومية.
فكرت رحاب بصمت في كلام صديقتها التي تعرفت عليها عندما جاءت للعمل هنا بالمحل، وتوطدت علاقتهما لتشابه ظروفهما وطباعهما فأصبحت من أقرب صديقاتها.
أحيانًا كثيرة يؤثر بنا نقد الآخرين وحكمهم على تصرفاتنا، ويؤدي لتهورنا لمجرد التخلص من كلامهم الذي ﻻ يهدف للمصلحة بقدر ما يهدف للنقد والشماتة ﻻ أكثر. يجب أن تتمسك ضحي بجواد وتتعلم ألا تتأثر بكلام أقاربها حتى ﻻ تضيع منها حب لن تستطيع تعويضه أبدًا.
نظرت لها رحاب وكلمتها بهدوء في محاولة للتأثير عليها وجعلها تدرك غباء تصرفها:
- حبيبتي افهميني أولًا.. هناك مهندسو اتصالات الآن يعملون بنفس مجال جواد ﻻ تقليل من شأنهم ولكن لأنها وظيفة مربحة وفي حدود دراستهم بجانب أنه عمل خاص بهم. ثم تعالي هنا ألم تقولي لي أن زوج أختك دائمًا ما يستدين من جواد لسد احتياجات ومصاريف البيت، وأن خطيب بنت خالتك حاول مشاركة جواد أكثر من مرة لولا رفض جواد لعدم حاجتهم لشريك ثالث، والآن يحاول إيجاد عقد عمل بالإمارات عن طريق أخيها الذي يعمل هناك.
زاغت عين ضحي وقالت بندم:
- كلامك صحيح يا رحاب، ولكن كما تقول الأمثال الزن على الأذن أقوي من السحر، وهن لا يفعلن شيئًا سوي السخرية منه أمامي وتحطيم معنوياتي.
ابتسمت رحاب بسخرية من أهل ضحي، فحقًا ﻻ تفهم وجهه نظرهم؛ فجواد رجل يُعتمد عليه وماديًا يعتبر جيد بالنسبة لشاب بعمره لم يساعده والده بشيء بل اعتمد كليًا على نفسه، يحب ضحي ويتمنى لها الرضا وضحي تعشقه، ولكن كما قالت الزن له تأثير أقوي من السحر أحيانًا كثيرة.
نظرت رحاب لضحي وقالت بسخرية:
- عندما تتكلم معك إحدهما مرة أخري قولي أنك سوف ترفضيه بمجرد تعينك كمديرة إدارة الهجرة والجوازات، فيبدو أنهما نسيا أنك أيضًا بائعة، بل هو يتفوق عليكِ بأنه يعمل في مشروعه الخاص.
ورغم رفضه لعملك لخوفه وقلقه عليكِ إلا أنه بمجرد معرفته أنكِ تساعدين والدك بمصروفات البيت لم يعترض، بل شجعك وقال أنه واجبك نحو أهلك.. حبيبتي جواد يحبك وأنتِ كذلك فإياك أن تضيعه من يدك لأجل أوهام واعتبارات واهية، وتأكدي أنه على مقدار تعبك سيعطيكِ الله من فضله، ﻻ تجعلي أمك تمارس دورها كحماة متسلطة ودافعي عن حبك له.
أومأت ضحي مقتنعة بكلامها وقد قررت أن تمر على جواد بالمحل بعد انتهاء عملها كي تصالحه بعد كلامها السخيف الذي قالته له بآخر مكالمة.

مر اليوم ككل يوم ما بين بيع ومجادلات مع الزبائن، وذهبت رحاب ساعة الغداء لصلاة العصر بالجامع الملحق بالمجمع التجاري مع ضحي، ثم اتجهتا لمحل الفول والطعمية الموجود بمنطقة المطاعم؛ فميزانيتهما الصغيرة ﻻ تسمح بأكثر من هذا.
تحمد الله أنها ليست محبة للطعام، ومن صغرها وهي ضئيلة الحجم قصيرة القامة إلى حد ما، وجبتها صغيرة ﻻ تكفي طفل ذو عشرة سنوات.
دائمًا ما كان يحسدها زملائها بالكلية على نحافتها المبالغ فيها ويسألونها عن الرجيم الذي تتبعه، فتضحك وتقول أن شهيتها صغيرة ليس إلا.
نظرت لضحي تتأمل ملامحها، لا تنكر أن ضحي أجمل منها؛ فهي أطول منها، جسمها ملئ بالأنوثة وليست مثلها رفيعة وقصيرة، وملامح ضحي تتميز بالعيون الواسعة التي يميل لونها للعسلي، شعرها بني فاتح، وتجيد الاهتمام بمظهرها، قد يكون وجود جواد بحياتها ما يعطيها الثقة بجمالها فيجعلها كلامه أكثر إشراقًا.
قطعت ضحي أفكارها متسائلة:
- لم تحكِ لي ماذا فعل والدك معكِ بالأمس؟
- تعلمي لولا أن جواد ﻻ يكلمني وبالتالي لم يعلم بتأخري بالأمس، لكان علقني على باب المحل لو عرف أني دخلت المنزل بعد الحادية عشر مساءً.
ضحكت رحاب وقالت بتأمر:
- لقد حدثت لي أمس مغامرة وﻻ كل المغامرات.
لمعت عيون ضحي وقالت وهي تنظر بالساعة:
- حالًا أريد كل التفاصيل قبل انتهاء الراحة.
ولم تضيع رحاب وقتًا فقصت لها كل التفاصيل من أول ظهور المخمور حتى إيصالها على يد الشهم. تنهدت ضحي بحالمية فور انتهاء رحاب من سرد قصتها وقالت:
- إذن قد خلصك الأمير الشجاع من الوغد المخمور.
ضحكت رحاب على صديقتها وقالت:
- حالًا أصبح أميرًا، ﻻ ينقص غير أن أتحول إلى سنو وايت.
لعبّت ضحي حاجبها بطريقة كوميدية وقالت:
- ولما لا؟ هل أنتِ أقل منها مثلًا!.
ابتسمت رحاب قائلة:
- ضحي حبيبتي توقفي عن قراءة الروايات الرومانسية التي تقرئيها لأنها كلها أحداث غير حقيقية بالمرة.
زمجرت ضحي بغضب وقالت:
- رحاب إياكِ والتشكيك في واقعية هذه الروايات؛ فكثير من هذه الروايات تكون مستوحاة من أحداث حقيقية وتقوم الكاتبة بالتنويه عن هذا، صدقيني الواقع ملئ بنماذج أكثر رومانسية مما نقرأه بالروايات، ثم لماذا أذهب بعيدًا وجواد كل مواقفه معي في غاية الرومانسية وأقوي من ألف حكاية.
ربتت رحاب على كتف صديقتها وقالت:
- جيد اعترافك برومانسية جواد التي تتفوق على الروايات، لذلك إياكِ أن تفرطين فيه وبحبه لكِ حتى لا تندمين.
ردت ضحي سريعًا وقالت:
- ﻻ بالطبع، سأذهب له اليوم وأنهي أي خلاف بيننا، أنا ﻻ أستطيع الاستغناء عن جواد، أنا أعشقه صدقيني.
أومأت رحاب موافقة كلام صديقتها ثم شدتها من يدها وهي تقول:
- هيا يا ضحي انتهت ساعة الراحة وﻻ نريد لمدام عفاف أن تغضب منا، وانسي الأمير وسنو وايت وركزي في جواد وضحي.
وهكذا مر اليوم وانتهي العمل بميعاده ولم تتأخر كاليوم السابق، وأثناء مغادرتها للمجمع ودعت ضحي وأكدت عليها أن تنهي خلافها اليوم مع جواد وﻻ تنتظر أكثر من هذا.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.