محفورًا على « فلاينج سبرايت » كانت في البداية تحمل اسم » : قال القُبْطان ترومبول كرام
«. كَوثَلها، لكنني اقتَلعْتُه وكَشطْتُه ونَقَشتُ اسم يهوذا الإسخريوطي مَطليٍّا بالذهب بدلًا منه
«. كان ذلك اسمًا استثنائيٍّا » : فأجبته قائلًا
كانت قطعةً » : أجابني القبطان وهو يَمْضغ بوصةً ونصف أخرى من التبغ الداكن
بحريةً استثنائية. لستُ رجلًا مُجدِّفًا أو مُستهينًا بالمُقدَّسات، لكن فلْتَضِع كل طُعومي
ولْتَفلِت كل صُيودي إن لم أكن أوُمِن بأن روح يهوذا تسكن تلك السفينة الشراعية. أليس
«؟ كذلك يا آمي
كان الشاب الذي خُوطب باسم آمي جالسًا على برميلٍ من سمك الإسْقُمْرِي. نزع
الشاب غُليونًا أسود من بين شفتَيه على مَهلٍ وهَزَّ رأسه في رَزانةٍ شديدة.
ليس القُبطان بالمُجدِّف ولا المُستهِين بالمُقدَّسات. إنه يتحدث عن معرفة » : قال آمي
«. غالبًا، وما دام يُقسِم بأغلظ الأيمان فيجب أن تثق في كلامه
هل تسخر من » : استأنف القُبطان كرام كلامه مؤيَّدًا بهذا التقدير الوُدِّي لِشخصِيَّته
القول بأن للسفن الشراعية أرواحًا؟ إذن ربما قد أَبحرتُ بها طوال بضعةٍ وأربعين عامًا
«؟ ذَهابًا وإيابًا عبْر هذا الساحل وتَعرَّفتُ على نزعاتها وعاداتها المزاجية. أليسكذلك يا آمي
ما زال القُبطان يُبحر ويصطاد » : أوضح الشاب الجالس على برميل الإسقُمري قائلًا
منذ ستة وأربعين عامًا، ناقلًا حُمولاتٍ من الخشب والثلج. حين يتحدث القبطان عن السفن
«. الشراعية فهو يُدرِك ما يتحدث عنه
يا صديقي، إن للمراكب الشراعية روحًا تمامًا مثل البشر، وإنْ كانت » : قال القبطان
السفن أضخم هيكلًا إلى حدٍّ بعيد، وهذه الروح تميل إمَّا إلى الخير وإما إلى الشر. لن أنُكِر
في القُدَّاسات المسائية يومَي الثلاثاء والخميس، أسبوعًا « يهوذا » أنني صلَّيتُ لأجل سفينة
تِلو أسبوع وشهرًا تِلو الآخر. ولن أنكر أنني أَقحَمتُ الشمَّاسبليمتون في معركة خلاصها،
«. لكن دون جدوى يا صديقي؛ فحتى توسُّلات الشمَّاس الضارعة كانت بلا طائل
أَقدَمتُ على التحرِّي عن مظاهر فساد تلك المركبة. كانت الرواية التي سَمِعتُها تدور
حول قصة روح خيانةٍ حاضرة في هيئة سفينةٍ بثلاثة صوارٍ وذراع سارية المُقدمة.
أول سفينة بثلاثة صوارٍ تُصنع في نيواجين، وكانت الأخيرة « فلاينج سبرايت » كانت
لا يمكن أن يأتي خيرٌ من مخلوقٍ كهذا. » : كذلك. أبدى الناسامتعاضهم إزاء التجرِبة وقالوا
مسيرة الخُبث الوضيع منذ « فلاينج سبرايت » بَدأَت «. إنه مخالف للطبيعة. يكفي صاريان
أوُلى لحظات ميلادها؛ فبدلًا من الانطلاق على نحوٍ لائق إلى الوِجهة المُحدَّدة لها، انغرست
السفينة الشراعية ذات الثلاثة صوارٍ في الوحل وظلَّت عالقةً ثلاثة أسابيع؛ مما كَبَّد مالكِيها
تكاليفَ باهظة، وكان من بينهم القبطان ترومبول كرام الذي كان يمتلك ثُلثًا كاملًا. هنا
صاريان يكفيان لخوض غمار البحار؛ أما » : تَأكَّد ما أَنذر به حكماءُ نيواجين حين قالوا
«. الثالث فهو مَربَط الشيطان
خرج بها القبطان كرام إلى فيلادلفيا، مُحمَّلةً بالثلج ،« فلاينج سبرايت » في أوُلى رحلات
المملوك له وللمحامي سوانتون، ولم تكن الحمولة مؤمَّنًا عليها. كان سعر طنِّ الثلج ستة
دولارات في فيلادلفيا، لكن هذه الشحنة من الثلج قد كَلَّفَت القبطان كرام والمحامي سوانتون
خمسة وثمانين سنتًا للطن، شاملًا نُشارة الخشب، فكانا مَسرورَين بالربح المُرتقَب. غادَرَت
الِميناء في هيئةٍ حسنة، وفجأةً هَوَت في صمت إلى قاع فيدلرز ريتش، على « فلاينج سبرايت »
عُمق إحدى عشرة قَدمًا من الماء المالح. استغرق رفعها وتفريغها ستة أيامٍ فقط، لكن
بسبب التنافُر بين الثلج والماء، لم يُنتَشل إلا نُشارة الخشب.
في الرحلة التالية للسفينة كان سطحها مُحمَّلًا بأخشابٍ من نهر سانت كروي. وكانت
الحمولة مُقدَّسة على نحوٍ ما؛ حيث إن الخشب كان مُخصَّصًا لبناء مُصلٍّى جديدٍ تابع
للكنيسة المعمدانية في جنوب نيوجيرسي. لو أن آمال البَحَّارة الصادقة مجتمعةً مع تطلُّعات
مُستلِمِي البضاعة المُخلِصة قد أجدت نفعًا، لكانت هذه الرحلة على الأقل تمَّت بنجاح. بَيْد أن
واجَهَت على بُعد ستين ميلًا تقريبًا جنوبشرق نانتاكت إحدى عواصفِ « فلاينج سبرايت »
سبتمبرَ المُعتدِلة. كان من المُتوقَّع أن تَصمُد السفينة أمام العاصفة بسهولةٍ تامة، لكنها أَتَت
تَصرُّفًا بغيضًا للغاية حتى إن أخشاب الكنيسة قد تبَعثَرَت على سطح المحيط الأطلنطي
٥٠ ′. وبعد شهرٍ أو شهرَين تعمَّدَت أن ° ١٥ ′ حتى دائرة عرض ٤٣ ° من دائرة عرض ٤٠
تميل إلى جانبها أمام نسمةٍ بريَّةٍ خفيفة، ليَغرَق الكثير من الجرانيت المنقوشالباهظ الثمن
الوارد من مَحاجر جزيرة فوكس في حُفرةٍ عميقةٍ في مَصبِّ لونج آيلاند ساوند. وفي الرحلة
التالية تحوَّلَت عن مسارها مُتعمِّدةً لتصطدم بالجزء الأمامي الأيمن من سفينةٍ نرويجية
ذات صاريَين؛ فلحِق بها الذمُّ والتشهير لما تسبَّبَت فيه من أضرارٍ جسيمة.
وبعد تجاربَ قليلةٍ من هذا النوع أزال القُبطان كرام الاسم القديم عن مُؤخرة السفينة
وجانبها، ووضع اسم يهوذا الإسخريوطي بدلًا منه؛ فهو لم يستطع أن يجد أي تسميةٍ
أخرى تُعبِّر عن ازدرائه لصفاتها الأخلاقية. لقد بدت السفينة كأنها كائنٌ حي مسكون
بروحٍ يسيطر عليها غِلٌّ عبثي ويسوقها غَدْرٌ خبيث. كانت سفينةً خَرقاءَ عنيدة.
لكنهم لم ،« يهوذا الإسخريوطي » اجتمع مجلسٌ من الخبراء البحريِّين لدراسة سفينة
يستطيعوا أن يجدوا ما يعيبها على المستوى المادي؛ فقد كان الشكل العام لهيكلها على
ما يُرام، وتَوخَّى بنَّاءوها الدقة عند تغطية سطحها بالأخشاب وتسقيفها وسد ثغورها،
وصُنعت صواريها من خشب الصَّنَوبَر الأوريجوني الجيد، وجُهِّزَت بالأشَرِعة والحِبال
وعوارضالصواري تجهيزًا مُحكَمًا موثوقًا، وتَولَّى قصَّ أَشرِعتها وخياطتها صانعُ أشرعةٍ
وَرِع. وهكذا كان يُفتَرض بها، نظريٍّا، أن تكون جديرة بالثقة التامة من ناحية استقرار
صالب قاعدتها، لكنها كانت، عمليٍّا، نَزِقةً على نحوٍ مخيف. كان الإبحار بهذه السفينة أشبه
بامتطاء جوادٍ لديه من النقائصما يفوق شَعر ذيله. دائمًا ما كانت تُخالِف التوقعات، إلا
حين كان يُتوقع منها التصرُّف السيئ بوجهٍ عام؛ فحين ينبغي عليها الإبحار عكس اتجاه
الرياح كانت تسير في اتجاهها دائمًا، وإن حاول الطاقم تغيير اتجاه شِراعها كانت تقف
بلا حَراكٍ وسط الرياح وتظل عالقة. وكان إرسال أحد الرجال لشدِّ حبل الشراع ليواجه
الرياح بمثابة إرساله لإنجاز مهمةٍ ميئوس منها؛ فقد كان الشراع عادةً ما يَرفع البَحَّار
المُغامِر وبعد خضخضته بقسوة في الهواء لثانيةٍ أو اثنتَين يُلقي به فوق سطح السفينة،
كما لم تَعبُر عارضة الصاري السطح قَط دون أن تكسر رأس أحدٍ ما، ولم تَمضِالسفينة
الشراعية في مسارٍ قَط إلا وسرعان ما تصطدم بشيءٍ من ثلاثة؛ إما سفينةٍ أخرى وإما
ركامٍ من الضباب أو القاع. منذ اليوم الذي انطَلقَت فيه ولها قدرة لا تُخطئ على تحديد
مواقع القِيعان المُوحِلة الدبقة. حتى في الطقس الصحو كان الضباب يتبعها ويُحيط بها
كما تتبع البلية الشر. وكان وجودها على الضفافكافيًا ليدفع جميع أسماك القُدِّ إلى ساحل
إيرلندا، ودائمًا ما كانت أسماك الإسقُمري والبغروستسبح في المكان الذي لا تُوجَد فيه تلك
السفينة. كان من المستحيل الإفلات من عزم السفينة الأكيد على إفلاس كل من يستأجرها؛
فإن استُئجِرَت لنقل حمولة على سطحها بعثرتْها، وإن وُضعَت الحمولة بين طوابقها غَرِقَت
وأتلفَتها. كانت مثل بِغال عُروضالسيرك التي كانت تستلقي على الأرضوتَتقلَّب مرةً بعد
مرةٍ عند عجزها عن إجبار ممتطيها على النزول. باختصار، اشتُهِرَت السفينة من ماربلهيد
حتى خليج شالور بأنها تجسيدٌ كامل للغِلِّ والدناءة والغَدْر في صورة سفينة.
« يهوذا الإسخريوطي » بدا القُبطان كرام أكبر من سِنِّه بعشرين عامًا كاملة بعد قيادة
لخمسة أو ستة أعوام. حاول القُبطان بيعها بخسارةٍ لكن دون جدوى، بل لم يكن هناك
رجلٌ في ساحل مين أو ماساتشوستس أو المقاطعات البريطانية لِيأخذ السفينة على سبيل
الهَديَّة؛ فقد كان الاعتقاد في استحواذ الشيطان عليها راسخًا مثلما كان شائعًا.
قُرب نهاية المَوسِم حين كانت السفينة البائسة قد بَلغَت درجةً من الخسائر أكثر
من المعتاد، انعقد مجلسٌ لمُلَّاكها في غرفة الاجتماعات الأبرشانية ذات مساءٍ بعد الاجتماع
الشهري للمُبشِّرِين. لا يعلم أي طرَفٍ خارجيٍّ ما الذي حدث بالضبط، لكن أشُيع بأنه
خلال الساعتَين اللتَين انفرد فيهما هؤلاء المستثمرون تمَّت بعضالعمليات الحسابية التي
أدَّت إلى نتائجَ هامَّة وقرارٍ واحد.
في صباح الجمعة التالية كانت حركة التجارة متوقفةً في نيواجين بوجهٍ عام، بينما
على رصيف المَرفأ بالقرب من كوخ أسماك القُبطان كرام، « يهوذا الإسخريوطي » وَقفَت
بسطحها المصقول وصواريها التي فُرِكت حتى صارت تلمع تحت أشعة الشمس مثل
الكهرمان الأصفر. ظلَّ القُبطان كرام وأبناؤه الثلاثة وتوبياس، ابن أندرو جاكسون من
خليج ماكريل، مَشغولِين منذ يوم الاثنين بتحميل السفينة عن آخرها، وكانت حمولتها
غير عاديةٍ هذه المرة؛ فقد احتوت على ما يقارب ربع ميلٍ من الجدار الحجري الذي كان
وهو يُشاهد « يهوذا الإسخريوطي » يُحيط بمرعى القُبطان الواقع على الشاطئ. أشار قائد
يوجد نحو مائتَي طنٍّ ونِصفٍ » : الجُلمود الأخير أثناء اختفائه أسفل عنبر السفينة الرئيسي
«. من السياج الحجري على مَتنِ هذه السفينة حسب تقديري
أسرف الناس في تكهُّناتهم بشأن هذه الكَمِّية غير الضرورية من الصابورة، لكن
صمدوا أمام تفكُّه أهل القرية جميعًا بأمر السفينة، ورَدُّوا « يهوذا الإسخريوطي » أصحاب
إن كان لا مَفَر من أن تعرفوا » : على نِكاتهم بأمثالها، وتَكتَّموا علىسرِّهم؛ فقد قال القبطان
السر فسأخبركم. سَمِعتُ أن هناك حاجةً ماسة إلى الجدران الحجرية في طريق ماتشايس؛
في هذا الصباح الصَّحوِ المُشمِس «. لذا سآخذ السور الخاصبي إلى هناك وأبيعه بالياردة
من يوم الجمعة، بينما كانت السفينة السيئة الحظ رابضةً في أحد جوانبِ رصيف المَرفأ،
تبدو لامعةً ومُنظَّمةً ومتألِّقة كما لو كانت الاستثمار البحري الأكثر إدرارًا للأرباح في العالم،
وقف بالأسفل على الجانب الآخر قاربُ سَحبٍ يُسمَّى ذا باج أوف بورتلاند، يتصاعد منه
.« يهوذا الإسخريوطي » البُخار؛ إذ وصل في الليلة السابقة بناءً على تِلِغرافٍ من أصحاب
وكانت هناك نَسمةٌ بريةٌ لطيفة بَشَّرَت برياحٍ باردةٍ قوية مع مرور ساعات اليوم.
في الساعة السابعة والنصف انطَلقَت السفينة الشراعية من رصيف المرفأ، حاملة،
إلى جانب جدار القبطان، عددًا كبيرًا من جيرانه وأصدقائه، وبينهم بعضٌ من أعقل
مُواطنِي نيواجين. كان الفضول أقوى من الخوف. وقد قال القُبطان ردٍّا على راغبِي ركوب
إنكم تعرفون خِصال هذه السفينة. إن كنتم لا تبالون التعرُّض لأفعالها » : السفينة الكُثر
ارتدى القُبطان كرام قميصًا أبيض وبذلةً مُبهِجة من أجل «. الغريبة فتفضلوا وأهلًا بكم
هذه المناسبة ووقف وراء عجلة القيادة صائحًا بالتوجيهات لأبنائه ولتوبياس، ابن أندرو
جاكسون، عند حِبال رفع الأشرعة، بينما اجتمع ضيوفه حوله، في تصويرٍ حقيقي لروح
الاحترام والمُبادَرة التجارية والولاء التي يتسم بها مرفأ نيواجين. لم يسبق لتلك السفينة
أن حَملَت مثل تلك الحمولة. لقد بدت وكأن إحساسًا باللياقة والمسئولية قد اعتراها فجأةً
حيث تقَدَّمَت في مواجهة الرياح دون تقاعس، غامرةً مُقدمتها في المياه كأنها تُلاعبها، ثُمَّ
قَفزَت لِتعبُر جزيرة تامبلر في دورانٍ قصير على أفضل نحو. مضىقارب السَّحْب وراءها
مُطلِقًا البخار.
أَخذَت الحشود التي على رصيف المرفأ والصبية في القوارب الصغيرة يُهلِّلون لهذا
التصرُّف المألوف ولكن غير المُتوقَّع، وقد رَأَوا حينها لأول مرةٍ ما خَطَّه القُبطان كرام على
جانب السفينة بحروفٍ بيضاءَ واضحة، بلغ طول كلٍّ منها ثلاثة أو أربعة أقدام؛ إذ كتب
التعليق التالي:
هذه هي سفينة يهوذا الإسخريوطي.
ملحوظة: أَفسِح لها الطريق!
أمضت السفينة الشراعية ساعةً تِلو أخُرى ماخرةً عُباب المياه أمام الرياح الشمالية
الغربية، ماضيةً في مسارها مُضِيَّالسهم المستقيم. ظلَّ الطقس على حاله صحوًا، وفي كل
مرةٍ يُلقي القُبطان بمقياس سرعة السفن كان يبدو أكثر حَيْرة. ثماني، تسع، تسع عقد
إنها تنوي الأذى بطريقةٍ » : ونصف! هَزَّ القُبطان رأسه وهو يهمسللشمَّاسبليمبتون قائلًا
لكن السفينة قادت قارب السَّحْب في مُلاحقةٍ رائعة، وبحلول الساعة الثانية «. أو بأخرى
والنصف بعد الظهر، وقبل أن تُفرَّغ ثلاثة أرباع الدمجانة التي هرَّبَها توبياس، ابن أندرو
جاكسون، إلى السفينة، وقبل أن ينتهي سوانتون المحامي من ثلاثة أرباع قصته الشهيرة
عن ساق المحافظ بورينجتون الفِلِّينيَّة، كانت السفينة الشراعية وقارب السَّحْب على بُعدٍ
يتراوح بين خمسين وستين ميلًا من اليابسة.
وفجأةً أطلق القُبطان كرام صيحةً تنبيهية، مشيرًا إلى الأمام حيث يبدو خطٌّ أزرق
إنها استَشعَرَته » : فوق الأفُق دالٍّا على وجود ركام ضبابٍ بعيد. قال القبطان بلهجةٍ واعظة
«. وستمضيإليه. حان وقت الجد
أعقب ذلك إجراءٌ استثنائي. في البداية اقترب القبطان كرام بالسفينة الشراعية من
قارب السَّحْب ونقل إليه الركاب. تحوَّلَت الرياح إلى الجهة الجنوبية الشرقية، وأخذ الضباب
يقترب سريعًا. بينما كانت السفينة تُبحر مواجِهةً الرياح أخذت أشرعتها تُرفرِف، وراحت
مُقدمة السفينة تعلو وتهبط برفقٍ تحت وطأة العُباب المرتفع. كان قارب السَّحْب يتأرجح
صعودًا وهبوطًا على بُعد نصف قَلْس.
بعد أن نقل القبطان كرامضيوفه وطاقمه إلى متن القارب، مضىلتنظيم كلشيءٍ على
متن السفينة الشراعية؛ فقد لَفَّ بعنايةٍ طرف حبلٍ كان متروكًا متشابكًا، بل التقط أيضًا
سِدادة دمجانة توبياس، ابن أندرو جاكسون، ورماها خارج السفينة. كانت على وجهه
ملامحُ جِدِّيةٌ غير معهودة. راقب رُكابُ القارب تحرُّكاته بلهفةٍ ولكن دون أن يَنبِسوا ببِنتِ
شَفَة. ربط القُبطان طَرَفحبلٍ قصير بعجلة القيادة وربط الطرفالآخر بوتدٍ في الدرابزين
بعُقدةٍ منزلقة، ثُمَّ شُوهد وهو يلتقط بَلْطةً متواريًا عن الأنظار ونازلًا دَرَج السفينة إلى
الطابَق السفلي. سَمِع رُكاب القارب بوضوحٍ أصوات عدة ضرباتٍ حطَّمَت شيئًا ما، ثُمَّ
سرعان ما ظهر القبطان مرةً أخرى على سطح السفينة، وسار إلى عجلة القيادة في خُطواتٍ
متأنية، ودار بالسفينة حتى تُنشَرأشرعتها وشد وَثاق العُقدة المُنزلِقة بإحكام، وثبَّت الحبل
حول الوتد بعِدة عُقدٍ نصفية، وهكذا أوثق رباط الدفَّة ثُمَّ قفز إلى زورق، وجدَّفَ حتى
وصل إلى قارب السَّحْب.
بعد أن تُرِكَت السفينة وحيدةً تمامًا تمايَلَت مرةً أو اثنتَين، والماء يَتناثَر فوق مُقدمتها
المتراقصة، ثُمَّ مضت في اتجاه جنوب المحيط الأطلنطي. أمَّا القبطان كرام فقد وقف في
1مُقدمة قارب السَّحْب ورفع يده ليأمر الناس بالْتزام الصمت، ثُمَّ تلا خُطبة الوداع التالية،
التي كانت عقوبةً وقرارَ إعدام وخُطبة تأبين، كلٌّ في آنٍ واحد:
.« يهوذا » لستُ بصدد تقديم فرضية لتفسير عنادها؛ فكلكم تعرفون السفينة
ربما كانت تحمل أشرعةً مستطيلة أكثر من اللازم. ربما يكمن الشر في الأشرعة
المستطيلة، بينما يكمن الخير في الأشرعة المُربَّعة. وربما كان يكفيها صاريان.
دعونا من هذا الأمر؛ لقد انقضىالماضي. ها هي هناك، جميع أشرعتها مشدودةٌ
على صواريها، وتحمل ما يزيد على مائتَي طنٍّ من الأحجار في عنبرها، وفي قاعها
ثُقبٌ قُطرُه قدمان. على الباغي تدور الدوائر. ألا ترونها تغرق؟ لا بد أن يكون
هذا درسًا لِنتعظَ منه يا أصدقائي؛ فلكل إمهال رحيمٍ نهاية، وما لم … أوه، إنكِ
متجهةٌ للضباب رأسًا، أليس كذلك؟ حسنًا، إنه آخر ركام ضبابٍ ستواجهينه.
قاع البحر سيكون أول ميناءٍ تَصِلِين إليه! هيا ارحلي حالًا، تصحبكِ اللعنات!
كانت هذه المناسبة الوحيدة التي سُمِعَ فيها القُبطان كرام وهو يقول مثل تلك الكلمة.
وقد نَظَرَت في أمره لجنةٌ تأديبيةٌ تابعة للكنيسة الأبرشانية في نيواجين؛ وصوَّتَت بالإجماع
على عدم اتخاذ أي إجراء، بعد دراسة كل الظروف التي قِيلَت في ظلها الكلمة.
عن « يهوذا الإسخريوطي » في هذه الأثناء كان الضباب قد أحاط بالقارب، وغابت
الأنظار فغيَّر القارب اتجاهه عائدًا إلى الديار. كانت الرياح الرطْبة قد جَعلَت البرودة تسري
في أجساد الجميع الذين لم يَتبادَلوا الكثير من الأحاديث. بالنسبة إلى الدمجانة، فقد فُرِّغَت
من محتوياتها منذ وقتٍ طويل. وتَردَّد من ناحية الجنوب صفيرٌ غليظٌ صادر عن باخرةٍ
عابرة للمحيطات.
أرجو أن تكون تلك الباخرة مؤمَّنًا عليها تأمينًا جيدًا؛ فالسفينة » : قال القُبطان مُتجهمًا
«. لن تَغرَق قبل أن تصل إليها وتُغرِقها « يهوذا »
وهل سَمِع أحدٌ خبرًا عن السفينة » : حين بلغ الراوي هذه النقطة من القصة سأَلتُه
«؟ الشراعية المهجورة بعد ذلك
هنا أمسك القُبطان ذراعِي وقادني إلى خارج متجر البقالة هابطًا إلى منطقة الصخور.
كان هناك حُطامٌ لهيكل سفينةٍ مُمدَّد أمام ثَغرِ الخليج الصغير الواقع خلف منزله، سادٍّا
المدخل لرصيف المرفأ وكوخ الأسماك المملوكَين للقُبطان.
هل .« يهوذا » ها هي رابضة. هذه هي » : قال لي مشيرًا إلى أضلُع السفينة المُسْودَّة
اعتقدتَ أنها كانت ستَغرَق في أعماق المياه، حيث لا تتمكن من القيام بالمزيد من الأذى؟ لا
يا سيدي، حتى إن تَكدَّسَت فيها كل صخور ساحل مين ودُمر هيكلها تمامًا. لقد عادت
لتجعلني أدفع ثمن أخطائي. لقد قَطعتْ ستين ميلًا متحديةً الرياح، وحين عاد قارب
جاثمةً قُبالة الخليج الصغير وقد « يهوذا الإسخريوطي » السَّحْب فيصباح اليوم التالي كانت
«. نفَذَت ذراع صاري مُقدمتها إلى نافذة مطبخي. إن للسفن الشراعية أرواحًا حقٍّا