*** "أحبُك"
محملةً بكل مشاعره همس بها وروحه تتوق لرؤية ما يماثلها على وجهها الذي التفت إليه مذهولًا..
ضم راحته حول يدها أكثر وقربها منه.. وأمام عينيها المتسعتين المحدقتين فيه بعدم تصديق، ابتسم يكاد يجزم أنها تظن توهمها لما سمعته للتو..
تبًا.. عيناها بحرٌ ما إن يناظره يغرقه، ولشد ما أصبح يعشق الغرق..
انخفض حاجباها ببطء وتقاربا قليلًا، بينما يفرج صدرها عن نفسٍ متهدج تهدجت له روحه ذاتها، فأفلتت كل مشاعره من عقالها وهمس ثانيةً: أحبُكِ جدًا.
تلون وجهها فجأةً بانفعالٍ عنيف وأشاحت به تُبعد بصرها عنه وكأنها أدركت معنى ما يقوله الآن فقط..
سحبت يدها من يده في ارتباكٍ واضح وأشارت بها لما خلفها إشارةً مبهمة وهي تقول مستأنفةً ابتعادها السريع: الـ.... المحاضرة.. لدي محاضرةٌ بعد قليل.. أ... أستأذنك.
احتاج لحظةً ليستوعب هروبها المفاجئ بهذه الحجة الوهمية، ثم لم يلبث أن نفث عن انفعاله في زفيرٍ عميق..
"منى"
ناداها بخفوتٍ وهدوء تصنعه بجهد، فتوقفت بشبه انتفاضة واستغرقت بضع لحظاتٍ حتى استطاعت الالتفات، لتجده يضع يديه في جيبي بنطاله وبابتسامةٍ صغيرة يشير برأسه لما خلفه إشارةً مبهمةً أيضًا ويقول: أدواتُك.
بدت في غاية التردد والارتباك، وبقيت حيث هي لبرهة تفرك يديها بتوتر وكأنها تفكر في سبيلٍ لاستعادة أدواتها دون مواجهته ثانيةً..
اتسعت ابتسامته مشفقًا عليها وآثر الانسحاب قليلًا فتراجع ليجاور السيارة..
الحق أنه كان أيضًا بحاجةٍ لبضع دقائق يستعيد فيها رباطة جأشه..
شجعها ابتعاده فعادت إلى المقعد المجاور للشجرة الضخمة حيث تركت الأدوات، وباندفاعٍ وسرعة أخذت تحشدها في الحقيبة متحاشيةً النظر نحوه تمامًا، بينما لم يستطع هو إبعاد ناظريه عنها مطلقًا..
حركاتها المرتبكة وصوت ارتطام الأدوات الزجاجية بعضها ببعض..
وجهها المتورد بشدة..
أنفاسها المتلاحقة..
هروبها الوشيك..
عاد يفرغ صدره بزفيرٍ قوي.. أي رباطة جأشٍ ينشدها؟!
طالما هي أمامه لن ينفك ذلك الخافق بين ضلوعه عن دك حصونه..
حملت أشياءها ولم يتبقَ سوى الكيس الكرتوني الصغير الذي يحمل هديته لها والتي يصر على كونها ليست هدية!
ترددت يدها نحوه، فطالعها بترقبٍ يخشى أن ترده..
بضع لحظاتٍ أخرى من التردد والارتباك الشديد أكدت له ما يخشاه ودفعته ليقول بخفوت: ألا... أستحق استثناءً؟
تحركت عيناها نحوه رغمًا عنها، فتهاوت آخر حصونه مع نظرةٍ مهلكة أفلتت معها إجابتها الصامتة الواضحة برغم ذلك..
الإجابة التي تخبره فيها بأنه الاستثناء الأول والأخير.. بأنه الوحيد..
لا يذكر أنه شعر بالسعادة تغمره إلى هذا الحد كما تفعل الآن.. سعادةٌ لا تعبر عن نفسها بمجرد ابتسامة أو بملامح يكسوها الفرح، بل بزلزالٍ يهزه من الأعماق وبركانٍ من الانفعال يملأه حممًا..
كاد لسانه يتفوه بالمزيد مما لم يحسب له حساب ولم يتخيل أن يلفظه قط، لولا هروب بصرها منه مجددًا..
"مرحبًا د. عمرو"
قاطع فورة مشاعرهما صوت بسمة وهي تقترب مُرحبة، فالتفتا إليها بحدةٍ غير مقصودة.. لكن عمرو لم يلبث أن ابتسم قائلًا: أهلًا د.بسمة.. كيف حالك؟
ردت بحمد الله وهي تجاور منى التي تنفست الصعداء بمجرد ظهورها..
اكتسبت ملامحه تعبيرًا ممتنًا، فأومأت له بمعنى "أنت على الرحب"..
نقلت منى بصرها بينهما في حيرة، في حين فتح عمرو باب السيارة وقال: أستأذنكما.
ثم التفت نحو منى مردفًا: أراكِ.. قريبًا.
تاهت في ابتسامته الجذابة التي زينت محياه ولم تنبس ببنت شفة، وظلت على حالتها تلك حتى غابت السيارة عن ناظرها..
سقطت جالسة على المقعد غير منتبهة لتساؤل بسمة الضاحك: ما كل هذا الزجاج جوار الشجرة؟ أتعشم ألا يكون ما كسرته هذه المرة من أدواتي.
التفتت منى إليها وحدقت بوجهها لوهلةٍ قبل أن تقول بتيهٍ لازال يلازمها: بسمة.. هل أحلم؟
كتمت بسمة ضحكها وتظاهرت بالجدية قائلة: لا أعرف.. دعينا نتأكد.
ضربت رأسها بخفة ثم قالت: ها .. أشعرت بشيء؟
ببطءٍ أومأت منى برأسها إيجابًا وصدى كلماته يصدح في كيانها كله مذبذبًا عقلها ومذيبًا قلبها في آنٍ واحد، فجاورتها بسمة وهي تقول في بساطة: أتريدين رأيي؟
عادت منى تومئ برأسها بقوة، فتابعت وهي تبتسم بسعادة: أنت تعيشين تحول أحلامك لحقيقةٍ يا بلهاء.
اغرورقت عينا منى بالدموع في آخر رد فعلٍ توقعته بسمة على الأطلاق، وقبل أن تحول دهشتها البالغة إلى كلمات، ارتمت منى في أحضانها تفرغ ما فاض داخلها من انفعال..
هذه المرة انطلقت ضحكاتها قويةً بقوة دهشتها وربتت على كتفها قائلة: أقسم أن الجنون ذاته لا يوفيك حقك!
********************
*** خمسُ زهراتٍ وفراشة..
مستلقيةً على بطنها على الفراش ومعتمدة على مرفقيها لرفع جزعها، تأملت منى بوله رؤوس الدبابيس القابعة في العلبة الموضوعة أمامها على الوسادة..
في العلبة الأخرى مجموعةٌ مماثلة..
أخبرتها بسمة أنها ليست دبابيس عادية بل فضية، تحمل علبتها اسم أحد أشهر ماركات الحلي الفضية..
تزينت شفتيها بابتسامةٍ كبيرة وأغلقت العلبة وتقلبت تستلقي على ظهرها محتضنةً إياها تستعيد تفاصيل الحلم الذي عاشته قبل بضع ساعات..
قاطع استرسالها في تذكر لحظاته رنين هاتفها تصحبه صورة بسمة على الشاشة، فرفعته إلى أذنها تجيب بصوتٍ وشى بأنها لم تغادر الأحلام بعد: مرحبًا.
فوجئت ببسمة تسألها بحماس منقطع النظير: ها.. ما الأخبار؟ هل انتهيت من تجهيز نفسك؟
رددت منى باستغراب: تجهيز نفسي! لأي شيء؟!
صمتت بسمة لبضع لحظات، ثم عادت تسأل بحذر: منى.. ماذا تفعلين الآن؟
شعرت منى ببعض الدهشة لكنها أجابت: لاشيء محدد.. استرخي قليلًا قبل أن أبدأ بتلخيص بعض الدروس.
عادت بسمة تصمت، ثم قالت في لهجة نجحت في إخفاء ارتباكها: عظيم.. جهزي نفسك جيدًا للاختبارات العملية الأسبوع القادم.
تحول مجرى الحديث تلقائيًا إلى الدراسة والمحاضرات، لكن عقل بسمة كان يضرب أخماسًا في أسداس..
لا يبدو على منى أنها تنتظر حدثًا الليلة.. هذا غريب.. لم يكن هذا ما فهمته من عمرو أمس على الهاتف!
لم يستغرق حديثهما الكثير من الوقت، ألقت منى بعده الهاتف جانبًا وعادت لتأمل الدبابيس وقبسًا من السعادة التي تملأ روحها يعود ويفيض على وجهها بابتسامة..
جميلةٌ رقيقةٌ حقًا.. لكنها اكتسبت في عينيها هالةً من الابهار لا علاقة لها بالجمال ولا بالرقة، بل لكونها منه!
لم تنوِ قبولها منذ البداية ولم يتغير قرارها قط، ولم يُنقص ذلك من سعادتها بها على الإطلاق.. هي فقط ترددت لحظتها والسبب كان هو..
عصف وجوده وحديثه بمشاعرها ليأتي اعترافه في النهاية ليوقعها في هوةٍ ما بين الواقع والخيال ويغرقها في تيهٍ لم تخرج منه حتى اللحظة..
لم تقوَ حينها على التفوه بكلمة، فكيف لها بالاعتذار عن قبول شيءٍ كهذا..
كان يقرنهما معًا.. مشاعره والهدية، وكأنهما شيءٌ واحد..
تهافت قلبها للأولى وهوى صريعًا مكبلًا عقلها عن التصرف في الثانية، وغادر هو قبل أن يمنحها فرصةً حتى للمحاولة..
لكن لا بأس.. ستنتظر فرصةً أخرى لتعيدها إليه.. وحتى ذلك الحين، ستستمتع بالشعور بأن بحوزتها شيئًا يخصه..
فتحت العلبة الأخرى تتأمل ما تحويه أيضًا وكأنه يختلف!
لدهشتها لمحت اختلافًا بالفعل، لكن ليس في الدبابيس بل في العلبة نفسها..
مدت أصبعها تستكشف طرف هذا الشيء الأبيض الذي بدا من أسفل بطانة العلبة والذي لم يعلن عن ماهيته إلا بعدما أزاحتها كاملة..
حدقت في الورقة الصغيرة المطوية بقلبٍ راجف..
غير معقول.. لا يمكن أنه...
"يا أحلى نوبات جنوني"
انطلقت في وجهها الكلمات فشهقت بقوة لا تصدق ما ترى..
لم تلفظ أيها، لكن صداها تردد داخلها في إيقاعٍ متعالٍ اتحد دون إرادتها مع خفقات قلبها الذي تواثب بين أضلعها.. لكن وثبته الكبرى كانت عندما فُتح باب الغرفة فجأة، فانتفضت تقلب الوسادة على ما أمامها تخفيه، بينما اندفعت أمها عبر الباب تقول بصوتٍ مندهشٍ متلهف: منى.. هل تعلمين من يزورنا الآن؟
حدقت فيها تحاول استيعاب هذا الحماس غير المعتاد لزائرٍ أو ضيف.. لم تكن في حالٍ يسمح لها بالتخمين أو التفكير من الأساس بذهنها المعطل وانفعالها العاتي، فاكتفت بالتحديق الأبله لتتابع أمها بسعادةٍ وحماسٍ أكبر: د. عمرو.. جارنا.
************************
*** خطا باسل إلى داخل صالة الألعاب الرياضية بعجلة يبحث بعينه عن عمرو حتى وجده أمام كيس الملاكمة يسدد ضرباته بتتابعٍ سريعٍ غاضب..
اقترب ملقيًا التحية بمرح، فردها عمرو باقتضاب بينما تجهم وجهه يؤكد له أنه لم يتخيل الضيق في صوته عندما حدثه مقترحًا عليه اللقاء هنا في هذا الوقت المتأخر..
- ماذا هناك؟ لا تبدو في مزاجٍ جيد.
قالها باسل وهو يقف بقربه، فتزايدت سرعة وقوة اللكمات في إجابةٍ صريحة بالإثبات، قبل أن يتوقف عمرو دفعةً واحدة ويتراجع لاهثًا وملتقطًا أنفاسه..
تلفت باسل حوله ثم جلس على جهازٍ رياضي مجاور قائلًا بابتسامةٍ عابثة مخمنًا سبب ضيقه: إذًا فقد تعثر ميعادك الليلة مع والد فتاتك.. أليس كذلك؟
أجابه عمرو بـ "كلا" محنقة وهو يخلع عن يديه قفازي الملاكمة، فصمت بتفاجؤ قبل أن يصوغ لسانه الاحتمال التالي بحذر: أمعقولٌ أن مقابلته لك كانت سيئة؟
جاوبه عمرو بصمته، فقال بصدمة: لا تقل لي أنك قد رُفضت!
رماه عمرو بنظرة استنكار، لكنه لم يلبث أن تنهد بقوة واستند على جهاز رياضيٍ آخر في مقابلته قائلًا: كلا أيضًا.
طالعه باسل بحيرة وقال: ماذا هناك إذًا؟!
مط عمرو شفتيه وقال: الرجل كان ودودًا جدًا ومرحبًا كعادته معي..
ثم استطرد وصوته يكتسب ضيقًا بالغًا: لكنه أجّل الأمر برمته.
جاء دور باسل ليشعر بالاستنكار وليخرج صوته محملًا به وهو يقول: هل تمزح؟! أهذا سبب انزعاجك؟ هذه الأمور تحدث.. أم أنك كنت تتوقع أن يعقد قران ابنته عليك في التو واللحظة.
زفر عمرو بعمق وأشاح بوجهه دونما تعليق، فلم يستطع باسل منع دهشته وضرب كفًا بكف، لكنه عاد يهادنه بلينٍ قائلًا: حسنًا.. ماذا كانت أسبابه؟ ولأي مدىً كان التأجيل؟
ظل عمرو على صمته لبعض الوقت قبل أن يقول بخفوت: منى لن تعلم.. لن تعلم أني أتيت لطلب يدها وخطبها رسميًا.. لن يخبرها والدها أو يعرض عليها الأمر قبل انتهاء اختبارات نهاية العام الدراسي.
أها.. هذا هو سبب ضيقه إذًا ! ولابد أن أسباب الوالد تتلخص في عدم شغلها بأية أمور في هذا الوقت الحرج حتى تُنهي دراستها خاصةً وأنها في السنة النهائية..
ابتسم باسل وهذه الأفكار تمر برأسه، ثم قال بهدوءٍ ودبلوماسية: بصراحة.. الرجل لم يخطئ.. طبيعيٌ جدًا أن يهتم لمستقبل ابنته وأن يعطي دراستها الأولوية وأنت خير من يدرك ذلك.. لطالما كانت الدراسة بالنسبة لك أهم من أي شيء.
بضيقٍ قال عمرو: أعلم ذلك، لكن...
قاطعه باسل: عمرو.. لا تهول الأمر.. نهاية العام الدراسي على الأبواب.
رد عمرو محنقًا: أجل بالفعل.. شهرٌ أو يزيد حتى تبدأ الاختبارات النهائية، وشهرٌ أو يزيد حتى تنتهي.. لا أعلم حتى نظام اختباراتهم العملية.
بدا باسل متعجبًا بحق ولم يجد ما يقوله، فتابع عمرو وقد عاد صوته لخفوته: ألا تدرك معنى أن أصارحها بمشاعري بجرأة الواثق مما يفعل، ثم تجدني أزرو منزلها في ليلتها وتتصور أني أتيت لأتسامر مع والدها وانصرف! ثم تمضي شهورٌ لا يكون لي الحق في لقائها أو رؤيتها أو حتى محادثتها على الهاتف.
كان باسل في هذه اللحظة يقاوم تعجبه الشديد ليقول بتساؤلٍ حقيقي: وهل هذا صعبٌ إلى هذا الحد؟!
طالعه عمرو بصمت تنازعه انفعالاته.. لم يذكر له بالطبع أمر رسالته التي خبأها لها، ولم يخبره قط أنها مرسلة الرسائل حُمر المشابك، فقد اعتبر ذلك سرهما الصغير.. في الواقع كان ذلك أحد أسباب ضيقه الشديد.. لو كان يعلم ما سيحدث لأجّل ذلك لما بعد ارتباطهم الرسمي ولا يعرف أي جنونٍ تلبسه ليفعل ذلك قبلها!
رفع يده يتخلل شعره بأصابعه في توتر وبدا من طول صمته أنه لن يجيب، إلا أنه لم يلبث أن قال: لا أستطيع تحمُل ذلك لبضعة أيام، فما بالك بشهور.
طالعه باسل ببعض البلاهة يحاول استيعاب أن من يحدثه الآن هو عمرو صديقه الجاد الرزين الذي لا يشغل باله في الدنيا سوى دراسته وعمله، بينما تابع عمرو والضيق في صوته يزداد: لا يمكنني أيضًا تحمُل أن تظن بي التهرب منها أو العبث معها.. وإن حاولت إخبارها بنيتي، سأبدو صغيرًا غير مسئول أمام والدها.
ثم شرد ببصره مستطردًا: لم يُهمني متى يكون الارتباط الرسمي، ولم يكن يضيرني الانتظار حتى انتهاء الدراسة.. كانت تكفيني موافقتها ومباركة والديها التي ستمنحني الحق في التصرف كخاطب.. لكن في وضعٍ كهذا أنا مكبلٌ تمامًا.
تمتم باسل وهو يكتم ضحكاته بصعوبة: كان حريٌّ بالمثل أن يكون "اتق قلب الرزين إذا أحب".
التفت إليه عمرو بحدة وقال: كنت أعرف أنك بلا فائدة.. لا أفهم ما الذي يدفعني إلى التحدث إليك من الأساس.
نهض باسل وأمسك كتفيه قائلًا بجديةٍ مصطنعة لم تُفلح تمامًا في إخفاء عبثه: عمرو.. أنت لست في حالتك الطبيعية يا صديقي، لكني نجحت أخيرًا في تشخيص حالتك.. في مداراتك تدور إلكتروناتٍ دخيلة زائدة تسببت لك في حالةٍ من فورة المشاعر وعدم الاستقرار، عليك بإخضاعها حالًا.
ابتسم عمرو على الرغم منه وأطلق ضحكةً خافتة إثر تشبيهه العجيب هذا، ثم قال قاصدًا إغاظته: لكنها تدور قريبًا من قلبي تمنحه دفئًا ساحرًا.
تمكنت الدهشة من باسل ثانيةً وعاد يضرب كفًا بكف وهو يقول ضاحكًا: حالتك أسوأ مما توقعت.. بل ميؤسٌ منها.
ثم أردف وهو يهم بالرحيل: أنا ذاهبٌ قبل أن تُشعرني بأن ما أكنه لخطيبتي يشبه ما أكنه لك.
قال عمرو محاولًا استبقاءه: إلى أين أنت ذاهب؟ لم تخبرني ماذا عليّ أن أفعل؟
تحرك باسل مغادرًا بالفعل بينما يقول من بين أسنانه بغيظ: اصبر تبًا لك.
*****************
*** "يا أحلى نوبات جنوني.. زيديني عشقًا"
تمر عيناها عليها للمرة الألف، بينما أضواء الشروق الأولى تبدد عتمة الليل الذي انقضى دون أن يغمض لها جفن..
وللمرة الألف أيضًا تنساب دقات قلبها في لحنٍ دافئ اكتمل حين اكتملت العبارة بعثورها على الورقة الثانية بين ثنايا العلبة الأخرى..
توقفت عيناها عند طرف تلك الورقة حيث وُجد أعجب ما في الأمر كله..
رسمٌ لمشبكٍ أحمر صغير!
قفزت الابتسامة إلى شفتيها قفزًا وهزت رأسها بتعجب..
كانت فعلتها ببث مشاعرها عبر الرسائل مجنونةً متهورة، تعلم ذلك، بل وندمت أشد الندم، لكنه يفعل الآن مثلها تمامًا.. حتى المشبك الأحمر لم ينسَه!
فماذا تسمي فعلته هذه؟!
وكأنما... وكأنما يخبرها أن قبسًا من جنونها قد مسه!!
خاصةً مع اختياره لتلك العبارة الـ... المذيبة للأعصاب..
"يا أحلى نوبات جنوني.. زيديني عشقًا"
ضمت راحتها على الورقتين وتنهدت بحرارة..
لقد أضحت مشاعرها بحالٍ لا يسمح بتحمُل أي شيء..
وهل بعد "أحبك"من بين شفتيه بعد؟!
مهلًا.. ليست "أحبك" فقط.. بل "أحبك جدًا"..
تأوهت بخفوت وهي تدفن وجهها بين كفيها تحاول عبثًا تهدئة ما يجيش داخلها ويجتاحها بمجرد تذكرها للكلمة المزدانة بصوته..
حسنًا.. ماذا عن الكلمة الأخرى؟ تلك التي تخبرها بأن الحب صار عشقًا..
رباه.. وهل هي كلمةٌ واحدة.. تلك القصيدة الرائعة التي استخدم استهلالتها مرت على قلبها كلمةً كلمة تذيبها بشعورها بأنها موجهةً لها..
لها هي..
وكل ذلك على خلفية صوته الخافت القادم من أقصى الردهة حيث جلس مع والدها يحتسيان القهوة!
لم تغادر غرفتها قط ولم تصلها كلمةً واحدة واضحة.. ورغم أنه لم تقفز لعقلها أي احتمالاتٍ جامحة، إلا أنها كانت في غاية الاضطراب لوجوده وحسب..
حسنًا.. كانت في غاية السعادة أيضًا!
أدهشها تحمس والدتها العجيب للزيارة والأسئلة التي أمطرت بها والدها بعد رحيله، لكنه لم يزد على أن قال ببساطة وهو يتصفح هاتفه أنها مجرد تلبية دعوةٍ لشرب القهوة أرجأها هو لحين تفرغه، وكان هذا أكثر من مُقنع بالنسبة لها..
أسبلت جفنيها بإرهاق ثم لم تلبث أن قامت وأزاحت الستائر ليغمر الغرفة ضوء النهار..
أمامها يومٌ عسير تعلم، بعد هذا السهر المفرط، لذا ستستعين بالقهوة آملةً ألا يغلبها النوم أثناء المحاضرات..
ألقت نظرةً على الساعة ثم على النافذة وازدردت ريقها بصعوبة..
إنه وقت تريضه، لكن.. هل تجرؤ؟
اقتربت حتى وقفت أمامها.. رفعت يدها إلى المزلاج، لكنها توقفت قبل بلوغه..
بالطبع لا.. لم تعد تجرؤ أبدًا..
أسندت ظهرها إلى النافذة المغلقة وتنهدت بقوة غير مدركة لمن تعلق بصره بدفتيها المغلقتين على الجهة الأخرى من الطريق آملًا بانفراجةٍ ولو ضئيلة تمنح قلبه بهجةً ليومه وتُخفف وطأة الشوق ولو قليلًا..
لكن الوقت مضى سريعًا فتلاشى أمله..
لم يطل الوقت حتى قررت الذهاب إلى الجامعة مبكرًا، فقد شعرت أنها لو بقيت حتى موعدها المعتاد ستنام حتى يوم غد، لذا راسلت بسمة تخبرها أنها ستسبقها وتجهزت للخروج على عجالة..
غادرت البناية واتخذت طريقها بخطوات سريعة بينما ترمق السيارة المتوقفة أمام منزله بنظرة ضيق وكأنما تنفث عن شعورها بعدم رؤية صاحبها اليوم..
لم يذهب لعمله بعد..
هذا ما حدثت به نفسها قبل أن تلحظ شيئًا غريبًا على زجاجها الجانبي..
توقفت تدقق النظر فميزت بعض الحروف الإنجليزية في كلماتٍ غير مفهومة خُطت بإصبع على الغبار المتراكم على الزجاج..
Ya …… alkown g. mor.
واصلت طريقها متعجبة وهي تحاول نطق الحروف..
ما هذا بالضبط؟!
كثيرًا ما يخط بعض المارة المتحذلقين العبارات على زجاج السيارات بهذه الطريقة، لكن أي متحذلق هذا الذي يكتب بالإنجليزية!
انشغلت بالمواصلات ثم بالثرثرة مع الزميلات حتى أتت بسمة وبدأت المحاضرات..
لم تكن المحاضرة الثانية قد انتهت بعد عندما تثاقل جفنيها وانعدم تركيزها تمامًا، فأسندت رأسها على قبضتها المضمومة ووأخذ قلمها يخط دوائر وخطوط بدلًا من المعادلات التي تُلقى على مسامعها.. وحينما لم يعد يربطها باليقظة إلا النذر اليسير، أخذت تكتب - بابتسامةٍ بلهاء - أبياتًا متفرقة من تلك القصيدة التي أطارت النوم من عينيها طوال ليلة أمس..
"عصفورة قلبي.. نيساني..
يا رمل البحر.. وروح الروح.. ويا غابات الزيتون..
ياطعم الثلج.. وطعم النار.. ونكهة شكي ويقيني.."
ويا أحلى إمرأةٍ بين نساء الـ.....
اتسعت عيناها فجأةً وأطلقت شهقةً قوية، فالتفتت نحوها بسمة بتفاجؤ..
حدقت فيما كتبته للتو قبل أن تنتبه للصمت الذي عم المدرج، فرفعت بصرها لتجد عشرات الأزواج من العيون التي تنظر إليها بدهشة من بينهم عينا الأستاذ نفسه!
غمرها ارتباكٌ وإحراجٌ عنيف ولم تجد هربًا من هذا المأزق سوى بتصنع السعال العنيف المتحشرج..
ربتت بسمة على ظهرها وهي تقول بقلق: منى.. ماذا حدث؟ هل أنت بخير؟
تمتمت ببضع كلماتٍ غير مفهومة وهي تواصل تصنعها للسعال، ثم رفعت يدها للأستاذ بما يعني استئذانها للخروج..
لم يبدُ على الرجل أنه اقتنع بنوبة السعال هذه، لكنه سمح لها ربما ليتخلص منها ومن قطعها لتواصل شرحه سريعًا..
همست لبسمة بـ "لا تقلقي" وغادرت مسرعة..
خرجت إلى ساحة الكلية وهي تضم دفترها إلى صدرها بينما يتدافع قلبها بدقاته..
هو..
هو من خط العبارة على زجاج السيارة..
و "يا" تفصلها نقاط عديدة عن "الكون" متبوعةً بالاختصار الإنجليزي g. mor. هي تمويه لعبارة..
"يا أحلى إمرأةٍ بين نساء الكون.. صباح الخير"
*************************
*** أزاح عن عنقه السماعة الطبية بعد انتهاء الفحوصات وانصراف آخر المرضى..
تراجع في مقعده ملتقطًا نفسًا عميقًا ومخرجًا إياه في عمقٍ مماثل..
أسبوعٌ كامل مضى ولم يظفر برؤيتها ولو لمرةٍ واحدة..
في الصباح الباكر نافذتها دومًا مغلقة، وفي المساء.. لم تتزامن عودته من المستشفى مع عودتها من الجامعة قط رغم تحريه للمواعيد..
يشتاق.. نعم وبشدة، لكن غيابها عن أيامه أورث نفسه ضيقًا لم يتخيل مداه..
تلك الألوان المبهجة التي تلونت بها حياته في وجودها انحسرت عنها الآن مخلفةً لوحةً بالأبيض والأسود، رغم أنها لم تكن كذلك قبلها قط..
لا يعلم مطلقًا ماذا فعلت به ولا كيف.. على حين غرةٍ قررت روحه السُكنى إليها وتعلق قلبه بها حد التشبث، ولا ينوي هو أن يفلتها أبدًا..
فطِنٌ هو كفاية ليدرك أنها تتعمد الابتعاد، ولا يلومها في الواقع..
"أحبك" في وجهها وغزلٌ بأبيات الشعر، ثم.. لا شيء..
لم يصلها للأسف التصرف الذي يليق برجلٍ ناضجٍ مثله..
لم يندم على جهره بمشاعره لها قط، ولو عاد به الزمن لفعل الشيء نفسه، وما كتبه لها على زجاج السيارة فسيعتبره مجرد تحية صباحٍ لا أكثر!
أما الرسالة فـ....
حسنًا.. ربما أخطأ حقًا بالتصرف باعتبار ما سيكون، لكن...
لكن مشاعره غلبته حينها على نحوٍ لم يحسب له حساب..
تبًا.. هذا في حد ذاته خطأٌ آخر..
نهض محملًا بضيقه يخلع معطفه الطبي، ثم التقط هاتفه ومفاتيحه وهمّ بالمغادرة عندما استأذنت الممرضة ودخلت تحمل له ملفًا صغيرًا وتقول: د.عمرو.. استوقفني هذا الملف وأنا أحفظ ملفات الحالات في الفترة الماضية.. البيانات ناقصة ولم يُدون به التشخيص ولا العلاج.
التقط منها الملف وطالعه بمللٍ تبخر فور أن وقعت عيناه على الاسم المدون في أعلاه..
بالطبع لا تشخيص ولا علاج..
ومن سواها تزور الطبيب في يومٍ ممطر لأنها تنفعل أكثر من اللازم!
هل أخبرها من قبل أنها استثناءً في كل شيء.. حسنٌ.. سيفعل..
تزينت شفتيه بابتسامة، وسحب الورقة الوحيدة التي يحويها الملف ثم طواها وأودعها جيبه قائلًا للممرضة: لا تشغلي بالك.. ليس مهمًا.
مطت السيدة شفتيها بتعجب، ثم عادت تكمل عملها بلا اكتراث..
أما هو فغادر بهدوء وذهنه يعود إلى ذلك اليوم الماطر..
يوم أن حطت على حياته كفراشةٍ رقيقة وأثارت عيناها داخله زوبعات الحيرة..
تذكر أن الممرضة دخلت عليه بعد انصرافها تطلب منه تدوين باقي البيانات التي تخص حالتها.. لم يعتبرها حينها حالةً مرَضية، فترك الورقة على المكتب وانصرف..
وهكذا بقيت الورقة تحمل بياناتها الشخصية فقط.. اسمٌ وعُمر، وربما رقم هاتف..
مهلًا.. رقم هاتف!
كان قد استقل السيارة لتوه، فأخرج الورقة على عجالة..
أجل.. هناك بالفعل رقم هاتف..
ابتسم وشعورٌ بالظفر يتملكه التقط على إثره الهاتف ليدون الرقم بحماس..
توقف قبل أن يفعل وقد تلاشى ظفره وحماسه على حدٍ سواء..
وماذا سيفعل برقم هاتفها؟
لا يمكنه أن يحادثها وإن أراد.. حتى وإن وُجد سببٌ قوي، سيكون هاتف والدها هو الاتجاه الوحيد المتاح..
زفر بإحباط وانطلق بالسيارة..
لم يعد يحتمل هذا الوضع السخيف.. ليس من عادته تعليق الأمور، وبات يكرهه الآن تمامًا..
عليه أن يضع النقاط على الحروف الآن وبلا تأخير..
برزت فكرةٌ ما في عقله، فالتقط هاتفه ثانيةً ليضعها موضع التنفيذ على الفور..