AmanyAlsagheer

Share to Social Media

* 9 *
*** انهمكت كلٌ من منى وبسمة لأكثر من عشرة أيامٍ متواصلة في إعداد البحث المطلوب.. كانتا تقضيان الكثير من الوقت معًا - بعد انتهاء يومهما الدراسي - في منزل إحداهما لتجمعا مادةً جيدة لبحثهما المشترك..
ورغم انشغالها الشديد، لم تغفل منى ولو لمرة عن أيٍ من مواعيد عمرو التي تمثل فرصتها الوحيدة لرؤيته..
لم ترسل له رسالةً ثالثة ولم تدرِ لماذا.. فقط شعرت أنه من الأفضل ألا تتلاحق رسائلها، ففعلت..
لكنها حقًا كانت تشعر بسعادةٍ بالغة وهي ترى أن أول ما يفعله عمرو عندما يغادر منزله صباحًا، هو أن يفحص سيارته باحثًا فوقها وجوارها وحولها عن أي شيءٍ أحمر اللون يمسك بورقةٍ صغيرة!
ورغم أنها تراه كل يوم، إلا أنه لم يفارقها لحظةً شعورها بأنها تفتقده.. تفتقده جدًا..
افتقدت وجهه وابتسامته العذبة.. افتقدت صوته وأسلوب حديثه.. افتقدت حتى دقات قلبها وهي أمامه..
إنها حقًا تحبه!
تنهدت بقوة وهذه الأفكار تطوف بذهنها، بينما تجلس في المدرج في انتظار بداية المحاضرة الأولى..
لم تكن بسمة برفقتها فقد هاتفتها صباحًا لتخبرها بعدم مقدرتها على الحضور اليوم، وكانت تتوقع ذلك فهي تعاني من نوبة بردٍ شديدة منذ عدة أيام..
قررت أن تهاتفها لتطمئن عليها بعد انتهاء المحاضرات.. وقد كان..
أتاها صوتها المتعب يجيبها عبر الهاتف فقالت: كيف حالك الآن؟
- الحمد لله.. أفضل قليلًا عن الصباح.
- حمدًا لله.
- كنت أود بشدة الحضور اليوم خاصةً أننا كنا سنُنهي البحث.
- لا عليك.. سأنهيه أنا اليوم.
قالت بسمة من بين سعالٍ خفيف: لست أعتقد أنك ستستطيعين وحدك يا منى، فمازال يحتاج الكثير من الجهد.. انتظري غدًا وإن شاء الله سأكون قد...
قاطعتها منى بهدوء: غدًا ستكونين أيضًا بحاجةٍ إلى الراحة، وأنا مللت هذا البحث وأود إنهاءه في أقرب فرصةٍ ممكنة.. ثم إننا قد انتهينا تقريبًا من جمع المعلومات.
أتاها صوت بسمة يقول: لا تستهيني بالأمر، فمازالت هذه المعلومات تحتاج إلى ترتيبٍ وتنسيقٍ جيد قبل أن تُطبع وهذا سيستغرق الكثير من الوقت خاصةً إن كنت بمفردك.
بزفيرٍ عميق قالت: لا تحطمي معنوياتي أرجوك.. سأحاول وليكن ما يكون.
صمتت بسمة لبضع لحظاتٍ ثم قالت: حسنًا.. إذا وصلت إلى مرحلة الطباعة، أين ستطبعينه.
- لم أقرر بعد.. ربما أسأل الفتيات.. سأبذل قصارى جهدي لأخرجه بصورةٍ جيدة فلا تقلقي.. فقط ادعي لي.
قالت بسمة بصوتها المنهك: وفقكِ الله.
قالت منى في مرح: أما أنتِ فأفضل دعوةٍ لك هي شفاكِ الله.. سأذهب أنا الآن فقد أوشك معاد المعمل.
- سأنتظر اتصالك عندما تعودين.. اتفقنا؟
- اتفقنا.. إلى اللقاء.
اتجهت منى إلى المعمل لتفاجأ بتأخر موعده، ولم تدرك السبب إلا بعد ساعتين من الانتظار عندما فوجئت أيضًا بعددٍ كبير من التجارب التي تستغرق معظمها الكثير من الوقت..
في الخامسة تقريبًا أنهت عملها وجلست لترتاح قليلًا في ساحة الكلية التي خلت أو كادت من الطلاب..
كانت تشعر بالإرهاق، لكن قرارها بإنهاء البحث لم يتزعزع، فهاتفت والدتها لتنوه بتأخرها ثم اتجهت إلى خارج الجامعة بعد أن تناولت وجبةً سريعة استعادت بها نشاطها وتركيزها..
دلتها إحدى زميلاتها على مكتب طباعةٍ ممتاز - على حد وصفها - تعاملت معه من قبل وأعجبها جدًا.. ورغم أنه في أطراف المدينة، إلا أنها قصدته بلا تردد..
استغرق الطريق وقتًا وتفرع إلى الكثير من الشوارع الجانية في ذلك الحي الجديد الذي امتلأ عن آخره ببناياتٍ وبيوت في مختلف مراحل الإنشاء..
غادرت سيارة الأجرة أمام اللافتة المضيئة التي تحمل اسم وجهتها، ودفعت الباب الزجاجي لتخطو داخلها..
كان المكان واسعًا أنيقًا.. تفقدته بنظرةٍ شاملة فأدركت أنه حديث الانشاء ويقتني أجهزة طباعةٍ حديثة.. أشعل ذلك حماسها فاتجهت إلى حيث مدير هذا المكان وأخبرته بما تريد، فقادها الرجل إلى أحدث جهاز حاسوبٍ لديه ثم تركها لتعمل بحرية..
وللحظات.. استرخت في مقعدها وعزلت نفسها عن ضوضاء رواد المكان والعاملين فيه، ثم أخرجت من حقيبتها الصغيرة الأسطوانة المدمجة التي تحمل عملها السابق هي وبسمة والتقطت نفسًا عميقًا وبدأت العمل..
انهمكت بشدة في قراءة المعلومات المتراصة أمامها حتى تستطيع اختيار أفضلها وتتمكن من ترتيبها وتنسيقها بما يوافق موضوع البحث، وقد التهم هذا الكثير من الوقت على نحوٍ لم تشعر به مطلقًا..
وعندما أتمت عملها بالفعل، أخذت تراجعه كليةً في رضا وسعادة غير مصدقة أنها قد انتهت منه أخيرًا، ثم التفتت تطلبت من أحد العاملين تولي التنسيق النهائي والطباعة..
انتبهت لحظتها أنه لم يعد هناك أحدٌ في المكان سواها ومديره.. طالعت ساعتها ففاجأها بشدة كونها تشير إلى الحادية عشرة مساءً.
- معقول! لقد تأخرتُ كثيرًا.
غمغمت بها ثم أخرجت هاتفها بسرعة مستغربةً ألا تتصل بها والدتها أو بسمة طوال هذا الوقت، فوجدته جثة هامدة ! لابد أن بطاريته فرغت منذ وقتٍ طويل..
شعرت بالتوتر عندما تخيلت مقدار ما يشعر به والديها الآن من قلق وهما عاجزين عن الاتصال بها، فألقت الهاتف في حقيبتها بضيقٍ وقالت: كيف لم أشعر بمرور كل هذا الوقت.
ابتسم مدير المكتب وقال: لقد كنت منهمكةً بشدة فيما تعملين حتى أنني ناديتك أكثر من مرة ولم تجيبيني.
قالت بحرج: حقًا! آسفةٌ جدًا لكني لم أسمعك بالفعل.
- لا عليك.
استفسر منها عن طبيعة التنسيق الذي تريده وبعض الأمور الخاصة بالشكل النهائي، ثم بدأ العمل عليه على الفور..
سألته في قلق: هل سيستغرق هذا الكثير من الوقت؟
- دقائق.. لا تقلقي.
شعرت فعلًا بالقلق وبالوقت يمر بثقلٍ شديد، لكن ما إن خرجت أولى صفحات البحث من الطابعة حتى انزاح القلق جانبًا لتحل مكانه لهفةً شديدة لرؤيته كاملًا بين يديها..
لم تمضِ نصف ساعة حتى كان البحث كاملًا ومطبوعًا بأناقة، تحمل مقدمته اسمها واسم بسمة بالخط العريض..
ابتسمت في رضا وشكرت الرجل بحرارة وهي تنقده أجره، ثم التقطت حقيبتها وحملت البحث بعناية وغادرت المكان..
وأمام باب المكتب الزجاجي وقفت تتطلع إلى المكان من حولها..
كان من الواضح أنها لن تجد سيارة أجرة في هذا الشارع الجانبي وفي هذا الوقت المتأخر، لذا أدركت أن عليها الخروج إلى الشارع الرئيسي..
تعلم أن ذاكرتها ليست جيدةً في حفظ الطرق بالذات، فاعتصرتها اعتصارًا لتذكر كيف كان طريقها إلى هنا..
بدأت تمشي بخطواتٍ سريعة لتعود بأسرع وقتٍ ممكن، إلا أن الشارع امتد أمامها طويلًا وبلا تفرعات رغم إنها لا تذكر أنه كان بهذا الطول!
شعرت بالقلق، وهمت أن تعود أدراجها، لكنها لمحت لحظتها إحدى التفرعات الجانبية، فتنهدت في ارتياح وأسرعت في مشيتها أكثر وهي تغمغم: يبدو أن قلقي من تأخري حتى هذا الوقت سيجعلني أشك في كل شيء.
أراحها كثيرًا أن وجدت ذلك الطريق الجانبي مضاءً إلى حدٍ ما، وأخذت ترمق ما حولها من معالم.. الكثير من البنايات المظلمة غير مكتملة البناء والكثير من التلال الرملية متناثرةً حولها هنا وهناك.. لشد ما غير الظلام طبيعة المشهد عما كانه في ضوء النهار!
بدأت الأنوار المضاءة تقل، فعاد قلقها يتزايد يصحبه هاجسٌ يُلح عليها بأنها ضلت الطريق!
"يبدو أنني أخطأت عندما لم أسأل أحدًا منذ البداية"
كان هذا ما حدثت به نفسها وهي تتلفت حولها تبحث عن أي شخصٍ يمكنها سؤاله، لكن لم يكن هناك أحدٌ في الجوار سواها ! فغمغمت بانفعال: ماذا يحدث بالضبط؟ لسنا في منتصف الليل.
انتبهت لحظتها أن منتصف الليل ليس بعيدًا كما تظن فساعتها الآن تشير إلى الثانية عشرة إلا بضع دقائق!
شملتها موجةٌ من التوتر أعاقت تفكيرها، لكنها لم تلبث أن التقطت نفسًا عميقًا وقالت في محاولةٍ للسيطرة على أعصابها: ماذا دهاني.. أنا لست طفلةٌ صغيرة.. ليس هذا هو الطريق الصحيح، إذًا فلأعود.
مرت عليها الدقائق طويلة وهي تعود أدراجها، إلى وجدت إلى يمينها طريقًا آخر فوقفت على بدايته تحاول استكشافه.. كان أقل اتساعًا، طويلًا يغلب عليه الظلام ويمتد بين مجموعة من مشاريع البنايات الصغيرة التي لازالت في مرحلة الأعمدة الخرسانية وحوائط الطوب الأحمر، لكن ما استحوذ على انتباهها كان الأضواء التي بدت في نهايته.. لعله الشارع الرئيسي أو على الأقل تفرعٌ مباشرٍ منه..
خفق قلبها ارتياحًا وحمدت الله في سرها وشرعت تقطعه بخطواتها السريعة وهي تتحاشى النظر لما حولها..
مع اقتراب الأضواء أبطأت قليلًا من مشيتها التي كادت تتحول إلى عدو وهمّت بقول شيءٍ ما، عندما رأتهم..
خمسة أشخاص وربما أكثر، يتخذون من أحد القواعد الخرسانية مجلسًا ومتكأً.. لم يُتح لها الظلام رؤية ملامح أيٍ منهم ولم تدر سببًا لذلك الخوف الذي شملها فجأة.. أهو الدخان الكثيف الذي يتصاعد من أفواههم، أم تلك الضحكات الغريبة والعبارات غير الواضحة التي صاحبت اقترابها منهم؟
أيا ما كان السبب، فذلك الخوف لم يستمر طويلًا إذ تحول بعدها إلى فزعٍ حقيقي عندما انفصل أحدهم عن رفاقه ووقف عاقدًا ذراعيه أمام صدره متطلعًا إليه بوقاحةٍ وسادًا عليها الطريق!
كانوا على بعد أمتار، ونهاية الشارع أصبحت فجأة بعيدةً جدًا..
جال بخاطرها لوهلةٍ التحلي ببعض الشجاعة وتجاهله ومواصلة الطريق، لكنها اعترفت بغبائها سريعًا.. لا شيء أسهل من افتراس فتاةٍ قادتها حماقتها إلى التواجد بمفردها في منطقةٍ كهذه وفي وقتٍ كهذا..
وبعقلٍ تشوش تفكيره، وجدت نفسها تتراجع بسرعة وتنعطف بين أقرب بنايتين..
فوجئت بطريقٍ أكثر إظلامًا يمتلأ بمخلفات البناء ولا تبدو له نهاية، فمضت تتعثر بخطواتها المتسارعة بينما تتلاحق أنفاسها بشدة وتعصف بها الأفكار السوداء..
قاطع أفكارها تلك ما كانت تخشاه.. صوت خطواتٍ ثقيلة مسرعة تقترب باتجاهها !
هذا بالفعل ما كان ينقصها حتى تنهار أعصابها تمامًا، وقد كان..
انفلتت أعصابها دفعةً واحدة وانطلقت تركض لا تدرك إلى أين.. كل ما كانت تدركه هو أنه لا ينبغي لها التوقف.. لا أحد يمكنها الاستنجاد به ولا أحد سيسمعها ولو ملأت الدنيا صراخًا..
تناهى إلى مسامعها صوت تلك الخطوات تركض بدورها، فانتابها الرعب ولم تعد تتبين اتجاه.. تخرج من شارعٍ مظلم لتدخل في آخر أكثر إظلامًا، وتنعطف من طريقٍ إلى طريق ثم تتمنى مع أولى خطواتها فيه أنها لم تفعل.. اللعنة على هذه المنطقة بأكملها.. ألا يسكنها بشر!!
أفضى بها ركضها المتخبط إلى أحد الشوارع المضيئة نوعًا.. لم يكن ضوء أعمدة إنارة، لكنه ضوء بعض المنازل المتفرقة التي يسكنها أصحابها..
وكما يتعلق الغريق بقشة، اندفعت بلا تفكيرٍ إلى أقربهم وأخذت تطرق بوابته الحديدية بقوة فوجدتها تُفتح أمامها..
كان صوت الخطوات الراكضة خلفها مازال يتردد، فدفعت البوابة ودلفت بلا تفكير، ثم صعدت بسرعة درجات السلم الأمامية لتقف بعدها في ركن المدخل خافت الإضاءة ترتجف من قمة رأسها وحتى أخمص قدميها، يدها تقبض على حقيبتها وعلى الملف الذي يحتوى أوراق البحث في قوة، بينما تلهث في شدة شاعرةً بأن هناك شيئًا ما يدق بعنفٍ في رأسها مع دقات قلبها المنتفض ذعرًا..
مر عليها بعض الوقت وهي على حالها متجمدةً في مكانها ترهف السمع، ورغم أنه لم يبلغ مسامعها أي صوت، إلا أن انفعالها لم يهدأ وشتى الاحتمالات تضرب عقلها من كل اتجاه..
ربما يتبعها ذلك الوغد متسللًا، وربما ينتظر خروجها في مكانٍ ما وربما ما هو أسوأ!
وبصوتٍ يوشك على البكاء همست: يا إلهي.. ماذا يحدث لي؟! بل ماذا فعلت بنفسي؟!
اختنقت عبراتها في عينيها وهي تقف عاجزةً عن اتخاذ أية قرارات، بل عاجزةً حتى عن التفكير..
بلغ مسامعها فجأةً صوت بابٍ ما في الأعلى يُفتح ثم يُغلق في هدوء، تلاه صوت خطواتٍ واثقة تهبط السلم..
تزايد انفعالها وتسمرت في مكانها تدعو الله على ألا تكون قد استجارت من الرمضاء بالنار، فآخر شيءٍ تريده الآن هو العودة إلى الشارع..
مرت لحظاتٌ ثقيلة واصلت فيه تلك الخطوات هبوطها، قبل أن يظهر ظلٌ طويلٌ مهيب تبعه ظهور شخصٍ يرتدى السواد.. حاول عقلها المبعثر صياغة عبارةٍ ما تبرر اقتحامها للمنزل على هذا النحو، لكن الكلمات احتبست في حلقها على نحوٍ جعلها تشعر بالاختناق..
- آنسة منى ؟!!
انتفضت بقوة وهذا الصوت المندهش يخترق أذنيها وحدقت في ذلك القادم الذي ألقى عبارته وواصل هبوطه حتى تبينت ملامحه و...
وانتفضت مرةً أخرى.. انتفضت أعماقها وجسدها في آنٍ واحد وهي تهمس في ذهول: عمرو؟!!
شعر عمرو بدهشةٍ بالغة وهو يراها هنا وجال بخاطره للحظة أنها تقطن هذا المنزل، لكن وقفتها المنزوية إلى زاوية الجدار ووجهها الممتقع جعله يسأل بصوتٍ حمل دهشته البالغة: ماذا تفعلين هنا؟!!
لم تجبه منى بكلمات، بل بانفجار!
امتزجت انفعالاتها المنهارة كلها داخلها، وانفجرت في صورة سيلٍ من الدموع سال من عينيها فجأةً مع انتهاء سؤاله، يصحبه سيلٌ آخر من الكلمات غير المترابطة وهي تحاول أن تخبره بكل شيءٍ في آنٍ واحد..
اقترب منها ودهشته تكتسب انفعالًا عجيبًا، فتتشبث بيده ليسقط ما تحمله أرضًا دون أن تشعر..
هالَهُ بكاؤها بشدة، وهالَهُ أكثر ملمس يديها الباردتين كالثلج، فاحتواهما وهو يقول مقاطعًا حديثها الباكي الذي لم يفهم منه حرفًا واحدًا: اهدئي.. اهدئي أرجوك.
لم يبدُ عليها أنها وعت ما قاله، فقد واصلت بكاءها وحديثها معًا الذي تبين منه عبارتين هذه المرة.. "أنا خائفة" و "يركض خلفي"، فعاد يقول وهو يضغط على يديها ويتطلع إلى عينيها مباشرة: اهدئي.. اهدئي.. لا تخافي أبدًا.. أنا معك.
توقفت عن البكاء والكلام دفعةً واحدة مع التقاء عينيها بعينيه..
أهو معها الآن حقًا؟!
أعيناه هما اللتان تنظر فيهما الآن؟!
أيداه تلك اللتان تحيطان بيديها الآن؟!
ربما لو كانت في ظروفٍ أخرى لاندهشت، بل ذهلت من وجوده في هذا المكان وفي هذا الوقت.. أما الآن، فلم تعد تدرك سوى أنه موجود.. موجودٌ وحسب..
موجودٌ معها..
عادت الدموع تسيل من عينيها ثانيةً بعد لحظةٍ من توقفها وعلى نحوٍ تزايد معه انفعاله، فقال: لا تبكي أرجوك..
أومأت برأسها بمعنى أنها ستفعل، والتقطت نفسًا عميقًا حاولت به كبح جماح دموعها المنهمرة..
ترك عمرو يديها ومنحها بعض الوقت لتهدأ، ثم لم يلبث أن قال بصوتٍ حاول أن يجعله هادئًا لكنه خرج على الرغم منه يحمل قدرًا هائلًا من الدهشة: ما الذي يخيفك ويبكيك؟ أتقطنين هذا المنزل أو قريبًا منه؟!
حركت رأسها نافية ومسحت دموعها بأصابع مرتجفة، ثم ابتلعت ريقها بصعوبة لتقول في خفوت: ذلك الوغد يتبعني.
سألها بنفس الدهشة: أي وغد؟!
رفعت يدها إلى منتصف صدرها وكأنها تحاول تهدئة خفقات قلبها المضطرب بشدة، ثم قالت بصوتها الباكي: لست أدري.. كنت أمشي وحدى عندما فوجئت به يسد طريقي ويتبعني.. خفت وركضت مبتعدة فركض خلفي.. لست أدري ماذا يريد مني.. أنا خائفة ولا أعرف كيف أعود.
كانت تتحدث وهي تحاول منع نفسها من معاودة البكاء، لكن دمعةً خانتها واستطاعت الإفلات من عينها والانهمار حارةً على وجنتها، فانعقد حاجبا عمرو والغضب يحتشد داخله..
إذًا فقد أرعبها أحدهم وأراد أذيتها.. يا له من شخصٍ حقير..
كان قد لاحظ حركة يدها إلى صدرها، فتصور أن ذلك الألم الذي يعتقد أنها تعانيه مع انفعالها يهاجمها الآن كأبشع ما يكون..
فاقم ذلك من غضبه، فقال: لا تخافي.. ستكونين بخير.. لن يستطيع أحدٌ الاقتراب منك وأنا معك.
ارتجف قلبها مع عبارته ورفعت عينيها إلى حيث عينيه، ولحظتها فقط شعرت بالأمان..
لم تنبس ببنت شفة، لكن نظراتها نحوه أعلنت ضمنيًا رغبتها في قربه واحتياجها له..
قرأ نظراتها هذه المرة وفهمها.. شعر بها تُلقى إليه بمسئولية ما، وأنه راغبٌ بشدة في أن يقوم بها كاملة..
وفي حزم، انحنى يلتقط حقيبتها وأوراقها وناولهما لها وهو يسألها: أتسكنين قريبًا من هنا؟
قالت بذلك الصوت المتهدج الذي يعقب البكاء: كلا.. ولم آتٍ إلى هنا من قبل.
عاد يتساءل بتعجب: وما كان سبب قدومك؟!
أجابته بسرعة: كنت في مكتب الطباعة أطبع هذا البحث لكنى تأخرت دون أن أشعر.
- مكتب الطباعة؟! إنه يبعد كثيرًا عن هنا.
ثم أردف بابتسامةٍ هادئة: يبدو أنك توغلت في المنطقة بدلًا من الخروج منها.
- لكنها منطقةٌ موحشة جدًا.
- هكذا المناطق الجديدة، تحتاج وقتًا طويلًا لتعمر بالسكان.
ثم أشار بيده وقال: والآن.. هيا بنا؟ يمكنني أن أوصلك إلى حيث تريدين.
شقت ابتسامةٌ صغيرة طريقها إلى شفتيها وإن تكفلت أنفاسها المتهدجة بالإفصاح عن حجم انفعالها الحقيقي وهي تقول بصوتٍ خفيض: شكرًا لك.. لست أدري ماذا كنت سأفعل بدونك.
اكتفى بابتسامةٍ مماثلة وتقدمها إلى خارج المنزل يحاول تجاهل ذلك الانفعال الذي أثارته لهجتها داخله..
تبعته بلا تردد، ووقفت قريبةً منه وهو يغلق البوابة الحديدية وينحني ليغلق رتاجها جيدًا..
انتبهت لحظتها أنه خاطبها باسمها فور رؤيتها.. يبدو أنه لم ينسَ بعد زيارتها له في العيادة!
أسعدها هذا كثيرًا.. لكن.. ماذا كان يفعل في هذا المنزل بالضبط؟! أهو منزله؟!
انتقل السؤال إلى لسانها على الفور، فقالت: أهذا المنزل لك أيضًا؟
"أيضًا! وكأنها تعرف أن هناك آخر يملكه بالفعل!"
كان هذا ما تعجبت به نفسه، لكنه أجاب ببساطة: كلا.. يسكن هذا المنزل أحد مرضاي الذين أتابعهم باستمرار، وقد كان يمر بحالةٍ طارئة فطلبني على استعجالٍ في هذا الوقت المتأخر.
كان جوابه بديهيًا حتى أنها شعرت أن سؤالها كان ساذجًا، بينما تابع هو موضحًا أكثر: هو رجلٌ مسن كما أنه متعبٌ الآن، لذا طلب مني أن أغلق البوابة جيدًا قبل رحيلي.
أومأت برأسها بتفهم، وتبعته إذ تحرك مبتعدًا بخطواتٍ هادئة وهو يضع يديه في جيبي سترته الجلدية..
غلفهما الصمت لبرهة حاكت فيها خطواته وجاورته على مسافة، بينما انتقى هو أحد الطرق وتحرك خلالها بثقة العارف بالمكان..
لاحظ أنها لا تتلفت حولها وهي تتبعه وكأنما لم يعد هناك ما يخيفها، لكنه فضّل سؤالها بشكلٍ مباشر: أمازلت خائفة؟!
- كلا.
أتاه جوابها سريعًا خافتًا لا يشوبه التردد، فحرك شيئًا ما في أعماقه لم يدرِ كنهه.. لعله الارتياح لكونه نجح في مساعدتها.. لابد أيضًا أن الألم الذي تعانيه قد هدأ الآن..
لدقائق واصلا المشي، ثم اتجه عمرو يمينًا وهمّ بأن يصف لها الطريق الذي سيسلكه، عندما لمح أحدهم يقف في الظلام مستندًا إلى جدار أحد المنازل.. وقبل ينبثق عن ذهنه أي استنتاج، كانت منى تقترب منه هامسةً في انفعال: إنه هو.
قال لها في خفوت: فليجرؤ على أن يقترب.
بقي الرجل حيث هو ينقل بصره بينهما وقد بدا على وجهه الغضب لكون الفتاة وجدت من تستنجد به..
أخذ يزن الأمر بعقله.. الفتاة كانت صيدًا سهلًا بالتأكيد، لكن الرجل لا يبدو قويًا.. فليقطع ذراعه لو لم يجمده الذعر أمام مديته..
زاد غضبه وعمرو يواصل مشيه بهدوءٍ مستفز وكأنما لم يرَ أحدًا، فاستل مديته وتحرك يقطع الطريق أمامهما ملوحًا بها في شراسة..
شهقت منى بفزع وهي ترى نصل المدية الحاد يلتمع في الظلام وتجمدت حيث هي، بينما واصل عمرو اقترابه رغم شعوره بالتوتر، ثم توقف وقال مخاطبًا الرجل: من الأفضل لك أن تبتعد.
ابتسم الرجل كاشفًا عن صفٍ من الأسنان القذرة، ثم اقترب ببطءٍ وهو يقول بلهجةٍ شرسةٍ آمرة: أخرج حافظتك نقودك وحقيبتها وكل ما بحوزتكما الآن وإلا...
قاطعه عمرو ببرودٍ مصطنع وعيناه لا تفارقان المدية: لن أعطيك شيئًا فلتغرب عن وجهي.
ثار الرجل واندفع نحوه مصوبًا مديته كما توقع بالضبط، فقبض على يده بقوة يوقفها قبل أن تلامس المدية جسده، ثم أطلق قبضته الأخرى في وجهه..
اندفع الرجل للخلف وسقط أرضًا، فاستغل عمرو الفرصة ليركل المدية من يده بعيدًا..
شعر عمرو بالارتياح والمدية تغوص في كومة رمالٍ قريبة.. بغياب هذا السلاح الخطر، يمكنه تلقين هذا الوغد درسًا لن ينساه..
اشتعل الرجل غضبًا وهمّ بأن ينقض على عمرو بكل قوته، لكن عمرو لم ينتظره، بل اندفع يلكمه في كل مكانٍ طالته يداه مفرغًا فيه غضبه حتى سقط الرجل متأوهًا في قوة، ثم لم يلبث أن قام مترنحًا وانطلق يعدو مبتعدًا..
ظل عمرو يقف متحفزًا لبضع لحظات وأنفاسه تتلاحق، قبل أن تندفع إليه منى قائلة: هل أنت بخير؟!
حملت لهجتها الكثير من اللهفة، فالتفت إليها ليجد أيضًا الكثير من القلق متجسدًا على وجهها..
أفرج صدره عن زفيرٍ عميق ثم قال: أجل.
رددت في ارتياح: حمدًا لله.
ثم استطردت بقلق: دعنا نغادر هذا المكان بسرعة أرجوك، فهناك المزيد من أمثال هذا الشيء.
جذبته من ذراعه برفق فاستجاب لجذبتها وهو يغمغم: حسنًا.
وبخطوات سريعة هذه المرة، واصل مشيه وهو يعدل هندامه ويزيح شعره الذي تناثر على جبهته إلى الوراء..
طالعته بصمتٍ وقلبها يدق بقوة يراودها شعورٌ قوي بأنها عادت مراهقةً صغيرة .. لقد بدا لها الآن كفارس الأحلام وبلا أدنى مبالغة.. فارس أحلامٍ يجيد رياضة الملاكمة!!
لقد كانت ترتجف خوفًا منذ قليل وهي تمشي وحدها في هذه الطرق المظلمة، أما الآن فلم تعد تشعر أنه من الممكن أن يثير خوفها أي شيء.. لا الظلام ولا وحشة المكان وكآبته ولا حتى خلوه من البشر.. هي بجواره وهذا يكفيها..
تناهي إلى مسامعهما بغتة صوت خطواتٍ ثقيلة تقترب في سرعة، فتوقفا دفعةً واحدة قبل أن يظهر من بعيد ما كانت منى تخشاه.. لقد استنجد الرجل برفاقه وجمعهم ليأخذوا بثأره..
شعر عمرو بتوترٍ شديد وهو يحصي عددهم ببصره.. إنهم سبعة أشخاص يقتربون في وحشيةٍ كالثيران الهائجة..
لا مجال للخيال ها هنا.. لن يستطيع التغلب على كل هؤلاء دفعةً واحدة خاصةً وبصحبته فتاة سيؤذيها أحدهم بالتأكيد.. لابد من حلٍ آخر للخروج من هذا المأزق وبسرعة، فلقد بدأوا يقتربون ببطءٍ وشراسة وكأنما يحاولون محاصرته..
اقتربت منى منه أكثر وكأنها تستمد منه أمانها، فهمس بانفعالٍ دون أن يرفع عينيه عنهم: لا تخافي.
كان الرجال قد اقتربوا أكثر وتعالت أصواتهم بالتهديد والسباب البذيء، فأمسك يدها في قوة، وقبل أن تدرك ماذا يحدث، جذبها فجأةً وانطلق يركض بأقصى سرعته نحو أقرب طريقٍ جانبي..
وما إن فعل، حتى ترك الطريق نفسه وعاد ينعطف مارًا بين أقرب بنايتين..
بقايا الطوب الأحمر المتكسر والحصى الملطخ ببقايا الإسمنت الجافة يفترش الأرض ويعرقل حركتهما، لكنهما لم يتوقفا، خاصةً وقد أنبأتهما أصوات هؤلاء الأوغاد بانطلاقهم خلفهما..
تأوهت منى في هذه اللحظة، فانتبه إلى أنه يجذبها من يدها بشدة، فأفلت يدها وهو يقول لاهثًا: اركضي بأقصى سرعتك.. هيا.
كانت تركض بأقصى سرعتها بالفعل، لكن مقارنةً به فهي لا تركض أصلًا.. ولم تمضِ ثانيتين حتى كان قد سبقها بعشرة أمتارٍ على الأقل، فتوقف وعاد يقبض على يدها قائلًا: أسرعي.
قالت لاهثة: مهلًا.. أنا لا أتريض يوميًا كما تفعل.
أدهشه ردها هذا بشدة، فكيف لها أن تعرف شيئًا كهذا؟! لا يمكن أن يكون هذا استنتاجًا !!
كاد يسألها بالفعل، لكنه نحّى ذلك جانبًا فلا وقت الآن لهذه التساؤلات..
فوجئ بأحدهم يثب من بين البنايات بغتةً ويعترض طريقه، فلكمه في وجهه بكل قوته دون حتى أن يتوقف أو يتخلى عن يد منى.. وقد تكوم الرجل أرضًا وهو يتأوه بصوتٍ مكتوم، قبل أن يبرز له آخر احتاج منه وقتًا أطول ليطرحه أرضًا بلكماته ويواصل ركضه..
أما منى فكانت تشعر أنها تعيش في حلم.. حلمٍ غريب..
أمعقول أن يكون ما يحدث لها الآن واقعًا!
قاطع عمرو أفكارها وهو يتوقف فجأةً حتى كادت ترتطم به، وقبل أن تفهم لذلك سببًا، وجدته يقول بصوتٍ لاهث: إنهم يعرفون هذه الطرق جيدًا وسيجدوننا حتمًا.
قالت وهي تلهث بدورها: ماذا نفعل إذًا؟
انعقد حاجباه في توترٍ بالغ، بينما صوت الخطوات المقتربة من أكثر من جهةٍ يؤكد ما يقول..
دارت عينيه في المكان تبحثان عن مخرج، ثم لم تلبث أن توقفتا عند ممرٍ ضيق بين منزلين تحت الإنشاء.. ربما لو مرا عبره، سيكون بإمكانهما الانسلال من بينهم..
اقتربت الأصوات أكثر، فاتجه نحوه بسرعة.. كان تام الإظلام على نحوٍ مقلق، لكن الأصوات الغليظة التي تعالت تنادي بعضها بعضًا حسمت تردده، فأشار لمنى أن تتبعه..
توغلا في ذلك الممر المظلم بخطواتٍ حذرة آملين ألا ينتبه إليهما أحدهم.. توقع عمرو أن يكون طويلًا وإلا ما كان بهذا الإظلام لكنه كان مخطئًا، إذ فوجئ أمامه بجدارٍ ضخم يسد نهاية الممر على نحوٍ يشي بخطأ هندسي شنيع..
همست منى بانفعال: إنه مسدود!
ازداد انعقاد حاجبي عمرو وقفز توتره إلى الذروة.. لا سبيل إذًا.. حتى العودة لم تعد ممكنة، فأصواتهم أصبحت قريبةً جدًا..
تجمد في مكانه آملًا أن يبتعدوا عندما يفقدون أثرهم، ولكن ارتفع في اللحظة ذاتها صوت من يفترض أنهما من الممكن أن يكونا قد اختبئا في أحد المنازل..
وبقلبٍ يخفق اضطرابًا، سمعت منى صوت من يقتحم المنزل المجاور وصوت من يقترب من الممر، فالتفتت إلى عمرو الذي كرر في خفوتٍ شديد: لا تخافي.
جذبها لتقف خلفه بجوار الجدار عازمًا على أن يدافع عنها وعن نفسه بكل ما أوتى من قوة..
لكن فجأة، لمح ذلك الجزء المتهدم من جدار المنزل في أقصى الركن عند الجزء الذي يلتقى بالجدار الذي يسد نهاية الممر، فاندفع نحوه يتحسسه، ولدهشته وجد أنه يخفي مكانًا ما خلفه.. مد يده فيه يستكشف أبعاده بينما صوت الرجل القادم إلى الممر قد أصبح قاب قوسين أو أدنى..
وبتوترٍ عنيف ندر أن يشعر به، حشر عمرو جسده محاولًا عبور الجزء المتهدم من الجدار واختفي خلفه ثم مد يده نحو منى يلتقط ذراعها ويجذبها في قوة..
لم تكن ترى شيئًا في الظلام، لكنها شعرت بأنها تعبر الفراغ الذي أوجده تهدم الجدار ثم تقف شبه ملتصقةً بـعمرو في مكانٍ شديد الضيق لم يستوعب جسدها تمامًا..
أدرك هو ذلك فحاول دفع نفسه للخلف أكثر مقاومًا أشياءً ما لم يدرِ كنهها تعوق حركته، فدفعها بيده بقوة لتنزاح قليلًا بعد أن أدمى أحد أطرافها الحادة راحته..
تجاهل الألم الحاد الذي شعر به وتراجع للخلف محيطًا خصر منى بذراعه وجاذبًا إياها في قوة..
اختفي جسد منى بالفعل خلف الجدار المتهدم في نفس اللحظة التي اقتحم فيها ذلك الرجل الممر يصحبه آخر..
بانفعالٍ شديد همست منى: أنا....
بترت عبارتها مرغمةً عندما رفع عمرو أصابعه إلى شفتيها ليمنعها من الكلام دافعًا بتواثب خفقات قلبها إلى الذروة وبدماء جسدها كله إلى وجنتيها..
بدا لها كل ما يحدث عجيبًا إلى أقصى حد.. طغمة من الأوغاد يلاحقونها، وهي في مكانٍ لا تدري كيف وصلت إليه، تقف لا ترى شيئًا، شبه ملتصقةً بـعمرو لا يفصلها عنه سوى ورقات البحث الذي ضمته إلى صدرها في قوة، ومازالت تشعر بذراعه تحيط خصرها وكأنما يخشى إن أبعد يده أن يراها أحدهم، لا تسمع سوى صوت أنفاسه وأنفاسها وصوت خطوات الرجلين اللذين أصبحا بالفعل في نهاية الممر..
كان أحدهما يقول بصوتٍ أجش: قلت لك إنه مسدود.
أجاب الثاني في ثورة: أين ذهبا إذًا.. لابد وأن أنتقم من ذلك الرجل.. سأقتله.
عاد الأول يقول: لقد تركتهما يفلتان بينما تصر على البحث عنهما هنا.. قلت لك أنهما ذهبا في الطريق الآخر فلم تصدقني.
- اخرس ودعنا نبحث عنهما.
ابتعد صوت خطواتهما، فأفرج عمرو عن نفسٍ كان يحبسه في صدره وحمد الله على أنهما لم ينتبها لهما..
ولثوانٍ، ظل حيث هو يرهف سمعه في انتظار أن يبتعدوا تمامًا، حتى سمع منى تهمس: هل ابتعدوا؟
أجابها بخفوتٍ شديد: أجل.. لكن ليس كثيرًا.
عادت تهمس وهي تحاول الابتعاد عنه قليلًا: هلّا أبعدت يدك إذًا!
التقى حاجباه وهو ينتبه لتوه أن ذراعه تضمها إليه، فأبعده بسرعة وتنحنح في حرجٍ قائلًا: معذرة.
غمر كلاهما الارتباك، قبل أن يقول عمرو محاولًا الهرب منه: أعتقد أنه بإمكاننا الخروج الآن.
تحركت فور سماعها لعبارته ودفعت جسدها خارجًا، وتبعها وهو يمسك يمناه المصابة بقوة، ثم سبقها ليتأكد من كون المكان أصبح آمنًا..
لم تنتبه إلى أنه جُرح إلا بعدها، فقالت بجزع: يا إلهي.. أنت تنزف.
قال بلا اكتراث: لا عليك.. إنه جرحٌ سطحي.
اندفعت تفتح حقيبتها وتلتقط بضعة مناديل ورقية مد يده الأخرى ليأخذها منها، لكنها التقطت يده المصابة وأخذت تنظف الجرح وتمسح عنه الدماء وهي تتساءل بقلق: ما الذي جرحها هكذا؟!
لم ينتبه عمرو إلى سؤالها فقد ترك لها يده متأملًا ما تفعله، ثم لم يلبث أن وجد نفسه يتأملها هي وذهنه يشرد في أفكارٍ شتى، وعندما رفعت إليه عينيها المتسائلتين انتبه وقال: ماذا؟
قالت وهي تواصل العناية بيده: كنت أسأل عن سبب هذا الجرح.
هز كتفه قائلًا: لا أدري.. شيءٌ ما خلف الجدار الذي كنا نختبئ خلفه.
غمرها شعورها بالذنب فقالت وصوتها يتهدج: آسفة.. لقد حدث كل هذا بسببي.. كان من الممكن أن يصيبك أحدهم بمكروه.
رد عمرو بهدوءٍ وبساطة: إنهم قطاع طرق.. كان من الممكن أيضًا أن يخرجوا لي وأنا بمفردي كما خرجوا لك.. لعله خيرًا.
طالعته بامتنانٍ بالغ، ثم عادت تفتح حقيبتها لتلتقط هذه المرة منديلًا قماشيًا أنيقًا ورديّ اللون تحتفظ به دائما في حقيبتها منذ كانت صغيرة إذ كان هديةً من أمها.. وبعنايةٍ شديدة، أحاطت به جرح يده ثم ربطته في إحكام..
ولبضع ثوانٍ إضافية، ظلت محتفظةً بيده بين يديها تتظاهر بأنها تتأكد من إحكام ما فعلته، واستسلم عمرو لها هو الآخر دون أن يعرف لذلك سببًا!
أنهت ما تفعله أخيرًا، فرفع يده يتأمل منديلها الملتف حول راحته ثم قال مبتسمًا: شكرًا لك.
قالت في خفوت: أنا التي لا أعرف كيف أشكرك.
هز كتفه وقال مداعبًا وعلى شفتيه ذات الابتسامة: قولي شكرًا.
رفعت عينيها إلى عينيه قائلةً بنفس الخفوت: وهل تكفى؟
أراد أن يجيب في بساطة أن نعم، لكن رغبته هذه تشتت تمامًا وعيناه تتعلقان بعينيها اللتين تألقت فيهما نظرةٌ بات يعرفها جيدًا..
نظرة عينيها الـ.. الساحرة..
نظرة عينيها التي اعترف أخيرًا بأنها نجحت في أن تحفر لنفسها مكانًا داخله، والتي لا يملك أمامها سوى أن ينجذب لها.. وبشدة..
والآن بالذات لم يشعر أن انجذابه لها قد خالطه ارتباكٌ أو فضول لسبر أغوار غموضها، بل شعر بها تجذبه وحسب..
ولأول مرةٍ في حياته، شعر بقلبه يخفق على نحوٍ مختلف وشفتاه تهمان بقول شيءٍ ما يعبر عما بداخله و...
ولكنه أومأ برأسه إيجابًا في صمت وهو يواصل التطلع إلى عينيها..
هي أيضًا كانت ضائعةً بين أمواج مشاعرها التي اجتاحتها كلها، فهمست دون أن تشعر: أنت رائع.
بدت عليه الدهشة والتفاجؤ مع عبارتها هذه حتى أنه تصور أنها قالت شيئًا آخر أخطأ هو سماعه، فتداركت نفسها بسرعة وتصنعت السعال للحظةٍ قبل أن تقول: أقصد أنت.. أنت... أعنى.. أنا أشكرك بشدة.
قالتها وهربت بعينيها بعيدًا عنه وهي تضم أوراقها إلى صدرها شاعرةً بالدماء تتجمع في وجنتيها للمرة الألف..
تطلع إليها عمرو بصمتٍ مندهش، بينما رفعت هي يدها تُلقي نظرةً على ساعتها ثم تقول في قلقٍ بالغ: لقد تأخرت كثيرًا جدًا.
نجح قولها بالفعل في أن يشتت تفكيره فيما قالت آنفًا، إذ طالع ساعته بدوره وقال: أنتِ على حق.. هيا بنا نبتعد عن هذا المكان الكئيب.
تحركا معًا في حذر عائدين إلى طريقهما الأول وتواصل مشيهما دون أن يعترض طريقهما أحد، حتى بلغا سيارته المتوقفة في أحد الشوارع الممهدة والمتفرعة مباشرةً من الشارع الرئيسي..
يبدو أن الطرق الرملية غير الممهدة هي التي دفعته لترك سيارته بعيدًا عن وجهته..
كان هذا ما جال بخاطرها وهي تقترب منها بصحبته، بينما أخرج هو مفتاح السيارة وهمّ بأن يفتح لها بابها الأمامي عندما سمعها تتنحنح في حرج، فالتفت متسائلًا ليجدها تقول وهي تشير إلى ما أمامها: سأستقل أنا إحدى سيارات الأجرة.
قال وهو يفتح الباب فعلًا: الوقت متأخر.. سأُقلك أنا.
تراجعت مرتبكةً رغم سرورها البالغ، وقالت: لا داعى لأن أشق عليك.. يكفي ما سببته لك اليوم من متاعب.
قال مبتسمًا: لا عليك.. لست متعبًا على الأطلاق.
عادت تقول: أشكرك.. أشكرك جدًا ولكن.. لا داعي حقًا لذلك.
صمت لحظاتٍ يحاول إقناع نفسه بتجنب إلحاحٍ ليس من عادته، لكنه شعر حقًا أنه لا يريد أن يتركها تذهب وحدهها..
سألها في خفوت: هل يضايقكِ أن أُقلك إلى منزلك؟
يضايقها؟!
يا له من سؤال.. إنه أكثر ما يسعدها في الدنيا هي كونها بجواره أينما يكون.. لكن أنّى لها أن تخبره بهذا الآن؟!
لا يمكن قط، كما لا يمكنها قبول عرضه..
التقى حاجباها في انفعالٍ وقالت: مطلقًا.. لكني لا أريد أن أتعبك حقًا.
أدرك بالطبع أنه اعتذرٌ أنيق ليس إلا..
تُرى.. هل هي خائفةٌ منه؟!
ربما.. ولمَ لا.. لا ينبغي له أن ينسى أنها لا تعرفه، ثم أنه لم يعرف في حياته أحدًا يخاف من كل شيءٍ وأي شيءٍ مثلها..
لكن لماذا تخافه هو ولا تخاف سائق سيارة الأجرة؟!
هكذا تساءل في نفسه بحنق، لكنه لم يلبث أن تنهد في استسلامٍ وأغلق باب السيارة الذي فتحه لتوه ثم قال: حسنًا.. كما تشائين.. اسمحي لي على الأقل بأن أوقف لك إحدى سيارات الأجرة؟
تدافع قلبها بدقاته مع عبارته واهتمامه الواضح ولم تدرِ بم تجيبه..
لم يمنحها وقتًا لهذا ولم يمنحها حتى فرصةً للاعتراض، إذ تحرك فور انتهاء عبارته باتجاه الشارع الرئيسي، فلم تجد أمامها سوى أن تتبعه..
توقفت إلى جوارهما أول سيارة أجرةٍ أشار لها، فالتفتت تشكره لمرةٍ أخيرة..
منحها واحدةً من ابتساماته العذبة وقال: انتبهي لنفسك جيدًا.
أومأت برأسها وهي تنتزع من قلب انفعالاتها المتأججة ابتسامةً باهتة، ثم مضت في طريقها..

******************************
1 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.