"القناعة كنز لا يفنى" حكمة ترعرعنا عليها منذ الصغر، منا من حفظها دون أن يفهم، ومنا من لم ترُق إليه من الأساس لعدم إنصافها من وجهة نظرهم، وقلة قليلة أيقنت صحة عبارتها.
في إحدى القرى الريفية التي اشتهر سكانها ببساطة حياتهم التي مازالت بدائية إلى حد ما حتى وقتنا هذا، منازل معظمها بسيط والآخر متهالك، والأكثر مصنوع من الطوب الطيني، وبالرغم من ذلك انتشر الخير بداخلها، سواء من محاصيلهم الزراعية المختلفة، أو تربية المواشي بأنواعها.
***
داخل منزل في إحدى تلك القرى، مكون من طابقين ويحاوطه سور من عصا متلاحمة على شكل رأسي، التفت الطيور المختلفة حول بعضها تملأ بهو المنزل بعشوائية، وعلى أول الباب المتهالك جلست سيدة في أواخر عقدها الخامس نحت الزمن على قسمات وجهها ما قدمه العمر، ظهرت وهي تقطع الخبز إلى لقيمات صغيرة، ثم تلقيه على الأرضية الطينية الصلبة ليتسابق الطير في من يأخذ النصيب الأكبر قبل أن يعود للنقر في الأرضية باحثًا عن ما يكفي جوعه مع صاحبته الحريصة، بعد أن انتهت نفضت يدها، ثم وقفت بتثاقل لتظهر عباءتها ذات المنقوشات الكثيرة ويعتليها وشاحها الأسود الذي ابتعد عن مكانه الصحيح لتظهر بعد خصلاتها التي امتلاؤها الشيب، خرجت (فتحية) من البهو، تقف تجول بنظرها في الأرض الزراعية التابعة لهم أمام منزلهم بحثًا عن تلك الغليظة التي تتعمد كسر أوامرها، وعندما لم ترَها صاحت بحنق:
-يا مقصوفة الرقبة يا رحمة.
ثوانٍ وظهرت فتاة آتية من بعيد حاملة حزمة ضخمة من نبات البرسيم تمسكها بكلتيّ يديها؛ كي تحكم قبضتها على رأسها، ظلت فتحية تبرطم بالحديث الساخط من أفعال زوجة ابنها البكر وتأخيرها عن موعد تحضير وجبة العشاء التي تجتمع العائلة في وقت محدد كل يوم بعد مجيء ابنها من عمله في الأرض الزراعية:
-إيه انكتمتِ ولا القط كل لسانك.
فتاة ذات ملامح هادئة، قمحية البشرة، في منتصف عقدها الثاني، تزوجت بعدما انتهت من مرحلة التعليم الإعدادية كما هو متعارف في عادات وتقاليد تلك القرية، فمنهم من يحظى بفرصة كهذه والأكثر لا يعرفوا معنى التعليم من الأساس، أنجبت طفلتها الأولى في أول عام من الزواج ولحقتها الثانية بعد عامين، طبعها الهادئ كملامحها وسلوكها الحسن مع الأهالي، بالإضافة إلى كلامها المعسول دائمًا، جعلها تشتهر بأنها اسم على حق (رحمة)، تجاهلت رحمة صياح والدة زوجها المعهود وتخطتها، ثم ألقت الحزمة أرضًا وأخذت القليل تضعه أمام الماعز في الجهة الأخرى، شعرت بالضجر من استمرارها في توبيخها وكأنها متعمدة أن تبدأ مشاحنة اليوم باكرًا، هتفت بملل وهي متجهة إلى المطبخ:
-أعمل إيه ياما مش قولتِ أروح أجيب برسيم للبهايم لحد ما حسن يرجع.
لوت فتحية فمها متمتمة ساخرة:
-وأنتِ استحلتيها وروحتِ نمتِ ولا كأن في أكل لازم يتعمل.
انكمش بين حاجبي رحمة قائلة بضيق:
-أنا ماعوقتش وبعدين هو أنا لوحدي في الدار، الست هانم اللي فوق دي مالهاش دور.
ردت عليها فتحية قاصدة استفزازها:
-لا مالهاش وأديكِ قولتِ ست هانم يا أم البنات.
رمقتها لبرهة، ثم خطت للمطبخ والغيرة تنهش قلبها من معاملة فتحية إلى (دينا) زوجة الابن الأصغر، التي تزوجت بعدها بخمس أعوام، ومنذ دلوفها للمنزل وتعامل كالأميرات وهي الجارية لهم، وما أساء الوضع أكثر عندما أنجبت ثلاثة صبية لتكون الأكثر دلال، وتصبح رحمة محل سخرية فتحية ومعايرتها الدائمة وإنجابها لفتاتين، ليصبح لقبها الساخر الذي يشعرها بالنيران تتأجج بداخل قلبها (أم البنات)، أثناء إنشغالها في تحضير ما يلزم لبدء طهيها للطعام، دلفت نسمة ابنتها الصغرى وهي تمسك ورقة مطوية في قبضتها وتقول:
-ماما أنا لقيت الورقة دي على الأرض في الصالة.
ألقت رحمة الملعقة من يدها، ثم مسحت يدها في عباءتها بعشوائية، وأمسكت الورقة تفتحها بحنق، حاولت تجميع الكلمات بصعوبة لعدم قدرتها على القراءة، على الرغم من حصولها على الشهادة الإعدادية إلا أنها تواجه صعوبة كبيرة في القراءة والكتابة قد تكون معدومة من الأساس، لما تهتم بأشياء غير معترف بها في القرية، فأهم شيء في القرية هو تعليم الفتاة كيفية إنجاز مهام المنزل من الطهي والتنظيف في أول سنوات عمرها؛ كي تستطيع إنجاز مهام منزلها المستقبلي وتكون الزوجة المثالية في سن صغير، استهجت الأحرف ببطء حتى تجمع كلمة تلو أخرى، ولكن كانت تشعر بتثاقل لسانها وكأنه مقيد مع تلك الأحرف، في تلك اللحظة دلفت دينا بعد أن هبطت كي تساعدها في الطهي، ابتسمت ساخرة وهي ترى رحمة تقبض على الورقة مندمجة في قراءة الأحرف، وهتفت بتهكم وهي تنظر إلى نسمة:
-هي أمك بتعيد الزمن ولا ايه.
ثم خطفت الورقة من بين يدي رحمة مستكملة:
-هاتي ياختي وماتتعبيش روحك على الفاضي.
اقتضب بين حاجبيي رحمة مردفة بضيق:
-حد كان حشرك عشان تخدي الورقة.
قدمت دينا إليها الورقة مرة أخرى مرددة باستنكار:
-أنا غلطانة امسكي.
جاءت فتحية على صوتهم والفضول بادٍ على ملامحها، نظرت إليهن وتسألت مستفسرة:
-صوتكم واصل لآخر الدار ليه؟
لوت دينا شفتيها وأجابتها بامتعاض:
-دخلت شوفت رحمة مبحلقة في ورقة قولت أشوفها إكمن عارفة أنها على قدها، بس هي اتقمصت ماعرفش ليه.
صاحت رحمة بضيق جلي:
-هو أنا كنت اشتكتلك.
ضحكت فتحية قائلة متهكمة:
-ما كلنا عارفين أنك طور الله في برسيمه يا أم البنات.
ثم ربتت على كتف دينا مكملة:
-خليها في خبيتها وروحي خودي بحس عيالك.
رمت رحمة بنظرات ساخرة وخرجت هي الأخرى، وتركتها تستشيط غضبًا من سخريتهم البالغة منها، كورت الورقة في قبضتها بعنف وألقتها في وجه نسمة التي مازالت تقف تشاهد ما يحدث بهدوء:
-غوري من وشي جتك الهم زي أهلك.
تذمرت نسمة بغضب، ثم خرجت تضرب الأرض بعنف وهي تحاول فهم ما دخلها فيما حدث، بينما دارت رحمة تكمل عملها بغيظ؛ فتلك ليست أول مرة التي تعتمد فتحية إهانتها أمام دينا، وكأنها تتفنن في التقليل منها دائمًا وذلها بسبب جهلها.
ساعتين مروا عليها سريعًا لتنتهي من الطهي، ولكن مهام اليوم لم تنتهي بعد، لملمت الأواني والأطباق المتسخة، ثم وضعتهم في الإناء الضخم المصنوع من الألومنيوم ويطلقوا عليه (الطشت)، وحملته متجهة إلى الترعة الصغيرة الموجودة خلف المنزل كي تغسلهم، بينما لحقتها دينا عندما هبطت بإناء آخر ممتلئ بالملابس، وتكمل هي الأخرى مهامها قبل أن يحل الظلام وتصبح الرؤية معدومة على حواف الترعة.
بدأ قرص الشمس في الاختفاء رويدًا تارك المجال للقمر كي يحل محله، بدأ الأهالي في العودة إلى منازلهم ساحبين خلفهم بهائمهم قبل أن يختفي ضوء النهار ولا ترى الطريق.
انتصفت فتحية المائدة الأرضية (الطبلية) وعلى جانبيها حسن، ومصطفى ابنها الأصغر، بدأت رحمة ودينا في وضع الأطباق وجلب الطعام من المطبخ، ثم وضعت إحداهن الطبق الرئيسي الممتلئ بقطع اللحم أمام فتحية؛ كي تقوم بالتقسيم عليهم:
-رحمة قبل ما تطلعي شقتك إبقي افردي الهدوم عشان الهوا يطسها للصبح.
وقف الطعام في منتصف حلق رحمة عندما استمعت إلى رد دينا بدلًا منها قائلة بلطف:
-لا ياما أنا هفردهم وأنضف مكان العشا كفاية على رحمة من صباحية ربنا.
رمقتها فتحية متمتمة باقتضاب:
-تقوليش كانت بتعزق بالفاس.
ابتسمت دينا مغمغمه بحنو:
-كتر خيرها.
لم تضِف رحمة مكتفية بالضغط على فكها حتى كادت أن تتحطم أسنانها من قوة ضغطها غيظًا، لا تريد دِفاعها ولا كلمة بالحسن حتى كل ما تتمناه أن تختفي هي وأولادها من الحياة، نقلت نظرها إلى الصبية الجالسين بترتيب عمرهم، غيرة جعلت مقلتيها تمتلئ بعبرات الحقد، كم تمنت أن ترزق بصبي، ولكن خوفها من إنجاب فتاة ثالثة يجعلها تتغاضى عن تلك الخطوة حتى لا تقع تحت سخرية فتحية ونساء العائلة للمرة الثالثة، استأذنت بالصعود إلى شقتها عندما شعرت أنها ستنفجر في البكاء في أي لحظة أمامهم كطفل صغير يبكي لعدم إنصاف أمه في قسمة الألعاب بينه وبين إخوته.
***
"عدم الرضا أول طريق الغيرة، ثم يتبعها خطى مجهولة ممتلئة بالحقد والحسد".
بعد ساعة صعد حسن هو الآخر مع بناته لينعم بساعته الليلة للراحة بعد يوم شاق في زراعة الخضار في أرضهم، في نفس الوقت وقفت رحمة كعادتها المعتادة منذ زواج دينا ومصطفى تتأملهم وهما يودعان بعض قبل ذهاب مصطفى إلى عمله الليلي في الورشة التي يعمل بها حداد، لوت فمها ساخرة وهي ترى نفس الروتين اليومي الذي لم يختلف يومًا، ليبدأ أول مشهد عندما انحنى مصطفى يقبل رأس دينا، ثم همس بشيء بجانب أذنها جعل صوت ضحكتها تصدح في المكان، ونادى أطفاله يقبل كل واحد وكأنه سوف يهاجر لأعوام وليس ساعات، أما المشهد الثاني الذي دائمًا يشعرها بالحقد وجعل وجهها يحتقن من غليان الدم في عروقها وهي ترى مصطفى يدس يده في جيب سرواله يخرج بعض النقود يوزعها عليهم، حتى دينا يعطيها مصروفها اليومي دون انقطاع، وأخيرًا آخر مشهد جعلها تشعر بالغثيان عندما لوحت دينا إليه بحفاوة وهي تستودعه الله بأن يعود إليها سالمًا، بينما تمتمت رحمة تحادث نفسها بشراسة:
-إلهي ما يرجع ويحرق قلبك يا شيخة ويجعل دعايا من حظكم.
ثم حدقت مرة أخرى لتجد دينا بعد أن تأكدت من رحيل زوجها، فتحت قبضتها تتأمل مصروفها المكون من خمسة جنيهات وبدأت في التحدث مع أطفالها كي تقنعهم بأن تأخذ نقودهم لتتدبرها ويأتوا بملابس جديدة.
-غيارات جديدة.
ردت رحمة جملتها متكهمة واستكملت:
-ده انتو عندكم غيارات تلبس بلدنا.
تحركت بسرعة تبتعد عن الشرفة عندما استمعت لصوت غلق باب شقتها، ثوان ودخل حسن ملقي التحية التي ردتها بفتور كالعادة، جلس مقابل لها على الفراش قائلًا بابتسامة عريضة على ثغره رغم الإرهاق البادي على ملامحه:
-وأنا راجع من السوق اشتريت نص بسبوسة ما تقومي تجيبي حتتين.
واستطرد غامزًا:
-ولا أنك هتغطي عليها يا عسل.
رمقته رحمة من أسفل لأعلى مغمغمه بحنق:
-نص كيلو.
انكمش بين حاجبي حسن من طريقتها الفجة، وسألها بعدم فهم:
-في ايه يا رحمة مالك قالبه سحنتك ليه؟
أجابته بصياح وهي تشيح بكلتي يديها:
-في أن أنا زهقت وطهقت من العيشة، أمك مش بترحم هي ومرات أخوك وأنت قرفتني ده بقى مرار طافح على دماغي ودماغ المخلفيني.
تعجب حسن من أسلوبها، فقال باقتضاب:
-هو أنتِ مش بتتعبي من لوي البوز أبدًا، بيصعب عليكِ تضحكي في خلقتي مرة يا شيخة.
وقفت تهدر بحدة:
-وأنا مش بصعب عليك من القهرة دي.
تنهد حسن بفتور، ثم نهض يرتب على كتفها برفق، وهو يردف بإشفاق على معاملة والدته الجافة معها دائمًا:
-خلاص يا رحمة ماتخديش على خاطرك، عارف أن أمي صعبة بس هكلمها تاني عشان تخف عنك.
دفعت يديه بعنف متمتمة بضيق:
-وده على أساس أن هلفطك معاها هتردها عني.
مسح وجهه بكفه مردد بنفاذ صبر:
-وبعدين معاكِ.
جلست مره أخري قائلة بتمسك نجحت في رسمه:
-أنا عايزة منك مصروف يا حسن.
ظهر الاستغراب على ملامحه من تغير مجرى حديثها بتلك السرعة، ولكن تغاضى عن ذلك متسائلًا بفضول:
-مصروف إيه ما أنتِ بتخدي كل شهر ٥٠٠ج لوزمك أنتِ والعيال غير الأكل والشرب الي هنا وتحت.
ردت رحمة ببرود مستفز:
-ومالو عايزة مصروف ليا وللبنات ١٠جنيه لكل واحد في اليوم.
رفع حسن حاجبيه متعجبًا وقال بعد فهم:
-١٠جنيه لكل واحد ليه! ٣٠جنيه في اليوم يا رحمة؟
هتفت بغضب:
-أيـوه أنا وبناتك بنحتاج طول اليوم حاجات ولا هو لازم بنتحوج لأمك.
نظر إليها والضيق احتل لهجته وهو يردد:
-تتحوجي لحد ليه ما أنتِ معاكِ الـ ٥٠٠ج اصرفي منهم ولما يخلصوا اديكِ غيرهم.
ضغطت على شفتيها بغيظ؛ فقد أغلق جميع الأبواب أمامها ولن تنجح في نيل مرادها، عندما طال صمتها تحدث هو ظنًا منه أنها حزنت من عدم موافقته، فلم يشعر بذلك اللهيب المنصهر بسبب عدم قدرتها في تخطي دينا وأخذ مصروف أكثر منها:
-بلاش قمص على الفاضي أنا ماقصرتش معاكِ ولا مع العيال في حاجة، خلصي اللي معاكِ وأنا لما ربنا يفرج هزودك كمان بس ادعي الزرعة تجيب محصول حلو.
حدقت به لثوانٍ بتعبير جامدة لم يستطع فهمها، ثم نهضت خارجة من الغرفة مغلقة الباب خلفها بعنف، لم يكترث لمعاملتها الجافة الذي أصبح طبعها منذ مجيء دينا إلى منزلهم، ونهض هو الآخر متجهًا إلى المطبخ يجلب طبق يضع بداخله قطعة من الحلا الذي جاء به، فلعله يحلي مُر الحياة، خرجت رحمة تجلس تشاهد التلفاز على اقتضاب، كانت تنظر أمامها بشرود وغصة مريرة تملأ حلقها كالعلقم، نجح الطمع في احتلال عقلها ليكون أول من فتح أبواب الأنانية والحقد، ويكون خير عون له عندما أعموا بصيرتها عن كم النعم التي تحظى بها، وتكون عروس تحركها مشاعر بغيضة.