hindawiorg

Share to Social Media

حسب وصية العمة جيرترود حصلتُ أنا على أسهمها المصرفية وأسهم شركة الغاز، وعلى
السندات العقارية وسندات السكك الحديدية وسندات البلدية التي تمنح فائدة ٧ بالمائة،
وحصل هاري على الساعة. ظننا وقتها أن هذه قسمة جائرة، وما زاد من دهشتنا أن
ابن عمي كان على الدوام هو الأثير لديها. وقد تفحَّصنا، في محاولة شبه جادة، الساعة
العتيقة، وطرقنا على صندوقها الخشبي بحثًا عن أدراج خفية، بل ومددنا إبرة تريكو
داخل ماكينتها غير المعقَّدة كي نتأكد مما إذا كانت قريبتنا الغريبة الأطوار قد وضعت
هناك ملحقًا للوصية أو وثيقةً ما تُغيِّر بنودها. لكننا لم نكتشف أيَّشيء.
كانت الوصية تشترط أن نُكمل تعليمنا في جامعة لايدن؛ ومِن ثَمَّ فقد تركنا الدراسة
في الكلية العسكرية التي تعلمنا فيها القليل عن نظريات الحرب والكثير عن فن الوقوف

وأنوفنا بمحاذاة كعوبنا، وركبنا السفينة من دون تأخير. أخذنا الساعة معنا، وقبل أن
تمضيَأشهر كثيرة كانت قد اتخذت مكانها في أحد أركان غرفتنا في شارع بريده.
ظلَّت الساعة صنيعة عبقرية يان ليبردام، وقد عادت إلى موطنها الأصلي، متوقفة
وتُشير إلى الثالثة إلَّا الربع. كان صانع الساعة قد وُوري الثرى منذ نحو ثلاثمائة عام، ولم
تستطع المهارات المجتمعة لخلفائه في المهنة في لايدن أن تجعلها تتحرك لا إلى الأمام ولا إلى
الوراء.
سريعًا ما تعلَّمنا ما يكفي من اللغة الهولندية بحيث نتمكن من التفاهم مع من
نتعامل معهم من أبناء البلدة، والأساتذة، وعدد من زملاء الدراسة الذين يزيد عددهم عن
الثمانمائة. إن هذه اللغة، التي تبدو صعبة في البداية، ما هي إلَّا نوع من الإنجليزية السيئة
التوزيع. وإذا أمعنت التفكير فيها قليلًا فستتفهمها مثلما تفهم واحدة من تلك الرسائل
المُشفرة التي تُصنَع عن طريق كتابة كل كلمات الجملة ثم توزيعها على الأماكن الخطأ.
تبدد شعور الجِدة الناجم عن تعلُّم اللغة المكتسبة حديثًا وعن المعيشة في البيئة
الجديدة، وطفقنا نباشر مساعينا العادية. كرَّس هاري نفسه بقدر من الجدية لدراسة
علم الاجتماع، مع إيلاء قدر من الاهتمام الخاص إلى فتيات لايدن اللطيفات ذوات الأوجه
المستديرة. بينما أجريتُ دراساتي العليا في الميتافيزيقا.
خارج نطاق دراستينا، كنا نمتلك أرضية من الاهتمامات المشتركة. ولدهشتنا، وجدنا
أنه لم يكن أحد تقريبًا من زملاء الدراسة أو الأساتذة يعلم شيئًا عن التاريخ المجيد للمدينة
أو يهتم به، أو عن الظروف التي تأسست فيها الجامعة نفسها على يد أمير أورانيا. وعلى
النقيضالتام من شعور عدم الاكتراث العام هذا، كان البروفيسور فان ستوب، الذي اخترته
كي يُرشدني عبر مجاهل الفلسفة التأملية، يُظهر حماسًا كبيرًا.
كان هذا البروفيسور المتميز والمتخصص في الفلسفة الهيجلية رجلًا نحيلًا ضئيل
الحجم، وكانت ملامحه تذكِّرني على نحو عجيب بالعمة جيرترود. ولو كان شقيقَ عمتي لما
كان التشابه في ملامح الوجه أقرب من ذلك. أخبرته بهذا ذات مرة، حين كنا معًا في مبنى
البلدية ننظر إلى صورة بطل الحصار، العُمدة فان دير فيرف. ضحك البروفيسور وقال:
ثم تقدَّمني عبر الرَّدهة وصولًا إلى اللوحة العظيمة «. سأرُيك مصادفة أعجب من هذه »
التي تُجسِّد الحصار، والتي رسمها فارمرز، وأشار إلى صورة أحد المواطنين المشاركين في
الدفاع. كان الأمرصحيحًا. كان من الممكن أن يكون فان ستوب هو ابن ذلك المواطن، وكان
من الممكن أن يكون ذلك المواطن والد العمة جيرترود.

بدا البروفيسور مغرمًا بنا. وكثيرًا ما ذهبنا إلى غرفته في منزل قديم في شارع رابنبرج،
وهو أحد المنازل القليلة التي بُنيت قبل عام ١٥٧٤ . كان يسير معنا عبر ضواحي المدينة
الجميلة، وعبر طرقات مستقيمة تحفُّها أشجار الحور، التي أعادت إلى أذهاننا ذكرى ضفة
شيبسكوت. اصطحبنا إلى قمة البرج الروماني المتهدم في قلب المدينة، ومن الشرفات عينها
التي راقبتْ منها الأعين الوَجِلة منذ ثلاثة قرون الاقتراب البطيء لأسطول الأدميرال بويسوت
عبر الأراضيالمنخفضة المغمورة بالماء، أشار إلى خندق لاندشيدينج العظيم الذي قُطع حتى
تُجبَر قوات بويسوت الزيلاندية على وقف الحصار وإطعام الجوعى. كما أرانا مقر عائلة
فالديز الإسبانية في لايدردروب، وأخبرنا كيف أن السماء أرسلت رياحًا شمالية غربية عنيفة
في ليلة الأول من أكتوبر، التي جعلت المياه عميقة في المواضع الضحلة، ودفعت الأسطول
بين زويترفوده وسفايتن نحو جدران قلعة لامين، آخر معاقل المحاصِرين والعقبة الأخيرة
في طريق إسعاف السُّكَّان الجوعى. وبعد ذلك أرانا الموضع الذي فُتحَت فيه ثغرة ضخمة،
في الليلة السابقة مباشرة لانسحاب الجيش المحاصِر، في سور لايدن، بالقرب من بوابة
كاو جيت، على يد الوالونيين الآتين من لامين.
هكذا صاح هاري وقد اشتعلت حماسته بفضل فصاحة سرد البروفيسور، «! عجبًا »
«. كانت تلك لحظة فارقة في الحصار » : وأضاف
لم يقل البروفيسور شيئًا، بل وقف ويداه معقودتان أمام صدره، ينظر في اهتمام في
عينَي ابن عمي.
لأنه لو لم تكن هذه النقطة مُراقَبة، أو لو كان الدفاع قد » : واصل هاري حديثه قائلًا
فشل وجرى اختراق الثغرة نتيجة الهجوم الليلي الآتي من لامين، لكانت البلدة قد أحُرقَت
ولقُتل الناس بالآلاف تحت عينَي الأدميرال بويسوت وأسطول الإنقاذ. من الذي دافع عن
«؟ الثغرة
ردَّ فان ستوب ببطء، كما لو كان يزن كل كلمة بحرص:
إن التاريخ يُسجل وقوع انفجار تحت سور المدينة في الليلة الأخيرة للحصار، لكنه »
لا يخبرنا بقصة الدفاع عنها أو يذكر اسم المُدافِع. ومع هذا فلم تُلقَ على أيِّ شخصٍ قط
مسئولية أعظم من تلك التي ألقاها القدَر على ذلك البطل المجهول. أهي الصدفة التي
قادته إلى مواجهة هذا الخطر غير المتوقع؟ تَدبَّر بعض العواقب لو كان قد فشل. كان
من شأن سقوط لايدن أن يدمر آخر آمال أمير أورانيا والدول الحرة. كان طغيان فيليب
سيترسخ، وكان مولد الحرية الدينية والحُكم الذاتي للشعب سيتأجَّلان لعددٍ غير معروف

من القرون. ومن يدري إن كانت ستوجد جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية أم لا لو لم
تظهر الجمهورية الهولندية إلى النور. إن جامعتنا، التي أخرجت للعالم كلٍّا من جروتيوس
واسكاليجيه وأرمينيوس وديكارت، تأسَّست بفضل دفاع ذلك البطل الناجح عن الثغرة.
ونحن نَدين له بوجودنا هنا اليوم. كلا، بل أنتما تَدينان له بوجودكما من الأساس؛ فقد
كان أسلافكما من لايدن، وقد كان هذا المُدافِع هو ما منع الجزارين المتأهبين خلف السور
«. من حصد حياتهم
فَرَدَ البروفيسور الضئيل الحجم قامتَه أمامنا، وكان يشع حماسًا ووطنية. التمعت
عينا هاري واحمرَّت وجنتاه.
اذهبا إلى المنزل أيها الشابان، واشكرا لله على أنه بينما كان سُكَّان » : قال فان ستوب
لايدن يُولُّون أنظارهم شطر زويترفوده والأسطول، كان هناك زوج من الأعين اليقظة،
«! وقلب جسور عند سور المدينة خلف بوابة كاو جيت مباشرة
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.