《بعض الآلام لا تشفى بالهرب منها وتجاهلها، بل نحتاج كل شجاعتنا لمواجهتها وإجبارها على الرحيل》
تنبهت من شرودي على صوت بوق سيارةٍ سوداء بنوافذ معتمة تقترب مني، ويدٍ تمتد خارج النافذة لتشير لي بالركوب، لقد كان سائق الشركة، لوحت له بيدي وأشرت له بأنني سأعود سيراً على الأقدام.
كلما داهمتني الذكريات لا أستطيع الهرب من قبضتها، لذلك أغوص فيها حتى آخرها، وكأن هذا هو عقابي الذي لا أعرف حقاً ذنبي الذي اقترفته لأجزى به، وكما كل مرةٍ أحتاج لموسيقى لكي تخرجني منها، أمسكت هاتفي وبحثت عن مقطوعتي المفضلة؛ سيمفونية بيتهوفن الخامسة بأنغام البيانو، وحالما يعلن الصوت عن أول نغمة، أغمض عينيّ لبرهة وأترك اللحن يتغلغل داخل ثنايا عقلي، ليمنحني شعوراً لا أستطيع وصفه، وكأنه يقف كحاجزٍ بيني وبين أفكاري المؤلمة، فيصبح بإمكاني تذكرها وكأنها لا تخصني، بل كمشاهدٍ يقف على الحياد، لا يُصدر أحكاماً، ولا يتأثر بما يرى، وكأن ما يمر في شريط ذكرياتي لا يخصني.
بعدها يصبح بإمكاني فتح عينيّ من جديد، أطالع المكان حولي، وأجدني قد وصلت، لقد حفظت قدميّ الطريق من كثرة ما سارته، فصار بإمكاني الوصول إليه مغمض العينين، تناهى إلى سمعي صوت أمواج البحر الصاخبة التي تضرب صخور مصدات الموج، تطايرت على وجهي بضع قطرات أنعشت روحي، وأعادتني للواقع من جديد.
جلست على ذلك الشاطئ الذي يحمل أجمل ذكرى مرت في حياتي، ليصبح هذا الشاطئ هو ملاذي وقت ألمي وضعفي، آتي هنا لأفرغ كل ما بداخلي وأعود للحياة من جديد كشخصٍ مختلفٍ كل مرة، أقوى وأقدر على الاستمرار، وكأن طاقة المكان تمنحني جزءاً منها لأمضي في طريقي المرسوم.
لن أستمر بالهرب بعد الآن، سأغوص فيها هذه المرة حتى آخرها وسأسمح لها بأن تجتاحني وتغمرني بأوجاعها وسنرَى من سينتصر أنا أم هي.
رحت أداعب حبات الرمل بين أصابعي وأستنشق أنفاساً ملأ رئتيّ، وتركتها تصول وتجول داخلي براحتها وأنا أطالعها من بعيد، بأجزاء من الثانية، استُبدلت رائحة البحر المنعشة برائحة رطوبةٍ متعفنةٍ، تخنق الروح وتحيطها بغلالة من سوادها، صرير سريرٍ صدئٍ وصل مسامعي لأجدنِ قد رفعت أكفي بلا تفكيرٍ لأغلق أذنيّ، بردٌ قارصٌ يدك عظامي النافرة أجبرني على جسمي، جدرانٌ مسودة بسبب طبقات العفن التي تغطيها، نوافذ ببقايا زجاج مكسور تترك الريح تسرح وتمرح كما تريد عابثةً بالأجساد الصغيرة المتكدسة في تلك الغرفة الواسعة، أتكور على نفسي في وضع جنيني ربما أجد بعض الدفء، ويدي تحاول باستماتة جذب الغطاء لتدثر جسمي الضئيل به، فتنكشف ساقيّ إن أردت تغطية جذعي، وإن غطيت ساقيّ تُرك جذعي عرضة للبرد يلسعه، كنت أغفو وأنا أرتعد برداً، وأصحو وكأنني لم أنم.
في كل ليلةٍ من ليالي الشتاء كانت معاناتنا تتكرر بلا توقف، في بعض الأحيان كنا نلصق أسرتنا المهترئة لننام بجانب بعضنا البعض علَّ أجسادنا الهزيلة تدفء قليلاً، على الرغم من معرفتنا أنهم سيعاقبوننا أشد العقاب صباحاً لو أمسكونا بهذا الوضع، أما في الصيف، فكنا كمن وضعوا داخل علبة صفيح في صحراء الربع الخالي، أجسامنا الضئيلة تقطر عرقاً، حلوقنا جافة، وشفاهنا متشققة، بالكاد نجد ماءً يروي عطشنا، وإن وجدنا فلا نجد سوى ماء الصنبور الحار، الذي لا يروي بل يزيد ظمأنا اشتعالاً.
أما هم، من استأمنوهم على أرواحنا، فكانوا ينعمون بدفء جيوبهم الممتلئة بنقود تبرعات جمعوها لأجلنا ولم ننل منها قرشاً، ينامون ملأ جفونهم وهم يتدثرون ببطانيات وصلت الملجأ لكي تدثرنا ولم تطالها أجسادنا غير عابئين بمن لا ينام، وفي الصيف يجلسون بكل راحةٍ في غرفهم المكيفة، ويروون ظمأهم بمياه المبردات التي وصلت الملجأ كصدقةٍ عن أرواح موتى المتبرعين طالبين أن ندعوا لهم بالرحمة، فكيف ندعوا ونحن لم نعرف طعم تلك المياه، ولم يصل حلوقنا قطرة واحدة منها؟! وإن دعونا فهل سيستجيب الله؟!
في كل يومٍ يمر علينا ونحن في ذلك الجحر كنا نزداد نحافةً، تسود جلودنا وتبرز عظامنا أكثر، وفي كل مرةٍ يأتون فيها لزيارتنا تقل فرصنا في النجاة من ذلك الجحيم، فكلما ازددنا عُمراً قلت رغبتهم بنا، فهم على قناعةٍ تامةٍ أننا سنصبح صعبي المراس لا يمكن السيطرة على سلوكنا ولا تقويمه.
ذات يومٍ من أيام ما يدعونه عيد الفطر السعيد، لا أعرف من الذي دعاه بذلك، فنحن صمنا لأننا مجبرين على الصيام طوال العام وليس في ذلك الشهر فقط، جاءوا لزيارتنا ولكن هذه المرة لم يكن بداعي التبني، بل لأنهم يريدون تعليم أبناءهم معنى الصدقات، وأن أولئك المصفرون كأوراق الخريف الساقطة التي تداس في باقي أيام السنة تحت الأقدام هم أيضاً بقايا بشر، كان أبناءهم يرتدون أجمل الثياب، مكتنزي الوجوه والأجساد، يكاد الدم ينضح من وجناتهم، بنظرات تتراوح ما بين التعالي والشفقة والاشمئزاز والخوف، كان آباءهم وأمهاتهم يشيرون نحونا ويهمسون لهم، وهم بدورهم يتقدمون منا برعبٍ يتلبسهم، ويقدمون لنا ما يحملون من ثيابٍ وألعابٍ ونقودٍ لن تلمسها أيدينا سوى لبضع دقائق قبل أن يجمعها منا مسؤولو الدار، الذين يراقبوننا بعيون يلمع الجشع فيها، بعد كل زيارة كانوا يحتجزوننا داخل الغرفة ذاتها، ويجرون عملية تفتيشٍ دقيقةٍ بحثاً عن أي شيء قد نخفيه حتى وإن كان حبة سكاكر، ثم يتكرمون علينا بمنحنا ما لا يعجبهم ولا يعجب أبناءهم منها، أما النقود فويل لنا إن نقصت فلساً، وكأننا لو استطعنا إخفاء بعضها سنتمكن من تخطي أسوار المكان لنشتري بها ما نريد، حتى وإن تخطينا أسوار المكان التي تحيط بنا، من سيخرجنا من أسوار الخوف التي شيدوها داخل أرواحنا؟!
في ذلك اليوم كانت الجدران أقل سواداً بسبب طبقة الدهان الخفيفة التي أضافوها لها، لكي لا يظهر العفن الذي يغطيها كما يغطي الجشع قلوبهم القاسية، رائحة الدهان لم يكن بالإمكان إخفاءها، كما طمعهم الذي يلمع في عيونهم وليس بإمكانهم إنكاره مهما حاولوا، كما عادتي كنت أقف في الزاوية وأنا أدعو أن تنشق الأرض وتبتلعني داخلها، وبداخلي صوتٌ مدوٍ يصرخ مطالباً بالإجابة؛ ما الذي يميزهم عني؟ لماذا هم ينعمون بكل ما لذ وطاب يملكون دفء البيوت والأحضان وأنا لا أملك شيئاً؟! كان غضبي يتصاعد بداخلي حتى تحول لبركانٍ فائرٍ، فتحت عينيّ التي أغمضتها في محاولة لإيقاف شلال دموعي من الانهمار، على يدٍ صغيرة تمسك يدي برفق وتهزها، لأجد أمامي أجمل عينين رأيتهما قط، عينان واسعتان بلون تراب الأرض التي أتمنى لو تحتويني بداخلها، تنضحان براءة وحباً كانتا تسحبانني داخلهما وتهدئ العاصفة الثائرة بداخلي، للحظات تلاشى كل ما يحيط بي، الأشخاص المنافقون، الجدران الرطبة، همسات الشفقة، نظرات التعالي، رائحة الدهان المزعجة، وحتى آلامي، كل شيءٍ اختفى، لم يتبقَ هناك سوانا، أنا وعينيها، نظرت نحوي وهي تهمس بشفتيها الصغيرتين: عيدٌ سعيدٌ، وابتسامةٌ جميلةٌ تضيء محياها، مدت يدها نحوي ببضع أوراق نقدية.
رغم الهدوء الذي غمرني بسبب عينيها؛ إلا أنني استشطت غضباً من جديد في اللحظة التي رأيت فيها يدها ممدودةً بمال الصدقات، عدت إلى واقعي الأسود من جديد ودفعت يدها بعيداً عني وأنا أصرخ بوجهها غاضباً: لا أريد شفقتكم! استدرت وأطلقت لساقيّ العنان لتحملانني بعيداً عن هؤلاء البشر مدعي الصلاح، وأنا أعرف أنني سينالني عقابٌ شديدٌ من مسؤول الدار على تصرفي، ولكن لم يعد يهمني، بجميع الأحوال هم يخلقون الأعذار لعقابنا سواء أذنبنا أم لم نذنب.
عدوت حتى لم يتبقَ لقدميّ القدرة على حملي، سقطت أخيراً أسفل شجرةٍ باسقة الفروع عاريتها، وكأنها تواسيني بعريها، أسندت ظهري إلى جذعها الذي بدا أكثر حنواً من كثير من البشر إن لم يكن جميعهم، ورحت أنشج باكياً وكل جسمي يرتجف غضباً وحقداً وحنقاً، تمنيت لو أنني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً، ليت ديدان الأرض تأكلني حياً ولا أتعرض لهذا الإذلال كل مرة، ليتني غير مضطر لإطاعة أوامرهم! ليت.. ليت.. ليت...
لوهلة شعرت بيدٍ تمتد لتحتضنني، استسلمت لها وتركتها لتربت على جراحي النازفة التي لا يراها أحدٌ سواها، كلما لجأت لها احتضنتني بحنان يجعلني أغفو رغم وجعي، كنت أشكو لها وأحدثها وأناجيها، ومن بين حفيف فروعها كان يصدر صوتٌ لا يسمعه سواي، يخبرني أن الفرج قريب لا محالة، يخبرني ألا أضعف وألا أستسلم لهم، يخبرني أن الله رحيمٌ ولن يتركني، كانت أمي التي لم أحظَ بها، كنت أغوص في جذعها مختبئاً من كل شيء، كانت مهربي وملاذي الآمن.